ـ

ـ

ـ

مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وقولوا للناس حسنا

اتصل بنا

اطبع الصفحة

أضف موقعنا لمفضلتك ابحث في الموقع الرئيسة المدير المسؤول : زهير سالم

الاثنين 03/08/2009


أرسل بريدك الإلكتروني ليصل إليك جديدنا

 

كتب

 

التعريف

أرشيف الموقع حتى 31 - 05 - 2004

ابحث في الموقع

أرسل مشاركة


كتاب- المئة عام المقبلة

الصفحات: 253 (متوسط)

الكتاب: المئة عام المقبلة

تأليف: جورج فريدمان

عرض ومناقشة : مصطفى عبدالرازق

الناشر: دبل داي، نيويورك، 2009

أميركا المحرك الحيوي للأحداث في القرن الجاري هذا الكتاب محاولة جريئة في التحليل المعمق من جانب مؤلفه، فإذا كان جورج فريدمان قارئاً جيدا للتاريخ، ومحللاً سياسياً ذا رؤية عميقة بشأن الحاضر، فإنه يغامر بتقديم تصورات للمستقبل البعيد تضعه حسب الانطباع الذي قد يخرج به الكثير من القراء في إطار العرافين. غير أن الميزة الأساسية أنه يملك الأدوات التي تمكنه من خوض هذه المغامرة الجسورة، رغم ما يقدمه من توقعات قد تتصادم مع ما نعيشه.

وبعيدا عن رؤاه وعما يبدو من انحيازه الواضح، والذي يبرره بسياقات بالغة المنطقية، للولايات المتحدة فإن الكتاب يمكن أن تقرأه باعتباره سياحة في العلاقات الدولية على مدار ثلاثة قرون، انقضى اثنان منها، والثالث في الطريق نحيا بعض فصوله في اللحظة الحالية. وأما عن تصورات أو نبوءات فريدمان المثيرة للدهشة في الكتاب فهي كثيرة، يأتي على رأسها أن روسيا والصين إلى أفول، وأن هناك قوى أخرى، وهي اليابان وتركيا وبولندا والمكسيك. وعلى هذا المنوال يمكن متابعة كتاب جدير بالاهتمام والقراءة. انطلاقا من موقعه كخبير يقوم على تحليل الواقع، يحاول المؤلف وضع القارئ في سياق التجربة التي يخوضها، حتى لا يظن به سوءا، فيشير إلى أنه ليست لديه كرة سحرية يرى من خلالها المستقبل، ومع ذلك فإنه بناء على الفهم الجيد لمسار التاريخ وما يدور في العالم من حولنا الآن، يمكن لنا توقع ما قد يحدث في المستقبل. وعلى ذلك يضيف أن مهمته تركزت على توقع الأحداث والاتجاهات.

ولأن الفكرة قد تبدو عقيمة يحاصر المؤلف قارئه قائلا: ان محاولة التنبؤ بمسار مئة عام مقبلة يمكن أن تبدو بلا قيمة غير أنها ليست كذلك معترفا مع ذلك بأنه قد يقع في العديد من الأخطاء ولكن الهدف هو تحديد الاتجاهات الرئيسية على الصعيد الجيوسياسي والتكنولوجي والديمغرافي واليقافي والعسكري. وعلى ذلك وفي تواضع بشأن الهدف الذي يأمله من تأليف الكتاب يقول فريدمان إنه سيكون قانعا لو أنه نجح من خلال الكتاب في الكشف للقارئ آلية عمل النظام الدولي اليوم، بالشكل الذي يمكننا معه من تصور كيف سيعمل في المستقبل.

 

توقع المستحيل

في توضيح لنهجه في التوقع يقول المؤلف إنه ينطلق من تغيير جوهر الشعار الذي يقول: كن عمليا واطلب المستحيل. مؤكدا ان ذلك يمثل الأساس الذي يبني عليه كتابه معتبرا أن ذلك يمثل جوهر الجغرافيا السياسية أو فن ممارسة واستخدام القوة السياسية على الصعيد الدولي، معتبرا أنها ليست ببساطة طريقة طموحة لتفسير العلاقات الدولية، وإنما كذلك طريقة تتعلق بتوقع ما يمكن أن يحدث.

وأنه إذا كان الاقتصاديون يتحدثون عن اليد غير المرئية والتي تقود المصالح الذاتية والأنشطة قصيرة المدى للأفراد من خلالها - حسبما ذهب آدم سميث - الى ما أسماه ثروة الأمم، فإن الجغرافيا السياسية تمثل مفهوم اليد غير المرئية لسلوك الأمم والفاعلين الدوليين الآخرين، فممارسة المصالح الذاتية المنطلقة من المدى القصير على صعيد الأمم من قبل قادتها تؤدي، إذا لم يكن إلى ثروة الأمم، فإنه تؤدي على الأقل إلى سلوك يمكن توقعه بما يمكننا معه توقع شكل مستقبل النظام الدولي.

وكمثال تطبيقي يدعم به المؤلف فكرته، يقدم لنا رؤية تخيلية بشأن المفارقة ما بين ما كان وما جرى خلال القرن العشرين، منطلقا في ذلك من أن المبدأ الحاكم في العلاقات الدولية يتمثل في أن الوضع الذي يبدو عليه العالم في أفضل حال الآن ليس بالضرورة مؤشرا على ما سيكون عليه خلال العشرين عاما المقبلة.

ويضرب مثلا على ذلك ببدايات القرن العشرين، داعيا إيانا لتخيل وجودنا أحياء خلال 1900 ونعيش في لندن حيث مركز حكم العالم وحيث تسيطر أوروبا على العالم .

لقد كانت أوروبا في تلك الفترة تتمتع بحالة سلام ورخاء غير مسبوقين. وكان التفاعل بين الأوروبيين كبيرا بالشكل الذي يجعل البعض يؤكد أن الحرب بين الدول الأوروبية مستحيلة وأنها إذا لم تكن كذلك فإنها ستنتهي خلال أسابيع، نظرا لصعوبة تحمل الأسواق العالمية مثل هذا الوضع بما ستلقيه من آثار كارثية على الأوروبيين.. هكذا بدت صورة المستقبل تقوم على السلام وأن أوروبا التي تتمتع بالرخاء سوف تحكم العالم.

 

صورة بالغة الاختلاف

لكن ـ يضيف المؤلف ـ إذا ما تخيلنا أنفسنا نعيش في 1920 فإن الصورة ستبدو بالغة الاختلاف، فأوروبا تمزقت بحرب مدمرة كما أن الإمبراطوريات النمساوية ـ المجرية ، والروسية والألمانية والعثمانية قد زالت وقتل ملايين الأشخاص بسبب الحرب التي استغرقت أعواما.

لقد انتهت الحرب عندما تدخلت الولايات المتحدة، بجيش جاء سريعا ورحل بالسرعة نفسها وسيطرت الشيوعية على روسيا ولم يكن يبدو واضحا ما إذا كانت تستطيع البقاء أم لا. كما أن دولا على هامش القوى الأوروبية مثل الولايات المتحدة واليابان بزغت فجأة كقوى كبرى.

على هذا النحو يصحبنا المؤلف في رحلة على تحولات القرن العشرين على صعيد النظام الدولي يؤكد من خلالها أن العديد من التطورات كان من الصعب وضعها في الحسبان رغم أن القراءة الدقيقة للأمور قد تشير إلى إمكانية حدوثها. وفي ذلك يذكر مثلا أن الشيء الوحيد الذي كان يبدو مؤكدا بعد الحرب العالمية الأولى أن معاهدة السلام التي فرضت على المانيا تضمن عدم صعودها ثانية، وهو ما لم يتحقق، حيث ظهرت ثانية وخاضت حربا عالمية ثانية. كما أن الاتحاد السوفييتي الذي لمع نجمه خلال معظم القرن انهار تماما وهو أمر كان من الصعب تخيله.

على هذه الخلفية يقول المؤلف أن التحليل السياسي التقليدي يعاني من فشل عميق في القدرة على التخيل، حيث إنه يتصور أن الرياح العابرة يمكن أن تكون دائمة، فيما يصيبه العمى عن إدراك التحولات ذات المدى الطويل. ومن ذلك مثلا أنه من خلال تحليل وضع ألمانيا في اوروبا خلال القرن التاسع عشر (توحدت عام 1871 وتوجد في موقع يفتقد للأمن بين كماشة الاتحاد السوفييتي وفرنسا وتريد إعادة صياغة النظام الأوروبي والعالمي)، فإن هذا الوضع كان يشير إلى أنها ستكون سببا في أزمات عدة في القارة بشكل يمكن معه توقع نشوب حروب.

أما كيف وأين ومتى على النحو الذي جرى في الواقع فهذا مما يدخل في التفاصيل التي قد يصعب توقعها. ويدعم المؤلف رؤيته التوقعية بالإشارة إلى أن صعود الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي خلال القرن العشرين كان أمرا تم طرحه خلال القرن التاسع عشر. فألكسيس دي توكفيل وفردريك نيتشه توقعا بزوغ نجم هاتين الدولتين.

منتقلا من هذه التهيئة للقارئ إلى الموضوع يصحبنا المؤلف إلى بدايات القرن الحادي والعشرين فيذكر أننا بحاجة إلى تحديد عامل حيوي يمكن القول إنه سيكون منطلق تحريك الأوضاع في القرن الحادي والعشرين على شاكلة عامل توحيد ألمانيا في القرن التاسع عشر والذي حرك الأحداث خلال القرن العشرين.

فيذكر أن هذا العامل يتمثل في القوة التي تتمتع بها الولايات المتحدة وسيطرتها على مقدرات النظام الدولي، فهي بكل المعايير، بغض النظر عن بعض التفاصيل التي تمثل عوارض للقوة الأميركية، تعتبر القوة المهيمنة الأولى على الصعيد الدولي اقتصاديا وعسكريا وسياسيا ولا توجد قوة تناظرها في القوة يمكن أن تمثل منافسا لها، على نحو يقول معه المؤلف، أن العالم يدور في الواقع حول الولايات المتحدة. وهو ما ذكرنا بدعوة باراك أوباما إلى شراكة عالمية وتساؤل المراقبين عن مفهومه عن هذه الشراكة.

 

الثقل الأميركي

على هذا الأساس يقرر المؤلف بثقة أن القوة التي تتمتع بها الولايات المتحدة، وتدخل بها القرن الحادي والعشرين إلى جانب ثقلها السكاني، تجعل منها الفاعل الأكثر تأثيرا خلال القرن الذي نحياه. ومن هنا كذلك يذكر فريدمان أن تاريخ القرن الجاري وبشكل خاص النصف الأول منه سيتمحور حول الصراع بين طرفين. الأول يمثل القوى الثانوية التي تحاول تشكيل تحالف لاحتواء الهيمنة الأميركية وتقويضها، والثاني يتمثل في الولايات المتحدة التي ستحاول القيام بمبادرات استباقية للحيلولة دون تشكيل مثل هذا التحالف.

يقول المؤلف إنه إذا نظرنا لبدايات القرن الحادي والعشرين باعتباره فجر العصر الأميركي فسنجد أنه بدأ بهجوم عليها من قبل جماعة تدعي انتماءها إلى الإسلام وتسعى لاعادة إنشاء الخلافة الإسلامية ومن هنا كان من الضروري وفقا لمثل هذه الجماعة القيام بهذا الهجوم لإظهار ضعف الولايات المتحدة وجرها الى حرب وإثارة غضب العالم الإسلامي تجاهها. وسترد الولايات المتحدة بعمليات غزو في العالم الإسلامي ليس هدفها الأساسي النصر.

حيث إن مفهوم النصر في هذا المجال ليس له معنى، ولكن هدفها ببساطة هو ضبط الأوضاع في هذا العالم على نحو يحول دون انبعاث هذه الإمبراطورية، وبالتالي الحيلولة دون أن يمثل هذا العالم تحديا لها.

ورغم أن أحداث سبتمبر التي يشير إليها المؤلف جاءت في سياق ما يمكن اعتباره رفضا للولايات المتحدة إلا أن المؤلف يضخم بشكل مبالغ فيه من هدف القائمين على هذا الهجوم، في الوقت الذي يتجنب الخوض في الأسباب التي دفعت هؤلاء للقيام بذلك، بغض النظر عن صحة موقفهم من عدمه. ويعتبر المؤلف أن حرب الولايات المتحدة مع من يصفهم بالإسلاميين قد انتهت وأن المشهد المقبل يحمل صداما جديدا مع قوى جديدة يخصص لها الفصول المقبلة من كتابه.

ويختتم المؤلف تناوله في معرض توضيح فكرته بالإشارة إلى أن القرن الحادي والعشرين سيكون مثل كل القرون السابقة، فسوف يكون هناك حروب وسيكون هناك فقر، وسيكون هناك انتصارات وهزائم. سيشهد القرن العديد من المآسي والأوضاع الجيدة. في القرن الحادي والعشرين سيذهب الناس إلى أشغالهم كالمعتاد..

ولكن القرن سيكون مختلفا بمعنيين: إنه سيكون بداية عصر جديد سيشهد قوى كبرى جديدة على الساحة العالمية. ويضيف نحن الآن في قلب العصر الأميركي ولكي نفهم هذا العصر يجب أن نفهم الولايات المتحدة ليس بسبب أنها بالغة القوة ولكن بسبب أن ثقافتها متغلغلة في العام وتشكله. وعلى شاكلة ما مثلته الثقافة الفرنسية والبريطانية خلال فترة سيطرتهما على النظام الدولي، فإن دراسة القرن الحادي والعشرين يعني دراسة الولايات المتحدة. ويخالف المؤلف بذلك الكثير من الرؤى والتحليلات العميقة التي تؤكد على أن الولايات المتحدة تواجه خطر التراجع على صعيد النظام الدولي لتكون مجرد قوة كبرى بين مجموعة قوى.

 

انتهاء العصر الأوروبي

يقرر المؤلف أنه اذا كانت هناك من فرضية يقدمها بشأن القرن الحادي والعشرين، فإنها تتمثل في أن العصر الأوروبي قد انتهى، وأن عصر شمال أميركا قد بدأ وأن شمال أميركا سوف تهيمن عليه الولايات المتحدة على مدى المئة سنة المقبلة، وأن الولايات المتحدة ستكون نقطة ارتكاز الأحداث في القرن الحالي وإن كذا لا يعني بالضرورة أن النظام الأميركي يتسم بالعدل أو يستند الى الأخلاق ولا يضمن أن أميركا وصلت إلى مرحلة الحضارة الناضجة، ولكن يعني بشكل أو بآخر أن تاريخ الولايات المتحدة سيكون تاريخ القرن الحادي والعشرين.

 

خمسة أهداف تشكل محاور استراتيجية أميركا

بعد أن عرض المؤلف بالتفصيل لرؤيته ومنهجه في الكتاب بشكل مفصل، انطلاقاً مما قد يبدو للقارئ من غرابة الفكرة المتعلقة بمحاولة التنبؤ بمسار العلاقات الدولية على مدار قرن مقبل، يبدأ في تفصيل فرضيته الرئيسية التي يبني عليها كتابه، والتي تثير أكبر قدر من الجدل والمتمثلة في أن القرن الجاري إلى نهايته سيكون قرنا أميركيا. وواعيا بمدى النقد الذي سيوجه له يحاول المؤلف أن يفند الرأي المخالف انطلاقا من عدة حقائق يرى أنها تدعم رؤيته.

في معرض تناوله لهذا الجانب يشير المؤلف إلى وجود اعتقاد راسخ داخل أميركا بأنها على حافة الهاوية، الأمر الذي يكشف عنه العديد من المظاهر، ويمكن ملاحظته من رسائل القراء للصحف، أو عبر شبكة الإنترنت، أو حتى مجمل الخطاب العام. ويقوم هذا الاعتقاد على أساس أن الحروب الكارثية والعجز المتواصل الذي أفلت من السيطرة، وارتفاع أسعار الوقود وحالات إطلاق النار في الجامعات والفساد في القطاع والحكومة ذاتها.. كل ذلك يوحي بأن الحلم الأميركي قد انهار وأن أفضل أيام أميركا في الماضي وليس المستقبل.

يقول المؤلف في معرض التقليل من وقع الأقوال والحجج بشأن تراجع القوة الأميركية: الغريب أن كل هذه المؤشرات كانت موجودة أيام نيكسون ما يعبر ـ من وجهة نظره ـ عن خوف مستمر من أن الازدهار والقوة الأميركية قاب قوسين أو أدنى من الزوال. ويوضح أن هذا الشعور لا يرتبط بأيديولوجية معينة، ولكنه موجود بين المسيحيين المحافظين ـ اليمين ـ وأيضا النشطاء من أجل البيئة ـ اليسار. فهناك حالة بالحنين للخمسينات ـ وقت البساطة لكن التاريخ يشير إلى أن الخمسينات كانت عصر القلق والتشاؤم العميق.

غير أن المؤلف يشير إلى أن حقائق القوة الأميركية لا تخفى على أحد، فإذا كان الأميركيون يشكلون نحو ؟% من سكان العالم، فإنهم ينتجون نحو 26% من الإنتاج العالمي. وفي عام 2007 وصل معدل الناتج القومي إلى 14 تريليون دولار مقارنة بمعدل عالمي قدر بـ 54 تريليونا.

 

 

وفيما يشير إلى حجم الفارق فإن الدولة الثانية التي تأتي بعد الولايات المتحدة وهي اليابان يقدر معدل ناتجها القومي بنحو 4,4 تريليونات دولار، أي نحو ثلث الناتج القوم الأميركي. كما أن حجم الاقتصاد الأميركي بالغ الضخامة إلى حد أنه يتجاوز أكبر أربعة اقتصادات عالمية تشمل اليابان وألمانيا والصين والمملكة المتحدة.

 

القدرة على النمو

على هذا النحو يواصل المؤلف تفنيد الحجج الخاصة بتراجع الوضع الأميركي، سواء على مستوى التصنيع أو على مستوى موارد الطاقة سواء كانت النفط أم الغاز بمعنى آخر إن الولايات المتحدة ما زال لديها القدرة على النمو.

وفي مجال تفسير القوة الأميركية على الصعيد الاقتصادي ينسب المؤلف جانبا كبيرا منها إلى القوة العسكرية فهي تسيطر بشكل كامل على قارة غير معرضة بشكل أو بآخر للغزو أو الاحتلال وتهيمن بفعل قوتها العسكرية على الجيران. بينما واجهت مختلف القوى العالمية الأخرى حروبا مدمرة أثرت على قدرتها خلال القرن العشرين.

وإذا كانت الولايات المتحدة شنت حربا بالفعل، فإنه لم تعايش خبرة الحرب على أرضها. لقد أوجدت هذه الحقائق العسكرية والجغرافية حقائق أخرى على الصعيد الاقتصادي. ففيما قضت دول أخرى وقتا كبيرا في التعافي من آثار الحروب التي خاضتها، لم تواجه الولايات المتحدة وضعا مماثلا.

وفي تعداد لمظاهر القوة الأميركية يقول المؤلف إن الولايات المتحدة تسيطر على كل محيطات العالم.. ففي أي مياه دولية تتحرك السفن فإنها تقع تحت أنظار الأميركيين، وهذا أمر لم يحدث من قبل في تاريخ البشرية. وهذا يعني حسب المؤلف أن الولايات المتحدة يمكنها أن تغزو دول عديدة في العالم، دون أن يكون هناك إمكانية لغزوها، وهو ما يعني كذلك تحكم الولايات المتحدة بالتجارة الدولية.

هنا يحاول المؤلف التقليل مما يراه عوارض أمام القوة الأميركية ويراها عوامل مؤقتة معتبرا أن العامل الأكثر أهمية في الشؤون العالمية هو التفاوت الاقتصادي الهائل والعسكري والسياسي.

وعلى ذلك يقرر أن أي محاولة لتوقع مسار القرن الحادي والعشرين دون الأخذ في الاعتبار الطبيعة غير العادية للقوة الأميركية تتجاوز نطاق الواقع. بل يصل المؤلف في انحيازه لفكرة القوة الأميركية إلى حد التأكيد على أنه يقدم فرضية خاصة به تتمثل في أن الولايات المتحدة تقف على أعتاب ممارسة قوتها ما يجعله يؤكد على فكرته الرئيسية بأن القرن الحادي والعشرين سيكون قرنا أميركيا.

 

حالة مراهقة ممتدة

إن أميركا ـ حسب فريدمان ـ تعيش ما يصفه بحالة مراهقة ممتدة، إنها صغيرة السن ولهذا فهي مجتمع غير ناضج، وهو التوصيف الذي يراه مسوغا للقول إن أميركا في مرحلة مبكرة من قوتها ولم تكمل تحضرها وأنها مثل أوروبا في القرن السادس عشر ما زالت بربرية ـ وصف وليس حكما أخلاقيا حسبما يقول فريدمان. ففي مرحلة البريرة لثقافة الشعوب يعتقد أهل القرية أن عاداتهم هي قانون الطبيعة وكل من يخالفها يستحق الاحتقار.

المرحلة التالية هي مرحلة التحضر كأوروبا في القرن الـ 18 و19 حين يكون من الممكن أن يوازن المتحضر بين أفكار متناقضة ويعتقد أنه يقترب من الصواب مع احتمال الخطأ وقليلا ما يحارب ولكنه يحارب بكفاءة عالية وآخر المراحل هي الانحلال حين لا يكون هناك ما يستحق القتال من أجله.

هذا التأكيد، حسب فريدمان، يقوم على نقطة عميقة تتمثل في أنه على مدى الخمسمئة سنة الأخيرة قام النظام الدولي على هيمنة أوروبا (الأطلسية)، الدول الأوروبية التي تطل على المحيط الأطلنطي: البرتغال، أسبانيا، فرنسا، انجلترا، وإلى حد ما هولندا. لقد غيرت هذه الدول العالم من خلال إنشاء أول نظام سياسي واقتصادي عالمي في التاريخ الإنساني.

وقد انهارت هذه القوى الأوروبية خلال القرن العشرين وأوجد ذلك حالة من الفراغ الذي تم شغله من قبل الولايات المتحدة القوة المهيمنة في شمال أميركا، والقوة الدولية والقوى العظمى الوحيدة التي تطل على المحيطين الأطلنطي والهادي. لقد شغلت أميركا الشمالية المكانة التي احتلتها أوروبا لخمسة قرون بين رحلة كولومبوس عام 1492 وسقوط الاتحاد السوفييتي 1991 بشكل أصبحت معه مركز الجاذبية في النظام الدولي.

 

تطور القوة الأميركية

يقدم المؤلف تحليلاً شاملاً يستعرض من خلاله كيف وصلت الولايات المتحدة إلى هذا الوضع من القوة مستعرضا موقفها من الحرب العالمية الأولى والتي كانت المؤشر على بزوغها ثم تطورات الحرب الثانية وكيف كانت الفرصة لتسلم القيادة من بريطانيا ثم تطورات الحرب الباردة مع الاتحاد السوفييتي من أجل احتوائه كقوة منافسة لها على قيادة النظام الدولي. ويخلص من خلاله إلى أن الولايات المتحدة لاتزال تملك مقومات القوة التي تجعلها على رأس العصر الجديد. فالقوة الأميركية متأصلة في الاقتصاد والتكنولوجيا والحقائق الثقافية بأن الدولة ستستمر في الصعود عبر القرن الحادي والعشرين.

وفي تاريخه للعصر الأميركي يقول فريدمان إنه بدأ في ديسمبر عام 1991 عندما انهار الاتحاد السوفييتي تاركا الولايات المتحدة وحدها على رأس النظام الدولي.

غير أنه يضيف أن القرن الحادي والعشرين بدا حقيقة مع 11 سبتمبر 2001 بعد ذلك بعشر سنوات عندما وقع الهجوم على برجي مركز التجارة العالمي والبنتاغون. لقد كان ذلك، حسب فريدمان، أول اختبار حقيقي للعصر الأميركي. ويضيف أنه قد يكون من الجوانب المثيرة للجدل ما إذا كانت الولايات المتحدة انتصرت أم لا في الحرب التي خاضتها على خلفية تلك الهجمات، عير أنه من المؤكد أنها حققت أهدافها الإستراتيجية.

هنا وفي تفنيد غير مباشر لأطروحة الرئيس الأميركي بوش بشأن الحرب المستمرة على الإرهاب يقول المؤلف إن الناس يتحدثون عن «الحرب طويلة الأمد» وفكرة أن الولايات المتحدة والمسلمين سيكونون في حالة حرب على مدار القرن الجاري.

ويعتبر ذلك، كما هو العادة، بمثابة نوع من التناول غير الصحيح للأمور يقوم على اعتبار ما هو عابر شيء دائم ومتواصل. ويضيف انه في حال اعتماد المعيار المتعلق بالعشرين عاما الذي أشار إليه من قبل، فإن الصراع قد يستمر، ولكن التحدي الإستراتيجي للقوة الأميركية سيصل إلى نهايته، فالقاعدة فشلت في أهدافها والولايات المتحدة نجحت، إلى حد ما في حربها للحيلولة دون أن يحقق خصومها مكاسب. ومن منظور جيوسياسي فإن هذا جيد بما فيه الكفاية.

 

تداعيات الانهيار السوفييتي

يشير فريدمان إلى أن سقوط الاتحاد السوفييتي كان له تأثير واضح على النظام الدولي. لقد كان وجوده يلقي بتأثيره على توازن هذا النظام. هنا يذكر أنه من المهم تأمل السنوات العشرين الأخيرة والتي ستشكل أساسا لما سيأتي خلال المئة عاما المقبلة. كان من توابع هذا التطور أحداث سلمية على شاكلة توحد ألمانيا وتفكك تشيكوسلوفاكيا.

وأخرى اتسمت بالعنف، وتركزت بشكل أساسي في المنطقة الممتدة من شمالي أفغانستان وحتى يوغوسلافيا فمع تفكك الاتحاد السوفييتي تأثرت هذه المنطقة بشدة حيث انهارت يوغوسلافيا أولا وتبع ذلك حروب عدة، وسادت، الفوضى أجزاء أخرى من المنطقة. هنا يعتبر المؤلف أحداث سبتمبر امتداد لتطور الأوضاع في تلك المنطقة قائلا أن الولايات المتحدة في مواجهتها مع الاتحاد السوفييتي حرصت منذ أواخر السبعينات حتى لحظة انهياره على دعم قوى مختلفة في أفغانستان لتقاوم السوفييت.

ومع انهياره تحولت هذه القوى ضدها بفعل الخبرات التي استمدتها من الدعم الأميركي ذاته وهو ما تبعه كما هو معروف غزو أفغانستان ثم العراق.

باختصار كان من جراء انهيار التوازن الدولي أن وجدت الولايات المتحدة نفسها تواجه حالة من الفوضى بدءا من الحدود النمساوية إلى جبال هندوكوش ما فرض عليها التدخل لوضعها تحت السيطرة بنتائج متباينة. من منظور أشمل يقول المؤلف أن 11 سبتمبر أنهى فترة تنظيم الأوضاع فيما بين الحرب الباردة وبداية الحقبة الجديدة.

وهنا يصل المؤلف في تبنيه المنطق الأميركي ـ وقد أشار هو نفسه في مقدمة كتابه ـ إلى القول إنه حتى لو أن الولايات المتحدة هزمت في المنطقة فإن ذلك لم يكن يقوض أساس قوتها العالمية وأن مثل تلك الهزيمة كانت ستعتبر مثل حرب فيتنام مرحلة عابرة. وعلى ذلك فإن حرب الولايات المتحدة على خلفية تلك القضية التي تثير التوتر مع العالم الإسلامي لن تتواصل في تقدير المؤلف أكثر من عقدين، ومع حلول 2020 ستكون قد انتهت، وستبدأ الولايات المتحدة تجد نفسها في مواجهة تحديات مختلفة.

 

أميركا والعالم الإسلامي

في عبارة محددة لوصف خلاصة التطورات على صعيد هذه القضية، يقول المؤلف إن بقاء العالم الإسلامي الذي تنطلق منه الحرب على الولايات المتحدة في حالة فوضى يمثل بمثابة تحقيق هدف إستراتيجي أميركي، وأن كان يشير إلى أن الولايات المتحدة في سعيها لتحقيق ذلك الهدف أوجدت حالة من العداء البالغة لها في العالم الإسلامي بالشكل الذي قد يجعلها عرضة لهجمات خلال المستقبل المنظور الذي يحدده بعام 2020.

والمهم هو أن الزلزال الذي حدث بالمنطقة جراء هجمات سبتمبر لم يحول المنطقة إلى قوة عظمى، إن لم يكن على العكس، حيث أصبحت المنطقة مفككة أكثر من ذي قبل. ورغم إدانته للتبسيط الأميركي في معالجة الأمر على صعيد خوض حربي أفغانستان والعراق، إلا أنه يؤكد أن ذلك ليس له دلالة على المستوى الإستراتيجي، فما دام المسلمون يقاتلون بعضهم البعض فإن الولايات المتحدة تعتبر قد كسبت الحرب.

ويضيف المؤلف أن هناك أكثر من عنصر في تفسير الحيوية الأميركية ومن بينها الإستراتيجية الكبرى التي تقود السياسة الأميركية الخارجية. وفي هذا الخصوص يشير إلى أن هناك خمسة أهداف حيوية في إطار هذه الإستراتيجية تتداخل وتتكامل من أجل الحفاظ على وتعزيز التفرد الأميركي.

ويتمثل الهدف الأول في الهيمنة الكاملة على شمال أميركا من قبل الجيش الأميركي، القضاء على أي تهديد لها من قبل أي قوى في نصف الكرة الغربي، السيطرة الكاملة على الطرق البحرية إلى الولايات المتحدة من أجل وأد أي إمكانية لغزوها، الهيمنة الكاملة على المحيطات العالمية لتعزيز الأمن الأميركي وضمان السيطرة على نظام التجارة الدولية، منع أي دولة أخرى من تحدي قوتها البحرية العالمية والتي تضمن لها السيطرة على كافة نقاط المرور في العالم.

 

هل تتحول الصين إلى نمر ورقي في أفق عام2020؟

يقول جورج فريدمان أن أي مناقشة للمستقبل يجب أن تبدأ بالبحث في وضع الصين. وعلى عكس ما هو متوقع، يخالف المؤلف كل التحليلات السائدة بشأن بنية النظام الدولي في المستقبل، حيث يرى أن الصين إلى زوال، أو حسب تعبيره ستتحول مع عام 2020 إلى ما يصفه ب«نمر من ورق»، مختلفا بذلك مع الرأي الذي يذهب إلى أن الصين ستعد المنافس الرئيسي للولايات المتحدة، وهي الرؤى التي قدمها الكثيرون بما فيهم بعض ذوي الشأن في الولايات المتحدة.

 

 

ويبني فريدمان رأيه على أسس ثلاثة، أولها أن الصين تعد إقليما منعزلا، وإن كان مما يقوض ما يراه المؤلف في هذا الصدد أن ذلك لم يحل دون احتلال الصين مرتبة متقدمة في مراحل مختلفة من التاريخ. ثم إن الصين حسب المؤلف ليست قوة بحرية رئيسية لعدة قرون وبناء مثل هذه القوة يتطلب وقتا طويلا، ثم إن الصين ثالثا ورثت حالة من عدم الاستقرار الأصيل. وقد يبدو للوهلة الأولى أن رؤية المؤلف هنا تفتقد إلى التماسك الأمر الذي يبقى رهنا بالأخذ والرد انتظارا لما يحسمه الواقع في المستقبل.

يفند المؤلف الأطروحات التي تروج لصعود الصين والتي تنطلق من أن الوضع السكاني هناك حيث يقطن ربع سكان العالم، فضلا عن النمو المتواصل الذي يحياه اقتصادها بشكل كبير على مدى الثلاثين عاما الماضية.

ومن خلال نفي صحة هذه الفرضية يبني المؤلف تصوره باضمحلال الصين خلال السنوات العشر المقبلة. ومن الغريب هنا هو عدم تطبيق المؤلف المنطق ذاته على النمو المتواصل في بلاده.. الولايات المتحدة يقول فريدمان إن ثلاثين عاما من النمو لا تعني بالضرورة استمرار هذا النمو، بل تعني أن نمو الصين قارب على الانتهاء، مضيفا أن النمو البطيء يعني مشاكل سياسية واجتماعية. وهنا يعلن المؤلف صراحة أنه لا يتفق مع وجهة النظر القائلة بأن الصين ستصبح قوة عالمية رئيسية، ويرى أن أهمية الصين تنبع من نظرة الآخرين لها على أنها كذلك.

 

شكوك حول النمو الصيني

من الحجج التي يسوقها المؤلف على ذلك قوله أولا إن موقع الصين يجعلها في عزلة عن باقي العالم. وقد جرى غزو الصين مرة واحدة من قبل المغول في القرن الثاني عشر ونادرا ما توسعت فيما يتجاوز حدودها الحالية. كما أن الصين لم تنخرط على الدوام في التجارة العالمية وقد مر عليها فترات أغلقت أبوابها وتجنبت الاتصال بالأجانب. وقد واجه الأوروبيون الصين في منتصف القرن التاسع عشر على مدى فترات متقطعة.

وهنا يقدم لمحة تفصيلية عن المراحل التي مرت بها الصين خلال تاريخها وحتى العصر الحديث حيث توحدت على يد ماو اعتبارا من عام 1949 حتى وفاته وخضعت لحكومة قوية وإن واجهت في الوقت ذاته حالة من العزلة والفقر.

لقد أدت وفاة ماو بخلفائه إلى محاولة تحقيق حلم الصين القديم بأن تصبح دولة غنية وموحدة تحت حكومة قوية عبر التجارة الدولية. وقد كان خليفة ماو دينج زياو بنيج يرى صعوبة الإبقاء على الصين في عزلة على الدوام والبقاء في مأمن في الوقت ذاته.

يقول المؤلف إن اقتصاد الصين يبدو أنه يعيش مرحلة صحية وحيوية ومع ذلك فإن السؤال الأكثر أهمية هو ما إذا كان ذلك النمو الذي تعيشه الصين مربحا أم لا؟ ويضيف أن الكثير من النمو الصيني حقيقي ويحقق الأموال الضرورية للحفاظ على رضاء البنوك، ولكن هذا النمو في الواقع لا يعزز الاقتصاد.

وخلال مراحل معينة من الركود، ومن ذلك الذي تشهده الولايات المتحدة حاليا، فإن البنية الاقتصادية للصين يمكن لها أن تنهار سريعا. ورغم أن الرد على هذا الجانب يتطلب خبيرا اقتصاديا، إلا أنه قد لا يكون من العسير التأكيد من واقع التقارير المتخصصة أن ذلك ليس صحيحا.

 

تجارب مماثلة

غير أن المؤلف يواصل رؤيته، مفصلا بالقول إن ما يشير إليه بخصوص مسار النمو الصيني ليس قصة جديدة في آسيا، حيث واجهت اليابان من قبل تجربة شبيهة خلال الثمانينات من القرن الماضي، إلى حد أن الحكمة التي كانت سائدة هي أن اليابان يمكن أن تطيح بالولايات المتحدة، بينما أن الحقيقة كانت تشير إلى أنه فيما أن الاقتصاد الياباني ينمو فليس هناك ما يدعمه ؟

نمو وهمي بمعنى أصح. وعندما انهار الاقتصاد الياباني شهدت اليابان أزمة بنوك حادة لم تتعاف منها تقريبا سوى بعد نحو عشرين عاما. وكذلك الأمر بالنسبة لاقتصاد شرق آسيا عندما انهار في 1997 فقد كان ذلك بمثابة مفاجأة بالنسبة للكثيرين في ضوء حقيقة النمو السريع الذي كان يقوم عليه اقتصاد هذه الدول.

من هذا التناول يشير المؤلف إلى أن الصين توسعت بشكل غير طبيعي، على مدى الثلاثين عاما الماضية، وأن مصير هذا النمو هو نفس المصير الذي واجهته اليابان والنمور الأسيوية. وإذا كانت هذه الأخيرة قد واجهت مشاكلها بطريقة أو بأخرى فإن مشكلة الصين تبقى سياسية، فما يجمع الصين هو المال وليس الأيديولوجية.

وعلى ذلك فإنه عندما تحدث ردة اقتصادية أو انهيار اقتصادي وتتوقف الأموال عن الدوران فإن ذلك سينعكس بشكل كبير على بنية المجتمع الصيني. فالولاء هناك إما أن يتم شراؤه أو فرضه. ومع عدم وجود المال الكافي، فإن الفرض يبقى هو الحل. كما أن تراجع الأعمال يمكن أن يؤدي إلى عدم الاستقرار، باعتبار النتيجة المنطقية لذلك والمتمثلة في الفشل الاقتصادي والبطالة، كل ذلك بالضرورة لا بد أن ينعكس في حالة من عدم الاستقرار السياسي.

 

خيارات صعبة

يخلص المؤلف إلى أن الصين أمام مفترق طرق، وأن لديها ثلاثة خيارات. أولها أن تواصل النمو على هذا النحو، وهو أمر يبدو مستحيلا، حيث لم تحققه أي دولة من قبل والصين لن تكون استثناء من هذه القاعدة. وقد أدى هذا النمو إلى اختلالات ينبغي علاجها وفي مرحلة معينة قد تجد الصين نفسها مجبرة على خوض إجراءات كتلك التي قامت بها مجموعة دول آسيا التي شهدت عملية مماثلة.

أما الخيار الثاني فهو إعادة المركزية، حيث يتم السيطرة على المصالح المتعارضة التي ستظهر وتتنافس في أعقاب الانهيار الاقتصادي من خلال حكومة مركزية تفرض النظام وتحد من قدرة المناطق على المناورة. وهذا السيناريو أكثر قابلية للتحقق من الأول.

أما الخيار الثالث فيتمثل في أنه تحت ضغط التراجع الاقتصادي ستواجه الصين خطر الانقسام على خطوط التقسيم التقليدية ما بين ما بين مناطق ذات أكثر اتصالا بالعالم الخارجي وهى الغنية وأخرى داخلية في عزلة وهي الفقيرة، فيما ستضعف الحكومة المركزية وتصبح أقل قوة. تقليديا ؟ يقول المؤلف إن هذا السيناريو هو الأكثر احتمالا في الصين وهو احتمال سيحقق منفعة الطبقات الثرية وكذلك المستثمرين الأجانب.

 

البزوغ غير المكتمل

من الصين إلى روسيا التي يرى أنها ستلقى المصير ذاته ينتقل بنا فريدمان في كتابه، فيذكر في معرض الإشارة إلى بزوغها مرة ثانية إثر انهيار الإتحاد السوفييتي أنه في إطار علم الجيوسياسة أو الجغرافية السياسية فإن الصراعات الرئيسية تكرر نفسها.

ويضرب مثلا على ذلك بأن فرنسا وألمانيا خاضتا حروبا عدة، كما فعلت بولندا وروسيا. والقاعدة الحاكمة لهذا الوضع هي أنه عندما تفشل الحرب في حل مشكلة خاصة بالجغرافيا السياسية، فإن ذلك من شأنه أن يفرض الحرب من جديد إلى أن يتم حل تلك المشكلة بشكل نهائي.

يقول المؤلف إن روسيا تمثل الجزء الشرقي لأوروبا، وقد دخلت في صراعات مع بقية القارة في مناسبات عدة، مثل الحروب النابولونية والحربين العالميتين الأولى والثانية، والحرب الباردة.

لقد وقعت هذه الحروب على خلفية علاقات روسيا مع باقي أوروبا غير أن أيا منها لم يحسم في النهاية هذه المشكلة، في ضوء أن هذه الحروب كانت تنتهي في أغلب الأحوال إما بانتصار روسيا أو استمرار بقائها. المشكلة هي أن وجود روسيا موحدة يفرض تحديا محتملا أمام أوروبا.

ويشير المؤلف إلى أن روسيا تحتل منطقة واسعة ذات كثافة سكانية عالية، وهى أكثر فقرا من بقية أوروبا، ولكنها لديها من الإمكانيات ما يعزز موقعها، وتتمثل بشكل أساسي في الأرض والموارد الطبيعية. وعلى هذا النحو فقد مثلت غواية متواصلة للقوى الأوروبية والتي رأت فيها فرصة لزيادة نطاق مساحتها وثروتها في اتجاه الشرق.

يذكر المؤلف أنه على الصعيد التاريخي لم يجن الأوروبيون الذين حاولوا غزو روسيا سوى المشاكل والهزائم، إذا لم يكن على يد الروس أنفسهم، فعلى يد عوامل أخرى تتسبب في إلحاق الهزيمة بهم. وقد كانت الحرب الباردة بمثابة وضع حل لهذه المشكلة حيث فرضت أوضاعا على طرفي الصراع شروطا جعلت كلا الطرفين في مأمن من غزو الآخر له.

ومع انهيار الإتحاد السوفييتي في عام 1990، وتفككه إلى جمهوريات فإن القوى الروسية كادت أن تختفي بما تمثله من تهديد لأوروبا، غير أن ذلك لم يتم بسبب عدم الإجهاز السريع على هذه القوة من قبل المنافسين سواء أوروبا أو الولايات المتحدة، بل على العكس فإن ما قامت به الولايات المتحدة نبه الروس إلى الخطر الكبير الذي تمثله واشنطن عليهم الأمر الذي كان عاملا في يقظتهم من جديد.

إن السؤال المحوري الذي سيفرض نفسه ؟ من وجهة نظر المؤلف؟ على هذا الأساس هو أين ستقف حدود روسيا وكيف سيكون شكل علاقاتها مع جيرانها؟ يضيف أن تلك القضية ستمثل الملمح الرئيسي للفترة المقبلة من التطورات العالمية حتى 2020 والسنوات التي ستؤدي إليها.

 

ملامح الامتداد الروسي

على هذا النحو يتناول المؤلف بالتفصيل ملامح الصراع على خلفية هذه القضية، خلال السنوات المقبلة، مستعرضا السياسات المختلفة التي ستسعى إليها روسيا لتعزيز موقعها سواء على صعيد دول الاتحاد السوفييتي السابقة أو على الصعيد الأوروبي وردود الفعل على هذه التحركات.

يقول فريدمان إنه خلال المرحلة الأولى من إعادة بروز روسيا حتى 2010 أو نحو ذلك، سيواجه ذلك الأمر بموقف يقلل من قيمتها، حيث سينظر إليها على أنها بقايا دولة وذات اقتصاد يفتقد للفعالية، وضعيفة عسكريا.

وخلال العقد التالي، ومع تزايد المواجهات على حدودها بشكل ينبه جيرانها إلى ما يجرى داخلها فإن القوى الكبرى في النظام الدولي ستستمر على موقفها الذي لا يبدي اهتماما كبيرا بما يحدث هناك. وهنا يقول المؤلف إن الولايات المتحدة بشكل خاص تتجه إلى التقليل من أعدائها ثم التضخيم من شأنهم.

وعلى ذلك فإنه مع حلول منتصف العقد ؟ 2015 ؟ فإن الولايات المتحدة سوف تبدي قدرا من الانتباه لروسيا. ويضيف: هنا يمكن ملاحظة قضية بالغة الأهمية، فالولايات المتحدة رغم ما هي عليه من مزاجية، إلا أنها على الصعيد الفعلي، كما نرى، تنفذ سياسة خارجية بالغة الرشادة. وعلى صعيد القضية التي يتناولها المؤلف هنا يقول إنها ستسعى إلى تقييد حركة روسيا دون المغامرة بالدخول معها في حرب.

فإذا كان صعود روسيا محدودا، فسيسيطر الروس على وسط آسيا والقوقاز، وربما يبتلعون مولدوفيا ولكن لن يكون في إمكانهم السيطرة على دول البلطيق، أو الهيمنة على أي دولة في غرب الكارباثيان ؟

جبال في تشيكوسلوفاكيا. وإذا ما تمكن الروس من ابتلاع البلطيق والحصول على حلفاء بارزين في البلقان مثل صريبا وبلغاريا واليونان أو دول وسط أوروبا مثل سلوفاكيا، فإن المنافسة بين الولايات المتحدة وروسيا ستكون أكثر حدة ورعبا. وإن كان المؤلف يشير إلى أن ذلك في النهاية لن يعني الكثير بالنسبة للولايات المتحدة، فالقوة العسكرية الروسية ستكون في حالة تحول دون مواجهة القوة العسكرية الأمريكية التي ستقرر الولايات المتحدة استخدامها في مواجهة الخطوات الروسية.

وبغض النظر عن ما ستقوم به بقية دول أوروبا، فإن بولندا وجمهورية التشيك والمجر ورومانيا ستكون ملتزمة بمواجهة التقدم الروسي، وستجري أي اتفاق مع الولايات المتحدة تريده هذه الأخيرة من أجل الحصول على مساندتها. وعلى ذلك فإن الخط الفاصل حينئذ سيكون مرسوما في جبال الكربات هذه المرة بدلا من ألمانيا، كما كان خلال الحرب الباردة. وستكون سهول بولندا الشمالية الخط الرئيسي للمواجهة ولكن الروس لن يتحركوا عسكريا.

 

ظروف غير مواتية

إن الأسباب التي ستشعل هذه المواجهة وما سيتمخض عنها من نتائج ستكون على شاكلة الحرب الباردة مع جهد أقل للولايات المتحدة هذه المرة. وإذا كان مركز الحرب الباردة هو وسط أوروبا فإن المواجهة المحتملة ستحدث أكثر قربا إلى الشرق، وإذا كانت الصين حليفا لروسيا في البداية خلال الحرب الباردة، فإن الصين ستكون خارج اللعبة في المواجهة الثانية.

وفيما كانت روسيا تسيطر بشكل كامل على القوقاز، فإنها الآن لا تتمتع بهذه الميزة، وستواجه الضغط التركي والأمريكي في الشمال. وخلال الحرب الباردة كان عدد روسيا بالغ الضخامة، ولكن الآن بفعل تفكك الاتحاد السوفييتي انخفض بشكل كبير. نتاج هاذ الوضع حسبما يتوقع المؤلف هو انكسار روسيا وتفككها لتكون تلك المرة الثالثة بعد 1917 و1991 وخلال 2020.

 

انقسام العالم العربي في 2020 يتجاوز كل التوقعات

بناء على الصورة التي رسمها المؤلف بشأن تفكك روسيا وتدهور وضع الصين، فإن السؤال الذي يفرض نفسه هو: كيف سيتطور وضع النظام الدولي على هذا الأساس؟ هنا يذكر فريدمان أن انهيار روسيا في أوائل العقد الثالث من القرن الجاري سيترك منطقة أوراسيا كلها في حالة فوضى، ومما سيعزز من ذلك التدهور الذي ستشهده الصين. وبناء على ذلك يقدم لنا ملامح صورة قاتمة لما ستؤول إليه الأمور بسبب هذين التطورين.

ويوضح المؤلف أن الولايات المتحدة ستكون سعيدة بهذه التطورات التي ستراها شيئا جيدا ويصب في مصلحتها، في ضوء حقيقة أن من بين الأهداف الإستراتيجية الأمريكية ألا توجد قوة كبرى تهيمن على الأوضاع في أوراسيا وأن انهيار روسيا وتداعي الصين يمثل تحقيقا لهذا الهدف. ويذكر أنه لن تكون هناك حاجة كبيرة بالولايات المتحدة إلى التدخل بنفسها من أجل الحفاظ على توازن القوى في المنطقة، الذي سيتواصل على مدى عقود. وستصبح المنطقة بمثابة أرض الفرص للطامعين في خيراتها، في ضوء ما يمثله غياب القوة الرئيسية بالإقليم من فرصة على هذا الصعيد. من المشهد العام الذي يقدمه المؤلف، ويدخل في عداد التوقعات المستقبلية التي يصعب الجزم بها، فضلا عن ضعف المنطق الذي يستند إليه المؤلف في بناء مادته عليه، ينقلنا المؤلف نقلة أخرى مشيرا إلى أن هناك ثلاث دول بشكل خاص ستكون في وضع يسمح لها بممارسة النفوذ في أوراسيا، وهي الدول التي يتوقع لها أن تبزغ خلال القرن الجاري. الأولى هي اليابان والتي ستكون في موقف يسمح لها بتوسيع مناطق نفوذها ليشمل مناطق بحرية روسية وكذلك مناطق من الصين.

كما أن تركيا ستكون في موقف يسمح لها للتحرك باتجاه الشمال في القوقاز، وقد يتجاوز تحركها ذلك النطاق. وأخيرا فإن تحالفا من دول أوروبا الشرقية تقوده بولندا ويشمل دول البلطيق والمجر ورومانيا سوف ينظر لهذا التطور باعتباره فرصة ليس فقط للعودة إلى الحدود القديمة بل أيضا إلى حماية نفسه في مواجهة أي دولة روسية مستقبلية. ويتوقع المؤلف أن توسع بولندا نفوذها في اتجاه الشرق لتتعمق داخل بيلاروسيا وأوكرانيا.

ومن بين التطورات التي يراها المؤلف محتملة الوقوع مثلا استعادة فنلندا لكاريليا (جمهورية ذات استقلال ذاتي في الاتحاد الروسي تقع في الشمال وعلى الحدود مع فنلندا) ورومانيا لمولدوفيا.

أما الهند فستساعد التبت على التحرر من الصين، فيما أن تايوان ستوسع من نطاق سلطتها عبر خليج تايوان. أما الأوربيون والأمريكيون فسيوجدون مناطق تمثل مجال نفوذ لهم في الصين، ومن بين الفوائد الثانوية الأخرى لهذه الدول أنه مع زيادة قوتها ستكون في وضع أقوى بالشكل الذي يسمح لها بحماية نفسها في مواجهة الأعداء التقليديين في الغرب مثل ألمانيا.

 

قوة أوروبا الشرقية

تأكيدا على فكرته يقول فريدمان إن هذه الأقطار الأوروبية الشرقية ستتطلع إلى هذه الفرصة لاتخاذها مناسبة لإعادة صياغة توازن القوى في المنطقة، وإن توقع في الوقت ذاته عدم قدرة دولة مثل الهند على لعب دور يحقق لها مزايا كبيرة نتيجة مثل هذا التطور.

أما على الصعيد الأميركي فيرى أن الولايات المتحدة ستعمل على تعزيز هذه التحولات التي ستجري في العقد الثالث من القرن الحالي، وستكون دول أوروبا الشرقية وتركيا واليابان حلفاء للولايات المتحدة.

فخلال المواجهة مع روسيا ستعمل الدولتان من أجل مصالحهما الخاصة على التنسيق مع الولايات المتحدة التي ستنظر لهما، كما لبقية الحلفاء، كامتداد للإدارة الأميركية.

وفي إطار استعراضه لسيناريوهات تطورات الموقف في العقد الثالث، يذكر جورج فريدمان أن أحداث هذه الفترة ستكون لها تأثيرات تتجاوز روسيا والصين:

* الأول سيتمثل في تغيير وضع آسيا في علاقتها مع منطقة الباسيفيك، الأمر الذي يرتبط بالتالي بعلاقتها مع الولايات المتحدة.

* الثاني يتعلق بحالة العالم الإسلامي بعد الحرب التي شنتها واشنطن مع المتشددين.

* الثالث يتعلق بالنظام الداخلي في أوروبا في عصر تراجع الوضع الفرنسي الألماني وبزوغ قوى أوروبية شرقية.

 

 

ثم يتناول المؤلف بالتفصيل موقف الدول الثلاث، بادئا باليابان والتي يشير إلى علاقاتها الشائكة مع الصين تاريخيا. فإذا كانت اليابان تطلعت إلى أسواق الصين خلال ثلاثينات القرن الماضي، وإلى حد ما العمالة، فإنها ستركز في عقد العشرينات من القرن الجاري على العمالة، حيث ستواجه اليابان إغراء استغلال الصين خلال العقدين المقبلين وستفرض هيمنتها على جزء من الأراضي الصينية بشكل يمكنها من المساهمة في حل المشكلة السكانية التي تواجهها من حيث ندرة معدل النمو السكاني بها دون أن تجد نفسها مجبرة على دفع كلفة الهجرة على الصعيد الثقافي والاجتماعي.

 

صعود اليابان

أما على الصعيد الروسي فيتناول المؤلف انتهاز اليابان لفرصة تفككه على النحو التالي: فإلى جانب مشكلة العمالة التي ستحلها عن طريق الصين، فإن اليابان، تاريخيا، كانت لديها مصادر اهتمام أخرى تتعلق بالمواد الأولية.

فإذا كانت تعد، كما أشار المؤلف، ثاني أكبر اقتصاد عالمي، فإن المشكلة التي تواجهها تتمثل في أنها تجد نفسها مضطرة إلى استيراد كل ما تحتاجه من مواد أولية. إن هذا هو التحدي التاريخي الذي يواجه اليابان وكان السبب الرئيسي في دفعها لخوض الحرب مع الولايات المتحدة عام 1941.

ويذكر المؤلف هنا أن الكثيرين، في هذا المجال، ينسون أن اليابان انقسمت على نفسها قبل التوصل إلى قرار نهائي بشأن الهجوم على بيرل هاربر، حيث ساد الخلاف آنذاك بشأن الإقدام على هذه الخطوة، فقد اقترح بعض القادة اليابانيين غزو سيبيريا للحصول على حاجة اليابان من المواد الأولية دون المغامرة بالحرب مع الولايات المتحدة. هنا تبدو حيوية روسيا ـ المفككة ـ بالنسبة لليابان، فالأولى غنية بكل أنواع المواد الأولية، والمعادن وموارد الطاقة.

ومع حلول العقد الثالث من القرن الجاري ستواجه اليابان مشكلة حادة فيما يتعلق بالوقود والاعتماد المستمر على نفط دول الخليج، والذي قد تستأثر به الولايات المتحدة. ومع تزايد ثقة الولايات المتحدة بقدراتها بعد السقوط الثاني لروسيا، فإن اليابان مثل باقي العالم سيزداد قلقها بشأن التحركات الأميركية المقبلة. ولذلك فإنه مع تفكك روسيا سيكون بمثابة فرصة لليابانيين لمحاولة فرض سيطرتهم الاقتصادية على الأقل على الجزء الروسي القريب من المحيط الهادي.

وقد تلجأ اليابان إلى اتخاذ ردود فعل حادة، إذا ما جرى تهديد حق وصولها إلى مصادر المواد الأولية. ورغم ذلك يقول المؤلف إن اليابان لن يكون لديها الرغبة في خوض مغامرة عسكرية على خلفية تحقيق هذه الأهداف.

 

بزوغ تركيا

أما على صعيد الوضع بالنسبة لتركيا، فيقول المؤلف أنه خلال المواجهة الأميركية الروسية في أوروبا التي ستتواصل حتى عشرينات القرن الجاري فإنه ستجرى مواجهة أخرى فرعية في القوقاز. فخلال فترة التمدد الروسي والتي يتوقع لها المؤلف أن تكون خلال العقد المقبل سيتوسع الروس جنوبا ملحقين جورجيا بهم مدعمين علاقاتهم مع حلفائهم في أرمينيا.

وعلى ذلك ستشكل عودة الجيش الروسي إلى الحدود التركية أزمة حادة مع هذه الدولة. وعلى ذلك، فإن الأتراك بعد مرور نحو ما يقرب من قرن على سقوط إمبراطوريتهم العثمانية وتأسيس تركيا الحديثة، سيجدون أنفسهم يواجهون مرة أخرى التهديد الذي واجهوه خلال الحرب الباردة.

ومع تفكك روسيا لاحقا فإن الأتراك سيتخذون قرارا استراتيجيا لا مفر منه في حدود العام 2020، وعلى أساسه سيحاولون تجنب مغامرة الاعتماد على منطقة عازلة يسودها الفوضى لحماية أنفسهم من الروس، وسيقومون بدلا من ذلك بالتحرك في اتجاه الشمال داخل القوقاز، بالقدر الذي يوفر لهم حماية أمنهم القومي من هذا الجانب. هنا يقول المؤلف أنه توجد قضية أعمق. فمع حلول 2020 ستبرز تركيا كواحدة من بين أكبر عشر اقتصادات على مستوى العالم.

وقد احتلت بالفعل المرتبة 17 عام 2007 وتنمو بثبات. ولكن تركيا ليست فقط قوة اقتصادية فقط، بل إنها في الواقع تتمتع بواحد من أكثر المواقع حيوية على الصعيد الإستراتيجي يفوق ما تتمتع به أي دولة في إقليم أوراسيا.. فهي تتمتع بالتواصل الجغرافي مع العالم العربي، إيران، أوروبا، ودول الاتحاد السوفييتي السابق، وفوق كل ذلك البحر المتوسط.

في إطار تنبؤاته، يقول المؤلف ببلاغة إن تركيا الصاعدة ستوجد في «بحر من الفوضى»، التي ستحيط بها من كل جانب وليس من الشمال فقط وإن كان لا يوجد خوف عليها، إزاء ضعف الجوار، وهنا يرسم المؤلف صورة بالغة الكآبة بشأن الضعف والهوان الذي سيكون عليه الجانب العربي بل والإسلامي. باختصار يذكر أن العالم الإسلامي ـ والعربي بشكل خاص ـ سيكون خلال 2020 مقسما بشكل يتجاوز أي سيناريو يمكن تخيله.

 

 

وعن ملامح التحالف بين تركيا والولايات المتحدة يذكر المؤلف أنه خلال فترة العقد الثالث، وبزوغ تركيا فإنها ستلعب دورا حيويا في المواجهة مع الروس. حيث ستقوم بغلق مضيق البوسفور الذي يربط بحر إيجة بالبحر الأسود أمام المرور الروسي إلى البحر المتوسط. هنا يشير المؤلف إلى أن تركيا تاريخيا سيطرت على البوسفور ولذلك فإن روسيا طالما نظرت إليها على أنها عائق أمام مصالحها.

يضيف لن يوجد اختلاف في العقد الثاني أو الثالث من القرن الجاري حيث ستحتاج روسيا للمرور عبر البوسفور إلى المتوسط للتصدي للأمريكيين في البلقان. وإزاء إدراك الأتراك أن تحقيق الروس لأهدافهم الإستراتيجية من ذلك سيقوض استقلالهم فإنهم سيعملون على تعزيز تحالفهم مع الولايات المتحدة ضد روسيا.

 

نهضة بولندا

من اليابان وتركيا إلى بولندا، والتي يصف فريدمان موقفها بأنها ستكون الطرف الأكثر حماسا للمشاركة في المواجهة الأمريكية مع الروس، إلى الحد الذي يصف معه موقفهم بأنهم سيقودون الأمريكيون في هذه المواجهة على ذات النحو الذي سيقودهم الأمريكيون.

فمع عودة الروس إلى حدودها ستتطلع بولندا لبقية أوروبا لمساندتها عبر «ناتو». وسيكون هناك قدر محدود من الحماس لمثل هذه المساعدة من قبل فرنسا وألمانيا لخوض هذه المواجهة. وعلى ذلك ستلجأ بولندا إلى ما فعلته تاريخيا عندما اصطدمت بروسيا أو ألمانيا وهو البحث عن قوة خارجية لتحميها.

تاريخيا ذلك هدف لم يتحقق. فالضمانات التي قدمت من بريطانيا وفرنسا عام 1939 لم تقدم أي حماية لبولندا ضد ألمانيا أو روسيا. غير أن الولايات المتحدة ستكون مختلفة هذه المرة. وعودة إلى النرجسية القومية يقول المؤلف في وصفه بلاده: إنها ليست قوة في تراجع، ولكنها فتية! مقدامة، وستكون المفاجأة السارة لبولندا أن الولايات المتحدة ستكون قوية بما فيه الكفاية لوقف الروس.

 

ذوبان «ناتو»

من بين التصورات التي يطرحها المؤلف توقعه أن يذوب حلف الأطلسي نتيجة ما يجري على خلفية رفض فرنسا وألمانيا التعاون في الدفاع عن دول البلطيق، حيث ستفرض الحاجة التدخل الفردي من قبل الولايات المتحدة خارج نطاق الحلف ما يعني انتهاء وظيفته عمليا.

وعلى هذا فإن موقف فرنسا وألمانيا سيتسم بالحنق على أميركا، فالدولتان اللتان عاشتا الموقف ذاته خلال الحرب الباردة ؟ تفوق الأمريكيين على الروس ؟ سيكون لديهما قدر من المشاعر المختلطة بشأن التفوق الأمريكي على روسيا، فمع عيشهما خلال الحرب الباردة في القرن العشرين، سيكون لديهما تحفظ على مواجهة التجربة ذاتها مرة أخرى.

ومع انهيار روسيا، فإن البولنديين سيكونون الأوائل الذين يسعون للتحرك شرقا، في محاولة لإنشاء منطقة عازلة في بيلاروسيا وأوكرانيا. وفي أعقاب سقوط روسيا سيتجه مركز النظام الأوروبي نحو الشرق.. إلى أوروبا الشرقية والارتباط بعلاقات قوية مع الولايات المتحدة.

ويضيف إن الاهتمام الأمريكي بأوروبا ربما يخبو في أعقاب السقوط المباشر لروسيا على ما يبدو فاتحا البابا أمام تزايد القوة الفرنسية الألمانية، ولكن ذلك سيكون بمثابة مرحلة انتقالية فمع تزايد أزمة الولايات المتحدة مع اليابان لاحقا، وتركيا فإن الاهتمام الأميركي سوف يعاود الظهور بما سيعني سد الطريق أمام بزوغ قوة ألمانيا وفرنسا.

 

الحرب العالمية الثالثة عام 2050

يخوض المؤلف بنا غمار تجربة جديدة في كتابه، الذي يمكن اعتباره كله بمثابة ابتكار جديد في الكتابة السياسية، فيقدم لنا سيناريو حرب عالمية تحدث بسبب الصراعات التي تسود القرن الجاري. غير أن فريدمان في اتساق مع أطروحاته بشأن التطور الكبير الذي سيطرأ على العالم على كافة المستويات خلال العقود المقبلة يتصور أن الحرب العالمية المقبلة ستكون حربا غير كل الحروب السابقة، فهي حرب نجوم بالأساس.

وأما عن الخسائر البشرية الناجمة عن هذه الحرب فلن تقترب بأي معيار من الخسائر الفظيعة التي تم تكبدها خلال الحروب السابقة، حيث ستكون بالغة المحدودية. وبالطبع فإن طرفها الرئيسي الولايات المتحدة، وأما الطرف الآخر الذي سيواجه الولايات المتحدة فهو اليابان وتركيا، حيث سيبادران بالهجوم في إطار صراع المصالح الذي سيحكم العالم آنذاك في ظل انحسار أو اختفاء القوى التقليدية، مثل روسيا والصين وفرنسا وألمانيا من ساحة الصراع.

ضمن محاولة تقديمه توقعات بشأن مسار الاتجاهات الدولية في القرن الجاري، يصف المؤلف حربا يعتقد أنها ستحدث في منتصف القرن الحادي والعشرين. وخروجا من محاسبة القارئ له على ما سيورده من تفاصيل تجعل ما يعرض له أقرب إلى الخيال العلمي يبرئ فريدمان ساحته، قائلا: من الطبيعي أن لا أعراف أين ستحدث، ولكن الهدف تقديم فكرة عامة بشأن ماهية الحرب في ذلك القرن.

ويضيف في معرض تقريب وجهة نظره بشأن ضرورة قيام مثل هذه الحرب إننا لا نستطيع مثلا استيعاب تطورات القرن العشرين، بدون أن تكون لدينا فكرة عن الحربين العالميتين الأولى والثانية خلال القرن العشرين. كما أنه لا يمكن أن يلم المرء بالقرن الحادي والعشرين دون أن تكون لديه فكرة حقيقية عن حرب يمكن أن تحدث خلاله.

ويقول إنه لكي نفهم الحرب علينا أن نفهم ما يتجاوز الأسباب التي اندلعت من أجلها، وعلى ذلك فالمرء عليه أن يضع في اعتباره لدى أي حديث عن الحرب التطور التكنولوجي والثقافة والعديد من الجوانب الأخرى. وأن يفكر بشأن التكنولوجيا والثقافة والعديد من المسائل الأخرى. وعلى سبيل المثال، فإنه لدى الحديث عن الحرب العالمية الثانية، فإنه يجب أن نناقش ما حدث في بيرل هاربر، والتي كانت في المنظور الجغرافي السياسي، محاولة لشراء الوقت، فيما كانت اليابان تحاول احتلال جنوب شرق آسيا.

ولكن من أجل فهم حقيقي لحقيقة بيرل هاربر، فإنه يجب فهم واستيعاب تفاصيل تتعلق بالجوانب العسكرية التي بنت على أساسها اليابان هجومها، وكذا قرار الهجوم صباح الأحد وهو يوم عطلة.

 

حرب وقائية

من هذا الاستهلال بشأن السياق الذي ييسر استيعاب احتمالات نشوء حرب خلال القرن الجاري يضعنا المؤلف في الإطار العام للصورة، فيقول: إن ما حاولت الإشارة إليه على مدى الفصول السابقة هو كيف أن الولايات المتحدة وبولندا وتركيا واليابان سوف تزداد انغماسا في قضايا النظام الدولي، ولماذا ستشعر اليابان وتركيا بالتهديد بالشكل الذي لا يجدون معه أمامهم سوى المبادرة إلى شن حرب وقائية؟.

هنا يشير المؤلف إلى صعوبة الموقف الذي يجد نفسه فيه، حيث يجب عليه أن يتظاهر بمعرفة الأوقات والتواريخ التي ستقع فيها المعارك وبدقة وكيف ستحدث. ويضيف أنه من خلال تتبع التطور التكنولوجي يمكن له تقديم صورة متكاملة بشأن الجوانب العسكرية للحرب، ومن تقدير لظروف وتطورات أحداث القرن الجاري يمكن له كذلك تقديم تصور بشأن الوقت الذي ستندلع فيه مثل هذه الحرب.

 

 

على هذه الخلفية يقحم المؤلف نفسه في تفاصيل، قد لا تبدو ضرورية وتقوض من قيمة ما يقدمه، كمحاولة لرصد الملامح بشأن المستقبل وتدخل به في إطار العرافة، فيذكر أن الحرب ستبدأ بهجوم من اليابان على مواقع أميركية في الفضاء في 24 نوفمبر 2050 الساعة الخامسة مساء.

في هذا الوقت سيكون الأميركيون يحتفلون بعيد الشكر، ومعظم الناس هناك يتابعون كرة قدم. وسيكون البعض في طريقه إلى المنزل، ولن يكون هناك أحد في واشنطن يتوقع مشكلة. فتلك هي اللحظة التي سيجد اليابانيون أنها أكثر مناسبة لشن هجومهم.

وبعد خوض في تفاصيل بالغة الدقة بشأن جوانب عسكرية، يقول المؤلف أنه يتم إخبار الرئيس بالهجوم، ولكنه لن يكون قادرا على فعل شيء على الفور، من أجل جمع معظم مستشاريه. إن الأسئلة التي سيطرحها الرئيس والأكثر حيوية هي: من شن الهجمات؟ من أين انطلقت؟ ولكن لن يوجد من يمكنه تقديم الإجابة على الفور. سيكون الافتراض بأنها من الممكن أن تكون انطلقت من تركيا، حيث أنهم الأكثر انهماكا في الأزمات الدولية، ولكن المخابرات الأمريكية ستكون على ثقة بأن الأتراك ليست لديهم القدرة على إطلاق مثل هذا الهجوم. سيلتزم اليابانيون الصمت، ولن يكون في مقدور أحد توقع أن يقوموا بمثل هذا الهجوم.

 

تدمير متبادل

على الجانب الآخر سيخبر اليابانيون حلفاءهم الأتراك بما حدث قبل نحو نصف ساعة حوالي الرابعة والنصف دون أن يقدموا لهم الحقيقة كاملة بشأن الهجوم. وسيتبع هذا الهجوم آخر على سفن وقواعد للولايات المتحدة في المحيط الهادي.

في الوقت ذاته سيقوم الأتراك بشن هجمات على أهداف محددة سلفا بالاتفاق مع اليابانيين منذ سنوات. كما سيشن الأتراك هجوما آخر على بولندا والهند، ليس باعتبارهما قوى عظمى، ولكن كحلفاء للولايات المتحدة.

وخلال دقائق فإن الصواريخ من طائرات آلية ستبدأ ضرب القوات الأميركية في أوروبا وآسيا فيما أن تلك التي ستضرب الولايات المتحدة ستستغرق نحو الساعة ما سيتيح لهذه الأخيرة وقتا ثمينا يتيح لها فرصة الرد.

بالطبع ستقوم الولايات المتحدة بالرد بقصف أهداف عسكرية لدى الدولتين محددة سلفا، وخلال 50 دقيقة سيكون قد تم تدمير الكثير من قوات الدولتين.

 

 

وفي ضوء كون الولايات المتحدة قوة نووية، وهو الأمر ذاته بالنسبة لليابان وتركيا وبولندا ؟ في المستقبل الذي يتناوله المؤلف ؟ والهند، فإن العمليات العسكرية لن تؤدي إلى إشعال حرب نووية. ومن هنا سيجري العمل على التوصل إلى تسوية سياسية تتضمن القبول بمناطق النفوذ الحيوي لكل من اليابان وتركيا والإقرار بحدود على تلك المتعلقة بالولايات المتحدة وتقدم إطار عمل قابل للتنفيذ بشأن الحد من الصراعات في الفضاء. بمعنى آخر فإن التحالف سيراهن على أن الولايات المتحدة ستدرك أنه قد حان الوقت لإدراك أنها لم تعد سوى قوة كبرى بين مجموعة قوى بدلا من كونها قوى عظمى وحيدة.

في السيناريو الذي يرسمه يشير المؤلف إلى أن التحالف سيعمل قبل بداية الحرب على كسب ألمانيا إلى صفه والاشتراك في الهجوم على بولندا، غير أن برلين سترفض المشاركة في الحرب. ورغم ذلك سيحاول الأتراك التلويح لهم بمكافأة على موقفهم، فمقابل مساعدة تركيا في بولندا، فإن الأتراك سينسحبون من البلقان بعد الحرب، حاصلين على رومانيا وأوكرانيا، وستبني تركيا قوتها حول البحر الأسود والأدرياتيكي والبحر المتوسط، على أن يتم إطلاق يد الألمان في المناطق التي تبدأ من شمال المجر وبولندا والبلطيق وبيلاروسيا. وسيقبل الألمان أن يكون مشاركتهم سياسية أكثر من كونها عسكرية. وهكذا فإن مواقف ميركل الحالية ستكون نواة لمواقف القادة الألمان التي يتصورها المؤلف.

 

هجمة أميركية مضادة

يقول المؤلف إنه سيكون هناك جمود على الأرض حتى صيف 2052، حيث ستقوم الولايات المتحدة في النهاية بالمبادرة بشن عمليات جديدة ومن خلال التطور الناجم في مجال حرب النجوم والأسلحة المستخدمة في هذا المجال ستدمر القوات الأميركية قوات الحلفاء في بولندا، وستفعل الشيء نفسه ضد القوات اليابانية في الصين.

وستفاجأ الهجمة المضادة اليابانيين والأتراك وتترك الألمان في حالة فوضى كاملة. قواتهم الأرضية ستتبخر تماما على أرض المعركة. وهنا سيواجه الأميركيون المشكلة النووية مرة أخرى. وهنا فإن التصور هو أنه إذا تم دفع دول الحلفاء إلى المرحلة التي تشعر معها بأن سيادتها وبقائها على المحك، فإنهم في هذه الحالة قد يفكرون في اللجوء إلى السلاح النووي.

 

 

وهذا المنعطف من تفكير المؤلف يشدد على الحقيقة الواضحة وهي أن تصريحات الرئيس أوباما عن السلام لا تحجب جوهر الإستراتيجية الأميركية الرامية إلى المزيد من الهيمنة عالميا.

وعلى ذلك فإن الولايات المتحدة لن تطلب استسلاما غير مشروط، ولن تهدد الوجود القومي لهذه الدول. فلقد تعلمت على مدى الخمسين عاما الماضية أن تدمير العدو ليس هو الإستراتيجية المثلى. وعلى ذلك فإن هدفها سيكون الحفاظ على توازن القوى بغرض الإبقاء على القوى الإقليمية في صراع مع نفسها بالشكل الذي يشغلها عن الولايات المتحدة. وبناء على ذلك لن تعمل الولايات المتحدة على تدمير اليابان وبدلا من ذلك ستعمل على الحفاظ على توازن القوى في المنطقة بين اليابان وكوريا والصين.

وستسلك الأمر ذاته مع تركيا، حيث لن تسعى لتدميرها أو خلق فوضى في العالم الإسلامي ولكنها ستبقي على التوازن في القوى القائم بين الكتلة البولندية وتركيا. وستدعو إلى مؤتمر للصلح على غرار صلح فرساي وطرح مبادئ شبيهة بتلك التي طرحها وودرو ويلسون وبدعاوى إنسانية ستعمل على التيقن من بقاء أوراسيا في حالة فوضى.

 

صلح (فرساي) جديد

ومن خلال مؤتمر سلام الذي سيتم تنظيمه على عجل، سيتم إجبار تركيا على الانسحاب إلى الجنوب في البلقان تاركة كرواتيا وصربيا كمنطقة عازلة والعودة إلى الوراء نحو القوقاز وليس داخله. كما سيجد اليابانيون أن عليهم سحب كل قواتهم خارج الصين.

وسيتم كل ذلك وفق شروط غامضة ومبهمة، ستعكس بالتحديد ما تريده الولايات المتحدة، وستظهر العديد من الدول الجديدة نتيجة تلك الاتفاقات وستكون مناطق النفوذ الدولي غامضة. وباختصار فإن النتيجة النهائية للحرب وتطوراتها ستتمثل في أن المنتصرين لن يكونوا قد انتصروا تماما والخاسرين لن يكونوا قد خسروا كل شيء، وعلى ذلك ستخطو الولايات المتحدة إثر ذلك خطوة رئيسية نحو الحضارة، المرحلة التي مرت بها أوروبا في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر.

في الوقت ذاته، فإن الولايات المتحدة ستتمتع بالسيطرة الكاملة على الفضاء، وستشهد دفعة اقتصادية نتيجة لزيادة للإنفاق الدفاعي. وأما عن الخسائر في الأرواح فأنه إذا كانت الحرب العالمية الثانية كلفت العالم نحو 50 مليون شخص، فإن الحرب التي ستقع بعد نحو مائة عام ستحصد أرواح تقدر بنحو 50 ألف شخص، وستكون أغلبية هذا العدد في أوروبا والباقي في الصين، فيما أن الولايات المتحدة ذاته لن تفقد سوى أرواح ألاف محدودة الكثير منهم في الفضاء، وبعضهم خلال الضربات الجوية على الولايات المتحدة ذاتها والبعض الأخر في عمليات القتال من أجل مساندة البولنديين.

إنها حرب عالمية بالمعنى الحقيقي للكلمة ولكن مع الأخذ في الاعتبار التقدم التكنولوجي فإنها لن تكون حربا تشمل المجتمع ككل، بمعنى مجتمعات تحاول أن تدمر وتقضي على مجتمعات أخرى.

ومع ذلك فهذه الحرب ستتشابه في شيء واحد مع الحرب العالمية الثانية، يتمثل في أن الولايات المتحدة التي كانت أقل الخاسرين ستكون أكبر الرابحين. وعلى غرار ما حصل بعد الحرب من قفزة تكنولوجية كبرى وحيوية اقتصادية وتمتع بقدر أكبر من السيطرة، فإنه كذلك ستبرز الولايات المتحدة في فترة سينظر إليها باعتبارها العصر الذهبي لأميركا، مع قدر من الرشد في ممارسة القوة.

 

المكسيك تنافس أميركا على قيادة النظام الدولي

يختتم المؤلف كتابه بأكثر الفصول إثارة، ويتناول فيه ما يمكن اعتباره بدء أفول القوة الأميركية من خلال الصراع الذي سينشأ بينها وبين قوة صاعدة جديدة في النظام الدولي، وهي المكسيك.

في هذا الخصوص يشير المؤلف إلى أنه منذ بداية الكتاب تحدث عن أميركا الشمالية باعتبارها مركز الجاذبية للنظام الدولي. وقد كان يوازي أميركا الشمالية بالولايات المتحدة، في ضوء أنها تعد القوة المهيمنة في القارة التي ليس في القارة من هو في وضع يسمح بتحديها.ولعله مما يعزز ذلك على مدار القرن الجاري ؟ حسب رؤية المؤلف ؟ نتائج الحرب الكونية التي ستنشب منتصف القرن، والتي ستؤكد على عدم وجود قوة دولية في أوراسيا يمكنها تحدي القوة الأميركية.فضلا عن ذلك، فمن بين المبادئ الحيوية الجيوسياسية ذلك المبدأ الذي سيتم اختباره وتحديثه، الذي يقوم على أن من يسيطر على المحيطين الأطلسي والهادئ سيسيطر على التجارة العالمية، ومن يسيطر على الفضاء سيسيطر على المحيطات العالمية. وستبرز الولايات المتحدة بسيطرة غير مسبوقة على الفضاء وكذلك على المحيطات العالمية.

يشير المؤلف إلى أن الحقيقة، على ما يذكر، معقدة بكثير عما تبدو عليه الأمور، فالولايات المتحدة ستعاني من ضعف ضمني في النصف الثاني من القرن الحادي والعشرين، من بينها أنه لم تخض حربا لمدة قرنين. وإذا كانت الولايات المتحدة قد تمتعت بالهيمنة على القارة إثر الحرب الأميركية المكسيكية ومعاهدة «جوادالوب» التي تم التوصل إليها عام 1848، حيث ان الولايات المتحدة أصبحت عمليا تسيطر على القارة، فإن ذلك لن يكون واقع الحال مع نهاية القرن الجاري.

إن سعي المكسيك إلى القوة في مواجهة الولايات المتحدة سيتزايد مرة ثانية وبشكل بالغ التعقيد ويصعب تخيله. فالمكسيك بعد نحو قرنين ستكون في وضع يسمح لها بتحدي التكامل الإقليمي للولايات المتحدة، وكذا التوازن الكلي للقوى في أميركا الشمالية. وهذا التحدي المكسيكي سينبع من الأزمة الاقتصادية بالولايات المتحدة في عقد العشرينات من القرن الجاري، والتي سيتم حلها عن طريق قوانين الهجرة، التي سيتم إجازتها أوائل العقد الثالث.

وستشجع هذه القوانين بشكل كبير الهجرة إلى الولايات المتحدة من أجل حل أزمة نقص العمالة هناك. وسينتج عن هذا تدفق كبير للمهاجرين من كل الأقطار وستكون من بينها بالتأكيد عمالة مكسيكية. وإذا كان بقية المهاجرين سيتصرفون بالشكل المعتاد، فإن المكسيكيين سيتصرفون بشكل مختلف، بعد أن أصبح السور العازل الذي أقامه بوش يشكل مفارقة تاريخية.

 

الهجرة المكسيكية

إن القرب الجغرافي للمكسيك مع أميركا فضلا عن تنامي القوة الاقتصادية للمكسيك كأمة سيحدث تحولا كبيرا في توازن القوة في أميركا الشمالية، فالمهاجرون الآخرون لم يصل وضعهم مهما كان إلى حد الهيمنة على أي ولاية أو مدينة بشكل كامل. بمعنى آخر يريد المؤلف أن يقول ان أميركا كانت بالنسبة للمهاجرين بمثابة البوتقة التي صهرتهم، على عكس الوضع مثلا في بعض الدول الأوروبية.

حيث ان المسلمين مثلا ما زالوا محتفظين بهوياتهم الدينية والوطنية عن باقي السكان، فيما أن المهاجرين المسلمين في الولايات المتحدة مثل باقي الجماعات المهاجرة تحولوا عبر الأجيال ضمن السكان، وانخرطوا ضمن المبادئ الأميركية، ولم يحل ارتباطهم بدينهم دون هذا التحول.

والنتيجة العامة التي يود المؤلف أن يشير إليها هي أن ذلك النهج في التعامل مع الهجرة يؤدي إلى ذوبان المهاجرين، الأمر الذي لن يتحقق بالنسبة للمهاجرين المكسيكيين. فهؤلاء رغم انخراطهم في المجتمع الأميركي، لن ينفصلوا عن وطنهم الأم أو يفصلهم عنه محيطات وبحار أو ألاف الأميال.

بعبارة أخرى ستخلق الهجرة المكسيكية حركة في المنطقة الحدودية بين دولتين على نحو يشبه كثيرا «الإلزاس ؟ اللورين» بين فرنسا وألمانيا، حيث تختلط ثقافتان فيما الحدود تتمتع بالاستقرار. ويشير في هذا الصدد إلى خصوصية وضع كل من تكساس و«مكسيكان سيسشن» حيث يتركز المكسيكيون في هذه الأراضي كما يوجد جيوب مكسيكية خارجية في المناطق الحدودية. والخلاصة أن المكسيكيين لن يكونوا في عزلة عن وطنهم الأم، وأنهم بطرق مختلفة سيمثلون امتدادا لوطنهم داخل الولايات المتحدة.

ويضيف أنه مع عام 2060 بعد نحو 30 عاما من السياسات التي تشجع الهجرة فإن الخريطة التي نراها في 2000 ستتطور بشكل ستتحول معه المناطق التي تضم نحو 50 % من المكسيكيين إلى مناطق بكاملها من المكسيكيين وتلك التي تضم 25% ستتحول ليصبح نصفها من المكسيكيين، وسيتطور الأمر إلى حد مد المكسيك حدودها السياسية لتضم هذه الأراضي بتشجيع من الولايات المتحدة.

 

سيناريو كابوسي

ويقدم المؤلف سيناريو كابوسيا، مشيرا إلى أنه مع حلول عقد الثمانينات سيتطور الموقف إلى حد اندلاع مظاهرات ضد الولايات المتحدة في عدد من الولايات والمدن الأميركية في مكسيكو سيتي وفي لوس أنجلوس وسان دييغو وهيوستن وسان انطونيو وفونيكس والمدن الأخرى في المناطق الحدودية مع المكسيك، والتي ستصبح غالبيتها من المكسيكيين. وستسود المطالبات بضمها إلى المكسيك، وسيبدأ بعض المكسيكيين في الولايات المتحدة في ارتكاب أعمال تخريب وأعمال إرهابية ضد متعلقات الحكومة الفيدرالية في المنطقة.

ورغم عدم مساندة مثل هذه التطورات من قبل الحكومة المكسيكية أو حكومات الولايات التي يهيمن عليها المكسيكيون، فإن مثل هذه العمليات الإرهابية سينظر إليها باعتبارها أولى الخطوات في تمرد منظم وسيتحرك الرئيس الأميركي إزاء الضغوط بالسيطرة على الموقف لحماية الممتلكات الفيدرالية.

وإزاء حالة العصيان سيتطور الأمر إلى حد تحرك الجيش الأميركي إلى تلك الولايات. وعلى ذلك سيكون هناك رد فعل مماثل من قبل الجيش المكسيكي وسيخمد لقاء بين الرئيسين نذر الحرب التي بدت بين الدولتين إزاء عدم رغبتهما في اندلاعها.

مع التسعينات سيفرض الراديكاليون المكسيكيون أزمة جديدة من خلال تغيير الدستور المكسيكي. وبمقتضى هذا التغيير سيتم إنشاء مناطق برلمانية مكسيكية خارج المكسيك بشكل يسمح للسكان المكسيكيين الذين يعيشون في الأرجنتين مثلا بالتصويت لممثل في البرلمان المكسيكي يمثل المكسيكيين الذين يعيشون في الأرجنتين. وعلى هذا سيكون هناك مثلا نحو 20 نائبا برلمانيا مكسيكيا من لوس أنجليس وخمسة من سان انطونيو منتخبين في البرلمان المكسيكي.

 

 

على هذا الأساس ستشعر الولايات المتحدة بمدى الأزمة التي تواجهها والتي تنذر بالمواجهة وإذا كان الأميركيون يتمتعون بميزات هائلة في الفضاء فإن المكسيكيين لديهم ميزات كبرى على الأرض.

حيث لن يستطيع الجيش الأميركي مثلا أن يسيطر على لوس أنجلوس ذات الأغلبية المكسيكية. بل يصل المؤلف في تصوراته إلى أن من بين تطورات ذلك الصراع قطع خطوط الإمداد عن القوات الأميركية ما ينتهي بحصارها.

 

مراقبة ومتابعة

إن العالم سيقف في حالة مراقبة ومتابعة لما يجري، وسيأمل المكسيكيون في مساندة خارجية، وستقدم البرازيل التي ستصبح قوة ذات قيمة إشارات على التضامن مع المكسيك. وفيما سيأمل العالم - لاسرا - أن يمرغ المكسيكيون بالأميركيين، فإن أحدا لن يتدخل في مسألة بالغة الحيوية على هذا النحو لأميركا، والتي ستجد أن غزو المكسيك لن يحل المشكلة بل قد يفاقمها. وسيكون عدم قدرة أميركا على تسوية القضية الميزة الأساسية التي تتمتع بها المكسيك.

وسينتهي الأمر إلى حالة من الجمود. وعلى ذلك فإن السؤال الذي ستجد الولايات المتحدة مجبرة على مواجهته للمرة الأولى منذ نشأتها هو: ما هي المدينة التي ينبغي أن تكون عاصمة أميركا الشمالية.. هل هي واشنطن أم مكسيكو سيتي؟ وفيما سيظل السؤال مطروحا ويمكن تأجيله إلا أنه لن يكون في الإمكان تجنبه.

وعلى ذلك فإنه مع قرب دخول القرن الحادي والعشرين نهايته فإن السؤال سيكون هو إذا كانت أميركا الشمالية هي مركز الجاذبية في النظام الدولي، فمن يسيطر هناك. ذلك هو السؤال الذي ستتطلب الإجابة عليه الانتظار إلى حلول القرن الثاني والعشرين.

يقول المؤلف انه قد يبدو أنه من قبيل المبالغة القول أو توقع أن المكسيك سيصعد نجمها إلى المستوى الذي يمكن معه أن تمثل تحديا للولايات المتحدة.

غير أنه يوضح قائلا انه وعلى غرار ما أوضح في بداية الكتاب فإنه لدى محاولتنا توقع المستقبل فإن حدسنا يخوننا في اغلب الأحيان. وتكفي للدلالة على ذلك متابعة التحولات التي سادت خلال القرن العشرين ومحاولة ما كان يمكن أن تسعفنا به مخيلتنا بشأن احتمالات المستقبل لندرك مدى التباين بين ما جرى وما تم تخيله.

وهنا يقرر المؤلف قاعدة مؤداها أن أفضل نهج عملي لتخيل المستقبل هو إخضاع ما يجري توقعه للفحص، حيث قد يشير ذلك إلى أنه أبعد ما يكون عن الحدوث. ويضيف في ختام كتابه إنه لا يوجد أحد يستطيع أن يتخيل بدقة تفاصيل المستقبل، ولكن المخرجات العامة للقرن العشرين كان يمكن رؤيتها أو تلمسها. وهذا هو ما حاول القيام به في الكتاب لتلمس ما يمكن أن يحدث خلال القرن الحادي والعشرين.

وهنا يشير إلى أنه حاول من خلال الكتاب التأكيد على قضيتين هما: من سيقاوم؟ ثم كيف سيكون رد فعل الولايات المتحدة على هذه المقاومة؟ على نحو ما قدم خلال الكتاب.

ويضيف أنه كان يعي أنه بقدر ما يقترب المرء من التفصيلات بقدر ما يتزايد احتمال وقوعه في الأخطاء، غير أنه وفي إطار المهمة التي حددها لنفسه وهي أن يضع القارئ في أجواء ما سيحدث في القرن الحادي والعشرين، فقد استلزم ذلك الأمر منه تقديم قدر من تلك التفصيلات.

 

تحفظ

في معرض التماس العذر من القارئ على ما قد يراه تجاوزا منه، يقول المؤلف انه قد يكون أخطأ في تحديد الدول التي ستصبح قوى عظمى وكيف ستقاوم الولايات المتحدة، ولكن ما هو واثق منه هو أن موقف الولايات المتحدة في النظام الدولي سيكون المحور الأساسي لكافة تطورات ذلك القرن، وأن بقية الدول ستحاول اللحاق بها في صعودها.

ويوضح أنه إذا كان من نقطة محل توقف في الكتاب فتتمثل في إشارته في أن الولايات المتحدة، على عكس الكثير من الرؤى ؟ بعيدة عن شفا الهبوط ؟ وأنها بالفعل بدأت الطريق نحو الصعود.

ومع ذلك يقرر المؤلف أن الكتاب ليس احتفائيا بالولايات المتحدة، ورغم أن رؤيته قد تفسر انطلاقا من أنه مواطن أميركي، إلا أنه يوضح أن المكانة التي تتمتع بها الولايات المتحدة لم يمنحها لها الدستور ولا النظم الفيدرالية، وإنما جاءت عبر سلسلة طويلة من التطورات على مدى القرنين الماضيين.

وفي النهاية ورغم تأكيده على أنه قد يكون من الغريب أن يقدم كتابا لن يكون شاهدا على الوقائع التي تناولها خلاله، إلا أنه يشير إلى أنه كتبه لأولاده وأحفاده الذين سيكونون في موقع يمكن لهم منه معرفة مدى صحة ما ورد فيه.

ــــــــــــ

المصدر: الراصد للتوثيق والإعلام

hskalla@hotmail.com

----------------

هذه الكتاب يعبر عن رأي كاتبه

 

 

السابقأعلى الصفحة

 

 

الرئيسة

اطبع الصفحة

اتصل بنا

ابحث في الموقع

أضف موقعنا لمفضلتك

ـ

ـ

من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ