ـ

ـ

ـ

مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وقولوا للناس حسنا

اتصل بنا

اطبع الصفحة

أضف موقعنا لمفضلتك ابحث في الموقع الرئيسة المدير المسؤول : زهير سالم

الثلاثاء 01/12/2009


أرسل بريدك الإلكتروني ليصل إليك جديدنا

 

كتب

 

التعريف

أرشيف الموقع حتى 31 - 05 - 2004

ابحث في الموقع

أرسل مشاركة


نقدم هذا الكتاب للأهمية وربما يجد من يقرؤه وسنقدم فصولا عنه نظن أنها قابلة للإسقاط بعد عشر سنين وسقوط بعض النبوءات ... مركز الشرق العربي

كتاب

نصر بلا حرب

(2)

كيف نتفاوض مع موسكو

ريتشارد نيكسون

إذا تمكنا من ردع زعماء الكرملين، أصبحنا في وضع يمكننا من التفاوض معهم. وإذا نحن تنافسنا معهم بكفاءة فسوف يرغبون في التفاوض. فالردع، والتنافس، والتفاوض، كلها عناصر متكافئة الأهمية في استراتيجيتنا الشاملة للوصول إلى السلام الحقيقي. ولكن هناك اختلافاً بين هذه العناصر. فعلى حين نستطيع أن نردع موسكو ونتنافس معها بصورة ناجحة بغير تفاوض، لا نستطيع أن ننجح في التفاوض بغير سياسات أمريكية فعالة للردع والتنافس.

وهناك نقاط ثلاث، لا يجوز أن تغيب عن بالنا ونحن نتفاوض مع الاتحاد السوفييتي. الأولى: أننا لا نستطيع أن نتفاوض على اتفاقيات لإقرار التوازن الاستراتيجي إلا بعد أن نتخذ جميع الخطوات لردع العدوان السوفييتي. ولا يمكن أن يكون الحد من الأسلحة بديلاً للردع، ولكن يمكن أن يكون مكملاً له. والثانية: أننا لن نتمكن من التفاوض للوصول إلى تفاهم لتخفيف المنازعات الإقليمية إلا بعد أن نكون قد اتخذنا جميع التدابير اللازمة للدفاع عن المصالح الأمريكية في مختلف أنحاء العالم. فإذا لم نتقدم لحماية المصالح الغربية لن يكون هناك حافز يدفع زعماء الكرملين إلى الجلوس معنا حول مائدة المفاوضات. والثالثة: أن الاتفاقات التي تتم بالتفاوض بين الدولتين العظميين لن تضع حدا للنزاع الأمريكي السوفييتي. فالمفاوضات يمكن أن تؤدي إلى تعاون محدود، لكن التعاون المحدود لا يعني انتهاء المنافسة.

وليس معنى ذلك أنه ليست للمفاوضات أهميتها، فهي يمكن أن تحد من مخاطر نشوب حرب نووية بين الدولتين العظميين، ويمكن أيضاً أن يكون لها أثر عميق على مصائر الملايين من الناس، وينبغي ألا ننسى أن موسكو كسبت أوروبا الشرقية دون أن تطلق رصاصة واحد، وحقق ستالين انتصاره على موائد مؤتمرات طهران ويالطا وبوتسدام لا في ميادين القتال في وسط أوروبا. ولذا يجب أن نكون قادرين على التفاوض بكفاءة مع موسكو في السنوات الباقية حتى عام 1999. ولتحقيق ذلك يجب أن نفهم لماذا ينبغي أن نتفاوض، والموضوعات التي ينبغي أن نتفاوض حولها، وكيف نتفاوض، وكيف نجري المفاوضات على مستوى القمة الأمريكية السوفييتية.

وهناك رأيان متعارضان بشأن ما إذا كان ينبغي لنا أن نتفاوض مع موسكو.

ففي أحد الجانبين يقول البعض إن أي مفاوضات مع الكرملين لن تكون مجدية في أحسن الأحوال، وتنطوي على مخاطر في أسوأ الأحوال. ويقول هؤلاء بحق إن الأهداف التي نتوخاها من المفاوضات تختلف عن أهداف موسكو اختلافاً تاماً. ويستشهدون بالعبارة التي قالها ستالين: (إن كلمات رجل الدبلوماسية يجب ألا يكون لها ارتباط بالتصرفات الواقعية، وإلا فكيف تكون تلك دبلوماسية؟). فالزعماء السوفييت يستخدمون المفاوضات لكسب النصر بعد حرب. وكثيراً ما يحدث ألا نستخدم نحن المفاوضات إلا لتحقيق السلام بغير نصر. فالمفاوضات عندهم وسيلة إلى غاية وهي عندنا، تميل لأن تكون غاية في حد ذاتها.

ويقول أصحاب هذا الرأي أيضاً إن عملية التفاوض منحازة بطبيعتها لصالح الاتحاد السوفييتي. فبينما يستطيع زعماء الكرملين أن يتجاهلوا تماماً آراء الشعب السوفييتي، تمثل الآمال والتوقعات الشعبية لقيام علاقات أفضل بين الشرق والغرب ضغطاً هائلاً على زعماء الغرب، وتدفعهم إلى تقديم تنازلات من جانب واحد من أجل الوصول إلى اتفاقات. ويقولون فوق ذلك إن زعماء السوفييت مهرة إلى حد شيطاني وعلى استعداد للعمل بوجهين، ولا يمكن الثقة بأي اتفاقات تبرم معهم. وإنهم استغلوا بغير رحمة تطلعات الغرب إلى السلام، واستغلوا بقسوة بعض اللبس في عبارات المعاهدات، وانتهكوا مراراً وتكراراً الاتفاقات من أجل تحقيق مصالحهم.

وهناك جانب من الصدق في هذه الأقوال، لكن هناك خمسة أسباب أساسية تدفع إلى رفض شعارهم الأساسي بالنسبة للسياسات الأمريكية، وهو القائل بأنه كلما قل التفاوض مع موسكو كان ذلك أفضل.

أولاً: سوف يكون موقفاً غير متسم بالمسؤولية من جانب الدولتين العظميين ـ اللتين تملك كل منهما القدرة على تدمير الأخرى، وتدمير بقية العالم ـ ألا يستكشفا كل وسيلة ممكنة لإنقاص خطر نشوب حرب نووية، والاتصال لا يؤدي إلى السلام، ولكنه يتيح لكل جانب أن يقيس بوضوح الجانب الآخر، وبذلك يقل احتمال الخطأ في الحساب المفضي إلى الحرب. وبغير اتصال فإننا نضع علاقاتنا في جو مشحون بالتوتر والعداء، يقوم فيه كل من الجانبين بتكديس الأسلحة بغير ضابط، ويطلق نيران العبارات الطنانة. وسيكون من المحتم أن تتصادم مصالحنا في براميل البارود في مناطق من العالم مثل الشرق الأوسط، وربما تنطلق منها شرارة تشعل نيران الحرب النووية.

ثانياً: سيكون من الصعب سياسياً اتباع السياسات اللازمة للردع والتنافس بدون مبادرة تفاوضية، فإذا اتخذ أحد الرؤساء الأمريكيين موقف العداء الدبلوماسي، بينما تلوح له القيادة السوفييتية وتدعوه إلى مائدة المفاوضات، فإن الشعب الأمريكي لن يتفهم موقفه.

والأمريكيون لا يتوقعون معجزات في العلاقات الأمريكية السوفييتية، ولكنهم يتوقعون من زعمائهم أن يبذلوا جهدا معقولا لإنقاص مخاطر العالم النووي. ونتيجة لذلك فإن الرئيس الذي يعارض المفاوضات في حد ذاتها لا مفر من أن تصطدم سياساته بمواقف الكونغرس.

ثالثاًَ: سيكون من المستحيل أن تبقى صفوف حلف الأطلنطي متراصة بغير اتباع سياسة نشيطة للتفاوض. والأحلاف تقوم في المقام الأول بدافع من الخوف، وكان خطر التوسع السوفييتي من العوامل الأساسية في بقاء حلف الأطلنطي لمدة أربعين عاماً. ولكن في أوروبا اليوم، غطى خطر الحرب النووية على الخوف من العدوان السوفييتي، رغم أن القوة العسكرية للكرملين أصبحت أضخم بكثير مما كانت في وقت قيام حلف شمال الأطلنطي. وضاعف من هذه المشكلة حملة العلاقات العامة البارعة التي شنها غورباتشوف من أجل (السلام)، وعبارات الرئيس ريغان العدوانية التي رددها بشأن الاتحاد السوفييتي خلال فترة حكمة الأولى، وكان ذلك دافعاً لغالبية الأوروبيين فيما عدا فرنسا، إلى الاعتقاد بأن غورباتشوف أكثر التزاماً بالسلام من ريغان.

ولذا فإننا ينبغي للمحافظة على التحالف أن نخاطب العقل لا مجرد الخوف وما كنا لنستطيع أن نقوم بعمليات النشر الأولى لقذائف برشنج 2، والقذائف الانسيابية في عام 1983 بدون المفاوضات التي كانت جارية في نفس الوقت لخفض مستوى القوات النووية متوسطة المدى في أوروبا. ويجب أن تكون سياساتنا مؤدية إلى اقتناع شعوب أوروبا الغربية بأن خطر العدوان السوفييتي وخطر الحرب النووية قائمان، وأن الولايات المتحدة والحلف قد اتخذا التدابير المحسوبة والسياسات الحكيمة اللازمة لمواجهة كل منهما. والمفاوضات الأمريكية السوفييتية لا غنى عنها لتحقيق هذه الغاية. فالأمل في السلام ضروري إذا أريد لشعوب أوروبا، وكذلك شعوب الولايات المتحدة، أن تستمر في تأييد القوة العسكرية اللازمة للمحافظة على الردع الذي يتوقف عليه الاستقرار. وفي المدى الطويل، فإن عدم وجود أمل في السلام يشجع العناصر الداعية إلى التهدئة مع العدو واسترضائه.

رابعاً: إننا يجب أن نعترف بحقيقة بسيطة مؤداها أنه حتى مع الشيوعيين، يمكن لاتباع سياسة محكمة أن يفيد، ويمكن أن تحقق المفاوضات أثراً إيجابياً. والمفاوضات الأمريكية السوفييتية هي التي أدت إلى معاهدة السلام المتعلقة بالنمسا في سنة 1955. وهي التي أدت إلى سحب قوات الاحتلال السوفييتي من نصف ذلك البلد، بما في ذلك فيينا. وأولئك الذين يعارضون كافة أشكال التفاوض مع الشيوعيين، عارضوا أي نوع من الاتصال بالصين الشيوعية. ولكن العالم يصبح مكاناً أفضل وأكثر أمناً عند وجود الصين قوية ومستقلة، وعلى علاقات طيبة بالغرب، مما إذا كانت الصين ضعيفة ومرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالاتحاد السوفييتي.

خامساً: إن تخفيف التوتر بين الشرق والغرب يؤدي إلى انقسام الشرق أكثر مما يؤدي إلى انقسام الغرب. ولما كانت موسكو تبرر قبضتها الحديدية على الأعضاء الآخرين في الكتلة الشرقية، وعلى الشعوب السوفييتية بأنها رد فعل ضروري للنزاع بين الشرق والغرب، فإن سياسة للتفاوض النشيط من شأنها أن تضعف هذا المبرر. وبذلك يصبح من الأصعب على الكرملين أن يجد مبرراً مشروعاً لما يمارسه من قمع. ومن شأن ذلك أيضاً أن يؤدي بدوره إلى عملية بارعة تزيد فيها الدول التابعة بالتدريج من قدرتها على المناورة. وإذا تجددت الحرب الباردة في ظل ازدياد التوتر الدولي سيكون إحداث تحول سلمي وإيجابي أمراً مستحيلاً. فالمواجهة تعزز الدكتاتورية، أما الاتصال والتفاوض فقد يضعفها.

وفي الجانب الآخر، هناك أولئك الذين يعتقدون أن الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي يستطيعان عن طريق المفاوضات والاتفاقات أن يتغلبا على ما بينهما من سوء تفاهم وشكوك متبادلة، وأن يصلا إلى السلام، وهذه النظرة أيضاً خاطئة، وعلينا أن نتخلص من الفكرة القائلة بأن الخلافات بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة تنبع من سوء فهم كبير، وأنه يمكن التغلب عليها عن طريق حل وسط شامل. فالخلافات بيننا لم تنشأ بسبب سوء الفهم، بل إن سوء الفهم نشأ بسبب ما بيننا من خلافات. ويرجع السبب الحقيقي للنزاع الأمريكي السوفييتي إلى الاختلاف العميق في الايديولوجيات والمصالح، وفي نوايا كل من البلدين، ويجب أن ندرك أن المفاوضات لا يمكن أن تفضي إلى سلام دائم وكامل.

وذلك ما يدركه غورباتشوف، لكن السؤال هل يدركه الأمريكيون، فهناك نوعان من السلام: السلام البراجماتي، الذي يعني النزاع بغير حرب، والسلام الكامل الذي يعني عالماً بغير نزاع. وغورباتوشف لا يسعى إلا إلى النوع الأول. وقد سعى الزعماء الغربيون مراراً بسذاجة إلى تحقيق النوع الثاني. فغورباتشوف بوصفه لينينيا، لا يعتقد بإمكان قيام سلام كامل مادام هناك دول غير شيوعية موجودة في العالم. وعندما التقيت به سلّم بوضوح بأن بعض الخلافات بين الجانبين تبلغ من العمق حداً ربما يؤدي إلى عدم تسويتها في أي وقت. وبالنسبة إليه، فإن القرار بالتخلي عن العدوان العسكري السافر لا ينبع من عوامل عاطفية بل من حسابات باردة، مؤداها أن توازن القوى الحالي، أو علاقة القوى كما يسميها، تجعل تلك السياسة غير مريحة، وهو لا يجري المفاوضات من أجل بدء عصر جديد من السلام الكامل ـ الذي يعتبره وهما ـ بل من أجل تحسين الوضع العسكري والسياسي للاتحاد السوفييتي في العالم.

وهذا النهج أوضح ما يكون في الحد من الأسلحة. فإذا كان السوفييت متخلفين عنا عددياً فإنهم يطالبون بالتساوي، وإذا كانوا متقدمين عنا فإنهم يطالبون بتخفيضات متساوية من شأنها أن تحسن وضعهم النسبي. وإذا اتجهت الولايات المتحدة إلى استغلال تكنولوجيتها المتفوقة ، كما في حالة مبادرة الدفاع الاستراتيجي ـ فإنهم يطالبون بحظر هذا النوع من التقدم. وإذا كانت الولايات المتحدة تستعد لتحديث بعض أنظمة أسلحتها، فإنهم يطلبون شروطاً يكون مؤداها منع نشر تلك الأسلحة، أو نشرها في أضيق حدود ممكنة. وفي الوقت ذاته يكون نشر الأسلحة السوفييتية الجديدة أمراً غير قابل للتفاوض، أو يسمح به بشروط سوفييتية للوصول إلى اتفاق. ولا يعترف السوفييت حتى بوجود برامج للبحوث لديهم للوصول إلى تكنولوجيا جديدة على غرار الدفاع الاستراتيجي.

وليس معنى ذلك أنه ينبغي لنا أن نرفض التفاوض للحد من الأسلحة، بل يعني أننا لا يجوز أن نوقع اتفاقات إلا إذا كانت في مصلحتنا الاستراتيجية. وهناك دور مشروع للحد من الأسلحة. فبدونه سيستمر عدد الرؤوس النووية الأمريكية والسوفييتية في التزايد. ولولا اتفاقية سولت الثانية، أيا كانت عيوبها، لقام الاتحاد السوفييتي بصنع المزيد من أنظمة أسلحته الكفيلة بزعزعة الاستقرار. وبدون الحد من الأسلحة سيكون هناك احتمال لأن يندفع السوفييت في سباق التسلح، بينما تبقى الولايات المتحدة ماضية في تسلحها بسرعة بطيئة. ونحن نستطيع بقوتنا الاقتصادية أن نكسب سباق التسلح مع السوفييت ـ ولكن ذلك بشرط أن ندخل في السباق، ونظراً للصعوبات التي تواجهها ميزانية الدفاع في أية دولة ديمقراطية، فإن دخولنا هذا السباق سيكون دائماً أمراً موضع شك.

وإذا نحن سعينا في التفاوض إلى تحقيق سلام كامل لا يمكن بلوغه، بينما تسعى موسكو إلى اقتناص امتيازات ملموسة، سيكون معنى ذلك أننا نجعل من أنفسنا لقمة سائغة لرجال من أعتى المشتغلين بالعلوم الجيوبولتيكية في التاريخ.

ويجب أن يكون نهجنا في التفاوض مع موسكو مسلكاً وسطاً بين هذين الموقفين المتعارضين. فنحن نحتاج إلى التفاوض، ولكن يجب أن نكون واقعيين بشأن حدود ما يمكن أن نصل إليه عن طريق التفاوض. ويجب أن يقوم نهجنا على أساس التسليم الراسخ بأن النزاع الأمريكي السوفييتي ليس مشكلة بل هو حالة، فالمشكلة يمكن أن تحل، أما الحالة فلا يمكن إلا أن تعالج. وصراعنا مع موسكو لن يتغير إلا عندما تتغير الطبيعة العدوانية للاتحاد السوفييتي. وإذا وقع مثل هذا التحول في يوم من الأيام، فهو لن يقع إلا على امتداد بضعة أجيال. ولا يجوز أن نخدع أنفسنا بأن نتصور أن أحداً من الرؤساء الأمريكيين يستطيع أن يغير طبيعة الكرملين باستخدام جاذبيته الشخصية، أو بعرض نقاط تفاوضية أكثر جاذبية عبر مائدة المفاوضات. وإذا كان هناك درس واحد تعلمته خلال السنوات الأربعين التي قضيتها في الساحة السياسية، فهو أن التفاوض مع ميخائيل غورباتشوف يختلف كثيراً عن التفاوض مع شخص من طراز جورج ميني.

وإذا كنا لا نستطيع أن نتفاوض لإنهاء النزاع الأمريكي السوفييتي، فلا يجوز أن ننتقص من الأهمية الكامنة للمفاوضات، سواء فيما يتعلق بالتنافس مع موسكو أو في إنقاص الخطر المائل في أن يؤدي التنافس بيننا إلى نشوب الحرب. والزعماء السوفييت يعتبرون المفاوضات من التكتيكات الأساسية في صراعهم مع الولايات المتحدة. والزعماء الأمريكيون أيضاً يميلون في كثير من الأحيان إلى جعل الاتفاقات بين الدولتين العظميين مرادفة للتقدم نحو السلام الكامل. وكثيراً ما يكون غرضنا في المفاوضات هو الوصول إلى إبرام صفقة، بينما يكون هدفهم إبرام صفقة تحقق أغراضهم الاستراتيجية الأوسع. وكقاعدة عامة لا ينبغي لنا أن نصوغ تحركاتنا وفقاً للبراعة السياسية للكرملين، بل ينبغي في السنوات القادمة ألا نتخلف عن السوفييت في القدرة على إدماج المفاوضات ضمن استراتيجية شاملة.

ويجب أن نبدأ بتحديد أنواع القضايا التي ينبغي أن نتفاوض حولها، وأنواع الأهداف التي نسعى إليها. وهناك نوعان أساسيان من القضايا الأمريكية السوفييتية: الأول، هو القضايا التي تتعارض فيها مصالحنا وبالتالي لا يمكن حلها عن طريق التفاوض. والغرض الواقعي الوحيد للتفاوض بالنسبة لهذه القضايا هو إنقاص احتمال أن تتصاعد خلافاتنا حولها إلى صراع مسلح. والنوع الثاني هو القضايا التي تتوازى فيها مصالحنا. وفي هذه الحالات يمكن أن تؤدي المفاوضات إلى اتفاقات تحقق مصالحنا المشتركة.

والقضايا الأساسية في الفئة الأولى هي الحد من الأسلحة، والمنازعات السياسية مثل الشرق الأوسط والخليج الفارسي وأفغانستان وأمريكا الوسطى، وهي التي يمكن أن تؤدي إلى استخدام السلاح. وغرضا الاتحاد السوفييتي في هذه القضايا هما: التفوق العسكري، والتوسع الجيوبولتيكي. وغرضانا هما: الاستقرار العسكري، وحق تقرير المصير لشعوب هذه الأقاليم. وليس هناك سبيل وسط ـ ليس هناك مسألة يمكن اقتسامها ـ بين هذين الموقفين. فخلافاتنا بشأنها هي ببساطة غير قابلة للتوفيق بينها، فبالمفاوضات أو بدونها سيسعى السوفييت إلى تحقيق أهدافهم بما عهد فيهم من إصرار، ويجب أن نحرص نحن على أن نفعل ذلك أيضاً.

وحول هذه القضايا لا يجوز أن نسعى إلى التفاوض بشأن حلول دائمة ـ فمثل هذه الأهداف غير قابلة للتحقيق ـ بل لتحديد الوسائل التي يستخدمها الجانبان سعياً إلى تحقيق أهدافهما. نحن لن ننجح أبداً في التفاوض لوضع اتفاق نهائي وكامل للحد من الأسلحة. ولا شك في أننا لن ننجح أبداً في إزالة الأسلحة النووية من على وجه الأرض. ولكننا نستطيع أن ننجح، عن طريق الدبلوماسية القوية البارعة في الوصول إلى اتفاق بشأن الأسلحة يؤدي  إلى تثبيت التوازن الاستراتيجي، بحيث لا يكون أي من الجانبين معرضاً للهجوم بالضربة الأولى. ونحن لن ننجح أبداً في التفاوض على تسوية دائمة في النقاط الملتهبة في أنحاء العالم. ولكننا نستطيع أن نصل إلى تفاهم مشترك بشأن قواعد الاشتباك التي نمارس بها تنافسنا المستمر بدون اللجوء إلى حرب نووية.

وتدخل حقوق الإنسان أيضاً في هذه الفئة الأولى. فنحن نسعى إلى تعزيز احترام حقوق الإنسان في الاتحاد السوفييتي. لكن زعماء الكرملين لن يمنحوا شعوبهم الحرية أبداً راضين، فتلك الحرية ستؤدي إلى معارضة الحكم الشيوعي ثم الإطاحة به في نهاية المطاف. وليس هناك نظام شيوعي يقبل بالانتحار. وإذا حدثت ثغرة في الرقابة على الصحف ستؤدي إلى تدفق الانتقادات والملاحظات ضد الحزب والدولة. وإذا تصدع الباب الذي يمنع الهجرة ستكون النتيجة موجة بشرية عاتية تسعى إلى حياة أفضل في الخارج. ولذا فإننا لا يمكن من الناحية الواقعية أن نطلب في مفاوضاتنا أن يطبق الاتحاد السوفييتي ديمقراطية على الطراز الغربي، أو أن يحترم جميع الحريات الواردة في ميثاق الحقوق. ولكن ليس معنى ذلك أن نتخلى عن القضية، ففي محادثاتنا الخاصة يجب أن ندعو السوفييت إلى توسيع الهجرة، وإلى الإفراج عن منشقين معينين، وإلى زيادة تدفق المعلومات من المصادر الغربية، وأن يلتزموا بما تعهدوا به بوصفهم من الموقعين على اتفاقات هلسنكي. وليس لنا أن نتوقع تحقيق كل ما نريد، ولكن ما نتمكن من تحقيقه قد يعني الكثير في حياة الشعوب المقهورة في الاتحاد السوفييتي.

وفي الفئة الثانية من القضايا، هناك قضايا هامة مثل زيادة الروابط التجارية، والحد من انتشار الأسلحة النووية، وإنقاص احتمالات وقوع الحرب بطريق الخطأ، وتحديد الوسائل الكفيلة بتسوية الحوادث التي تقع في البحار، وبدء التعاون لحماية البيئة. وهناك قضايا أقل أهمية ولكن لها أثرها رغم ذلك، مثل توسيع المبادلات الثقافية، وحول هذه القضايا تستطيع الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي أن يصلا إلى اتفاقات تخدم مصالحنا المتبادلة.

بل ربما يكون في وسعنا أن نتعاون في مكافحة الإرهاب. وإذا كان الزعماء في الكرملين قد قدموا دعماً إيجابياً لجماعات إرهابية خلال السنوات العشرين الماضية، فقد لا يكون بعيداً الوقت الذي تصبح فيه موسكو نفسها ضحية للإرهاب. فالتقدم السريع للتكنولوجيا قد يجعل التعاون أمراً حتمياً. ونحن نعيش في عصر قد تتطور فيه التكنولوجيا إلى حد يجعل من الممكن لا للدول وحدها، بل وللأفراد أيضاً أن يجتازوا العتبة النووية ـ وهي مسألة جديرة بالتفكير في أي بلد يمكن فيه لطائرة عزلاء من طراز سيسنا أن تهبط في الساحة المواجهة للكرملين.

وأنه ليكون من الخطأ الانتقاص من عدد الاحتمالات المتوافرة لقيام تعاون أكبر بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، ولكنها تكون غلطة كبرى أن نبالغ في تقدير أهمية ذلك التعاون بالنسبة للعلاقات الأمريكية السوفييتية. ففي السبعينات، لم يكن تقديم فرقة البولشوى الشهيرة عروضها في واشنطن كافياً لمنع الجيش الأحمر من تقديم عروضه في أفغانستان.

وسجل مفاوضاتنا مع السوفييت ليس سجلاً طيباً. فهم، في مجال العمل، خير من يستطيع أن يستخلص أكبر قدر ممكن ممن يواجههم، ولا يعطون في مقابل ذلك إلا أقل ما يمكن، على نحو ربما كان سيجعل قول تشرشل منطبقاً عليهم: إنه لم يسبق أبداً أن كسب الدبلوماسيون مثل هذه المكاسب الكبيرة مقابل مثل هذا الثمن القليل. ولذا لا مفر من أن ندرك على نحو أفضل كيف نتفاوض، سواء على المستوى الاستراتيجي أو المستوى التكتيكي.

وفهم الأهمية الاستراتيجية للتفاوض يتطلب فهم معنى التصرف كرجال دولة. والأمريكيون لم يدركوا تقليدياً معنى هذا النوع من التصرف. فليس هناك بين معاهدنا التي يتخرج فيها رجال السلك السياسي، أو القادة العسكريون، أو المحللون السياسيون من يعلم طلبته دروساً شاملة تجعل منهم رجال دولة. فهذه المعاهد تنتج خريجين يعرفون الكثير عن التفاصيل الصغيرة، ولكنهم لا يعرفون شيئاً عن الصورة الشاملة. وليس هناك بين العاملين في وزارة خارجيتنا من لديه موهبة التصرف كرجل دولة. فهم خبراء في التخصصات الفرعية ولكنهم ليسوا كذلك في المسائل الكلية. ومع ذلك فإن السنوات المقبلة لا تحتاج منا شيئاً كما تحتاج إلى التصرف كرجال دولة.

ولا يعني ذلك مجرد معرفة فنون إعداد بلاغ دبلوماسي، أو عقد صفقة تجارية، أو المسائل المعقدة المتعلقة بالعلوم العسكرية اللازمة للمحافظة على الردع في جميع مستويات النزاع المحتمل. وإنما يعني التصرف كرجال دولة، المقدرة على إدماج جميع القدرات ـ القوة العسكرية، والطاقة الاقتصادية، والتحركات المستترة، والدعاية، والدبلوماسية ـ في سياسة تخدم استراتيجيتنا الشاملة. ولما كان التفاوض من عناصر التصرف كرجال دولة فهو فن المناورة السياسية على أعلى المستويات.

ولم يحدث أن وضعت أي إدارة بما في ذلك إدارتي، استراتيجية أمريكية صريحة ـ على الورق ـ تجمع أدوات قوتنا العسكرية والاقتصادية والسياسية. وعندما قمنا بوضع استراتيجية وطنية، اتجهت إلى إبراز جوانب القوة العسكرية وتجاهلت أو أنقصت الاهتمام بجوانب قوتنا الاقتصادية والسياسية. وقد كان بعض الرؤساء أفضل من غيرهم في رسم استراتيجية أكثر شمولاً في التطبيق. ولكننا في حاجة إلى إيجاد عملية تؤدي إلى التصرف كرجال دولة أمريكيين بصورة منهجية.

وفي التفاوض مع موسكو، سنكون بحاجة إلى تطوير القدرة على وضع مقترحات تحقق أهدافنا، وتخلق في الوقت ذاته ضغوطاً سياسية على السوفييت لقبول شروطنا. ويعني ذلك في الجوهر تقديم عرض لا يريد الجانب الآخر أن يقبله لكنه يشعر أنه لا يستطيع أن يرفضه. نحن بحاجة لأن نقدم إلى الكرملين خيارات مصاغة بحيث يؤدي رفضها إلى الإضرار بالاتحاد السوفييتي سياسياً، ولكن قبولها يتعارض مع غرائز موسكو. فإذا رفضها زعماء الكرملين نحقق كسباً في المنافسة السياسية، وإذا قبلوا ما نعرضه فإننا نحقق أهدافنا.

وفي الاتفاق الذي عقد مؤخراً بشأن الحد من الأسلحة فيما يتعلق بالقوات النووية متوسطة المدى، أثبت غورباتشوف أنه أستاذ في هذا النوع من المناورات. فعندما اقترحت الولايات المتحدة خيار الصفر في نوفمبر 1981، لم يكن ذلك لأن راسمي السياسة قد تصوروا أن هذا الحل يخدم المصالح الغربية، بل لأنهم كانوا يتوقعون أن يرفض السوفييت هذه الفكرة، مما يضر بهم سياسياً. وكان المفترض أن هذا الاقتراح سيؤدي إلى كسب مزيد من التأييد السياسي في أوروبا. وأنه سيتيح للولايات المتحدة أن تضع قوات نووية متوسطة المدى في بلدان حلف الأطلنطي. وينجح هذا التكتيك طالما وقع الاتحاد السوفييت في الفخ، وبقي متشبثاً بموقفه حول مائدة المفاوضات.

لكن غورباتشوف لم يلبث أن تبين أن خيار (الصفر ـ صفر) هو في صالح موسكو في آخر المطاف، إذا أنه يزيل قدرة الولايات المتحدة على توجيه ضربة انتقامية من أوروبا، بينما لا يؤثر في القدرة السوفييتية على ضرب أوروبا. وعندما أعلن غورباتشوف قبوله للعرض الأمريكي، وجدت حكومة ريغان أنه ليس أمامها إلا أن تمضي في سبيل الاتفاق، على الرغم من التحفظات الخطيرة التي أبدتها وزارة الدفاع، والقائد السابق لقوات حلف الأطلنطي برنارد بوجرز، والحلفاء في أوروبا. وكان من الأسباب الأساسية التي استخدمها من أيدوا الاتفاق على مضض لتبرير موقفهم، القول بأن رفض العرض الذي قدمناه بأنفسنا سيكون أمراً ذا تكلفة سياسية باهظة لدى الرأي العام في أوروبا الغربية. وهكذا تمكن غورباتشوف، عن طريق براعته في التفاوض، من تحقيق أهدافه.

والتحليل الواقعي لكيفية إدراج التفاوض ضمن استراتيجيتنا الشاملة يتطلب أن نجيب على هذه الأسئلة الرئيسية الثلاثة:

ماذا نريد من السوفييت؟ فلا يجوز أن ندخل المفاوضات ارتجالاً، بل علينا أن نحدد بعبارات واضحة تماماً ما نريد أن نصل إليه. عند الحديث عن الأسلحة الاستراتيجية لا يكون هناك معنى للسعي إلى تخفيض شامل بنسبة 50 في المائة في ترسانتي الدولتين العظميين. بل يجب أن يكون هدفنا الأول تحقيق خفض كبير في الأسلحة السوفييتية المخصصة للضربة الأولى، بحيث يكون لدى موسكو في أي وقت الكفاية من الأسلحة اللازمة لتوجيه ضربة أولى مؤثرة. وفي المفاوضات بشأن توازن القوى في أوروبا، لا يكون هناك معنى لمحاولة إزالة الأسلحة النووية التكتيكية، لأن هناك حاجة إليها لمواجهة تفوق حلف وارسو في الأسلحة التقليدية. ويجب بدلاً من ذلك أن نسعى إلى إحداث تخفيضات في قواتهم التقليدية، بحيث يمكن لحلف الأطلنطي عند اللزوم أن يدافع عن نفسه بغير أسلحة نووية.

ماذا سنكون مستعدين لإعطائه حتى نحصل على ما نريد؟ فغورباتشوف ليس رجل إحسان ولا هو أحمق. وسيكون من قبيل تضييع الوقت محاولة إقناع السوفييت بأننا كلينا يجب أن نسعى إلى مفهوم مجرد مثل الاستقرار الاستراتيجي. فهم لا يفكرون بهذه الطريقة. وغورباتشوف لا يعنيه ما نعتقد أنه (طيب) بل يعنيه ما يعتقد أنه سيحصل عليه. وللوصول إلى صفقة (الصفر ـ صفر) التي كان يريدها فيما يتعلق بالقوات النوية المتوسطة المدى، كان مستعداً للتخلي عن رؤوس حربية تبلغ عدة أضعاف الرؤوس الحربية التي تخلينا عنها نحن. وإذا لم يكن لدينا شيء نعرضه فسيكون من قبيل تضييع الوقت الدخول في المفاوضات أصلاً. إن زعماء الكرملين مستعدون لعقد صفقات، ولكنهم لن يعطوا أبداً شيئاً في مقابل لا شيء.

ما هي التدابير التي يمكن أن نتخذها لإحداث ضغط سياسي على الزعماء السوفييت لإبرام الصفقة التي نريدها بالثمن الذي نريد أن ندفعه؟ ولذلك ليس سهلاً ولكنه ممكن. وهو يتطلب، أولاً، أن يدرك واضعو السياسة الأمريكيون أن دوافع السوفييت ونقاط ضعفهم، ويتطلب أيضاً قدرة كبيرة على إدراة اللعب. ويتطلب قبل كل شيء قدرة على تقديم مقترحاتنا، وفهماً لجوانب العلاقات العامة. فنحن لا نستطيع أن نفاوض بنجاح إلا إذا كانت شعوب الغرب تؤيد مبادراتنا. وبغير ذلك فإن الضغط للوصول إلى صفقة ما بأي ثمن يمكن أن يتغلب على التقدير المخالف من جانب راسمي الساسية. وفي الوقت ذاته فإن وجود جبهة موحدة من الدولة الغربية ـ وهي يمكن أن تتحقق بتقديم مقترحات متوازنة سياسياً ـ يفرض قدر من الضغط على الاتحاد السوفييتي ليتفاوض وفقاً لشروطنا.

وقد قدم زيجنيو برجنسكي فكرة للحد من الأسلحة التقليدية تتوافر فيها هذه الشروط. فقد دعا إلى إحداث خفض كبير في قوات الدبابات في أوروبا، وإنشاء منطقة خالية من الدبابات في وسط أوروبا. فهذه الفكرة، وإن كانت بحاجة إلى إضافة مزيد من التفاصيل إليها، لها إمكانات هائلة. فهي تبرز المشكلة الرئيسية منفردة. وهي مشكلة الخطر الهجومي المتمثل في التفوق الساحق لموسكو في سلاح الدبابات. وهذه الفكرة قادرة على إثارة رد فعل دبلوماسي كفيل بتعبئة تأييد الرأي العام. وهي تزيد من وعي الرأي العام الغربي بالخطر الحقيقي الذي نواجهه على المستوى التقليدي. والأهم من ذلك أنها تركز الانتباه على السياسات السوفييتية التي تهدد السلام والتي لا بد من تغييرها. وإ   ذا رفضت موسكو فكرة إقامة منطقة خالية من الدبابات، فلا ينبغي أن نتراجع عنها. بل يكون علينا أن نوضح في كل منعطف أن الزعماء السوفييت يرفضون اتخاذ تداير لانقاص خطر نشوب حرب كبرى. وينبغي أن نؤكد دوماً أن السبب الوحيد الذي يدعونا للاحتفاظ بأسلحة نووية، فيما يتعلق بأوروبا، هو أن للسوفييت تفوقاً في الأسلحة التقليدية.

وينبغي أن نتحرك بسرعة في هذا الاتجاه لنستفيد من البيانات التي أدلى بها غورباتشوف في قمة واشنطن في ديسمبر 1987، والتي قال فيها إن الاتحاد السوفييتي مستعد لقبول مبدأ إجراء تخفيضات غير متماثلة. فقد قال إنه على استعداد لإجراء تخفيضات أكبر في المجالات التي لموسكو فيها قدر من التفوق من أجل الوصول إلى التوازن. وعلينا أن نستخدم هذه التصريحات للضغط السياسي. وينبغي أن يحيط الرئيس ريغان غورباتشوف علماً بالقول الأمريكي الدارج (وجه نقودك حيث توجه أقوالك) وأن يقترح عليه أن يوجه دباباته إلى حيث يوجه أقواله. ويجب أن تكون الركيزة الأساسية في أي اتفاق مقبول للحد من الأسلحة التقليدية، هي تخفيض الاتحاد السوفييتي لقوات الدبابات الهجومية، بحيث ينشأ توازن بين حلف الأطلنطي وحلف وارسو.

ومن المؤسف أن مثل هذا التفكير الاستراتيجي يكاد لا يظهر أبداً في الجهاز البيروقراطي للسياسة الخارجية لدينا. وقد كانت سياسة الاحتواء التي وضعها جورج ف. كينان، والتي أفضت إلى مشروع مارشال وإلى حلف الأطلنطي، استثناء نادراً من ذلك. وقد أتيح لي بوصفي رئيساً أن التقي بكثير من الأفراد الأكفاء الذين كانوا يعملون في وزارة الخارجية، أو وزارة الدفاع، أو وكالة المخابرات المركزية. ولكني لا أذكر حالة واحدة تقدمت فيها هذه الأجهزة البيروقراطية بفكرة مبتكرة حقاً بشأ قضية جوهرية، ولذا كان علينا أن نعد مبادراتنا في البيت الأبيض. فعندنا تواجه الأجهزة البيروقراطية مشكلة ما، فإنها تنفض الغبار عن ملفاتها، وتسارع بوضع حلها المدرسي المعتاد. وتفكيرها تسيطر عليه عقلية أمناء المتاحف. فهم يعاملون السياسية الجارية كما لو كانت قطعة معروضة في متحف ينبغي المحافظة عليها بأي ثمن. ويرون في أية فكرة جديدة خطراً داهماً يهدد مقتنياتهم الثمينة. فهم خبراء في التكتيك، ولكنهم جهلة في الاستراتيجية. ولا يجوز أن نقع ضحية لهذا التفكير المحتجز. فهذه وصفة قاتلة في التنافس مع موسكو في عالم يتغير على وجه السرعة.

وليس في الوسع تنفيذ استراتيجية جيدة بدون تكتيك جيد، ولكن التكتيك الجيد لا يكون مجدياً إلا إذا كان جزءاً من استراتيجية جيدة. واستراتيجيتنا تحدد المفاوضات التي ينبغي أن نخوضها. وتكتيكنا يحدد نوع الصفقات التي نصل إليها.

ولن تنجح أية حكومة أبداً في المفاوضات على المستوى التكتيكي إذا لم يكن لها أساس راسخ في السياسة الخارجية. وذلك يتطلب قبل كل شيء وجود رئيس يفهم الجوانب الأساسية للسياسة الخارجية بقدر من التفصيل، يمكنه من اتخاذ قراره بالاختبار بين البدائل المطروحة على أساس من العلم. ومعظم الكوارث التي وقعت لأمريكا في السياسة الخارجية في هذا القرن، مثل ما فعله ويلسون في فرساي في 1919، وما فعله روزفلت في يالطا سنة 1944 ـ وقد حدث عندما كان الرئيس ينظر نظرة ساذجة إلى أولئك الذين يتفاوض معهم، أو أنه لم يكن على معرفة كافية بالسياسات الحيوية لأمننا القومي. وفي الانتخابات الرئاسية التي تجري في العالم الحال، يجب أن يجعل الأمريكيون الكفاءة في الشؤون الخارجية الاعتبار الرئيسي عند اختيار من يعطونه أصواتهم.

ويجب أن نتذكر عند اختيارنا لزعمائنا أنهم ليسوا مرشحين ليكونوا قديسين. ولا شك في أن السلوك الشخصي يجب أن يكون موضوعاً للمناقشة والبحث، ولكن الأهم من ذلك أن نعرف ما إذا كان المرشح يملك القوة والذكاء اللازمين، ليجلس على المائدة أمام غورباتشوف، أكثر مما نعرف ما إذا كان  قد دخن الماريجوانا في فترة وجوده في المدرسة. ولو أننا تطلبنا سلوك القديسين في المتقدمين للوظائف العليا في الولايات المتحدة في الماضي، لحرمنا أنفسنا من كثير من القادة العسكريين والسياسيين البارزين. وقد كان لكليفلاند ولد غير شرعي، ولكنه كان رئيساً كفؤاً. وكان جرانت سكيراً، ولكنه كان هو القائد الذي قاد جيوش الاتحاد إلى النصر في الحرب بين الولايات. وكان لنكولن يتعرض لنوبات من الاكتئاب العقلي، ولكنه هو الذي حرر العبيد وحافظ على الدولة موحدة. والمحيطون برجال السياسة يشيدون دائماً بنوعية زعمائنا. لكن السياسة الأمريكية قد تدهورت إلى حد يدفع أي شخص يختم بحياته الخاصة إلى التفكير مرتين قبل الدخول إلى الحياة العامة، وتعريض نفسه وأسرته لعمليات اغتيال يقوم بها الصحفيون المغرمون بالفضائح، ولأعمال محاكم التفتيش التي يمارسها أعضاء مجلس الشيوخ الحريصون على منظرهم في مواجهة كاميرات التلفزيون.

وتحتاج سياستنا الخارجية، حتى تسير سيراً حسناً، إلى ثلاثة عناصر أساسية.

أولها، أنها تحتاج إلى قائد مركزي قوي ـ رئيس قادر على أن يستخلص من مستشاريه أفضل ما عندهم، ويستطيع أن يستقصي المعلومات الأساسية من الوزارات، ويستطيع أن يصل إلى حكم وتقدير للشؤون الخارجية بنفسه. وربما كان من الجائز في القرن التاسع عشر أن يفوض الرئيس أمر السياسية الخارجية برمتها إلى وزير خارجيته. ولكن في ذلك العهد كان متسوى الرسوم الجمركية؛ وليس البقاء على قيد الحياة، هو القضية الأساسية في السياسة الخارجية. أما وقد أصبح الأمر على ما هو عليه من مخاطر، فقد أصبح من اللازم أن يكون الرئيس قائداً متحكماً في السياسة الخارجية بنفسه.

ويجب أن يكون لدى الرئيس حس تاريخي. وقد كتب السير روبرت منزيس الذي كان رئيس وزراء لامعاً في أستراليا، يقول بحق إن القائد الذي يسيطر عليه هاجس (حكم التاريخ) سيقل اهتمامه بالتركيز على ما ينبغي أن يتخذه من قرارات وما يقدم عليه من أفعال. والأمر المهم في نظره هو أن يكون لدى القائد (حس تاريخي، وهي عبارة استخدمها لوصف الحالة العقلية التي تستمد الإلهام والضوء من الماضي المكتوب، وليس الحالة العقلية الحريصة على أن ينظر إليها نظرة طيبة في المستقبل الذي لم يكتب بعد). ولن نصل في التفاوض مع زعماء الكرملين إلى ما نريد أن نصل إليه إلا إذا كان لدينا فهم عميق لما كنا فيه وكيف وصلنا إليه.

وثانيها، إنه يتعين على الرئيس أن يعين في مناصب وزير الخارجية، ووزير الدفاع، ومدير وكالة المخابرات المركزية أفراداً قادرين على قيادة إداراتهم لا السير وراءها. وأولئك الذي يشكلون الجهاز الدائم لموظفي وزارات الخارجية والدفاع والمخابرات المركزية لديهم وسائل تفكير ثابتة، تؤدي إلى انحراف تحليلاتهم وتوصياتهم. وهم خبراء في متابعة رؤساهم. ولا مفر من أن يقع أي معيّن جديد قليل الخبرة، مهما كانت درجة كفاءته، في الخيبة ـ ويجرفه تيار وزارته ولا يعود ذا فائدة للرئيس. فهو يصبح ممثلا للبيروقراطية لدى الرئيس وليس ممثل الرئيس لدى البيروقراطية.

وثالثهما، إنه يتعين على الرئيس أن يحتفظ بنظام قوي لمجلس الأمن القومي. فبعد جلسات الاستماع الخاصة بقفضية إيران ـ الكونترا ـ أصبحت الحكمة الشائعة بين أساطين السياسة في واشنطن أن مستشار الأمن القومي والعاملين معه قد تضخمت قوتهم أكثر مما ينبغي، ولا بد من تخفيض منزلتهم حتى لا تزيد عن مجرد عرض الأوراق. وقال البعض صراحة: (يجب أن تعود وزارة الخارجية إلى ممارسة المسؤولية الكاملة عن السياسة الخارجية). ولا يستطيع الرئيس المقبل أن يقع في خطأ أكبر من اتباع هذه النصيحة. فالرئيس يحتاج إلى أكثر من موظف كتابي ليشغل منصب مستشاره لشؤون الأمن القومي. فهو يحتاج إلى شخص قوي يستطيع أن ينظم عملية اتخاذ القرار، وأن يبلور الخيارات السياسية، وأن يلزم الجهاز البيروقراطي بالعمل في الاتجاه الذي يريده. وإذا كان الرئيس يوجه السياسة بما يتخذه من قرارات، فإن الجهاز البيروقراطي هو الجبهة التي يحتك فيها إطار السيارة بأسفلت الطريق. وإذا لم يكن هناك مستشار للأمن القومي يراقب تنفيذ قرارات الرئيس بعينين يقظتين كعيني الصقر، فسيواجه الرئيس قدراً كبيراً من الانفصال بين ما يريد أن يتحقق وما يتحقق بالفعل.

وبدون هذه العناصر الثلاثة، سوف تتفتت عملية اتخاذ القرار، وستكون الأجهزة البيروقراطية أشبه بالعجلات التي لا يجمع بينها محور للحركة، فهي ستستمر في الدوران، ولكنها ستمضي كل منها في اتجاهها. وأهم ما في الأمر هو أنها لن تزود الرئيس بذلك النوع من المعلومات والمشورة الذي يحتاج إليه لاختيار التحركات التكتيكية السليمة في التفاوض مع موسكو.

والسؤال الثاني هو: من الذي ينبغي أن يتفاوض مع السوفييت؟ تنتهي الندوات الفكرية، وحلقات الدراسة الجامعية، والمناقشات التي تدور في التلفزيون عادة إلى أن جميع المفاوضات ينبغي أن تقوم بها وزارة الخارجية، وذلك غير ممكن عندما نتفاوض مع موسكو. ففي مثل هذه المفاوضات، يكون علينا أن نميز بين القضايا التي ينبغي أن تعالج من خلال القنوات الرسمية بين حكومة وحكومة، والقضايا التي ينبغي أن تعالج على أساس شخصي بين زعيم وزعيم.

فالمفاوضات بين حكومة وحكومة، والتي تضطلع بها أساساً وزارة الخارجية، لن تكون مجدية إلا بشأن القضايا التي للجانبين فيها مصلحة مشتركة. فعند التعامل مع حلفائنا، يستطيع دبلوماسيونا أن يحلوا بطريقة روتينية معظم القضايا من خلال القنوات الرسمية. وقد يصدق ذلك على موسكو، ولكن في قضايا محددة فحسب، حيث تكون مصالحنا ومصالح الكرملين متوافقة، مثل التدابير اللازمة للحد من خطر وقوع الحرب بطريق الخطأ، أو الاتفاق على تشجيع المبادلات الثقافية، فهذا نموذجان للمسائل التي تدخل في هذا المجال. ودبلوماسيونا أساتذة في الوصول إلى الحلول الوسط التي تفيد كلا الجانبين. ولكن عندما تكون هناك مصالح متضاربة تحول دون الاتفاق فإن هذه القدرة تصبح بلا جدوى.

وعندما نتفاوض مع موسكو حول قضايا تتصادم فيها المصالح الأمريكية والسوفييتية، لا نستطيع أن نصل إلى نتائج ذات مغزى عن طريق القنوات الدبلوماسية الرسمية. ويجب أن يدير الرئيس هذه المفاوضات على أساس رأس ـ لرأس مع كبير الزعماء السوفييت. فإثارة هذه القضايا على أعلى مستوى يكشف عن الأهمية التي نعلقها على مصالحنا فيما يخص تلك الموضوعات. كما أن ذلك دليل على أننا نعرف أنه ليس هناك محفل آخر يمكن أن يحدث فيه أدنى تقدم. وقد يكون هناك من لا يزالون يعتقدون أنه يمكن إحراز تقدم حقيقي في قضايا صعبة مثل أفغانستان، أو أمريكا الوسطى في اجتماعات يحضرها مساعدو وزير الخارجية، ونوابهم، ويقرأون فيها بيانات من أوراق معدة سلفا. ولكن من يتمسكون بهذا الرأي يعيشون في عالم من الأوهام.

فعند التعامل مع النظم الشيوعية يجب ألا تغيب عن البال الفروق بين المسؤولين في الحزب والحكومة. فالقرارات يتخذها الحزب لا الحكومة. وموظفو الحكومة إنما هم خدم لقادة الحزب. ومهما استخدمنا من كل أنواع قوة الإقناع المتاحة في العالم في التعامل مع متفاوض حكومي سوفييتي، فإنه لن يتزحزح بوصة واحدة من تلقاء نفسه عن موقفه من قضية أساسية. وقد قال خروتشوف يوماً وهو يستهزئ باقتراح قدم لتسوية إحدى القضايا في اجتماع لوزراء الخارجية، إن ذلك الاقتراح غير مقبول، وأن وزير خارجيته على استعداد ليجلس فوق كتلة من الجليد إذا هو طلب منه ذلك. ومازال هذا هو الحال. فتحقيق التقدم في التفاوض حول القضايا الحاسمة، يتطلب أن يتعامل الرئيس الأمريكي مع الزعيم الأعلى للحزب الشيوعي السوفييتي.

قد يرى غورباتشوف أن يتفاوض عن طريق سفيره في واشنطن، أو عن طريق وزير خارجيته، أو عن طريق ممثل شخصي آخر. ويجب أن يكون الرئس الأمريكي مستعداً لأن يفعل الشيء نفسه. فهو في بعض الحالات قد يرغب في الاستعانة بوزير خارجيته، وفي حالات أخرى بمستشاره للأمن القومي، وفي حالات ثالثة بممثل شخصي، وربما حتى بشخص من خارج الحكومة. والنقطة الرئيسية هي أنه يجب أن يقوم الرئيس باختيار شخص يعرف غورباتشوف أنه الممثل الشخصي للرئيس، وإذا وقع الاختيار على وزير الخارجية يجب أن يكون من الواضح أنه يتفاوض لا بصفته عضواً في الوزارة، بل بصفته مبعوثاً للرئيس. ويجب أن يفهم غورباتشوف أن كل من يحمل هذه الصفة يتحدث باسم الرئيس ولا يقدم تقاريره إلا إليه.

وهذه المفاوضات يجب أن تجري سراً، والسرية أمر غير مرغوب في الولايات المتحدة. وفي جامعاتنا التي تضم الصفوة، مازال أساتذة العلوم السياسية يرددون بالترحاب ما قاله ويلسون من ضرورة (إبرام اتفاقات علنية نصل إليها علناً). ولكنهم لا يدركون أن السبيل الوحيد في معظم الحالات مع السوفييت للوصول إلى اتفاق علني هو السعي إليه سراً. وهناك اختلاف كبير بين معاهدة سرية ومفاوضات سرية. ففي بلد ديمقراطي لا يمكن قبول اتفاقات سرية حول قضايا أساسية، ولكن إجراء مفاوضات سرية للوصول إلى اتفاقات هامة ليس أمراً ضرورياً فحسب، بل وله أيضاً ما يبرره.

ويصدق ذلك على الأخص في حالة المفاوضات مع الدول الشيوعية. فجميع البلدان الشمولية ـ وليس السوفييت وحدهم ـ مغرمون بالسرية. وبدون المفاوضات السرية لما أمكن التوصل إلى تفاهم الصين في 1972، ولا إلى اتفاق سلام في فيتنام في 1973. وقد يذكر البعض أن المفاوضات السرية كانت ملائمة في هاتين الحالتين بالذات لأنه لم يكن للولايات المتحدة علاقات دبلوماسية مع الصين أو فيتنام الشمالية. ولكن حتى اتفاقيات سولت الأولى لم تكن لتبرم مع الاتحاد السوفييتي بدون محادثات سرية.

ثم إن السرية ضرورية لأسباب أهم من ذلك.

أولها: أن الدبلوماسية بحكم طبيعتها يجب أن تجري بعيداً عن الكاميرات والميكروفونات. والتفاوض مع موسكو ليس شبيهاً بالمساومة مع تاجر سجاد في بازار شرقي. بل هي عملية هادئة حذرة للتعرف على الدرجات المختلفة التي يمكن بها تغيير شتى عناصر موقف الطرف الآخر، وتجربة احتمالات متنوعة للأخذ والعطاء. ويجب أن يكون كل جانب قادراً على تقديم مقترحات مؤقتة. وأن يختبر البدائل النظرية، وأن، يجس نبض الطرف الآخر وردود فعله. ويحتاج الجانبان إلى فرصة تقديم مقترحات دون التقيد بها. ولا يستطيع المتفاوضون أن يفعلوا ذلك إلا إذا كان التفاوض يجري من وراء ستار.

وثانيها: أن المفاوضات الحقيقية تقضي من كل طرف أن يتنازل عن مصالح معينة من أجل تحقيق المصالح العامة للطرفين، ويقتضي هذا تنازلات من الطرفين. وعندما أجريت مفاوضات البلدين في محافل تتركز عليها الأنظار مثل محادثات الخفض المتبادل والمتوازن للقوات التي جرت في فيينا، واستغرقت ثلاثة عشر عاماً، لم ينتج عنها شيء. ومن الأصعب على كل من الطرفين ـ بل قد يكون من المستحيل أحياناً ـ أن يقدم تنازلات رئيسية علناً. وإذا أراد أحد الجانبين أن يتراجع عن موقف سبق له إعلانه فإنه يسمح للمعارضة الداخلية لأي اتفاق تم التفاوض بشأنه بأن تتبلور، وتحول دون المزيد من التقدم. ويصدق ذلك على الولايات المتحدة، ولكنه يصدق على الأخص على الاتحاد السوفييتي، حيث يجب دائماً أن يقدم كل تنازل كما لو كان انتصاراً.

ويستطيع كل جانب أن يقدم الاتفاق المنصف على أنه مجموعة من المفاضلات بين عدد من البدائل المفيدة. ولكن لا يستطيع أي منهما أن يقدم مجموعة من التنازلات المحددة التي لا تحقق سوى الضرر.

ولذا فمن النصيحة المخلصة للرئيس أن يقيم قناة خلفية بعيدة عن الجهاز البيروقراطي للتفاوض مع السوفييت. فمن الضروري أن تكون هناك وسيلة خاصة للاتصال بزعماء الكرملين، خارج القنوات الرسمية وبعيداً عن عدسات كاميرات التلفزيون المقتحمة.

وخلال فترة إدارتي، شملت القناة الخلفية اجتماعات منتظمة غير معلنة بين هنري كيسنجر والسفير السوفييتي ذي الكفاءة والخبرة العاليتين أناتولي دوبرينين. وكانت تلك الاتصالات حاسمة في المراحل الأولى لمحادثاتنا، عندما كان كل من الجانبين يستكشف مواقف الآخر. وقد حققنا في جلسات العمل تلك تقدماً أكبر مما حققناه في المفاوضات الرسمية التي كثرت الدعاية حولها.

والقناة الخلفية لا غنى عنها للحيلولة دون وقوع الأزمات المحتملة، قبل أن تصبح علنية، ويصبح كل جانب ملزماً بالتشبث موقفه. وفي سنة 1969، أتاحت لنا القناة الخلفية أن نتجنب أزمة كبرى بشأن محاولة السوفييت لإقامة قاعدة للغواصات النووية في سينفويجوس بكوبا. كما كانت وسيلة استخدمناها لمنع الحرب بين باكستان والهند من التصاعد والتحول إلى نزاع كبير بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي. وينبغي للرئيس المقبل أن ينشئ قناة خلفية للاتصال بالسوفييت. ولما كانت هذه القناة تقلل إلى أدنى حد من احتمال تسرب الأنباء أو وضع قيود على التبادل الحر للآراء بين كبار القادة، فإنها تزيد إلى أقصى حد من فرص الوصول إلى حل موفق للقضايا المتنازع عليها.

وفي المفاوضات ذاتها يجب أن تستخدم الولايات المتحدة ستة تكتيكات أساسية:

ـ حركات الالتفاف. إن ما نفعله خارج جلسات التفاوض لا يقل أهمية عما نفعله داخلها. ومن البدهيات الجيوبولتيكية أنك لا تستطيع أن تكسب على مائدة المفاوضات أكبر مما نستطيع أن تكسبه في ساحة المعارك. ويصدق نفس القول في المفاوضات الأخرى أيضاً. فإذا نحن لم نفعل شيئاً غير تقديم مقترحات مكتوبة بعناية، لن نحقق شيئاً في المفاوضات. بل علينا أن نتخذ تدابير للالتفاف حول موقف موسكو. وفي مفاوضات الحد من الأسلحة يجب أن ننشر كل الأسلحة اللازمة لضمان أمننا الاستراتيجي، وأن نعبئ التأييد لموقفنا التفاوضي بين صفوف الشعب الأمريكي وبين حلفائنا. وإذا أردنا أن يوافق السوفييت على الانسحاب من أفغانستان وجب أن نساعد المقاومة الأفغانية على رفع تكلفة الاحتلال السوفييتي لبلادهم. فالسوفييت معارضون أشداء، ولن نصل معهم إلى الاتفاقات التي نريدها إلا إذا وجدنا الظروف التي تضعهم في موقف أسوأ إذا هم لم يتفقوا معنا.

ـ الربط بين المسائل. هذا التكتيك، الذي يقوم على ربك التقدم بشأن قضية معينة بقضية أخرى، موضع خلاف شديد. وعندما مارست هذا الربط في فترة رئاستي، كان حكماء السياسة والدبلوماسيون المحترفون بالإجماع تقريباً غير موافقين. ومع ذلك فإن الربط بين المسائل أمر لا غنى عنه إطلاقاً في الوصول إلى تحسن حقيقي في العلاقات الأمريكية السوفييتية.

فزعماء الكرملين قادرون على التلاعب بالولايات المتحدة في المفاوضات بين الدولتين العظميين إذا نحن لم نفرض الربط بين القضايا. فليس للجانبين نفس القدر من الاهتمام بالتقدم بشأن جميع المسائل. فهناك قضايا، مثل التجارة، لموسكو فيها مصلحة أكبر. وهناك قضايا أخرى، مثل ميل الاتحاد السوفييتي إلى القيام بمغامرات في العالم الثالث، للولايات المتحدة فيها مصلحة أكبر. وموسكو على أتم استعداد لقصر المفاوضات على المسألة الأولى. وإذا استجابت الولايات المتحدة لهذا النهج غير المتوازن ـ أي إذا لم تعمد إلى الربط بين المجموعتين من القضايا ـ ستسمح للسوفييت أن يسيطروا على جدول أعمال المفاوضات، وسنخرج منها خاسرين بالضرورة.

وسترفض موسكو دائماًَ الربط الصريح بين الموضوعات، سواء كان يتعلق بالتجارة، أو بالحد من الأسلحة. ولكنهم إذا كانوا لن يأخذوا بمبدأ الربط فسوف يتكيفون معه. وخلال فترة إدارتي قمنا بالربط بين المحادثات الرامية إلى حظر منظومة الأسلحة المضادة للصواريخ التسيارية، وهو أمر يعطيه السوفييت أولوية أولى، والمحادثات المتعلقة بالحد من الأسلحة الاستراتيجية الهجومية، وهو أمر له أولوية رئيسية بالنسبة لنا. ولو أننا لم نتمسك بالربط بين الموضوعين، فالأرجح أننا ما كنا سننجح أبداً في إبرام اتفاقية سولت الأولى، ولكان السوفييت قد تفاوضوا لإبرام المعاهدة الخاصة بالأسلحة المضادة للصواريخ التسيارية وعرقلوا الاتفاق المؤقت بشأن الأسلحة الهجومية، وبذلك تبقى يدهم طليقة في مواصلة تعزيز الأسحلة النووية. كما أننا ربطنا بين التقدم في المفاوضات لزيادة التجارة بين الشرق والغرب ـ وهو موضوع له أولوية لدى السوفييت ـ وبين مسلك السوفييت في المناطق الأخرى من العالم. وعندما اتخذ الكرملين إجراءات هددت مصالحنا تباطأنا في المحادثات حتى كادت تتوقف، ولم يلبث السوفييت أن تلقوا الرسالة. ولم يرتاحوا لذلك، ولكنهم استجابوا له.

والربط بين المسائل أمر ملازم لمجريات الأمور في العالم. ولكن إذا أرادت الولايات المتحدة أن تستفيد من الربط فعليها أن تمارسه. ومن واجبنا أن نفرض ربطاً حديدياً بين التقدم نحو علاقات شاملة أفضل وبين السلوك السوفييت العالمي. ويجب ألا نتقدم في مجال الحد من الأسلحة وزيادة التجارة إذا استمر الاتحاد السوفييتي في تهديد المصالح الأمريكية بالعدوان في أفغانستان، أو بضخ مئات الأطنان من الأسلحة إلى أمريكا الوسطة. فنحن إذا وصلنا إلى اتفاقات أساسية مع تجاهل السلوك السوفييتي سنكون قد بعثنا إلى موسكو الرسالة الخاطئة. سنكون قد أبلغناهم بأن العدوان يفيد، وبذلك نيسر عملية تدميرنا.

ومن المفارقات أن المشتغلين بالتمهيد للحد من الأسلحة هم أشد العناصر معارضة للربط بين القضايا، بينما هم سيكونون في مقدمة الخاسرين إذا نحن فشلنا في الربط بين القضايا. فقد أصبح الربط حقيقة من حقائق الحياة الدولية. ونحن نستطيع أن نتفاوض حول معاهدات للحد من الأسلحة بالرغم من النزعة التوسعية السوفييتية، ولكن مجلس الشيوخ لن يصوت بالتصديق على تلك المعاهدات إذا كان الاتحاد السوفييت في ذلك الوقت يدوس مصالح الغرب. وفي نهاية الأمر، فإن غزو موسكو لأفغانستان كان هو العمل الذي قضى على أي فرصة للتصديق على اتفاقية سولت الثانية. وإذا نحن أردنا أن نصل إلى تحسن حقيقي دائم في العلاقات الأمريكية السوفييتية، يجب أن نربط التقدم في محادثات الحد من الأسلحة بالتقدم في المنازعات السياسية التي يمكن أن تفضي إلى استخدام تلك الأسلحة.

وقد جعلت موسكو من الحد من الأسلحة الموضوع الذي له الأولوية الأولى في المفاوضات الأمريكية السوفييتية. وذلك جزئياً لصرف الانتباه عن القضايا السياسية الحيوية. ويجب ألا نسمح لهم بتحقيق هذا الهدف بأن نعامل مسألتي التوسع السوفييتي والقمع في الداخل على أنهما من الشواغل الثانوية، وعلى أنهما من العقبات المؤسفة في سبيل التقدم في مجال الحد من الأسلحة. يجب علينا أن نلزم الكرملين بالاهتمام بمشاغلنا. والربط بين القضايا هو وسيلتنا الوحيدة لتحقيق ذلك. وإذا أريد لصفقات الأسلحة أن تفيد قضية السلام الحقيقي يجب أن تكون مصحوبة بتغييرات في السياسة السوفييتية. وقد كتب بريان كروزييه يقول: (إن ما يفعله السوفييت، أو صنائعهم في أمريكا الوسطى، أو في الجنوب الأفريقي هو الجوهر، أما الاتفاقات بشأن الأسلحة فهي الصدى). وإذا مضت حكومة ريغان قدماً في اتفاقات الحد من الأسلحة بدون الربط بين الموضوعين، فإنها تخاطر بخلق انطباع من التفاؤل الخطر يوجه فيه الاتهام إلى أي شخص يتجاسر على إثارة قضية العدوان السوفييتي في أنحاء العالم، بأنه يسمم جو العلاقات الأمريكية السوفييتية.

لكن الربط بين القضايا يحتاج إلى مهارة في التنفيد. فلن يستطيع أي رئيس أمريكي أن يقف أمام الكاميرات ليعلن أنه يعتزم أن يبقى الاتفاق المقبل بشأن الحد من الأسلحة رهينة لتراجع السوفييت في هذه القضية أو تلك، وإنما يستطيع أن يفرض الربط أثناء المفاوضات غير المعلنة. ويصدق ذلك على الأخص فيما يتعلق بقضية حقوق الإنسان. وكان من نتيجة الضغط غير العلني من جانب إدارتي أن سمح الاتحاد السوفييتي بزيادة هجرة اليهود من 400 في سنة 1968 إلى نحو 35 ألفاً في سنة 1973. وعندنا أصدر الكونغرس تعديل جاكسون فانيك الذي ربط صراحة التجارة بالهجرة من الاتحاد السوفييتي، أغلق زعماء الكرملين الباب بعنف مرة أخرى. فلن تسمح أية دولة قوية في أي وقت لدولة أخرى بأن تملي عليها سياساتها الداخلية.

ونحن بحاجة إلى أن نضعط على السوفييت بشأن هذه القضية، وليس ذلك لأسباب إنسانية فحسب، بل أيضاً لأن انتهاكات السوفييت لحقوق الإنسان تؤثر على فرص تحسين العلاقات الأمريكية السوفييتية الشاملة. ولكننا يجب أن ندرك أن الضغط غير المعلن، وليس المواقف العنيفة هي التي تتوافر بها أكبر فرص للنجاح.

ـ القوة الاقتصادية. أهم ورقة نملكها في المفاوضات الأمريكية السوفييتية هي قوتنا الاقتصادية. ويصدق ذلك بصورة خاصة مع غورباتوشف. فهو قد أوضح أن أولويته الرئيسية هي تنشيط الاقتصاد السوفييتي. وهو يعرف إنه إذا فشل فسوف يختفي الاتحاد السوفييتي كدولة كبرى خلال القرن القادم. وحتى ينجح، فإنه في أمس الحاجة لحقن الاقتصاد السوفييتي بالمزيد من القروض والتكنولوجيا الغربية. وعلى ذلك فإننا نملك الآن من أدوات التفاوض أكثر مما كان لدينا في أي وقت سابق.

وينبغي أن تكون التجارة من الموضوعات الرئيسية في جدول أعمال اجتماع القمة القادم بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي. وإمكانات زيادة التجارة هائلة، فقد وصلت تجارتنا مع الصين، التي لا تزال بلداً زراعياً في المقام الأول، إلى عشر مليارات دولار في العام الماضي. أما تجارتنا مع الاتحاد السوفييتي، وهو دولة صناعية كبرى، فكانت في حدود 2 مليار دولار. وذلك أمر لا معنى له من الناحية الاقتصادية. ولكن يجب أن نتذكر أن التجارة الثنائية لم تبدأ في التصاعد إلا بعد أن فتحت الصين أبوابها للغرب، وكفت عن تطبيق سياساتها التوسعية. ويمكن أن تكون التجارة في السلع غير الاستراتيجية أيضاً حافزاً قوياً للاتحاد السوفييتي، لاتباع سياسات أكثر إنسانية في الداخل وأقل عدوانية في الخارج. وعندما تتحسن علاقاتنا يجب أن تطلب الإدارة من الكونغرس أن يمنح الاتحاد السوفييتي وضع الدولة الأولى بالرعاية. ومن شأن ذلك أن يفتح الباب لزيادة كبيرة في التجارة السوفييتية الأمريكية في السلع غير الاستراتيجية.

إن موسكو في حاجة إلى التجارة مع الغرب أكثر من حاجة الغرب إلى التجارة مع موسكو. ونحن نعرف ذلك، والسوفييت يعرفونه، وينبغي أن نستفيد به. والتجارة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي هي في المقام الأول مبادلة للتكنولوجيا الغربية بمواد خام سوفييتية. ونحن نستطيع أن نشتري منتجاتهم من أماكن أخرى إذا تطلب الأمر، ولكن ليس أمامهم مورد آخر يحصلون منه على منتجاتنا. وذلك يعطينا ميزة عليهم، ويجب أن نستفيد بها في الحصول منهم على تنازلات بشأن قضايا أخرى. ينبغي لنا أن نبيع موسكو سلعاً غربية، ولكن ينبغي أيضاً أن نربطها بثمن سياسي بالإضافة إلى ثمنها الاقتصادي. وسيكون على غورباتشوف أن يختار، فهو لا يستطيع أن يتاجر ويغزو في نفس الوقت.

وينبغي أن تكون التجارة عنصراً أساسياُ في علاقتنا مع الاتحاد السوفييتي، ولكننا يجب أن نتخلى عن الوهم القائل بأن التجارة تجلب معها السلام. فالدول كانت تتبادل التجارة، ولكنها قامت تقتل بعضها بعضاً بالملايين في الحربين العالمية الأولى والثانية. والتجارة منفردة لا تستطيع أن تنتج السلم، ولا أن تمنع الحرب. ويقول الكثيرون إننا إذا زدنا التجارة مع الاتحاد السوفييتي فإنه سيصبح أقل عدوانية. ولكن الكرملين لن يشتري بالمال. فقد أوضح في أواخر السبعينات أنه يريد أن يتاجر ويغزو معاً. والمحصلة هي أن العلاقات الاقتصادية لا يمكن بأن حال أن تكون بديلاً عن الردع أو المنافسة. إلا أن العلاقات التجارية إذا استخدمت استخداماً سليماً يمكن أن تعزز كلاً من الردع والمنافسة.

وإذا كنا سنزيد من التجارة يجب أن نفعل ذلك بطريقة محسوبة لخلق حواجز للاتحاد السوفييتي للعدول عن سياساته العدوانية. وليس هناك معنى لإعطاء زعماء الكرملين ما تمس حاجتهم إليه دون أن نحصل على شيء نريده في مقابل ذلك. فإذا نحن أخفقنا في استخدام قوتنا الاقتصادية، سيتبين أن الاتحاد السوفييتي يستطيع أن يجني المكاسب بمجرد تحسين جو علاقاتنا، حتى إذا كان يسعى إلى تحقيق مكاسب أخرى عن طريق العدوان. وتلك سابقة لا نستطيع أن نتحملها.

وليس في وسعنا أن نستفيد بقوتنا الاقتصادية بدون تعاون حلفائنا في حلف الأطلنطي وفي اليابان. واقتصاد البلدان الشرقية يصبح قزماً بالقياس إلى القوة الاقتصادية الجماعية للغرب، لأن نظامنا الاقتصادي يسير سيراً حسناً، أما نظامهم فلا يسير. فحلف الأطلنطي واليابان ينتجان أكثر مما ينتجه الاتحاد السوفييتي وحلفاؤه في حلف وارسو بنسبة تزيد عن 5 : 1. لكننا سوف نبدد ذلك التفوق إذا نحن لم ننسق سياساتنا للتجارة مع موسكو.

وكحد أدنى، يجب أن يشمل ذلك التنسيق السيطرة الدقيقة على تصدير التكنولوجيا المفيدة عسكرياً، ووضع حد لتوفير ائتمانات التصدير المدعومة للاتحاد السوفييتي. وفيما عدا    ذلك فإننا نحتاج أيضاً إلى التعاون في تحديد مستوى التجارة بين الشرق والغرب. ولا بد من أن نتحرك في هذا السبيل معاً على الفور. وقد كان غورباتشوف يتحدث صراحة عن زيادة التجارة على أنها النتيجة الاقتصادية لتخفيف التوتر. وقد بدأت الوفود التجارية السوفييتية بالفعل في التجول في مختلف بلدان الغرب طولاً وعرضاً. ولذا فإننا بحاجة إلى أن ننشئ مجلساً للسياسة الاقتصادية الخارجية، لا في الولايات المتحدة وحدها، بل أيضاً في التحالف الغربي برمته. ويكون هذا المجلس أداة لتنسيق استخدامنا للقوة الاقتصادية في مواجهة الاتحاد السوفييتي.

وقد ارتكبنا خطأ جسيماً عندما قامت حكومة ريغان بإلغاء الحظر الذي كان الرئيس كارتر قد فرضه على القمح بغد غزو السوفييت لأفغانستان. وجاء هذا الالغاء بدون تنازلات مقابله. وزاد الأمر تفاقماً عندما وقعت الولايات المتحدة صفقة قمح جديدة بدون ربط ذلك بقضايا أخرى. ومن المؤسف أيضاً أن مسؤولي التجارة في حكومتنا اتبعوا القول الخاطئ القائل بأن الحد الوحيد لتجارتنا مع موسكو يجب أن يكون قدرة الموانئ السوفييتية على الاستيعاب. وينبغي للإدارة المقبلة أن تتخلى عن هذا النهج. وعليها أن تقوم أولاً بالربط بين جوانب القوة الاقتصادية للغرب، ثم نجلس للتفاوض مع موسكو حول الشروط السياسية لزيادة التجارة.

وقد لاحظ لينين بازدراء أن البلدان الرأسمالية بلغت من الجشع وقصر النظر حد أنها تبيع للاتحاد السوفييت الحبل الذي ستشنق به نفسها في يوم من الأيام. ومن المؤسف أن بعض القادة السياسيين ورجال الأعمال في الغرب ينطبق عليهم هذا الوصف. فهم لا يكتفون بأن يبيعوا الحبل للاتحاد السوفييتي، بل يبيعونه أيضاً المشنقة، والدليل الذي يشرح للجلاد كيف يمارس عمله. ويتعين علينا أن نرفض مشورة أولئك الذي يدعوهم ضيق أفقهم إلى الدعوة للتوسع بلا حدود في التجارة بين الشرق والغرب. وإذا نحن قبلنا وجهة نظرهم فسوف يحقق أفراد قليلون في الغرب مكاسب مالية، ولكن زعماء الكرملين وحدهم هم الذين سيحققون مكاسب جيوبولتيكية.

ـ الإصرار. في أيام الثورة في روسيا في بداية هذا القرن، تغلب البلاشفة على غيرهم من اليساريين عن طريق البقاء ساعات أطول منهم في الاجتماعات. وكان أنصار لينين يستمرون في مناقشة أتفه موضوعات الخلاف إلى ما لا نهاية، في حين كانت المعارضة تشعر بالسأم، وتتشتت أذهان بعض المندوبين. وعندما يتضاءل عدد الفريق الآخر إلى الحد الكافي تطلب جماعة لينين عرض الأمر للتصويت، وبذلك تكسب رغم أن البلاشفة كانوا أقلية في بداية الأمر. والمفاوضون السوفييت اليوم لم يفقدوا هذه الموهبة لتحقيق النصر عن طريق الصبر في الكلام والاستماع.

وقد اتجه دبلوماسيونا إلى الوقوع في خطأين أساسيين عند التعامل مع موسكو:

الأول: أنهم اتجهوا إلى الانتقاص من تقدير الخصم، وكانوا ينظرون عادة إلى السوفييت على أنهم ثقيلو الحركة، غلاظ الطبع، غير متحضرين. ولكنهم لم يدركوا أنه ليست هناك علاقة بين الأسلوب والقدرة. وربما لم يكن لستالين الأسلوب المنمق الذي يتصف به الرئيس روزفلت، ولكن ستالين كسب أوروبا الشرقية في يالطا. ويجب على معارضينا أن يعدوا أنفسهم إعداداً دقيقاً في مواجهة خصومهم، ويجب أن يتسموا بالإصرار والتمسك والصبر وطول البال. وكانت هذه الصفات، بين صفات أخرى، أهم نقاط قوة هنري كيسنجر عند تفاوضه مع السوفييت والصينيين والفيتناميين. وقد كشف ماكس كامبلمان عن تلك الصفات في مفاوضاته وصولاته الطويلة حول الحد من الأسلحة في جنيف. وليست الحجج التي تقدم عبر المائدة هي التي تحرك المفاوضين السوفييت وتدفعهم إلى التنازلات، بل القرارات السياسية التي تأتي من أعلى. ولكن فريقنا يجب أن يكون قادراً على القتال ومواصلة الدقاع حتى يدفع الكرملين إلى التراجع عن مواقفه الأولى. ولا يجوز أبداً أن نتفاوض على أساس تحديد موعد نهائي لانتهاء المفاوضات. فإذا بدا أننا في عجلة من أمرنا سيرحب السوفييت بدفعنا إلى صفقة غير مواتية.

والثاني: أن لدى دبلوماسينا اتجاهاً ضاراً للتفاوض فيما بينهم بالنيابة عن السوفييت. وكل خيار متشدد للتفاوض تجري مناقشته داخل الحكومة الأمريكية يواجه بكورس من الاستهزاء على أساس (أن الروس لن يقبلوه أبداً). ثم تقوم أسراب من العاملين في وزارة الخارجية، بمساعدة أصدقائهم في الكونجرس وفي وسائل الإعلام، بالحث على تعديل موقفنا. حتى قبل أن نبدأ المفاوضات ـ حتى يصبح اقتراحاً أكثر قبولاً لدى الكرملين. وتلك حماقة تامة. ولا يجوز في أي وقت أن ندخل على اقتراحاتنا تعديلاً على أساس أن شروطها مقبولة أو غير مقبولة من وجهة نظر السوفييت، بل يجب أن يكون المعيار أنها مقبولة أو غير مقبولة من وجهة نظرنا.

والدبلوماسيون السوفييت يبدون مهارة مهنية تامة في حرب الخنادق السياسية التي تمثلها المفاوضات الأمريكية السوفييتية. وهم يحفرون مواقعهم ويتشبثون بها، ويحددون عشرات من الخطوط المحتملة للمجادلات باعتبارها تحصينات كلامية، ولا يتراجعون إلا بعد هجمات مواجهة متكررة من جانب الطرف الآخر. وحتى عند ذلك، يكون على جانبنا أن يستأصل مواقعهم واحداً بعد واحد، لأنهم عند تراجعهم في إحدى الجبهات يخلقون نقاطاً زائفة للنزاع في جبهة أخرى، لكسب تنازلات في جبهة ثالثة. والمفاوضون السوفييت من أكفأ المفاوضين في العالم. وهم بغير شك قادرون على الدفاع عن المصالح السوفييتية. وليست بنا حاجة إلى مساعدتهم في ذلك بتقديم تنازلات مسبقة من جانبنا.

وإذا كان موقفنا قوياً ومنطقياً وجب أن نتسمك به. وقد كتب جوزيف جالوواي الذي عمل مراسلاً صحفياً لفترة طويلة في موسكو يقول: (ينبغي لك أن تحدد مسبقاً أغراضك ومسلكك بوضوح وقوة منذ البداية، ثم تتمسك بذلك الخط بكل ما تملك من عزم وإصرار. وإذا أنت تخليت عن أبسط شيء من مبادئك، فسوف تقنع الطرف الآخر بأن هناك فرصة على الأقل لأن تتراجع في المبادئ الأكبر. ويكفي ذلك ليستمر الروس في الضغط عليك إلى ما لا نهاية).

ويجب أن يتعلم مفاوضونا أن يضعوا مصالحنا العامة فوق رغبتهم في الوصول إلى اتفاق. ومبادرة الدفاع الاستراتيجي مثال على ذلك. فبين موظفي وزارة الخارجية هناك مطالبة مستمرة بضرورة تقديم بعض التنازلات للسوفييت بشأن مبادرة الدفاع الاستراتيجي؛ من أجل الوصول إلى اتفاق بشأن الصواريخ النووية. وهم يعاملون مبادرة الدفاع الاستراتيجي كما لو كانت إحدى مشاكلنا. والواقع أنها مشكلة بالنسبة لموسكو. ولا يجوز لنا أن نفرك كفينا ونتساءل عما نفعله بشأن مبادرة الدفاع الاستراتيجي، بل ينبغي أن نرتاح في مقعدنا، ونسأل السوفييت عما يعتزمون أن يفعلوه بصدد تفوقهم في الأسلحة النووية الاستراتيجية، وهي السبب في أننا نلجأ إلى مبادرة الدفاع الاستراتيجي. ويجب أن تكون القاعدة الأساسية التي نتبعها، ألا نعطي شيئاً بدون الحصول على شيء مقابله. ولا يجوز أبداً أن نسمح للسوفييت بالركوب بالمجان. وإذا نحن بعثرنا التنازلات يميناً ويساراً من أجل كسب حسن النوايا من جانب موسكو، فإن السوفييت سيقومون بجمع قطع النقد الصغيرة ويطلبون المزيد. وقد عبر أحد المفاوضين الأمريكيين ذوي الخبرة عن ذلك بقوله إن السوفييت نادراً ما يدفعون ثمن الخدمات التي قدمت لهم بالفعل.

ـ الحديث بالليل والتصرفات الحازمة. إن معسول الحديث الدبلوماسي يمكن أن يحقق بعض المكاسب محلياً، ولكنه لا يمكن أن يفيد في الخارج. والسوفييت أساتذة في الخداع. وأي لاعب من لاعبي البوكر يعرف أن من يستخدم أساليب الخداع يمكن عادة أن يكتشفها إذا استخدمها اللاعب الآخر. وأفضل طريق للتعامل مع السوفييت هو حديث الليل والتصرف القوي.

ـ عدم إتاحة الفرصة للتنبؤ سلفاً. يميل دبلوماسيونا إلى وضع أوراقهم على المائدة قبل الإطلاع على أوراق السوفييت. ويجب ألا تغيب عن بالهم القاعدة الذهبية للدبلوماسية عند التعامل مع السوفييت: افعلوا بهم ما يفعلونه بكم. وغورباتشوف أستاذ في الإقدام على الحركة المفاجئة. ويجب أن يكون موقفنا موقفاً يتعذر التنبوء به، شأننا شأنه. فإذا نحن تعلمنا أن نجمع بين اللهجة الهادئة والعمل القوي، وأن نستخدم حركات الالتفاف، والربط بين الموضوعات، والقوة الاقتصادية، والإصرار على المساومة، وعدم إتاحة الفرصة للتنبؤ بمواقفنا، نستطيع أن نحل على الكثير من جانب السوفييت فيما يتعلق بالتجارة والحد من الأسلحة والقضايا الأخرى. لكن مهمة التفاوض مع موسكو تقف عند هذا الحد، فهي تتطلب أن تبحث الولايات المتحدة بعناية مدى امتثال موسكو للاتفاقات المبرمة. ويعني ذلك قبل كل شيء أن جميع الاتفاقات يجب أن تكتب مع بيان واضح للغاية بإجراءات التحقق الكامل منها. ونحن قد تعلمنا مما حدث بالنسبة لاتفاقيتي سولت الأولى وسولت الثانية أن السوفييت سوف يستغلون بلا رحمة أبسط ما فيها من ثغرات.

ويجب أن نعرف أيضاً أن السوفييت سوف يستفيدون بأي اتفاق إلى حدوده القصوى. فهم سيفعلون كل ما هو مسموح به، وكل ما يستطيعونه فوق ذلك، وعلينا أن نرد بالمثل. فأولئك الذين يزعمون أن اتفاقية سولت الأولى سمحت للاتحاد السوفييتي بأن يسبق الولايات المتحدة في مجال الأسلحة الاستراتيجية يخطئون الجهة التي يوجهون إليها اللوم. فنحن قد تخلفنا في الأسلحة النووية الاستراتيجية لا بسبب الاتفاقية، بل لأننا لم نفعل كل ما تسمح به الاتفاقية. وقد كانت هناك مجموعة كاملة من البرامج الاستراتيجية ـ قاذفة القنابل بي1، والصاروخ ام اكس، والغواصة ترايدنت ـ يجري العمل فيها عند توقيع اتفاقية سولت الأولى. ولكن الكونغرس خفض الاعتمادات الخاصة بها في منتصف السبعينات، وألغت حكومة كارتر بعض تلك البرامج، ومدت الأجل الزمني لنشر بعضها الآخر. ولو أننا فعلنا كل ما سمحت لنا به اتفاقية سولت الأولى، لما انفتحت نافذة تعرضنا للخطر بأي حال.

وبالإضافة إلى ذلك لا يجوز أن نضع مسألة انتهاك السوفييت لاتفاقات الحد من الأسلحة على الموقد الخلفي، بينما تستمر المفاوضات الأخرى في طريقها. وكان الرئيس ريغان على حق عندما تمسك بأن تتخذ الولايات المتحدة خطوات مناسبة لمواجهة الانتهاكات السوفييتية. ومادام السوفييت قد خرجوا على السقوف العددية لاتفاقية سولت الثانية، ينبغي للولايات المتحدة أن تفعل المثل. وماداموا قد نشروا عدداً من الصواريخ الجديدة أكثر مما تسمح به اتفاقية سولت الثانية ينبغي أن نستمر في نشر كل من صواريخ ام اكس وميدجتمان. ومادام السوفييت يخفون قدرات صواريخهم ومواعيد إجراء تجاربها، يجب أن نفعل الشي ذاته.

ويجب أن نتمسك في مفاوضاتنا بتسوية مسألة الامتثال قبل إبرام اتفاقات جديدة. وليس ذلك مجرد إجراء دبلوماسي، بل يجب أن نؤكد لمن يستبعدون هذه المسألة بدأب وإصرار، أنها تؤثر في آخر الأمر على أمننا القومي. ويجب في الوقت ذاته أن نوضح للكرملين بلا كلل أنهم إذا رفضوا معالجة مسألة انتهاك الاتفاقات السابقة، فلن تكون هناك وسيلة ليصدق مجلس الشيوخ على الاتفاقات المقبلة، ولا ينبغي له ذلك. وإذا نحن تمسكنا بهذا الموقف سيستجيب له السوفييت في نهاية المطاف.

ومن يعارضون فكرة التفاوض مع موسكو يعارضون أيضاً فكرة عقد لقاءات القمة ين الدولتين العظميين. ففي رأيهم أن اجتماعات القمة فيها جميع عيوب المفاوضات عموماً، بالإضافة إلى أن السوفييت يستفيدون منها فائدة لا تتناسب مع ما نجنيه من ورائها. فاجتماعات القمة، مع ما يصحبها حتماً من أنخاب الشمبانيا والمجاملة الدبلوماسية، تضفي طابع الشرعية على زعماء الكرملين في أعين العالم، بالرغم من السياسات الوحشية التي يتبعونها في مناطق نائية مثل أفغانستان.

وذلك رأي مفهوم، بخاصة على ضوء سجلنا الضعيف في اجتماعات القمة. وكثيراً ما رأينا رئيساً أمريكياً تستحوذ عليه فكرة أنه إذا تعارف هو وزميله السوفييتي أحدهما على الآخر، ونجح في إيجاد لهجة أو روح جديدة في علاقاتهما، فإن المشاكل الأمريكية السوفييتية سوف تحل، وأن التوترات ستتراخى. وأدى ذلك إلى (روح) جني التي أشيد بها في 1955، وكامب ديفيد في 1959، وفيينا في 1961، وجلاسبورو في 1967، ثم في جنيف مرة أخرى في 1985. ولكن إذا كانت هذه (الروح) قد حسنت جو العلاقات الأمريكية السوفييتية، فإنها لم تفعل شيئاً لحل القضايا الأساسية المعلقة. وعندما تكون القمة كلها روحاً بلا محتوى، فإن الروح سرعان ما تتبخر.

ونحن بحاجة إلى أن نواجه الحقيقة الصلبة القائلة بأن الروح واللهجة لا تجديان إلا عندما يحدث سوء تفاهم بين قادة بلدين بينهما مصالح متمائلة أو متقاربة، ويمكن أن يحل إذا تعرف أحدهما بالآخر. ولكن مثل هذه العوامل الزائلة لا تجري عندما تكون بين الدول خلافات مستعصية، كما هو الحال بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي.

ولكن ليس معنى ذلك أن اجتماعات القمة الأمريكية السوفييت لا تفيد. فاجتماعات القمة يمكن أن يكون لها أثر حاسم في خدمة السلام. ولكنها لا تسهم في إيجاد تحسن حقيقي في العلاقات بين الشرق والغرب إلا إذا سلم الزعيمان بأن التوترات بين بلديهما ليست نائشة عن سوء تفاهم، بل نابعة من مصالح إيديولوجية وجبوبوليتيكية على طرفي نقيض. ومعظم خلافاتنا لن تحل أبداً. ولكن للولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي هدفاً أساسياً مشتركاً: هو البقاء على قيد الحياة. وكل منهما يمسك بمفتاح بقاء الآخر على قيد الحياة. والغرض من اجتماعات القمة وضع قواعد الاشتباك الكفيلة بأن تمنع خلافاتنا الجوهرية من أن تفضي إلى نزاع مسلح، يرجح أن يؤدي إلى تدميرنا معاً.

وينبغي أن نسلم بأنه رغم مرور أربعة وأربعين عاماً من السلام، مازال اندلاع حرب عالمية أمراً ممكناً. وهناك سبعة أسباب كامنة، بعضها شديد الخطر، وبعضها أقل خطورة، لاحتمال نشوب هذا النزاع: 1ـ أن تتخذ القيادة السوفييتة قراراً محسوباً بتوجيه الضربة الأولى إلى الولايات المتحدة. 2ـ قيام قوات حلف وارسو بهجوم على قوات حلف الأطلنطي، أو قيام الاتحاد السوفييتي بمهاجمة اليابان. 3ـ نشوب الحرب بطريق الخطأ، كأن يشن أحد الجانبين هجوماً نووياً بسبب عطب آلي. 4ـ الانتشار النووي، الذي يمكن أن يضع الأسلحة النووية في يد زعيم دولة ثورية صغيرة أو دولة إرهابية تكون أقل ضبطاً للنفس في استخدامها عن الدول الكبرى. 5ـ قيام السوفييت بضربة وقائية لتصفية الترسانة النووية الصينية، وهي حرب ستنجر إليها الولايات المتحدة بصورة حتمية. 6ـ تصاعد الحروب الصغيرة في المناطق التي تتصادم فيها مصالح كل من الدولتين العظميين، مثل الشرق الأوسط والخليج الفارسي. 7ـ خطأ في الحساب، ينتقص فيه زعيم إحدى الدولتين العظميين من إرادة قرينه على اتخاذ المخاطرة المطلقة اللازمة للدفاع عن مصالحه.

وللولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي مصلحة متبادلة في إنقاص الأخطاء والأضرار المتمثلة في جميع هذه الاحتمالات السبعة. ويمكن لاجتماعات القمة بين الدولتين العظميين أن يكون لها دور بناء في تخفيف كل من هذه الاحتمالات. إذا عقدت تلك الاجتماعات على نحو سليم، فإنها يمكن أن تيسر التعاون اللازم لإنقاص خطر نشوب الحرب بطريق الخطأ، والحد من انتشار الأسلحة النووية. كما أنها تعتبر وسيلة للكشف عن عزمنا على مقاومة العدوان السوفييتي على المصالح الغربية، وبذلك تقل احتمالات قيام موسكو بوضع إرادتنا وعزمنا موضع الاختبار.

واجتماعات القمة توفر لأي رئيس أمريكي مجموعة فريدة من الفرص والتحديات. ففي القمة تتاح له فرصة التعجيل بالمفاوضات الدائرة بين الموظفين الأمريكيين والسوفييت بسرعة السلحفاة. كما أن هذه الاجتماعات هي البوتقة التي يمكن فيها تدعيم الربط بين شتى القضايا الأمريكية والسوفييتية. وهي المحفل الذي يقوم فيه قرينه السوفييتي بضبط نظرته إلى الولايات المتحدة ـ سواء كان ذلك للأفضل أو للأسوأ. ولكن لاجتماعات القمة أيضاً مخاطرها. فالرئيس يمكن أن يقع في شرك دبلوماسي ينصبه السوفييت، أو يمكن أن يستخدم عن غير قصد لهجة في العلاقات الأمريكية السوفييتية تؤدي إلى نشر موجة من التفاؤل المفرط بين الجمهور بشأن إمكانات الوصول في آخر الأمر إلى إنهاء الصراع بين الدولتين العظميين، وهو تفاؤل ربما تنتج عنه آثار ضارة.

وخلال السنوات الاثنتين والأربعين التي قضيتها في الحياة العامة، أتيح لي أن أشاهد تسعة اجتماعات للقمة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي. وشاركت كرئيس في ثلاثة منها. وعندما أنظر إلى الخلف إلى ما حققناه من نجاح وما وقعنا فيه من فشل، أعتقد أن الرئيس المقبل ينبغي أن يضع نصب عينيه عند ممارسة اجتماعات القمة خمس قواعد أساسية، وهي:

لا تتوقعوا أن تؤدي العلاقات الشخصية الطيبة مع أحد الزعماء السوفييت إلى إيجاد علاقت أفضل بين الدولتين. فليس هناك وهم أخطر من الاعتقاد بأن رئيساً أمريكياً ذا جاذبية شخصية، يستطيع أن يغري قرينه السوفييتي بالتخلي عن السياسات العدوانية في مختلف أنحاء العالم. فالزعماء السوفييت خبراء في اللعب على هذا الوهم الأمريكي. وقد أدرك هذه اللعبة مانليو بروزيو الذي كان سفيراً لإيطاليا في موسكو لمدة ست سنوات. وقد قال لي في عام 1967: (أنا أعرف الروس. فهم كاذبون ومخادعون مهرة، وممثلون بارعون، ولا يمكن الثقة بهم، فهم يعتبرون من واجبهم أن يخدعوا ويكذبوا).

وقد وقع جميع الرؤساء الأمريكيين تقريباً، بدءا من فرانكلين روزفلت، في وقت من الأوقات ضحية للاعتقاد بأن وجود علاقة شخصية متميزة مع الزعيم السوفييتي يمكن أن ييسر تحقيق نجاح دبلوماسي يمكن بدوره أن يعمل على تهدئة العلاقات الأمريكية السوفييتية. وقد شعروا جميعاً بخيبة أمل شديدة عندما رأوا الاتحاد السوفييتي يشرب الأنخاب معنا بيد، ويطعننا في الظهر باليد الأخرى. ولا بد لنا من إدراك أن الطريق إلى الكوارث الدبلوماسية ممهد بالنوايا الساذجة.

وليس معنى ذلك أن الدبلوماسية الشخصية ليست مجدية. إذ لا غنى عنها في كيمياء القمة. ولكنها إذا لم تعامل بحساب يمكن أيضاً أن تنفجر في وجهنا. يجب أن نتعلم أن العنصر الجوهري ليس الصداقة العاطفية، بل الاحترام المتبادل القائم على أساس متين. ولن يكون الرئيس الأمريكي بحاجة إلى إثبات رجولته بالخبط على صدره، وترديد عبارات شديدة في وجه السوفييت. على العكس ينبغي له أن يلتزم بموقف جاد وعملي في المفاوضات، وأن يمنح الزعيم السوفييتي الاحترام المتبادل لزعيم دولة عالمية عظمى. ولكن ينبغي للرئيس في الوقت ذاته ألا يغفل عن أن ما يفصل بين الجانبين هي خلافات مستعصية، لا يمكن التغلب عليها عن طريق الدبلوماسية الشخصية بين الزعيمين.

وفي التعامل مع غورباتشوف، من المطلوب بصفة خاصة أن يحتفظ الرئيس بموقف واقعي بشأن دور الدبلوماسية الشخصية، فغورباتشوف أستاذ في السحر الشخصي. وفي أحاديثه الصحفية نجح في تحويل بعض أشد الصحفيين الأمريكيين مراساً إلى جراء تتسمح به. ولكن ينبغي أن ندرك أن غورباتشوف، بوصفه خبيراً في السحر لن يتأثر هو نفسه بالسحر. فهو يعرف جميع الألاعيب لأنه استخدمها بنفسه مئات المرات. وإذا حاول أحد الرؤساء أن يسيطر عن طريق السحر فلن يجني الصداقة بل السخرية.

لا تتصوروا أنه حتى لو عقدت قمة ناجحة فإنها ستجلب السلام الدائم. تميل اجتماعات القمة الناجحة إلى خلق توقعات مسرفة في التفاؤل، ولكن لا يمكن لأي اجتماع واحد بين الزعماء الأمريكيين والسوفييت أن يحوّل العالم ويضع نهاية للتنافس الأمريكي السوفييتي. والتفاؤل المفرط وهم تتولد عنه خيبة أمل، وينتج عنه ضعف العزيمة. والواقع أن الآمال الطوباوية تضر بالولايات المتحدة وبحلفائنا. ومن الأغراض التي يسعى إليها الاتحاد السوفييتي أن ينشر التفاؤل المفرط بشأن تحسن العلاقات الأمريكية السوفييتية، لأن ذلك بدوره يسهل زيادة التجارة بين الشرق والغرب، وإنقاص النفقات الدفاعية للغرب. فإذا نحن سمحنا بهذا التفاؤل المفرط، أو شجعناه، لن يحصل زعماء الكرملين فقط على ما يريدون بل سيحصلون عليه أيضاً بثمن مخفض. ولا يجوز أن نقع في خطأ الاعتقاد بأن استعداد غورباتشوف لتخفيف التوتر يعني أنه تخلى عن الاهتداء في كل حركة بمصالحه الذاتية.

عندما كنت رئيساً، كنت على إدراك تام بأن اجتماع القمة الذي عقدناه وحقق نجاحاً كاملاً، يمكن أن يثير توقعات متفائلة إلى حد الإفراط بين صفوف الشعب الأمريكي. ورغم أني كنت أستفيد سياسياً من هذا التفاؤل، فقد حاولت أن أخفف منه وأن تكون نظرتنا إلى نجاحنا واقعية. وقد فعلت ذلك على الأخص لأن بريجنيف أكد لي مراراً أن تخفيف التوتر لن يؤدي إلى إنهاء التأييد السوفييتي لما أسماه حروب التحرر الوطني في العالم الثالث. وفي كلمة أدليت بها أمام اجتماع مشترك لمجلسي الكونغرس عقب عودتي من موسكو مباشرة، ذكرت صراحة أننا (لم نجلب معنا من موسكو الوعد لسلام فوري، ولكننا جلبنا بالفعل بداية لعملية يمكن أن تفضي إلى سلام دائم). وأضفت: (إن الإيديولوجية السوفييتية مازالت تعلن العداء لبعض القيم الأمريكية الأساسية. ومازال القادة السوفييت متمسكين بتلك الإيديولوجية). وقد تبين أن كلماتي لم تكن كافية. فعلى الرغم من تحذيراتي، اندلع التفاؤل المفرط في الكونغرس وفي وسائل الإعلام. ولم تأخذني الدهشة عندما تصرف الشيوعيون كشيوعيين في الشرق الأوسط في 1973. لكن ذلك كان بمثابة صدمة لكثير من الأمريكيين الذين تصوروا أننا دخلنا عصراً جديداً من السلام وحسن النوايا. ومن المؤسف أن التفاؤل المفرط لم يتبدد تماماً إلا بعد أن قام السوفييت بغزو أفغانستان في 1979.

وبعد قمة واشنطن التي عقدت في ديسمبر 1987، اجتاح العاصمة التفاؤل المفرط من جديد. وكان الخطاب التي وجهه الرئيس ريغان بعد اجتماع القمة إلى الشعب الأمريكي متوازناً. ويتضمن تقديراً يتسم بالمسؤولية التامة للعلاقات الأمريكية السوفييتية. لكن بعض المسؤولين في الحكومة غذوا نيران التفاؤل المفرط، وتوقعوا حدوث تقدم سريع في القضايا المعقدة، وتحدثوا عن بزوغ عصر جديد في الشؤون العالمية. وهذا النوع من العبارات المبالغ فيها يضعف موقفنا التفاوضي عن طريق إثارة الآمال داخل بلدنا. وينبغي لجميع الرؤساء المقبلين الذين يشتركون في اجتماعات القمة ألا يتركوا العنان للعاملين معهم.

ولا يجوز أن يغيب عن بالنا أنه ليس هناك اتفاق يوقع في القمة يمكن أن يزيل خطر العدوان السوفييتي. وأقصى ما يمكن تحقيقه هو إنقاص احتمالات تصاعد ذلك الخطر وتحوله إلى نزاع مسلح. وإذا كان علينا أن نسعى إلى اتفاقات تحقق مصالحنا، فيجب ألا نتصور أن أي اتفاق يمكن أن يغير طبيعة النزاع الأمريكي السوفييتي، أو الطابع العدواني لنوايا الكرملين العالمية.

لا يجوز الذهاب للقاء قمة (متعجل) بغير تحضير كاف. وقبول دعوة لعقد اجتماع للقمة بغير تحضير كاف هو بمثابة قبول دعوة لكارثة دبلوماسية. فموسكو تستفيد من هذا النوع من الاجتماعات لأنها تستطيع أن تستثمر الدعاية المحيطة بالاجتماع بدون تقديم أية تنازلات موضوعية. فبمجرد الإعلان عن اجتماع قمة متعجل تنشأ التوقعات التي تولد آمالاً غير واقعية. وعندما يقشل الاجتماع ـ وهو ما يحدث حتماً ـ فإنه يخلق مخاوف غير واقعية وشعوراً بخيبة الأمل. وإذا كانت مثل هذه الاجتماعات تفيد سياسياً في الأجل القصير، فإنها تؤدي في الواقع إلى الإضرار بنا، كما تضر باحتمالات تحسين العلاقات الأمريكية السوفييتة في المدى الطويل.

وكان ينبغي أن نتعلم هذا الدرس من خبرتنا باجتماعات القمة خلال الستينات. فبعد اجتماع القمة الذي عقد في فيينا في 1961، كتب بعض الصحفيين من أشد مؤيدي الرئيس أن خروتشوف تفوق بشكل ظاهر على كيندي الذي لم يكن مستعداً على الإطلاق، وكان لا يزال يرزح تحت عبء فشله في خليج الخنازير وفي برلين. وأضاف اجتماع القمة إلى فكرة خروتشوف الخاطئة أن كيندي رئيس ضعيف، وشجعه ذلك على اتخاذ القرار بتنفيذ مغامرته التي أوشكت أن تكون قاتلة بنصب الصواريخ في كوبا في السنة التالية. وفي اجتماع القمة المتعجل الذي عقد في جلاسبورو في 1968، لم يحقق جونسون شيئاً غير المساعدة على أن ينسى العالم الغزو السوفييتي الوحشي الذي كان قد وقع في تشيكوسلوفاكيا منذ أمد قريب.

والاجتماع الذي عقد في ركيافيك في 1986 نموذج صارخ لما لا يجوز اتباعه في اجتماعات القمة. ولم يحدث في أي وقت سابق أن تعرض مثل هذا القدر من القضايا للخطر بمثل هذا القدر من التدبر السابق. وفي أحد الاجتماعات مع غورباتشوف، تفاوض الرئيس ريغان فعلاً في شأن إزالة لا الصواريخ التسيارية عابرة القارات وحدها، بل أيضاً جميع الأسلحة النووية الأخرى على أساس قطعة ورق شخبط عليها أحد مساعديه بعض النقاط لاستخدامها في الحديث. ولولا أن الرئيس رفض بعناد أن يتخلى عن مبادرة الدفاع الاستراتيجي، وهذا مما يحسب لصالحه تماماً، فربما كانت الولايات المتحدة قد تخلت عن جوهر الاستراتيجية الدفاعية للغرب ـ وبدون ان تتشاور مع حلفائها أو حتى مع رؤساء الأركان المشتركة. ومن المفارقات أنه رغم عدم نشر أي سلاح نتيجة لمبادرة الدفاع الاستراتيجي، فإنها أنقذت الغرب بالفعل من الكارثة ولو لمرة واحدة.

وفي النهاية، فإن اجتماع القمة الذي لم يتم الإعداد له في ريكيافيك، لم يحقق شيئاً من زاوية المصالح الغربية. فهو أولاً: سمح للسوفييت بتهدئة أثر ما فعلوه منذ أمد قريب من خطف الصحفي الأمريكي نيكولاس دانيلوف. وثانياً: سمح الاجتماع لغورباتشوف بأن يصور مبادرة الدفاع الاستراتيجي على أنها العقبة الأساسية في سبيل الوصول إلى اتفاق شامل للحد من الأسلحة. وثالثاً: إن الأحاديث المرسلة التي دارت فيه عن إزالة الأسلحة النووية بعثت موجات من الفزع في كافة أنحاء الغرب. ولم يحدث منذ أيام يالطا أن هدد أحد اجتماعات القمة مصالح الغرب بقدر ما هددها هذان اليومان في ريكيافيك. ويكاد يكون من المؤكد أن أية قمة تعقد بدون تحضير دقيق سوف تتجه إلى إحداث كارقة.

لا تسمحوا بأن يكون الحد من الأسلحة الموضوع الرئيسي في جدول أعمال القمة. ففي اجتماعات القمة يجب على الرئيس أن يعطي وزناً مناسباً لجميع القضايا المرتبطة بالعلاقات الأمريكية السوفييتية. والواقع أن جدول أعمال القمة يجب ألا يتصدره الحد من الأسلحة، بل نقاط التفجر المحتملة في النزاعات الأمريكية السوفييتية. فليست الأسلحة في نهاية المطاف هي التي تشعل الحروب، بل الخلافات السياسية التي تفضي إلى استخدامها. وعدم توجيه اهتمام متصل إلى هذه الخلافات السياسية سيبعث إلى موسكو برسالة خاطئة. فزعماء الكرملين يراقبون أقرانهم في القمة عن كثب. واختيارنا للقضايا يعد مؤشراً: فالموضوعات التي نعكف عليها هي الموضوعات التي نعتقد بأهميتها. وإذا نحن تجنبنا إحدى القضايا سيفترضون أننا نطلق يدهم بشأنها.

والمنازعات القائمة في العالم الثالث هي أهم القضايا التي ينبغي إثارتها. وينبغي أن يدرك الزعماء السوفييت أنه ليس من المنطقي، ولا من الأخلاقي أن تقبل الولايات المتحدة والغرب العقيدة القائلة بأن للاتحاد السوفييتي الحق في تأييد ما يسمى حروب التحرر الوطني في العالم غير الشيوعي، بدون التمسك بحقنا في الدفاع عن حلفائنا وأصدقائنا الذين يتعرضون للهجوم، وتأييد حركات التحرر المناهضة للنظم الموالية للسوفييت في العالم الثالث. ونحن لا نستطيع واقعياً أن ننتظر من السوفييت أن يكفوا عن كونهم شيوعيون متمسكين بتوسيع نفوذهم وسيطرتهم، ولكن يجب أن نوضح على مستوى القمة أن المغامرات العسكرية ستؤدي إلى القضاء على فرص تحسين العلاقات بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، وبذلك نقضي على أية منافع محتملة تستطيع موسكو أن تجنيها من إنقاص التوتر.

وقد كان اجتماع قمة ريكيافيك في 1986، واجتماع قمة واشنطن في 1987 اجتماعين للحد من الأسلحة في المقام الأول. وقد نجح غورباتشوف في سعيه للحيلولة دون إحراز تقدم، بل ودون إجراء أي مفاوضات حقيقية، حول أي من القضايا الأخرى. وفي اجتماع القمة القادم، ينبغي للولايات المتحدة أن تتسمك بإعطاء أولوية متكافئة لأسباب الحرب، وللأسلحة التي يمكن أن تستخدم في شن الحرب. ولمحادثات الحد من الأسلحة أهميتها، ويمكن أن تحقق مصالحنا. ولكنها يجب أن تسير جنباً إلى جنب مع القضايا الأخرى في جدول الأعمال، ومرتبطة بها ارتباطاً صريحاً. فتخفيف التوتر الذي لا يستند إلا إلى الحد من الأسلحة، والذي يسمح للتوسع السوفييتي بأن يمضي بغير كابح، لن يؤدي إلى سلام حقيقي بل إلى آمال زائفة وتفاؤل لا أساس له.

لا تتفاوضوا مع تحديد موعد نهائي للمفاوضات. نحن نميل إلى ممارسة السياسة الخارجية في دورات تتألف كل منها من أربع سنوات. ويتطلع كل رئيس أمريكي إلى إعادة النظر في سياساتنا تجاه الاتحاد السوفييتي، وتسوية جميع المسائل المعلقة قبل الانتخابات الرئاسية التابعة. وهو رجل في عجلة من أمره، ومن الواضح أنه يتحرك وعينه على دقات الساعة. وزعماء الكرملين يدركون بوضوح مدى الضغط الذي يفرضه الوقت على الرئيس الأمريكي. وهم قادرون على استثمار ذلك بغير رحمة. ولذلك يجب أن يكون زعماؤنا أكثر واقعية فيما يأملون في تحقيقه. فلن يكون في وسع أي رئيس واحد أن يحل جميع القضايا. وليست هناك قضية واحدة سيحلها أي رئيس لنهاية الأزمان. ويجب أن نكون مستعدين في اجتماعات القمة للخروج بغير اتفاق إذا لم تكن الشروط موافقة. وأنه ليكون خطأ قاتلاً لأي رئيس أمريكي أن يتفاوض مع وضع موعد نهائي لانتهاء المفاوضات. فالموعد النهائي لمفاوضات غورباتشوف هو في نهاية الأمر نحو خمسة وعشرين عاماً.

لنقرر عقد اجتماعات قمة سنوية. إذا التزم أي رئيس أمريكي بهذه الخطوط الخمسة الأساسية يستطيع أن يسير قدماً بقدم مع أي زعيم سوفييتي في اجتماعات القمة. وينبغي أن يسعى، كجزء من استراتيجيته الشاملة للتفاوض، إلى إقرار عقد اجتماعات سنوية للقمة مع كبار قادة الاتحاد السوفييتي.

وللاجتماعات السنوية للقمة فائدتها لأسباب ثلاثة. الأول: أنه لما كان كلا الزعيمين يريد الوصول إلى اتفاقات موضوعية في القمة، فإن تحديد موعد لها يعطي حافزاً إضافياً للمفاوضات التي تتعثر على أيدي البيروقراطيين. وهذا أسلوب من أفضل الأساليب التي تضغط بها الولايات المتحدة على الجانب السوفييتي؛ ليتزحزح عن مواقفه التي يتشبث بها. وإذا كان لا يجوز السير في هذا الاتجاه إلى حد السعي لإبرام اتفاق لمجرد الوصول إلى أي اتفاق، أو التفاوض مع تحديد موعد نهائي للمفاوضات، فإن اجتماعات القمة السنوية المقررة سلفاً يمكن أن تساعد في الخروج من الطرق المسدودة التي تصل إليها المفاوضات.

والثاني: أن المناقشة المنتظمة للخلافات السياسية على أساس سنوي تقلل من احتمالات أن يخطئ أحد الزعيمين في تقدير رد فعل الزعيم الآخر. وستكون هناك فرصة واسعة لكل منهما لتوضيح موقفه، والكشف عن إرادته في الدفاع عن مصالحه. وإذا لم يكن أحد الزعيمين يميل شخصياً للآخر، فلا شك في أنهما سيفهمان بعضها البعض. وبالتالي فإن ذلك سيقلل من احتمال نشوب حرب لا يرغب فيها أحدهما نتيجة لخطأ في الحساب.

والثالث: أن وجود اجتماع مقرر للقمة سيكون كابحاً للتحركات العدوانية من جانب الاتحاد السوفييتي في فترة التحضير للاجتماع. فلن يكون بين الزعيمين من يريد أن يتهم بتسميم الجو قبل انعقاد القمة.

ربما يميل البعض إلى استخلاض أنه لا أمل في أن تقف دولة ديمقراطية على قدم المساواة في المفاوضات مع دولة دكتاتورية شمولية. ولكننا توصلنا بالفعل في الماضي إلى اتفاقات صائبة. فمعاهدة النمسا للسلام في 1955، ومعاهدة الحظر الجزئي للتجارب النووية في عام 1962، واتفاق برلين في 1971، ومعاهدة سولت الأولى في عام 1972، كانت تمثل كلها تقدماً ملحوظاً في العلاقات الأمريكية السوفييتية. ولكننا يجب أن نتذكر أن الاتفاق في كل حالة لم يكن نهاية للنزاع بين الدولتين العظميين، بل كان مجرد نحو بدء عملية للعيش مع النزاع المستمر.

وإذا نحن أدركنا حدود المفاوضات والتزمنا بالقواعد السليمة لإجرائها مع موسكو، نستطيع أن نحقق إنجازات مفيدة ـ هي في الواقع وضع قواعد للاشتباك والتنافس بغير حرب. ولا يجوز لنا أن نجري مفاوضات منعزلة عن الجوانب الأخرى للاستراتيجية الشاملة. ونحن لن نستطيع أن نتقدم بالمحادثات إلا إذا فعلنا كل ما يلزم للمحافظة على قدرة الردع، وعلى قدرتنا على المنافسة. فالتفاوض بدون المحافظة على قدرة الردع يؤدي إلى التساهل التدريجي والاستسلام. والتفاوض بدون الاستمرار في التنافس يؤدي إلى التسامح إزاء العدوان السوفييتي. أما إذا تعلمنا كيف نجمع بين الثلاثة ـ الردع ، والتنافس، والتفاوض ـ سنكون في وضع يتيح لنا الوصول إلى سلام حقيقي فيما وراء عام 1999.

------------------

هذا الكتاب يعبر عن رأي كاتبه

 

 

السابقأعلى الصفحة

 

 

الرئيسة

اطبع الصفحة

اتصل بنا

ابحث في الموقع

أضف موقعنا لمفضلتك

ـ

ـ

من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ