ـ

ـ

ـ

مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وقولوا للناس حسنا

اتصل بنا

اطبع الصفحة

أضف موقعنا لمفضلتك ابحث في الموقع الرئيسة المدير المسؤول : زهير سالم

الثلاثاء 01/01/2008


أرسل بريدك الإلكتروني ليصل إليك جديدنا

 

كتب

 

التعريف

أرشيف الموقع حتى 31 - 05 - 2004

ابحث في الموقع

أرسل مشاركة


الأرشيفات المكشوفة

الكتاب الأسود لوكالة الاستخبارات الأمريكية

تأليف: غوردون توماس

ترجمة وإعداد: بشير البكر

صدر حديثا في باريس عن دار “نوفو موند” كتاب حافل بالمعلومات حول جرائم وكالة المخابرات الأمريكية تحت عنوان “الكتاب الأسود للمخابرات الأمريكية” من تأليف الكاتب الفرنسي المتخصص في مجال الاستخبارات غوردون توماس. ومع ان الجرائم متنوعة فهو يجمعها في ثلاث: أولاها الاعتداء على حقوق الأشخاص سواء أكانوا أمريكيين أم أجانب (عبر وسائل متعددة وأسباب متعددة). والثانية تخص الدول والأمم الأجنبية، إذ خلال 60 سنة تدخلت الوكالة وغيرت المسار التاريخي في العديد من دول العالم. والمسألة الثالثة تتعلق بمبدأ المسؤولية التي تتعارض مع مبدأ الفعالية، وتتضمن هذه المسألة كل النتائح غير الإرادية، ولكن المُنْتَظَرة للحركات والعمليات السرية.

 

هو شي منه كان يعتبر في مارسيليا بطلاً لدى العمال

يورد الكاتب أنه في سنة ،1947 حذر السفير الأمريكي في فرنسا جيفيرسون كافري حكومته من أن النفوذ السوفييتي يمكن أن يتمدد بفضل الحزب الشيوعي الفرنسي وقلعته النقابية المنيعة CGT  (الكونفيدرالية العامة للعمل) وعبَّر السفير الأمريكي عن حزنه لأنّ المسؤولين النقابيين الذين يتصدون لسيطرة الشيوعيين على نقابة CGT ليسوا قادرين لأسباب مالية على تنظيم مجموعات معارضة فعّالة. وهكذا ففي سنة ،1947 وحين دعا الشيوعيون الفرنسيون إلى إضرابات ضد مشروع مارشال الأمريكي، قامت وكالة الاستخبارات بهجومات مضادة سرية. وهكذا “قامت، عن طريق الفيدرالية النقابية الأمريكية، بضخّ أموال للاشتراكي ليون جوهو Léon Jouhaux الذي قام بانشقاق، مع القوة العمالية Force ouvrière عن نقابة CGT التي كان يهيمن عليها حينها الحزب الشيوعي الفرنسي”. ويعترف جورج ميني George Meany رئيس الفيدرالية النقابية الأمريكية في ما بعد كيف أنّه موّل انشقاق النقابة التي كانت خاضعة للتأثير الشيوعي: “دفعنا لهم أموالا، أتينا لهم بأموال من النقابات الأمريكية، ونظمنا مكاتبهم وبعثنا لهم بالمعدات”. يبدو الأمر غريباً من كون الأمريكيين يمولون الاشتراكيين، ولكن المؤلف يرى أنه من بين القوى السياسية الثلاث التي كانت قوية آنذاك: الشيوعيون والديغوليون والاشتراكيون، كان الاشتراكيون الأقرب إلى الأمريكيين. يعلّق المدير السابق لقسم الشؤون الدولية في وكالة الاستخبارات الأمريكية على سياسة محاربة اليسار من خلال اليسار بقوله: “ كان الأمر من عمل جاي لوفيستون مساعد دافيد دوبينسكي في النقابة الدولية لعمال النسيج، وباعتباره زعيم الحزب الشيوعي الأمريكي فإن لوفيستون كان يعرف بشكل كامل عمليات التغلغل والاندساس في الخارج. في سنة 1947 قامت الكونفيدرالية العامة للعمل، وهي شيوعية، بإعلان إضراب أوشك أن يشُلّ الاقتصاد الفرنسي. فكان ثمة تخوف من استيلاء الشيوعيين على السلطة. في هذا السياق التاريخي تدخل لوغيستون ومساعده إيرفين براون. وبفضل الأموال التي قدمتها نقابة دوبينسكي تم إنشاء نقابة القوة العمالية، وهي نقابة غير شيوعية. وحين نضبت الأموال، تم الالتجاء إلى وكالة الاستخبارات الأمريكية. هكذا بدأ التمويل السريّ للنقابات الحرة، والذي انتشر بعد فترة وجيزة في إيطاليا. من دون هذا التمويل كان تاريخ ما بعد الحرب سيتخذ مساراً آخر مختلفاً”. وقد سمحت الأموال التي كانت تدفعها وكالة الاستخبارات، والتي تبلغ مليون دولار سنويا، للحزب الاشتراكي بتشكيل قاعدة انتخابية في الوسط العمالي. يورد الكاتب أن التظاهرات العمالية لم تكن عنيفة في باريس قياسا بمدينة مارسيليا، وبالفعل كان حيويا بالنسبة للسياسية الخارجية الأمريكية أن تكون مقبولة في هذه المدينة، رأس الجسر لإمدادات مشروع مارشال نحو أوروبا. وحين قام الناطقون الرسميون باسم الحزب الشيوعي الفرنسي بتحميل الاخوة غيريني Guérini مسؤولية العنف الذي تعرض له المستشارون البلديون، وكذا مقتل عامل من عمال تصنيع المعادن، لم يجد غاستون ديفير، وهو زعيم اشتراكي من مارسيليا، ما يقوله سوى أن “العلمين الأمريكي والبريطاني اللذين كانا يخفقان فوق بلدية مارسيليا تم اقتلاعهما من قبل العصابات الشيوعية، نحن الآن نعرف ما الذي يستطيع الشيوعيون أن يفعلوه”، وبعد أيام قليلة “قام النائب الشيوعي الفرنسي جون كريستوفول باتهام عصابة غيريني بكونها تدين بالولاء للحزبين الديغولي والاشتراكي في مارسيليا. وعلى الرغم من تكذيب ديفير للأمر، فقد قام نائب شيوعي آخر بتذكيره بأن قريباً من عائلة غيريني يشتغل مدير تحرير الصحيفة الاشتراكية “لوبروفونسال”. تمخض التعاون ما بين الاشتراكيين ووكالة الاستخبارات الأمريكية عن قيام هذه الأخيرة بإرسال عملائها ومتخصصيها في الحرب النفسية، الذين كانوا يتعاملون بطريقة مباشرة مع زعماء المافيا الكورسيكيين عن طريق الإخوان غيريني. وقد قدم العملاء الأمريكيون السلاح والأموال إلى العصابات الكورسيكية كي تستطيع تكسير الإضراب الذي كانت تقوم به نقابة العمال الشيوعية، وكذلك تهديد الزعماء النقابيين. ووصل الأمر إلى تصفية العديد من العمال. وهنا لعبت الحرب النفسية دورها الكاسح في زعزعة المطالب العمالية: “فقد كان متخصصو الحرب النفسية الأمريكيون يوزعون منشورات وملصقات وبرامج بروباغاندا في الإذاعات موجهة إلى العمال. ووصل الأمر بالحكومة الأمريكية إلى التهديد باستعادة حمولة 65000 كيس من الطحين مرسلة إلى مارسيليا إذا لم يوقف عمال الموانئ إضرابهم على الفور. وقد تسبب الفقر والعنف في إرغام عمال مارسيليا على وقف إضرابهم وهو ما فعله رفاقهم في مدن فرنسية أخرى”. وقد كانت النهاية “السعيدة” لإيقاف الإضراب تتمثل في أنه “في عشية أعياد الميلاد من سنة ،1947 وصلت 78 عربة قطار إلى محطة مارسيليا محملة بالطحين والحليب والسكر والفواكه. وكان وصولها وسط تصفيقات من قبل تلاميذ فرنسيين يحملون أعلاما أمريكية”.

خرج الإخوة غيريني أقوياء من هذا الموقف، أي تكسير الإضراب، وأصبحوا زعماء المافيا الكورسيكية. ولكن قوتهم ستزداد بأسا سنة 1950 مع إضراب عمّال الموانئ في مارسيليا، حيث أرسوا سيطرتهم على الموانئ. وقد “خلق تأثيرهم السياسي وبسط سيطرتهم على الميناء شروطا مثالية لتطوير مختبرات الهيروين في الوقت الذي كان فيه عرّاب المافيا الإيطالي الأمريكي لوكي لوشيانتو يبحث عن مورّدين جدد”. مارسيليا كانت منذ قرن “بوابة الشرق” وعبرها كان يعبر السلاح الموجه إلى الهند الصينية، أما “هو شي منه”، الذي شارك في تأسيس الحزب الشيوعي الفرنسي فقد كان يعتبر في مارسيليا بطلا لدى العمال. وفي يناير/ كانون الثاني من سنة 1950 قرر العمال مقاطعة السفن التي تنقل المعدات إلى أرض المعارك. وفي الثالث من شهر فبراير/ شباط من سنة 1950 نشرت النقابة العمالية المقربة من الشيوعيين بيانا يطالب بعودة الجنود من الهند الصينية لوضع حد لحرب فيتنام. وقامت بإضراب كبير قاطعت فيه كل ما له علاقة بالحرب. هنا تتدخل وكالة الاستخبارات الأمريكية لتقويض هذا الإضراب، بفضل مليونين من الدولارات قدمتهما وكالة الاستخبارات الأمريكية، قام إيروين براون، مسوؤل الفيدرالية النقابية الأمريكية، بإحضار عمال “صُفْر” (آسيويين) من إيطاليا قاموا بإفراغ الأسلحة القادمة من الولايات المتحدة ونجحوا في تكسير الإضراب، بينما كان النقابيون الفرنسيون مهددين جسديا بالتصفية.يرى الكاتب أن الاستخبارات الأمريكية من خلال منحها الأموال للمنظمات الكورسيكية سهّلت عمليات التهريب، وأصبحت المنطقة مختبر أمريكا للهيروين. أولى المختبرات افتتحت سنة ،1951 بُعيد شهور فقط من سيطرة المافيا على الميناء. أما الاشتراكي الفرنسي غاستون ديفير ومن خلاله الحزب الاشتراكي فقد خرجا منتصِرَيْن من إضرابات 1947 و،1950 وقد “ظلّ ديفير من سنة 1953 إلى سنة ،1986 تاريخ وفاته، عمدة مدينة مارسيليا. إذن فقد ساهمت الاستخبارات الأمريكية في نشر الهيروين والمخدرات في مارسيليا وفرنسا ومن خلالهما في العالم”. وبحسب تحقيق أجراه المكتب الفيدرالي الأمريكي لمحاربة تجارة المخدرات فإن كورسيكيي مارسيليا أصبحوا أكبر المموّنين للولايات المتحدة الأمريكية. لقد قاموا خلال خمس عشرة سنة بربط حقول الأفيون في تركيا بسوق نيويورك للهيروين. (...) في سنة ،1965 كانت عصابة مارسيليا تُديرُ خمساً وعشرين مختبرا تنتج شهريا ما بين 50 و150 كيلوجراماً. و”بارتيليمي غيريني، أكبر تجار الهيروين في مارسيليا، لم يتعرض أبدا للإزعاج، وعلى الرغم من أهميته في وسط المافيا في مارسيليا فقد كان محميا من طرف علاقاته السياسية. احتكر الإخوة غيريني تجارة الهيروين في مارسيليا خلال أكثر من عشرين سنة، فارضين منعاً كلياً على المتاجرة به في فرنسا. لكن في أواسط الستينات عرفت عائلة غيريني أفولها إثر أخذ بالثأر، وبسرعة توقف الحصار الذي كانوا قد فرضوه على المتاجرة المحلية بالهيروين، فاستطاع الفرنسيون أن يتذوقوا هيروين مارسيليا الشهير”.

 

الوكالة تحمي مجرمي الحرب النازيين

في 15 من شهر نوفمبر/ تشرين الثاني من سنة 1949 أصدرت فرنسا طلبا لإيقاف كلاوس باربي Klaus Barbie، المتهم من قبل المحكمة العسكرية في مدينة ليون الفرنسية ب”ارتكاب جرائم حرب”. ولكن هذا الشخص ثبت أنه يشتغل مع فرع مستقل عن المخابرات الأمريكية على الرغم من ماضيه، وهو مكلف بالصراع السري ضد الشيوعيين تحت أوامر فرانك فيسنير، وهو فرع سيتم إدماجه سنة 1952 في إدارة عمليات وكالة الاستخبارات الأمريكية. يقول الكاتب إنه من الصعب تصديق قيام الأمريكيين عشية الانتصار على النازية، أي سنة ،1945 بتجنيد قدامى المجرمين النازيين. لكن المعادلة مع كل هذا بسيطة جدا وهي أن الأمريكيين انتصروا على النازيين بدعم من السوفييت، ويمكن لهم الآن هزيمة السوفييت بمساعدة من قبل قدامى النازيين. “من هو الأفضل من هؤلاء، الذين هم في غالب الأحيان لا وظيفة لهم ولا مصدر عيش، من يُراكِم تجارب مهنية صلبة عن المعلومات الاستخبارية ويُراكم أيضا حقدا شرسا على الشيوعية؟” ويرى الكاتب أنه في نظر كبار المسؤولين الأمريكيين الذين لا يتقنون اللغة الألمانية ويجهلون التاريخ الأوروبي، ولا يعرفون كيف يمكن التعامل مع الامبراطورية السوفييتية. صحيح أن الرئيس ترومان وضع سنة 1945 قواعد لهذا التعامل مع النازيين السابقين، إذْ إنه استثنى المتحزبين العاديين واكتفى بمقاطعة “مجرمي الحرب الكبار”. وهو موقف ضبابي فيما يبدو من أول وهلة، ولكنه يسمح، وهنا مربط الفرس، ب”تجنيد عدد كبير من العلماء والمهندسين الألمان لوضعهم في خدمة الولايات المتحدة الأمريكية. في الحرب الباردة التي بدأت شراراتها تنطلق بين القوتين الكبيرتين، ليس من الوارد على الأمريكيين أن يتركوا في خدمة الروس هذه الأدمغة التي نقلت ألمانيا إلى مستوى متقدم من البحث في ميدان الصواريخ”. لا حدود “للعبقرية” الأمريكية حين يتعلق الأمر بالدفاع عن مصالحها، وليس أدل على هذا من تجنيد الجنرال رينهارد غيهلن Reinhard Gehlen وهو مسؤول سابق للاستخبارات الألمانية على رأس شبكة من “ألمان جيّدين” ظلوا في ألمانيا الديمقراطية وكانوا مستعدين للتجسس على الروس لمصلحة أمريكا. وعلى الرغم من تحفظات العديد من المسؤولين والضباط الذين حاربوا النازيين فإن وكالة الاستخبارات الأمريكية تبنت، ومنذ يوليو/ تموز ،1949 شبكة غيهلن والتي ستتشكل حولها وكالة الاستخبارات لألمانيا الفيدرالية الحديثة العهد. ولكن ما لم يتفطن له الأمريكيون أو يأخذوا له حسبانا هو أن الروس اخترقوا، ومنذ البدء، شبكة غيهلن وهو ما جرّ بعض الإخفاقات لعمليات سرية أمريكية لاحقة.كلاوس باربي إذن هو مجرم حرب من الدرجة الثانية مقارنة مع غيهلن، النازي المتوسط. باربي انخرط في المخابرات النازية من سنة 1933 في الشبيبة الهتلرية وانطلاقا من سنة 1940 وإلى 1942 اشتغل في امستردام وكُلّف التجسس على الأوساط الثقافية وعلى اليهود، سنة 1942 تم نقله إلى ليون الفرنسية رئيساً لقسم الاستخبارات النازية وأيضاً مديراً للغيستابو Gestapo وهناك لُقّب ب”جلاّد مدينة ليون” وقد اشتهر بتعذيبه وقتله للزعيم جون مولان Jean Moulin منسق المقاومة الداخلية الفرنسية، واشتهر أيضا بمداهماته الأولى للاتحاد العام ليهود فرنسا (فبراير/ شباط 1943). عند نهاية الحرب غادر ليون في أغسطس/ آب من سنة 1944 قبل سقوط المدينة، تاركا بزّته العسكرية الراقية ومتخفيا في ثياب جندي بسيط. اعتقلته القوات الأمريكية واستطاع الهرب ودخل في السرية. وبعد الكثير من عمليات التخفي يلتقي في فبراير/ شباط 1947 عميلاً سابقاً يدعى جوزيف مريك سبق له أن اشتغل معه في مدينة ديجون الفرنسية. مريك ينشّط شبكة مخبرين تشتغل لفائدة دائرة (مكافحة التجسس العسكري الأمريكي) وهي شبكة ستخضع سريعا لوكالة الاستخبارات الأمريكية. التحق باربي بهذه الشبكة واعترف لها بكلّ ماضيه النازي، وهو ما دفع دائرة مكافحة التجسس العسكري الأمريكي إلى أنْ تُسطر في شأنه تقريراً إيجابياً: “هو شخصٌ شريف، على المستوى الفكري والشخصي في آن واحد. إنّه نازي مثاليّ تعرضت أفكاره للخيانة من قبل نازيي السلطة”. هكذا أصبح باربي من الآن فصاعداً عميلاً أمريكياً وشخصاً بعيداً عن الشبهات. ولكن بعد تزايد الضغوط الفرنسية اضطر باربي إلى اللجوء إلى أمريكا اللاتينية. سنة 1951 استقر في بوليفيا وبدأ حياة تبدو هادئة واشتغل في إدارة الأعمال. هذا ما كان يبدو، ولكن الأمر كان يتعلق في حقيقة الأمر ب”شبكة من النازيين القدامى التي امتدت في كل أمريكا الجنوبية”. ولكن باربي لم يكن محظوظا، في كل حياته، إذْ تم اكتشافه من قبل الزوجين كلارسفيلد Klarsfeld صائدي النازيين القدامى في البيرو سنة ،1972 ولكنه استطاع الهرب. يبدو أنه استفاد في بوليفيا من حماية قوية، إذ إنه كان يتدخل كوسيط في عمليات شراء الأسلحة. وفي سنة 1980 حصل على بطاقة الأجهزة الخاصة البوليفية، وبدأ يدير جيشاً صغيراً من الفاشيين الجدد قدموا من العالم بأسره، وكان هذا الجيش الذي أطلق على نفسه اسم “خاطبو الموت”، يعمل، بالتناوب، مع الجيش ومع اتحاد تجار المخدرات. وفي سنة 1982 سقطت الطغمة العسكرية الحاكمة في لاباز ومع سقوطها سقطت الحماية عن باربي. وفي بداية سنة 1983 تمّ اعتقال باربي بتهمة ال”تهرب ضريبي”، وتم تسليمه إلى الحكومة الفرنسية التي كانت قد قدّمت مذكرة لتسلمه. “كان يتوجب الأمر انتظار ما يقارب الأربعين سنة لتسلم هذا المجرم”.مقابل الفوائد التي جنتها وكالة الاستخبارات الأمريكية من تجنيد هذا العميل، فإن أمريكا اللاتينية والديمقراطية خسرت الكثير. “بتجنيدها للعميل باربي لم تقم الولايات المتحدة الأمريكية فقط باعتراض وعرقلة العدالة في الكثير من الدول، بل ساهمت أيضا في زرع “بذور فاسدة” في كل أمريكا الجنوبية. وإذا كان التاريخ السري للنازيين القدامى المنفيين لدى العديد من الديكتاتوريات العسكرية ليس معروفاً بشكل كامل، فإنه من الراجح أن الكثير منهم، مثل باربي، ساعدوا هذه الأنظمة الديكتاتورية من خلال معرفتهم القمعية”.

 

الوكالة تقلب نظام مصدق في إيران

الكثير لا يعرفون أن ثمة ثلاثة أشخاص تحمل أسماء روزفيلت Roosevelt وكيرميت Kermit والجد ثيودور Théodore وأيضاً العم فرانكلين Franklin، ولكن كيرميت يظل هو اللغز الوحيد، في هذه العائلة، والتاريخ ظلمه، ضمن من ظلم، على الرغم من أنه كان “الشخصية المفتاح في العلاقات ما بين الولايات المتحدة الأمريكية والشرق الأوسط أثناء الحرب الباردة. الرجل المفتاح في وكالة الاستخبارات الأمريكية قبل أن يلتحق بالصناعة البترولية، وأصبح صديقا حميما لأمراء عرب، وأدار الأمور من وراء الستار في “اللعبة الكبرى” الشرق الأوسطية. ولكن الإنجاز الأكبر لكيرميت يظل هو “ضربة معلم” في إيران سنة 1953.

يكتب غوردون توماس: “في بداية سنوات الخمسينات بدأت الحركات القومية الإيرانية في البرلمان الإيراني تنتقد توزيع الريع النفطي، وانتهى الأمر بإعدام رئيس الوزراء الذي كان مواليا لبريطانيا سنة ،1951 وحلّ مكانه الزعيم الوطني محمد مصدق الذي قام بتأميم شركة النفط الإيرانية البريطانية. لم يتأخر موقف البريطانيين الذين ذهب بهم الغضب إلى درجة محاولة زعزعة مصدق، وبدأوا حصارا على صادرات النفط الذي يمنع البلد من عائداته. هنا قام الشاه، وهو مُوال للغرب، بإقالة مصدق، ولكن البرلمان الإيراني أعاده على الفور”.السياق التاريخي لم يعُدْ يُساعد بريطانيا على القيام بحركة سياسية كبرى ضد الزعيم مصدق: “بريطانيا التي خرجت من الحرب الكونية الثانية منهوكة القوى، يديرها زعيم كاريزمي ولكنه عجوز، ونستون تشيرشل، كانت على وعي بأنها لم تعد تهيمن على الوضعية، وبالتالي طلبت تدخل الولايات المتحدة الأمريكية”. الظروف الأمريكية كانت ملائمة، حسب المؤلف. فقد انتخب الأمريكيون رئيسا جديدا وهو إيزنهاور، الذي كان، على خلاف سابقه، متحمّسا لحركة سرية، لقلب مصدق، الذي كان من أنصار سياسة عدم الانحياز، وإذن فهو متهم، في المنظور الأمريكي، بالتعاطف مع الشيوعيين. من هنا جاء مشروع أجاكسAjax ، الذي صاغته وكالة الاستخبارات الأمريكية، ويروم “قلبا شبه قانوني” لمصدق من خلال التحكم والسيطرة على الرأي العام الإيراني وعلى البرلمان. وحين سيصل التذمّر إلى نقطة اللاعودة يقوم الشاه بخلع رئيس الوزراء ويكون قراره مدعوما ومُقوّى من قبل إضرابات وتظاهرات شارع “تلقائية”، وحينها سيتم استبدال مصدق بجنرال مُوال للغرب. ولكن الشاه لم يقبل على الفور وأظهر ترددا واضحا على الرغم من تطمينات المبعوث الأمريكي حينها وهو الجنرال نورمان شوارتزكوف Norman Schwartzkopf  (أب الجنرال الذي كان رئيساً لأركان الجيش الأمريكي في حرب العراق الأولى 1991).الرغبة الأمريكية في الإطاحة بمصدق إذن كانت واضحة. ولكن يبدو أن تصرفات ومواقف مصدق عجّلت من تصميم الأمريكيين على الحسم. إذ انه بدأ مفاوضات تجارية مع السوفييت لتعويض الحصار البريطاني. وهو “ما جعل منه حليفا للسوفييت في نظر الأمريكيين”.العملاء الإيرانيون لكيرميت روزفيلت طلبوا مبلغ 5 ملايين دولار لتنفيذ العملية. وعلى الرغم من شكوك مصدق في الأمر وعلى الرغم من هروب الشاه إلى إيطاليا فإن روزفيلت استطاع تجنيد وتحريك مضربين ومتظاهرين دُفِعت لهم أموال كبيرة كما استطاع استمالة قطاعات واسعة من الجيش، وكانت أول مرة تختار فيها الولايات المتحدة، باسم محاربة الشيوعية وفي تناقض مع سياستها، بطريقة مباشرة وشبه مفتوحة، قلب حكومة شرعية في بلد أجنبي، مؤثرة على تاريخه بشكل جذري. لكن العملية عادت بأهمية قصوى على الولايات المتحدة: إذ اعتبرت “نجاحاً كبيراً منح وكالة الاستخبارات الأمريكية مكانة المنظمة التي لا تقهر وأظهرت الرغبة في تجريب الأمر في مناطق أخرى ساخنة من الكرة الأرضية”. وما أن مُنح كيرميت ميداليات الاستحقاق على نجاحه في إيران حتى وجد على الطاولة قضايا تنتظر منه التدخل، مسلسل الانقلابات ها هو قد بدأ، طُلب منه على الفور تنفيذ انقلاب في أمريكا الوسطى. من الآن فصاعدا يكتب المؤلف: “سيسود نظام الشاه الموالي للغرب من هذه السنة إلى سنة ،1979 بفضل دعم اقتصادي وعسكري أمريكيين، وبالاعتماد على شرطة سريّة قاسية لا ترحم، كان مقتُ المواطنين لها يزداد يوما بعد يوم، والمهم في الأمر هو أن الاستغلال البترولي أصبح الآن في أيدي الأمريكان والبريطانيين، وبعد أن اطمأن الشاه إلى استتباب الأمر عاد من إيطاليا ونظم استعراضاً كبيراً جداً في شوارع طهران”. و”من بين الحشود كان ثمة رجل يبلغ الحادية والخمسين من العمر، يلقي نظرات حادة على الامبراطور، كان الأمر يتعلق بآية الله الخميني”.

 

ال “سي آي ايه” تطيح رئيس غواتيمالا وتغتال لومومبا

في مارس/ آذار من سنة 1951 تم انتخاب جاكوبو أربينز Jacobo Arbenz، الثوري السابق، وهو من الاتجاه الاجتماعي الديمقراطي، بمساعدة من الجيش ومن الحزب الشيوعي، رئيسا لجمهورية غواتيمالا على قاعدة برنامج إصلاح زراعي. مصطلح الإصلاح الزراعي يخيف الأمريكيين والغرب. والديمقراطية كانت فتية إذْ إن البلد تعوّد على فترات طويلة من الديكتاتورية الخانقة، وخصوصا طيلة النصف الأول من القرن العشرين، مع ديكتاتورين اثنين، هما مانويل استرادا كابريرا

Manuel Estrada Cabrera وخورخي أوبيكو كاستانيدا Jorge Ubico Castaneda. هذه الديكتاتورية تمثل ببساطة سيطرة أمريكية في زراعة الموز، من خلال العملاق الأمريكي “يونايتد فروت” الذي كان يمتلك استثمارات مربحة كبيرة ومعفاة من الضرائب.

يورد الكاتب أن الشعب الغواتيمالي استطاع سنة 1944 وبفضل تمرد شعبي تحويل البلد إلى ديمقراطية، بدستور قريب جدا من دستور الولايات المتحدة الأمريكية. في تلك الفترة كانت 70 في المائة من الأراضي الصالحة للزراعة في البلد يملكها أقل من 2،5 في المائة؛ وكان معظم المالكين لا يقيمون في البلد.

ما الذي دفع الأمريكان إلى التدخل في هذا البلد؟ بمجرد ما أن وصل إلى السلطة، سنة ،1951 حتى قرر الرئيس المنتخب أربينز، توزيع الأراضي على 100000 من أفقر مزارعي البلد. لكن لسوء حظ الرئيس أن برنامجه الإصلاحي كان يتضمن إعادة امتلاك “يونايتد فروت”، أكبر ملكية زراعية في البلد. اقترح الرئيس أن يشتري من هذه الملكية زراعاتها وخطوط سكة الحديد والتلغراف بمبلغ 600000 دولار، أي القيمة التي كشفت عنها الشركة للتخفيف من قيمة الضرائب. ولكن شركة “يونايتد فروت” أعلنت أن قيمتها الحقيقية تصل إلى 16 ملياراً من الدولارات. هذه الشركة لم تكن عزلاء، كيف لا وأحد مديري الاستخبارات الأمريكية، الجنرال والتر بيديل سميث Walter Bedell Smith، من بين أعضاء لجنة الإدارة. كما أن الوزير جون فوستر دالاس John Foster Dulles وأخاه ألين Allen Dulles اشتغلا مع الشركة حين كانا محاميين لدى سوليفان أند كْرومويل Sullivan and Cromwell، إذ هما اللذان تفاوضا مع الديكتاتور أوبيكو كاستانيدا على اتفاق سنة ،1935 الذي كان يميل كثيرا لمصلحة “يونايتد فروت”. وفي إطار البحث عن الذرائع، علمت الاستخبارات الأمريكية أنّ غواتيمالا حصلت على 2000 طن من المساعدات من تشيكوسلوفاكيا. كان الأمر يمثل “الدليل المثالي الذي كان ينقص وكالة الاستخبارات الأمريكية لإقناع الرئيس الأمريكي الجديد ايزنهاور بأن غواتيمالا، ثالث أكبر بلدان أمريكا الوسطى، يشكل خطرا داهما للعدوى الشيوعية في الفناء الخلفي للولايات المتحدة”.

أخيرا يقبل الرئيس ايزنهاور مسلسل الإطاحة بالنظام الديمقراطي الجديد في هذا البلد المحاط بالعديد من الديكتاتوريات الصديقة للولايات المتحدة. تم التمهيد للعملية “من خلال منح رشاوى لضباط في الجيش ومنشورات معادية للرئيس المنتخب ومعاهدات تحالف مع الهوندراس ونيكاراغوا... “.

يكشف لنا المؤلف أن الرجل المفتاح في هذه الحرب النفسية ضد الرئيس المنتخب لم يكن سوى إيفيريت هووارد هونت. الذي سنجده لاحقا، بعد عشرين سنة، يضع ميكرو التنصت في فضيحة ووترغيت. وعلى طريقة خليج الخنازير ضد الرئيس كاسترو، “في الرابع والعشرين من شهر مايو/ ايار من سنة ،1954 أقامت البحرية الأمريكية حصارا على غواتيمالا. وفي 18 يونيو/ حزيران، عبرت مجموعة من 150 إلى 200 من المرتزقة الغواتيماليين والنيكاراغويين والأمريكيين القادمين من الهوندوراس يقودهم الكولونيل كارلوس كاستيو أرماس، الحدود وزحفت على العاصمة.

يرسم الكاتب حالة التدخل الأمريكي، التي حملت اسم PBSUCESS ودور المخابرات الأمريكية: “البروباغاندا الأمريكية من خلال راديو وكالة الاستخبارات الأمريكية أقنعتْ الكثير من كبار ضباط الجيش بأن قوة كبيرة عددياً ستسحق الجيش النظامي، ودفعت رئيس القوة الجويّة إلى الهروب مصطحبا معه طياريه. الطريق إذن كانت سالكة أمام قصف طائرات وكالة الاستخبارات الأمريكية الذي أنهى حركة الجيش. في السابع والعشرين من يونيو استقال أربينز وهرب إلى المكسيك. تم الإعلان عن أرماس رئيسا للدولة ووضع حدا للإصلاح الزراعي”. وعلى طريقة الفارس الذي يحاول اختيار الجبناء والضعفاء في أرض المعركة وضربهم بأشد قواه من أجل إرهاب من هم أشد فتكا منه، كان غزو غواتيمالا فاتحة لما ينتظر دولا عديدة في أمريكا اللاتينية. “إن هذه العملية PBSUCESS تتأسس على تهديد شيوعي متخيل، يُفْتَرَض أنه على أهبة للزحف على القارة الأمريكية”.

                           

الوكالة تعيد استعمار الكونجو

الكونجو البلد الإفريقي الصاخب مصدر كل الأطماع، تعرض لكل الجرائم التي يمكن للاستعمار، أي استعمار، أن يقترفها في مسيرته الظافرة. وقد كتب السّير أرثير كونان دُويْل، وهو مؤلفّ كتاب هجائي غير معروف بشكل كبير، حول الجرائم والفظاعات التي اقترفتْ ما بين سنتي 1885 و1908 في “دولة الكونجو المستقلة”، المِلْكية الشخصية لملك بلجيكا والغنية بالثروات الطبيعية، ما يلي: “إن استغلال الكونجو هو أكبر جريمة ضد الإنسانية تمّ ارتكابها في تاريخ البشرية”. قبل أن يحصل هذا البلد على استقلاله سنة ،1960 أزهقت أرواح الملايين من سكانه. وما إن حصل الاستقلال حتى بدأت مختلف الفصائل الوطنية في التناحر ومن بينها الحركة الوطنية الكونجولية التي كان يقودها الزعيم الراحل باتريس لومومبا. الكونجو بلد مُحاط بتسع دول وهو ما جعل منه مسرحا للحرب الباردة ما بين أمريكا والاتحاد السوفييتي. وفي هذه الفترة، أي سنة ،1960 كان الأمريكيون متواجدين بل وسيستغلون مناجم الكوبالت (أي 75 في المائة من مؤونتهم) وأيضا الزنك والحديد والبوكسيت وهي معادن مهمة في ما يخص صناعتهم.

إن البلجيكيين ظلوا حاضرين على الرغم من استقلال البلد وذلك من خلال العديد من الشركات. “لقد حرصوا على ألا يفككوا استعمارهم وعلى ألاّ يُكوّنوا نُخَباً محلية قادرة على أخذ زمام الأمر، وهذا من أجل تأمين محافظتهم الفعلية على البلد”.

بدأ الصراع ما بين القبائل يوم الثاني من يوليو/ تموز، وفي الأيام القليلة التي تلت، قام قسم من الجيش بالتمرد على الضباط البلجيكيين. فقامت بلجيكا القلقة على مصالحها من تفجر الوضع بالضغط على رئيس الوزراء لومومبا للسماح لها بالتدخل عسكريا لحماية رعاياها ومصالحها الاقتصادية، وكجواب قرّر لومومبا إقالة رئيس أركان الجيش. وفي الثامن من يوليو ساعد الذعر في العاصمة التي كانت تسمى آنذاك ليوبولدفيل Léopoldville، فاضطرت السفارتان الفرنسية والبريطانية إلى إجلاء رعاياهما. وقررت بلجيكا تجاوز موقف لومومبا وأرسلت قواتها في العاشر من نفس الشهر. وفي 11 يوليو أعلن إقليم كاتانغا الغني استقلاله تحت حكم موويز تشومبي بإيعاز من بلجيكا. أما الأمم المتحدة فقد طالبت البلجيكيين بالانسحاب. وقام رئيس الوزراء بزيارة إلى الولايات المتحدة كليا للتدخل لوقف التدخل البلجيكي، ولكن الاستقبال الأمريكي كان فاترا خصوصا حينما هدد الأمريكيين بطلب المساعدة من السوفييت إذا رفض الأمريكيون. ويرى المؤلف أن ملف باتريس لومومبا كان قد حُسِم أمريكيّا. إذْ إنّ “ألين دالاس، رئيس وكالة الاستخبارات الأمريكية كان يرى أن باتريس لومومبا “اشتراه الشيوعيون”، في حين طالب الرئيس ايزنهاور ب “عمل صارم” ضده. وفي السادس والعشرين من أغسطس/ آب أعطى كولس الأمر لمجموعته في العاصمة ليوبولدفيل  “بتخليص الكونجو من رئيس وزرائها الأول. تم التفكير في إطلاق مشروع تسميم رئيس الوزراء: تم إرسال الدكتور سيدني غوتلييب وهو خبير كيماوي من وكالة الاستخبارات الأمريكية، إلى الكونجو لإيصال فيروس خاص بإفريقيا الوسطى، موجه لباتريس لومومبا. لكن السمّ لن يستخدم لأن الطاقم الأمريكي الموجود في عين المكان ارتأى أنه توجد وسائل أخرى لتصفية الرجل. وعثر ألان دالاس على الرجل القادر على الحلول محل لومومبا، وهو أحد مسؤولي الجيش: جوزيف موبوتو، “الرجل الوحيد في الكونجو القادر على إظهار نوع من الصرامة”. موبوتو كان صحافيا سابقا يتحدث اللغة الفرنسية جيدا (وهو تفصيل مهم بالنسبة لوكالة الاستخبارات الأمريكية، إذ لم يكن يوجد من أعضائها من يتحدث اللغة المحلية)، وأصبح مع حكم لومومبا كولونيلا. ومن بداية شهر أكتوبر/ تشرين الأول بدأت الاستخبارات الأمريكية تحول له الأموال: 250000 دولار وأسلحة. وفي شهر نوفمبر/ تشرين الثاني خسر لومومبا السلطة بعد صراع سياسي مع الرئيس الكونجولي كازافابو وموبوتو. فالتجأ إلى حماية القوات الدولية ثم اعتقلته قوات موبوتو في الثاني من ديسمبر/ كانون الثاني، وفي 17 يناير/ كانون الأول تم إعدامه. وجرى تذويب جثمانه بالحامض. ويقول الكاتب إنه “من الناحية التقنية لا دخل لوكالة المخابرات الأمريكية في اغتياله، ولكنها هي التي سلمت موبوتو المعلومات التي أتاحت له اعتقاله. بعد يوم فقط من هذه المؤامرة أصبح جون فيتزجيرالد كينيدي الرئيس 53 للولايات المتحدة الأمريكية. وقام موبوتو بتغيير اسم الكونجو إلى الزائير سنة ،1971 حيث أصبح البلد قاعدة مهمة لوكالة الاستخبارات الأمريكية، في حين تميّز موبوتو عن غيره من القادة باعتباره من أكثر الديكتاتوريين فسادا وأكثرهم دموية في القارة الإفريقية، إذْ إنه اختلس عدة مليارات من عائدات المناجم، كما قام بتصفية العديد من المعارضين. وكأن الأمريكيين عبروا عن بعض الندم من تعاملهم مع الرجل، إذ ها هو ألان دالاس يقول في حوار تلفزيوني: “إن الأمريكيين بَالَغُوا في تقدير تورّط الروس في الكونجو”.

 

المخدرات والتعذيب

ربما يجد القارئ تناقضا في هذا العنوان، إذْ إن المخابرات الأمريكية دورها يتمثل في محاربة المخدرات وليس في تجريبها وإشاعتها.

تَعَاقَب الكثيرون من المديرين على وكالة الاستخبارات الأمريكية، ولكن ريتشارد هيلمس يظل هو من تحمّل العبء الأكبر. تكاثرت الفضائح وتسربت في الصحافة، وعرف الناس الكثير من الجرائم التي ارتكبتها وكالة الاستخبارات الأمريكية، وتداخلت لكثرتها من فضيحة ووترغيت إلى تصفية رئيس تشيلي سلفادور أليندي.

هذا المدعو هيلمس تحمل كل تبعات وكالة الاستخبارات إلاّ ملفا واحدا. يتعلق الأمر ب MK Ultra وهو اسم كود لمجموعة من التجارب “العلمية” قامت بها الوكالة ما بين سنتي 1953 و1964 تحت إدارة ألان دالاس. يدخل بنا المؤلف في استعراض للبشاعات التي اقترفتها هذه الوكالة: “الدكتور سيدني غوتييب الذي أشرف على هذه التجارب كان رئيسا للقسم التقني في وكالة الاستخبارات الأمريكية، الذي كان يطلق عليه “حانوت الفظائع”. ثم يرسم الكاتب بورتريها في غاية الغرابة والطرافة لهذا المسؤول والباحث: “ولد في نيويورك سنة ،1919 تلقى تعليما في الكيمياء وأصبح رئيسا لعلماء الوكالة، ويسكن مزرعة خارج واشنطن. كان يبدو أبا جيدا مع أبنائه الأربعة، ويقوم بتربية ماعز ويزرع صنوبر أعياد الميلاد. كل صباح، وبعد أن يغادر قطيع الماعز، يغادر منزله ويتوجه في سيارته إلى مقر عمله في لانغلي. كان عمله الأول هو تهيئة السّموم التي تطلبها إدارة العمليات، ولكنه كان مُكلّفا بمهمة خاصة جدا وهو أن الوكالة “تنتظر منه أن يكتشف مفتاح إعادة الإشراط الذهني. ما السبب في هذا البحث؟ يرى الكاتب أن” مسؤولي وكالة الاستخبارات الأمريكية اعتقدوا في بداية الحرب الباردة بأن الروس والصينيين عثروا على طريقة تمكنهم من تكسير إرادة السجناء وجنود النخبة الأمريكيين من أجل تحويلهم إلى شيوعيين طيعين، على استعداد لإدانة بلادهم على أمواج الإذاعة السوفييتية. يتوجب عليه، بأي حال من الأحوال، أن يكتشف علاجا لهذا الأمر. وهكذا تم اختبار طرق عديدة من بينها تقنيات الاستنطاق العنيفة والمخدرات والتنويم المغناطيسي والصدمات الكهربائية وغيرها... (وهي طرق تعذيب سبقت بكثير ما وقع في سجن أبو غريب) وقد تم تطبيقها على “فئران تجارب” غير طوعيين وعلى سجناء حرب وعلى جنود ومواطنين رافضين لأداء الخدمة العسكرية، ولكن أيضا على مرضى مستشفى الأمراض النفسانية. “صورة مرعبة لدور المخابرات الأمريكية في هذه التجارب.

يكتب المؤلف: “لقد موّلت وكالة الاستخبارات الأمريكية في الواقع “أبحاثا” للدكتور إيوين كامرون، نائب رئيس جمعية المحللين النفسانيين في أمريكا الشمالية، في عيادته في مونتريال: نساء قادمات من أجل أن يعالجن من انهياراتهن العصبية يتلقين علاجات مرتكزة على مخدرات وصدمات كهربائية أثناء سنوات عديدة”. ليس خافياً، كما يرى المؤلف، أن هذه التجارب لم تؤدّ أبدا إلى أيّ نتيجة ملموسة. ويعلق على الأمر بكثير من القوة حين يقول: “أن تكون هذه الأشياء حدثتْ بُعَيد ما جرى في معسكرات التعذيب النازية الفظيعة، لا يستطيع أن يفهمه اليوم أحدٌ”. هذه التصرفات الأمريكية تشي في جزء منها بالهوس المُعادي للشيوعيين المسيطر آنذاك على المسؤولين الأمريكيين (إذْ إن كلّ إجراء يفترض أن العدوّ استخدمه يصبح سلاحا مباحا من أجل محاربته)، ولكنها تشي أيضا بالإيمان الأعمى في تقدم العلوم، التي تتَصَوَّر قدرتها على أخذ زمام الأمور للعقل البشري. ويتساءل الكاتب عن هذه الإجراءات: هل يتعلق الأمر ب “جنون عابر؟ ليس الأمر مؤكَّدا، لأننا سنعثر على طرق ومنهجيات وأوهام في مسألة السجون السرية”. ويستتبع الكاتب هذا الفصل بفقرات من كتاب أسلحة وكالة الاستخبارات الأمريكية السرية لغوردون توماس. فقرات لا يستطيع القارئ أن ينهيها وذلك لما تحتوي عليه من فظاعات وجرائم حقيقية. وقد قدمت عائلات الكثير من الضحايا شكاوى أدت إلى تحقيقات طويلة انطلاقا من سنوات السبعينات.

نقرأ في هذه الأرشيفات: “في أحد الملفات يتعلق الأمر بإحدى المريضات وتدعى مادلين لاركوا، توجد إشارة تتحدث عن حوار قصير بين المريضة وطبيبها: “سألتني لماذا تنظر إليّ الممرضات بهذه الطريقة، كما لو أنها كانت غريبة الأطوار. وبدوري، سألتها عن الشيء الذي يجعلها تعتقد أنها غريبة الأطوار. أجابتني بأنها لا تعرف. لاحقا صرّحت مادلين بأنها تحسّ نفسها: “تشبه..... zombie”. كما أشار الدكتور كامرون. يشير الملفّ إلى أن المريضة مادلين تناولت، ثلاث مرات كل يوم، “كوكتيلا من المهدئات” مُكوّنا من 100 ميليغرام من تورازين Thorazine و100 ميليغرام من نومبتال Nombutal و100 ميليغرام من سيكونال Seconal و150 ميليغراما من فيرونال Veronal. إن كل واحد من هذه المخدرات، كان قادرا، بمفرده، على التسبب في اضطرابات بسيكولوجية”. وفي حالة أخرى “إحدى المريضات التي كانت تعاني انهيار ما بعد وضع الحمل، وبعد أن وضعت توأمين، تم اختيارها لتناول خمسة أدوية مختلفة ثلاث مرات في اليوم. كما أن مريضة تم تشخيص مرضها على أنه متخلفة عقليا، وقد أصبح “من الصعب التحكم فيها”، تلقّت هي الأخرى علاجا طويلا من الصدمات الكهربائية.

 

التحقيق مع الوكالة

لم يكن الرئيس ايزنهاور أقل من سابقيه في تقديم طلبات إلى وكالة الاستخبارات الأمريكية، إذ إنه هو الذي سمح شخصيا بعمليات قاتلة كما حدث في غواتيمالا والكونجو، إلا أنه في نهاية ولايته الرئاسية بدأت تساوره بعض الشكوك حول الفاعلية الحقيقية للوكالة، وحول الثقة في النفس التي يكشف عنها ألان دالاس، الذي لم يُؤْخذ أبدا على حين غرة عند أسئلة الرئيس، ولكن اكتشف الرئيس أنه يمارس أحيانا الكذب حول حضور وكالة الاستخبارات في هذه المنطقة أو تلك من الكرة الأرضية.

مهما يكن، يرى الكاتب أن ايزنهاور يريد أن يرى وكالة الاستخبارات الأمريكية خاضعة للمراقبة الكاملة وأنّ عليها أن تقدم حساباتها المحددة. لهذا السبب طلب تقريرا من السفير دافيد ك. إي. بروس David K. E. Bruce أحد أفضل أصدقاء فرانك ويسنير Franck Wisner، رئيس القسم السريّ.

 

محاولة اغتيال كاسترو

لا أحد يعرف بالضبط عدد المرات التي حاولت فيها وكالة الاستخبارات الأمريكية اغتيال العدو اللدود لواشنطن ألا هو فيدل كاسترو. ومن هنا يكتب عنه الكاتب غوردون توماس بأنه: “يقدّم نقطة مشتركة مع كبار ابطال سينما الأكشن الأمريكية، وهي قدرته على تحدي الموت، واختراق مختلف أنواع الفخاخ سالما. جرب الأمريكيون السيجار المفخَّخ والهجوم من تحت البحر وأنواعاً من التسميم. تم استحضار كل الطرق من أجل تصفيته، ولكن لا شيء اشتغل من كل هذا. يعتبر كاسترو الزعيم الأجنبي الوحيد (رئيس الدولة) الذي تعرض لمثل هذا العداء من قبل وكالة الاستخبارات. القصة تدوم منذ ما يقرب من خمسين سنة. وهو ما يرى فيه الكاتب نوعا “من الهَوَس الكاستروي”. في أول يناير من سنة ،1959 طرد فيدل كاسترو الديكتاتور باتيستا من السلطة من جزيرة كوبا، التي كانت ملجأ تقليديا للألعاب والملذات بالنسبة للأثرياء الأمريكيين. وفي نظر الأمريكيين فليس من الوارد التساهل مع حكومة اشتراكية على حدود الولايات المتحدة، على الرغم من أن كاسترو في أول زيارة له إلى الولايات المتحدة الأمريكية لم يكن يمثّل العدوّ الذي سيصبحه بعد حين: “التقى بأحد عملاء وكالة الاستخبارات الأمريكية الذي يقدم عنه وصفا في تقريره: “إنه زعيم روحاني جديد بالنسبة لأمريكا اللاتينية الديمقراطية والمعادية للديكتاتورية”. ولكنّ الرئيس الأمريكي ايزنهاور لم يكن يُشاطر هذه الطراوة بلْ إنّ الحذر الذي كان يسود في واشنطن تجاه ثوريي الجنوب هو الذي كان يقوده. منح دالاس Dulles، الذي نجده في كل مكان، الضوء الأخضر لتصفية كاسترو. ومن شهر يناير 1960 تمّ إنشاء مجموعةٌ معادية لكاسترو على أتم الاستعداد من قبل مدير العمليات في الوكالة ريتشارد بيسيل Richard Bissell، وهي مكونة أساساً من ضباط العملية الغواتيمالية التي جرت قبل ست سنين.

هنا يرسم الكاتب مشاهد مثيرة للدهشة والفزع والذهول من “التاريخ الخلاّق لوكالة الاستخبارات الأمريكية”. السيناريوهات تتراكم حول الطريقة المثلى لتصفية هذا الجار العدو. في إشارة من سبع صفحات تم إرسالها إلى الرئيس الأمريكي نيكسون “يُقْترح أن يوضع في طعام كاسترو مُخدّر مٌثير للهلوسات وهو ما سيخلق لديه تصرفا غير عقلاني وسيجعله مثيرا للسخرية من قبل جمهوره”. في سنة 1960 اقترحت وكالة الاستخبارات الأمريكية على الرئيس ايزنهاور أن تخلق من العدم معارضة في المنفى تمتلك إذاعة سريّة وتتلقى تدريبا في دولة باناما لاجتياح كوبا وإطلاق عصيان فيها، تكون مدعومة من الأمريكان بإلقاء السلاح من الجوّ. والقارئ يمكنه أن يتذكر، هنا، نفس الطريقة التي التجأت إليها وكالة الاستخبارات الأمريكية، بنجاح في غواتيمالا ضد أربينز. ويبدو أنّ الاستخفاف الأمريكي بلغ درجة كبيرة إلى حد برمجة “إسقاط كاسترو قبيل الانتخابات الرئاسية الأمريكية التي سيتقابل فيها المرشحان نيكسون وكينيدي”. الضوء الأخضر لانطلاق العملية تم إطلاقه، ولكن المشروع لن يكون فعالا قبل الانتخابات. الأزمة مع الاتحاد السوفييتي (خروتشوف) في أوجها، وايزنهاور ضالعٌ حتى الأذنين في أزمة طائرة التجسس يوتو U-2 التي أسقطها السوفييت والتي اعترف طيارها، فرانسيس غاري بوويرس بانتمائه إلى وكالة الاستخبارات الأمريكية. خلال هذه الفترة نشرت الوكالة خليتها المعادية لكاسترو في ميامي وتم إرساء معسكر يتسع ل 500 متمرد، ليس في باناما وإنما في غواتيمالا.

انتصر جون كينيدي في الانتخابات بأغلبية بسيطة، فثبّت ألان دالاس في مكانه في الوكالة. فقام مع ريتشارد بيسيل بتقديم مشروع جديد لغزو الجزيرة، لم يوافق عليه ايزنهاور. لم يتردد الرئيس الجديد في الموافقة على الخطة. وذهب الأمر إلى حد أنّ عرّاب المافيا سام جيانكانا SamGiancana ، الذي ساعد على نطاق واسع المرشّح الرئاسي كينيدي، “وعد بقتل كاسترو في اليوم المبرمج للغزو. وفي يوم 17 من شهر ابريل/ نيسان من سنة 1961 وقع غزو خليج الخنازير في جنوب كوبا. والذي انتهى بكارثة حقيقية: تتجلى في مقتل 114 منفياً وأسر 1200. هنا يرى المؤلف أن “كاسترو سجّل هنا انتصاره من خلال خطاب تلفزيوني دام أربع ساعات، أهان حكومة الولايات المتحدة الأمريكية” أما من الجهة الأمريكية، فإنّ الرئيس كينيدي عبّر في 21 ابريل/ نيسان، في ندوة صحافية، عن تحمّله لكامل المسؤولية عن هذا الفشل اللاذع، وهو ما جلب له تعاطفا شاسعا من الرأي العام الأمريكي. ويرى الكاتب أن “كينيدي، كان (مثله مثل الرئيس رونالد ريغان، في ما بعد) يحظى بشعبية كبرى لا يسع الفضائح سوى أن تنزلق عليها من دون ترك بَصَمات عليها”. لكن مع ذلك فإنه، أي كينيدي، لم يَسْلَم من بعض الانتقادات، فيما يخصّ عدم إعطاء القرارات الصائبة: ومن بينها إلغاء الضربة الجوية الثانية التي كانت مبرمجة في الهجوم، بعد فشل الضربة الأولى، وهو ما حكم على المهاجمين بالفشل. ومهما يكن فقد تأثر الرئيس كينيدي كثيرا من هذا الفشل، وهو ما خلق لديه هَوسا معاديا لكاسترو. ومن هنا كثرت المحاولات لتصفية هذا الجار. ولكن كينيدي هو من تعرّض للاغتيال، وليس كاسترو. وهنا يقول الكاتب: “ينطرح سؤال، أرّق بوب كينيدي، وهو ألا يمكن أن يكون اغتيال أخيه جون في دالاس، يوم 22 من نوفمبر 1963 جواباً من كاسترو على محاولات الاغتيال التي تعرَّض لها؟” وهنا يجيب: “لا يمكن الجزم بالأمر ما دام النظام الكوبي في مكانه، ولكن من المؤكَّد أنه من خلال الجَدّ في مطاردة الزعيم الكوبي فإن الرئيس كينيدي يكون قد منح المثال للذين ساهموا في تصفيته”.

 

“سي.آي.ايه” تسهل سوق المخدرات في أمريكا

علاقات وكالة الاستخبارات الأمريكية مع المخدرات لها تاريخ طويل، وقد تمّ التطرق للموضوع من خلال علاقتها بالمافيا الكورسيكية أو اثناء حربي أفغانستان وفيتنام. ويقول الكاتب: “صحيح أن الوكالة لا تمارس بنفسها هذه التجارة، ولكنها في بعض الأحيان من تاريخها تركت حلفاءها الظرفيين يقومون بالأمر، من دون أن تطرح سؤال من هو من سيستهلك هذه المواد في نهاية المطاف” وفي سنة 1996 طرح نقاش علني، من قبل غاري ويب Gary   Webb  في الولايات المتحدة حول العلاقة ما بين تمويل وكالة الاستخبارات الأمريكية لعصابات الكونتراس النيكاراغويين في سنوات الثمانينات، وبين وصول نوع رديء من المخدرات إلى أسواق وشوارع سان فرانسيسكو.كانت “هذه المخدرات من إنتاج الكونتراس وإرسالها يتم بحماية وكالة الاستخبارات” وقد تسبّب هذا النوع الرديء في إحداث كوارث وسط الزنوج الأمريكيين في سان فرانسيسكو. ولكن وسائل الإعلام تجاهلت هذا النقاش وتجاهلت غاري ويب، الذي واصل تحقيقه إلى سنة 2004.المخابرات الأمريكية أنكرت الأمر بطبيعة الحال، ولكن النتيجة المأساوية للكاتب غاري ويب الذي وجد مقتولا في بيته برصاصة في رأسه تدل على شيء ما غير طبيعي.

 

الوكالة وأفغانستان

يبدو من الوهلة الأولى في نظر الكاتب أن العمليات السرية لوكالة الاستخبارات الأمريكية في أفغانستان ما بين سنتي 1979 و1989 تمثل أكثر العمليات نجاحا في تاريخ الوكالة. ألم يُتِحْ الدعم المقدم للمقاومين الإسلاميين طرد السوفييت من البلد؟ على الرغم من اعتبار الساسة الأمريكان أفغانستان منطقة ذات أهمية ثانوية، فقد كانت تتصور أن الفرصة أصبحت مواتية لتكبيد الاتحاد السوفييتي هزيمة تضاهي هزيمة الأمريكان في فيتنام. على الرغم من أنه في تلك الفترة لم يكن ثمة من الاستراتيجيين العسكريين من كان يعتقد بهزيمة سوفييتية، ولكن يمكن التحرش بالجيش الأحمر وتحميله خسائر فادحة وإرغامه على الدفع بقوات إضافية كبيرة إلى الجبهة. الحقد الأمريكي على الاتحاد السوفييتي كان كبيرا، إذْ ليس من المستغرب أن إجماعا حصل في الولايات المتحجة على التورط، ولو بطريقة غير مباشرة في الصراع الأفغاني: “أفغانستان كانت إذن إحدى العمليات النادرة لوكالة الاستخبارات الأمريكية التي دفع بها الرئيس الحَذِرُ والأخلافي جيمي كارتر، ثم سانده، من بعده، وبقوة الرئيس رونالد ريغان” وقد حرصت الإدارة الأمريكية على مبدأ يتمثل في أنه لا رجال الإدارة الأمريكية ولا رجال وكالة الاستخبارات الأمريكية يمكن لهم أن يتعاملوا بطريق مباشرة مع زعماء الحرب الأفغان والمخاطرة بسقوطهم أسرى في أيدي السوفييت. إذن يتوجب وجود جهاز فعّال وقد تم العثور عليه في جهاز الاستخبارات الباكستانية. الباكستان في عهد الرئيس ضياء الحق، كانت دولة إسلامية تحس بأنها مهددة من قبل السوفييت في أفغانستان، وفي نفس الوقت كانت تحس بالسعادة للتأكيد على تأثيرها في جارها الأفغاني. وإلى حدود سنة 1983 كانت وكالة الاستخبارات الأمريكية لا تتعامل سوى مع جهاز الاستخبارات الباكستاني، الذراع العسكرية للديكتاتورية الباكستانية، لنقل الأسلحة والمال إلى المقاومة الأفغانية. وهو ما أدى إلى ازدياد ثراء هذا الجهاز الاستخباراتي الباكستاني (الأموال لم تكن تصل كلها إلى هدفها النهائي)، وساعدة على العثور على زبائن من بين زعماء الحرب الأفغان وتفضيل الأصوليين على حساب زعماء أكثر اعتدالا مثل الزعيم شاه مسعود.و”كمثال على الدور المهم الذي لعبته المخابرات الباكستانية، هو تنظيمها لمعسكرات تدريب على طول الحدود مع أفغانستان التي كانت تشهد مرور ما بين 6000 إلى 7000 متطوع سنويا”، ولا يُغفل الكاتب دور المدارس الدينية أو القرآنية. وهنا سيظهر أسامة بن لادن باعتباره أحد الممولين للجهاد في أفغانستان. إنه ابن عائلة ثرية تدير أول مجموعة بناء في المملكة السعودية، وهو يتميز بشدة الورع، وحصل على دبلوم في الاقتصاد سنة ،1981 ويبحث عن طريقه ويهتم عن قرب بإخوانه الأفغان في صراعهم ضد الكافر الشيوعي.ويشدد الكاتب على الأهمية التي مَثَّلَها وُصول وليام كيسي William Casey  على رأس وكالة الاستخبارات الأمريكية، ويرى أنّ من بين التغيرات التي حصلت هو اكتشاف أن الاستخبارات الباكستانية تقوم بتوزيع غير عادل للسلاح الذي تحصل عليه من قبل الأمريكيين، فبدأت الاستخبارت الأمريكية بإقامة اتصالات مباشرة مع زعماء الحرب الأفغانية، واستكمال الدور الذي تلعبه المخابرات الباكستانية. بدأت وكالة الاستخبارات الأمريكية بتوزيع أسلحة بالغة التطور والتعقيد ومن بينها صورايخ ستينغر التي أتاحت إسقاط طائرات الهيلوكوبتر الروسية. بدأ هذا الانخراط الفعلي للأمريكين في أفغانستان يظهر في العلن وهو ما جرّ تهديد الروس من “مواجهة مباشرة أو حتى اجتياح باكستان”.

 

أين ابن لادن الآن؟

- في سنة 1985- 1986 استقر ابن لادن في بيشاور، ومن هذه الساعة أصبح وجها معروفا من طرف زعماء الحرب الأفغان، بسبب هباته وأيضا بسبب مساعدته على بناء المدارس الدينية. بدأ “الجهاد” في جذب متطوعين إسلاميين من كل المنطقة، هكذا وصل إلى بيشاور في نفس تلك الفترة، المصري أيمن الظواهري، الذي كان معتقلا في القاهرة بسبب مؤامرته ضد الرئيس السادات. أهمية ابن لادن تأتي من تصريحه بأنه مستعد لتحمل كل أعباء أيّ مجاهد عربي يأتي إلى أفغانستان، بل ووصل به الأمر إلى أنه فتح مراكز تجنيد في الولايات المتحدة الأمريكية نفسها في أريزونا. وهذه العلاقات الطبيعية بل والودية بين الأمريكيين وابن لادن، دفعتْ ميلت بيردين Milt Bearden ، رئيس قسم وكالة الاستخبارات الأمريكية في إسلام أباد إلى أن يرى الأمر بعين الرضى، لم يكن ابن لادن في هذه الأوقات يُنظر إليه على أنه مُعادٍ لأمريكا. حركته كانت تذكّر حركة اللواء الدولي للمتطوعين الذين قدّموا المساعدة للجمهوريين في إسبانيا في سنوات الثلاثينات من القرن الماضي. ويقدم لنا الكاتب كثيرا من التّفاصيل على الدور الذي لعبه ابن لادن في أفغانستان. قرر بناء معسكر محصن للمتطوعين، يمتلك مستشفى خاصا به، في قرية أفغانية مجاورة باسم جاجي Jaji وأصبح هذا المكان مملكته، وأصبح هو زعيمه. كان يمارس بذكاء دور الإعلام وحرص على استدعاء الصحافة من كل العالم العربي للكشف عن أعماله الخيرية. وكأنما ابن لادن كان يحتاج إلى أن يتحوّل إلى أسطورة، فعلا.

يتحدث الكاتب عن قيام طائرات روسية في 17 ابريل/ نيسان من سنة 1987 بقصف المعسكر، ولكن المعسكر استطاع المقاومة خلال عدة أيام. إنها “بداية أسطورة لقائد مُحارب تمّ تعهُّدها بعناية.. وأنجز ابن لادن شريط فيديو من 50 دقيقة حيث يمكن للمشاهد أن يراه وهو راكب على فرس أو يُطلق النار من بندقية أو يُوجّه الحديث إلى جنوده. ولأن الأسطورة لها مواصفاتها وشروطها، فإن ابن لادن من هذه اللحظة بدأ ينجز أجنداته الخاصة به وينفذها”. ويقول الكاتب: “إنّ تحرير إخوانه الأفغان لم يَعُد هدفه الأوحد، بل وليس الهدفَ المركزي. بدأ يتميز عن العديد من الزعامات السياسية الإسلامية، واخذ يدافع عن الجهاد الشامل، ضد الكفار، روسا كانوا أو أمريكيين”.

 

ولكن أين هو دور وكالة الاستخبارات الأمريكية في كل هذا؟

- لقد أقر الاتحاد السوفييتي بفشله، واحتفلت أمريكا بانتصارها في أفغانستان، ولكنها تركت الأفغان المنتصرين يُصفّون صراعاتهم فيما بينهم وهو ما جرّ خرابا أكبر على البلد وعلى مصالح الولايات المتحدة نفسها.من السهل، يقول لنا الكاتب إدانة أخطاء التقدير لدى وكالة الاستخبارات الأمريكية لأننا، نحن القراء، نعرف تتمة التاريخ. “إلاّ أنه، ومنذ سنة ،1985 كانت ثمة أصواتٌ ترتفع في دائرة الشؤون الخارجية منتقدة، ليس العملية في أفغانستان نفسها، بل استعمال الوسيط الباكستاني ومخاطر تقوية عسكرية للمجموعات الإسلامية التي تعادي بشكل مفتوح الولايات المتحدة الأمريكية. كانت الاستخبارات الأمريكية تردّ على هذه التساؤلات بالقول إنها من جانبها تقدم مساعدات للأطراف الأفغانية التي تهملها الإدارة الباكستانية، وهو ما لا يحلّ السؤال حول معرفة إن كان يتوجب مساعدة الإسلاميين المتشددين في المقام الأول.

 

طيش الوكالة في باريس

تحت هذا العنوان يحدثنا الكاتب عن النشاطات السرية التي تمارسها وكالة الاستخبارات الأمريكية حتى في الدول الصديقة. ولكنه هنا يحدثنا عن فرنسا. حين توجه وزير الداخلية الفرنسي شارل باسكوا إلى مقر السفارة الأمريكية ليلتقي السفيرة الأمريكية باميلا هاريمان ويسلمها ملفا ضخما عن الأنشطة السرية للمخابرات الأمريكية في فرنسا. وقد جاء في التقرير الذي سلمه الوزير الفرنسي للسفيرة الأمريكية: “كان اهتمام العملاء الأمريكيين يرتكز في فرنسا على التوجهات الاقتصادية والتجارية الفرنسية الكبرى وخصوصا في ميدان السمعي البصري ووسائل الاتصالات”، ويضيف أنّ “الطرق المستخدمة من قبل عملاء وكالة الاستخبارات الأمريكية تترواح ما بين التأثير المفتوح التعامل السريّ للأعضاء. وقد تمّ استهداف الإدارات وحاشية الساسة والدوائر الوزارية” ويتساءل الكاتب: “هل يمكن أن نندهش من كون وكالة الاستخبارات الأمريكية تتجسس على حكومات الدول الصناعية الكبرى؟” ويجيب: بالطبع، يجب ألا نندهش. إنه الواقع اليومي للحرب الاقتصادية. وقضايا التجسس، عموما، ما بين الأصدقاء يتمّ حلّها بشكل محتشم. ولكن الإهانة، هذه المرة، كانت عمومية، فقرر الوزير شارل باسكوا تسليم الملف إلى إيدوي بلونيل في صحيفة لوموند الفرنسية، الذي أخرج هذا السبق الصحافي في 23 فبراير/ شباط. وقد أثارت القضية كثيرا من اللغط في الولايات المتحدة. ونعرف من الكِتاب أن القرار الفرنسي الحكومي في إشاعة القضية على الملأ، كان سببه حملة التشهير التي تمارس منذ سنوات عديدة على الفرنسيين في الولايات المتحدة والذين كثيرا ما يتمّ اتهامهم بالتجسس الاقتصادي.

 

في البوسنة

يصل الرئيس الأمريكي بيل كلينتون إلى السلطة في يناير/ كانون الثاني من سنة ،1993 والحرب مستعرة في البوسنة والمسلمون يتعرضون لابادة من قبل الصرب. أمام القمع الذي كان يتعرض له المسلمون كان على الأوروبيين إما أن يتخذوا أو لا يتخذوا موقفا لفائدة زعيم المسلمين البوسنة عزت بيجوفيتش. كانت الإدارة الأمريكية راغبة في مساعدته على الرغم من ترددات وكالة الاستخبارات الأمريكية التي كانت ترى أن الجماعات الإسلامية في البوسنة التي تتعرض لفظاعات حقيقية ترتبط بمختلف الجماعات الإرهابية الإسلامية تسلّحها إيران. وكان المرشح كلينتون قد وعد برفع حظر حلف الناتو عن السلاح المُوجّه لمسلمي البوسنة. فيما كانت فرنسا وألمانيا اللتان تتواجد قوات كبيرة لهما في البوسنة تعارضان الأمر في حين أن المملكة العربية السعودية كانت، على العكس، تدفع في أفق رفع الحظر بكل قواها. وفي سنة ،1994 ومن دون إخبار مدير وكالة الاستخبارات الأمريكية، وولسيWoolsey ، سمح الرئيس كلينتون بتجارة السلاح تحت تأثير من مستشاره للامن الوطني، أنطوني ليك Anthony Lake ، الذي بدأ تدرجه المهني في طاقم كيسينجر. في الرابع من أيار/ مايو رست أول طائرة تنقل سلاحا في زغرب. وكانت إيران، حينها، خاضعة لعقوبات ثقيلة ولم تكن محاورا رسميا للولايات المتحدة. وفي فبراير/ شباط من سنة 1995 بدأت الولايات المتحدة نفسها بنقل السلاح، عبر تركيا، في انتهاك للحصار الرسمي. ويتحدث المؤلف عن الصراع الخفي ولكن الهادئ بين الولايات المتحدة وإيران في البوسنة. ولكنه يؤكد أنه على الرغم من الحضور الإيراني الكثيف في البوسنة وحضور حرس الثورة، فإن الولايات المتحدة لم تتوقف عن دعمها للجيش البوسني المسلم، الذي أصبح من الآن مُكوّناً في قسمه الأكبر من المجاهدين. في فبراير/ شباط 1996 وضعت أمريكا برنامجا للمساعدة من 800 مليون من الدولارات مولته الولايات المتحدة وبعض الدول العربية. كانت الصواريخ والدبابات الهجومية وطائرات الهيلوكوبتر تصل من الولايات المتحدة.

يقول الكاتب: “لقد اصبحت البوسنة مرتعاً حقيقيا يتجاور فيه حزب الله الإيراني والجماعة الإسلامية الجزائرية والجهاد الإسلامي المصرية قبل أن تلتحق بهم القاعدة”.والمسألة القاتمة التي يرسمها الكاتب تتجلى في نظره في كون أن مئات، بل الآلاف، من دون شك، من المقاتلين الإسلامويين تلقوا تكوينا وتدربوا على أسلحة من آخر صيحة، خلال سنوات عديدة في المعسكرات البوسنية. سوف نعثر عليهم في مواقع صراعات أخرى، وخصوصا في كوسوفو، وفي التفجيرات التي ستتضاعف ضد المصالح الأمريكية في إفريقيا والشرق الاوسط. ولا يبقى له سوى أن يعلق بالأمر، وهو يبحث عن مسوؤلية وكالة الاستخبارات الأمريكية، بقوله: “في هذه القضية لم تُبِنْ وكالة الاستخبارات عن عدم وعي، وإنما فشلت، ببساطة، في إقناع إدارة كلينتون بالنتائج الكارثية لخياراتها السياسية”.

 

الوكالة “أخطأت” ابن لادن

يطرح الكاتب سؤالا، ربما لا يعرف الإجابة عنه إلا القليل، وهو “هل تركت وكالة الاستخبارات الأمريكية، عن قصد، أسامة ابن لادن، يُفلتُ من قبضتها مرات عديدة في سنوات التسعينات والألفية الثانية؟ يقول الكاتب إن السؤال يبدو عبثيّا ولكنه يطرح باستمرار في وسائل الإعلام على قاعدة شهادات قدّمها “قدماء” القوات الخاصة الأمريكية أو الفرنسية. ويستشهد الكاتب بالفيلم الوثائقي (سنة 2006) الذي أنجزه “إيريك لافارين” و”إيمانويل رازافي”: ابن لادن، إخفاقات مطاردة. يقول جنود من القوات الخاصة الفرنسية إنهم، في نهاية 2003 كانوا على مقربة 400 متر من ابن لادن. وطلبوا من القائد الأمريكي الإذن بإطلاق النار، لكنه رفض. حدث نفس الشيء في سنة 2004 كما نشاهد في نفس هذا الفيلم الوثائقي زعيم حرب أفغاني يؤكد أنه أثناء حصار طورا بورا بعد تفجيرات 11 سبتمبر/ أيلول تعمّد الأمريكيون ترك ابن لادن يهرب مع 70 من رجاله.يبدو الأمر، في رأي الكاتب، كما لو ان بوش يتعمد ترك ابن لادن طليقا حتى ينفذ إجراءاته الاستثنائية. يمكن، في رأي الكاتب أن نوافق على الفكرة التي ترى وجود مؤامرة كبرى، وهي فكرة عزيزة على من رأى أنّ تفجيرات 11 سبتمبر / أيلول “كان مسموحا بها” من أجل تبرير حركة عسكرية أمريكية قوية في الشرق الأوسط. ولكن الكاتب يرى، رغم كل شيء، أن “هذه المؤامرت التخييلية لا تصمد امام الاختبار. إذْ ما مصلحة الولايات المتحدة من ترك الحرية لأكبر إرهابي في التاريخ، بالإضافة إلى أنه ملياردير، ومعاد شرس للولايات المتحدة الأمريكية، وكل انتصار يحققه على الأمريكيين يساعد على جعل الشارع العربي أكثر راديكالية؟”. محاولة للتفسير، يرى الكاتب أن الواقع بالغ التعقيد، إذ إنه منذ 1996 أصبح من مهمة وكالة الاستخبارات الأمريكية تصفية أسامة ابن لادن، ولكن يتوجب عليها أن تتحرك في حزمة ضيقة من الإكراهات. في ديسمبر/ كانون الأول من سنة 1998 تم تحديد مكان أسامة بن لادن في أفغانستان، وكانت وكالة الاستخبارات الأمريكية تعرف مكان التجائه في إحدى الليالي، وكانت على استعداد لإطلاق الصواريخ. ولكن مدير الوكالة، جورج تينيت، رفض إعطاء الأمر بسبب تواجد مئات من الأبرياء على مقربة من ابن لادن. في بداية سنة 1999 تم تحديد مكانه في جنوب قندهار في معسكر كانت تتواجد فيه شخصيات رفيعة من بلدان صديقة للولايات المتحدة، وكان من المستحيل المخاطرة بحياتهم. نفس السيناريو حدث في ابريل/ نيسان من سنة 1999 ونفس الجواب. إذنْ، يقول لنا المؤلف: “إنّ السبب الحقيقي ل”إخفافات” مطاردة ابن لادن ليست، من دون شك، نتيجة مؤامرة غامضة ولكن هو الخوف أو الحذر السياسي، وهو ما يتسبب في نفس الشيء”.

 

الوكالة تمارس التعذيب

لا يمكن لنا أن نفهم الحلقة الأخيرة من الكتاب، ومن بين الحلقات الأكثر إيلاما، من دون أن نضع أنفسنا في سياق ما بعد تفجيرات 11 سبتمبر. يقول الكاتب انه بالنسبة لنا، كأوروبيين، عشنا منذ تفكيك الاستعمارات في سنوات الخمسينات والستينات والحركات الإرهابية لليسار المتطرف في سنوات السبعينات، من الصعب علينا أن نضع أنفسنا في نفس حالة الإدانة التي ضربت الشعب الأمريكي انطلاقا من هذا التاريخ. هذه الهجمات المتزامنة، التي لم يعرفها الأمريكيون منذ بيرل هاربور Pearl Harbor (مع العلم أن الضربة اليابانية كانت خارج التراب الأمريكي)، خلقت فعلياً حالة استثنائية، مازجة الشعور القومي والاحساس بالإهانة والضغينة. في مثل هذه الظروف يفقد الرأي العام معالمه ويقبل إجراءات يكون قد رفضها في ظروف أخرى. ومن هنا لم تجد إدارة بوش صعوبة في الكونجرس في تمرير قرارات تحدّ بشكل كبير من الحريات العامة، وخاصة في Patriot Act     ولكن مسألة التعذيب تأخذ أبعادا كبيرة بعد ما وقع في 11 سبتمبر/ أيلول. بدأت بعض الأفكار، التي كانت إلى وقت قريب لا يمكن التفكير فيها، تطرح نفسها على الملأ. وتجعل من السهل طرح تساؤلات تتناقض مع المفهوم الأمريكي والغربي عموما لحقوق الإنسان نفسه. لماذا رفض التعذيب ضد مجرمين معترفين بجرائمهم إذا كان التعذيب سيتيح تجنب تفجيرات أخرى وإنقاذ أرواح؟ ألا يعتبرالتعذيب أهونَ الضرر إذا ما قُورن بِأُمّة مهددة في وجودها الفعلي؟ بعض القانونيين الأمريكيين، من بينهم ألان ديرسهوفيتش بدأوا في نهاية سنة 2001 بمناقشة إمكانية “مذكرات تعذيب” يمكن أن تقدمها المَحاكم في الحالات القصوى. ولكن وكالة الاستخبارات الأمريكية بحكم تجاربها، ما بين 1960-1962 في أماكن عديدة من العالم، تستطيع أن تستفيد من التراكم بحيث إنها “تتصور برامج تستدعي أقل قدر ممكن من تعنيف السجناء، بل وتتيح ألا يتعرضوا للمس على الإطلاق: الحرمان من النوم والإهانات والصدمات المائية والوضعيات غير المريحة وغيرها من التقنيات التي إن مورست بشكل منفرد لا تهدد الحياة البشرية، ولكن يمكنها إنْ تضافرت فيما بينها أن تتسبب في تأثيرات نفسية وجسدية هدامة”. ولكن ما يكشفه المؤلف، وهو مهم، لأنه يجوز في بلدان أخرى غير ما يجوز في الولايات المتحدة الأمريكية. مهما يكُنْ من موهبة قانونيي وكالة الاستخبارات الأمريكية فإن هذه البرامج لا يمكن أن تدار على التراب الأمريكي أو تُمَارَس على مواطنين أمريكيين. ولكن هذا يعني أننا نستطيع، بقرار رئاسي، تخيل مراكز اعتقال واستجواب داخل التراب الأمريكي.

 

جريدة " الخليج " الإماراتية ـ 12 / 2007

-----------------

نشرنا لهذا الكتاب لا يعني أنه يعبر عن وجهة نظر المركز كلياً أو جزئياً  

 

السابقأعلى الصفحة

 

 

الرئيسة

اطبع الصفحة

اتصل بنا

ابحث في الموقع

أضف موقعنا لمفضلتك

ـ

ـ

من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ