ـ

ـ

ـ

مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وقولوا للناس حسنا

اتصل بنا

اطبع الصفحة

أضف موقعنا لمفضلتك ابحث في الموقع الرئيسة المدير المسؤول : زهير سالم

الأربعاء 10/10/2007


أرسل بريدك الإلكتروني ليصل إليك جديدنا

 

 

التعريف

أرشيف الموقع حتى 31 - 05 - 2004

ابحث في الموقع

أرسل مشاركة


وحدة الحوار القومي

مشاركات ورقة الحوار الخامسة

تقسيم العراق هل هو بداية

 (3)

ثلاثة مقالات حول تقسيم العراق

مأدبة غداء تعيد تقاسم العراق

فاضل الربيعي

ليست ثمة "مأدبة غداء" في تاريخ العراق الحديث، يمكن تشبيهها بالمأدبة التي دعا إليها رئيس الجمهورية جلال الطالباني في منزله قبل أسابيع، وقام خلالها رئيس الوزراء نوري المالكي بالإعلان رسمياً عن تشكيل "تكتل" سياسي جديد سيقود البلاد من الآن وحتى إشعار آخر؛ سوى مأدبة الغداء الشهيرة التي دعا إليها نوري السعيد رئيس وزراء العراق صيف عام 1958، وأعلن خلالها تشكيل آخر وزارة عراقية له، قبل أن تطيح به ثورةيوليو/ تموز من العام نفسه.

الظروف هي ذاتها –تقريباً- من حيث درجة الاستعصاء في الأزمة السياسية، والجماعات الحزبية المأزومة هي نفسها من حيث درجة ولائها لسادة العراق الملكي، وهم البريطانيون آنذاك.

ولولا الكثير من التغيّرات التي طرأت على عراق ما بعد الملكية، لجاز للمرء القول، إنه العراق ذاته أيضاً، كأن شيئاً لم يتبدل قط، وكأنّا لا رحنا ولا جئنا.

المدعوون أنفسهم، والأسياد أنفسهم أيضاً. ولنتذكر أن العراق –في هذا الوقت– وحين كان الساسة في منزل نوري السعيد يتناولون الطعام وينظفون أسنانهم "بنكاشات الأسنان" كان يشهد حواراً متواصلاً حول عراق "من ثلاث ولايات".

"لولا الكثير من التغيّرات التي طرأت على عراق ما بعد الملكية، لجاز للمرء القول إنه العراق ذاته في الخمسينيات، كأن شيئاً لم يتبدل قط، وكأنّا لا رحنا ولا جئنا"

فما أشبه الليلة بالبارحة. على أن التاريخ، مع ذلك جرى بصورة مغايرة للأحاديث التي دارت في ذلك اليوم القائظ. وتلك كانت آخر "مأدبة غداء" يقيمها رئيس وزراء عراقي في منزله.

لقد جرت في النهر مياه كثيرة منذ ذلك الوقت، وبحيث تبدّلت بصورة مذهلة، الأدوار والشخصيات والوقائع وأساليب تنفيذ المناورات. لكن شيئاً من أخلاق البيع والشراء والتلاعب بمصائر الأوطان لا يبدو أنه تغير في عقول بعض الساسة العراقيين، وبعضهم ويا للغرابة من أحفاد وزراء العهد الملكي.

ويتذكر الكثير من العراقيين اليوم، بما يشبه استذكاراً جماعياً للصور المحزنة عن فساد الطبقة السياسية في الخمسينيات من القرن الماضي يوم كان "العراق القديم" ُيدار من السفارة البريطانية ببغداد، كيف أن مآدب الطعام كانت تتخذ طابعاً سياسياً صرفاً، لأنها المناسبة الوحيدة التي يمكن فيها جمع أكبر حشد من القوى والجماعات المتصارعة على المال والنفوذ. وطبقاً للمثل الشعبي "أطعم الفم تستحِ العين".

إن كتّاب التاريخ، يعرفون جيداً كيف أن نوري السعيد، وكلما لاح شبح سقوطه يتراقص أمام عينيه، كان يسارع إلى دعوة رجال السياسة إلى مأدبة طعام في بيته، ليخرج في الصباح التالي قائلاً: إن الأزمة في البلاد لا تقترب من لحظة الانفجار، والحكومة الجديدة سوف "تخرج الزير من البير".

وبالطبع لم يخرج أي زير من أي بئر. حتى رئيس الوزراء نفسه لم يفلت من المصير المحتوم. ومع ذلك، ثمة فارق هائل بين المأدبتين، هو الفارق عينه تقريباً بين نوري السعيد ونوري المالكي؟ فالأخير لا يشبه الباشا في أي شيء بكل يقين، لا في درجة ذكائه ولا دهائه ولا خبرته السياسية, للهم إلا في كونه يحمل الاسم الأول من الشبيه.

لقد استعاد بعض العراقيين، وهم يشاهدون ولادة تكتل رباعي جديد، واحدة من أكثر الصور إثارة للسخرية في تاريخ العراق الحديث، فلقد كانت الوزارات تتشكل أثناء التهام الطعام وتنظيف الأسنان "بالنكاشات"، بينما مسبحة نوري باشا السعيد تطقطق في الصالة وسط قهقهات الساسة المرائين الذين كانوا يدخلون في نقاشات لساعات عدة حول حصة هذا الفريق أو ذاك من الحقائب الوزارية، بينما كان العراق ينزلق إلى الهاوية وتضطرب أحواله ويعّم فيه الفساد والفقر.

اليوم، وبعد نحو خمس سنوات دامية ومرّوعة من الاحتلال الأميركي للعراق، وبينما البلاد تغطس في المغطس الرهيب للموت المجاني الأكثر فضائحية ومأسوية في التاريخ الحديث للبشرية؛ فإن أكثر الصور إثارة للفزع تبدو -بكل يقين- هي صور الساسة الجدد لا غيرهم، هؤلاء الذين برهنوا على انعدام حس مخيف؛ بل واستهتار بأرواح ومصائر الملايين من العراقيين.

ُترى ماذا يرتجي المواطن العادي من ساسة فاسدين لا يتحرّجون قط، حتى من تندّر مواطنيهم على درجة نهمهم وحجم سرقاتهم وتورطهم في أعمال قتل إجرامية؟.

وفي هذا البلد التعيس حيث تبدو الطبقة السياسية -بكل ما قيل ويقال عن فسادها المالي والإداري وبكل ما يتلازم مع هذا الفساد من مظاهر فوضى سياسية وأمنية- وكأنها قررت أن تسترد من الماضي صورتها القديمة في العراق الملكي، وأن تستعيد من خلالها "تقاليد" تشكيل التحالفات السياسية خلال فترة تنظيف الأسنان من بقايا الطعام؛ فإن الصور الساخرة التي ما برح العراقيون ينتجونها عنها، تكاد تتضمن ما يكفي من الشعور بدرجة الانهيار السياسي والأخلاقي.

"مصير العراق بأسره بات رهناً بنوع الصفقات التي ينخرط فيها الساسة، كما لو أنهم "رجال أعمال" تلاقوا على مائدة طعام، وعليهم أن يديروا حديثاً سياسياً بلغة الصفقات المالية"

ذلك أن مصير العراق بأسره بات رهناً بنوع الصفقات التي ينخرط فيها الساسة، كما لو أنهم "رجال أعمال" تلاقوا على مائدة طعام، وعليهم أن يديروا حديثاً سياسياً بلغة الصفقات المالية.

إن حكومة نوري المالكي التي تواجه استحقاق الانهيار المحتوم للعملية السياسية، لا تكاد تجد مناصاً من أن تتوجه بكل قواها نحو "إعادة إنتاج" الأزمة. وربما لهذا الغرض وحده أظهر المالكي ومن ورائه إيران وقوى الائتلاف الشيعي/الكردي، ما يكفي من الانسجام والتوافق على حل ينفرد فيه الشيعة والأكراد، عمن يزعمون أنهم "ممثلو السنة".

لقد قرر الرباعي الجديد أن يترك جبهة التوافق، بكل أوهامها عن "تمثيلها للسنة" تتخبط وحدها في الظلام. ولذلك أوفدت الجبهة طارق الهاشمي إلى أنقرة من أجل تشجيعها على الدخول العلني في قلب الأزمة العراقية.

وأنقرة التي تشعر بالقلق من محاولات الأميركيين تقسيم العراق إلى ثلاث "ولايات" قبل رحيلهم، أسمعت الهاشمي كلاماً على لسان وزير الخارجية وقتها عبد الله غل، عبرت فيه عن رفضها لفكرة التقسيم لأي سبب.

وفي هذا النطاق ينبغي أن يُلاحظ، أن الأميركيين لا يبدون ساخطين على خطوة الرباعية العراقية، فهي على الأقل تتيح لهم فرصة رؤية عراق يتقاسمه الشيعة والأكراد، بينما يجري الدفع بالسّنة، وبحكم الأمر الواقع المفروض في آخر المطاف، نحو المطالبة "بحصتهم من العراق الفيدرالي" بدلاً من المطالبة بتحرر العراق. ولم لا وهي "مأدبة غداء" من أجل تقاسم الطعام؟.

وبهذا المعنى؛ فإن التحالف الرباعي هو مناورة داخلية قام بها فريق من داخل الائتلاف الحاكم، غرضها إحراج طرف آخر أصبح "مزعجاً" بصورة لا تطاق.

ولذلك لا يبدو التحالف الذي انبثق خلال مأدبة الطعام في منزل الطالباني، سوى المحاولة الأخيرة لتفادي خطر السقوط المحتوم عن طريق تسريع وتيرة تقاسم العراق ونهبه بالجملة، بعدما كان ينهب طوال السنوات الخمس الماضية بالمفرق.

وكما يقال عادة، فليس ثمة ما هو أدّل على النوايا الحقيقية من إظهار شيء وإبطان شيء آخر. فرئيس الحكومة وهو يبرم اتفاق المحاصّة الجديدة، لا يزال يتشدق بالحديث عن "مصالحة وطنية" وشيكة، وعن حرص حكومته بوصفها "حكومة وحدة وطنية" على أن تكون ممثلة لكل "مكونات الشعب العراق".

وهذا التعبير بالمناسبة من أسخف التعبيرات السياسية، وأكثرها استهتاراً بمشاعر العراقيين، فهم في النهاية ليسوا سوى "مكونات" قابلة لأن يجري التخلص من أي مكون منها، في حال ضاق الآخرون به ذرعاً. تماماً كما تخلص الطالباني والمالكي من الدليمي وحرماه من دعوة الغداء. إنه "مكوّن" زائد من "مكونات" يمكن تكييفها وتطويعها حسب الحاجة.

وفي حين يخرج رئيس الجمهورية ليعلن -في كل مرة وبمناسبة أو دونها- عن قرب الشروع في "حوار مع مسلحين" وعن توسيع نطاق المشاركة؛ فإن مجرد الإعلان عن قيام تكتل حاكم، ليس هو في النهاية سوى التكتل الرباعي القديم نفسه الذي هيمن على الحياة السياسية وقام بتهميش حلفائه "السنة"؛ سوف ينسف من الأساس كل المزاعم والهرطقات السياسية عن الوحدة الوطنية.

"تتردد معلومات موثقة عن خطة أميركية  جديدة تقضي بتقسيم العراق إلى ثلاث مناطق "حكم ذاتي"، والخطوة الأولى في مشروع التقسيم بدأت بإعلان التحالف الرباعي الذي سوف يفرض على السنة إما الانضمام إلى "حفلة تقسيم العراق" أو قبول "بديل سني" مستعد للانخراط في العملية"

ولذلك جاء الإعلان المفاجئ عن عقد اللقاء الرباعي، والإصرار على استبعاد كل القوى الأخرى بما فيها جبهة التوافق بقيادة الدليمي، والقائمة العراقية بقيادة علاوي، حتى من مجرد الدعوة إلى حضور حفلة الغداء، ومن ثم الاتفاق على تشكيل تحالف جديد ليدعم الحقيقة القائلة إن التحالف الشيعي/الكردي قرر "احتكار" لا السلطة وحدها؛ بل كل العملية السياسية.

لشّدة ما يبدو الحديث عن العراق، وعن تقاسم السلطة فيه أثناء التهام الطعام، كما لو كان –رمزياً- نوعاً من التهام للعراق نفسه، فإن شعور العراقيين بأن بلادهم تؤكل على موائد اللئام منذ نحو خمس سنوات وبصورة وحشية لا رحمة فيها، بينما تجري من حوله المساومات الخسيسة ويصبح الساسة فيه أكثر فأكثر، كما لو كانوا تجاراً محترفين في سوق نخاسة عالمي، إنما هو الشعور الوحيد الأكثر صدقاً وتعبيراًُ عن درجة الانحطاط والمأساة.

وفي هذا السياق تتردد معلومات موثقة عن خطة أميركية تتزامن مع الانسحاب الأميركي، تقضي بتقسيم العراق إلى ثلاث مناطق "حكم ذاتي" وأن الخطوة الأولى في مشروع التقسيم بدأت بإعلان التحالف الرباعي الذي سوف يفرض على من يزعمون أنهم "ممثلو السنة" عاجلاً أم آجلاً، اختيار واحد من حلين إما الانضمام إلى "حفلة تقسيم العراق" أو قبول "بديل سني" مستعد للانخراط في العملية.

ولعل تلميح رئيس الوزراء إلى إمكانية استبدال وزراء التوافق بوزراء من عشائر الأنبار هو مجرد تلميح إلى وجود "خطة" أوسع نطاقاً قد تقضي بزج جماعات جديدة "تزعم أنها ممثلة للسنة" وهي طامعة ومستعدة لمشاركة الشيعة والأكراد في التهام كعكة العراق على مائدة الطالباني.

يتبقى أمر أخير يجدر الانتباه إليه، فالتحالف الرباعي الذي هو نسخة عراقية من الرباعيات التي خلقتها الولايات المتحدة مؤخراً -مثل الرباعية العربية والرباعية الأوروبية- ليس أكثر من أداة لإدارة الأزمة. وهذا يعني أن العراق قد وضع -في هذه اللحظات العصيبة من التاريخ- فوق مائدة الطعام. لا أكثر ولا أقل.

حقاً، في العراق الجديد كل شيء يبدو غريباً ومثيراً حتى مآدب الطعام. فالبعض مثل "جبهة التوافق" يمكن أن يخرج من "المولد بلا حمص".

ـــــــ

كاتب عراقي

المصدر: الجزيرة

------------------------------------

خطة تقسيم العراق.. غير ملزمة ولكنها قادمة

إبراهيم علوش

التبرؤ من دم يوسف

الخلاف على التوقيت والإخراج لا على المبدأ

تفكيك العراق مشروع صهيوني قديم

في يوم 26/9/2007 أقر مجلس الشيوخ الأميركي خطة غير ملزمة لتقسيم العراق إلى ثلاثة أقاليم للحكم الذاتي هي كردستان وسنستان وشيعستان، حسب تعبير المروجين لمشروع "التقسيم الناعم" في مراكز الأبحاث والدراسات الأميركية.

وقد صوت للقرار 75 شيخًا من أصل مائة، وصوت ضده 23، وكان من الملفت للنظر أن يصوت 26 شيخًا من الحزب الجمهوري حزب الرئيس بوش للقرار، على الرغم من أن إدارته أبدت معارضتها العلنية له، وهو ما أظهر انقسامًا جمهوريًّا عميقًا حول سياسة الإدارة الأميركية الراهنة في العراق كان قد بدأ قبل ذلك بأشهر.

وكان الشيخ الديمقراطي عن ولاية ديلاوير الأميركية السيناتور جوزيف بايدن رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ قد قاد الحملة داخل مجلس الشيوخ، وفي وسائل الإعلام الأميركية، وفي اتصالات قام بها مع الدول الأعضاء في مجلس الأمن الدولي، لتمرير مشروع الكونفدرالية الضعيفة في العراق.

وعلى الرغم من أن جوزيف بايدن رشح نفسه عن الحزب الديمقراطي لانتخابات الرئاسة الأميركية عام 2008، فقد صوتت مع مشروعه لتقسيم العراق في مجلس الشيوخ منافسته الديمقراطية السيناتورة هيلاري كلينتون، ولكن منافسهما السيناتور باراك أوباما لم يصوت على القرار أصلا.

ومن المستبعد حسب محللي المشهد السياسي الأميركي أن يتبنى الحزب الديمقراطي جوزيف بايدن مرشحا رئاسيا له في 2008، لكن دوره في تمرير قرار تقسيم العراق علناً رشحه بقوة لأن يكون وزير الخارجية الأميركي المقبل إذا ما انتصر الحزب الديمقراطي.

"الدعم الكبير الذي حظي به قرار تقسيم العراق في مجلس الشيوخ من الديمقراطيين ومن بعض أبرز رموز الجمهوريين يدل على أن المشروع يحظى بدعم كبير من النخبة الحاكمة الأميركية، من اللوبي اليهودي بالذات"

ويدل الدعم الكبير الذي حظي به قرار تقسيم العراق في مجلس الشيوخ، من الديمقراطيين ومن بعض أبرز رموز الجمهوريين مثل المرشح الرئاسي الجمهوري السيناتور سام بروان باك عن ولاية كانساس الأميركية، والسيناتور جون ورنر عن ولاية فرجينيا، والسيناتور كاي بايلي هاتشنسون عن ولاية تكساس، على أن المشروع يحظى بدعم كبير من النخبة الحاكمة الأميركية عموما، ومن اللوبي اليهودي خصوصا.

هذا الدعم يبدو حسب خريطة التصويت الممتدة من أقصى ليبراليي الحزب الديمقراطي إلى أقصى محافظي الحزب الجمهوري، ومن المنظرين والمفكرين المحيطين بهم ممن اتفقوا على تقسيم العراق واختلفوا على كل شيء آخر، وبالأخص على ما إذا كان يفترض في القوات الأميركية أن تنسحب من العراق أم لا، وكيف، ومتى.. وممن يتنافسون بقوة على منصب رئاسة الجمهورية، ولكن ممن يرون بالرغم من ذلك أن العراق يجب أن يتفكك.

التبرؤ من دم يوسف

والطريف أن إدارة الرئيس بوش تقف بقوة ضد قرار مجلس الشيوخ وتهاجمه، وكذلك جيمس بيكر أحد رموز الحزب الجمهوري الكبار، ووزير الخارجية الأسبق في عهد بوش الأب، وأحد قيادات "مجموعة دراسة العراق" التي كانت قد خرجت بتوصية التفاهم مع سوريا وإيران لترتيب الخروج الأميركي من العراق.

وموقف الرئيس بوش يحمل مفارقة لأن إدارته هي التي أعادت تشكيل "العراق الجديد" على أسس طائفية وعرقية منذ المجلس الانتقالي للحاكم بول بريمر، والانتخابات والوزارات والبنى السياسية القائمة على المحاصّة الطائفية، بل منذ الدستور الذي جعل الفدرالية وحق تشكيل الأقاليم المستقلة ذاتياً عنواناً للعراق الجديد.

فكل شيء فعلته إدارة بوش الابن في العراق، وفعلته إدارة أبيه، مثلاً مناطق حظر الطيران المرسومة طائفياً فوق العراق في التسعينيات عندما كان السيد بيكر وزيراً للخارجية، يؤدي إلى هذه النتيجة المنطقية، ولكن الآن يتصرف بوش وبيكر وكأن هذا القدر من التقسيم أمرٌ لا يعجبهما!!

وفي 22/7/2007، نشرت صحيفة الديار اللبنانية تقريراً من باريس عن محاضرة للسفير الأميركي الأسبق في لبنان ريتشارد باركر قال فيها "إن الرئيس جورج بوش سيعمل خلال الفترة المتبقية من ولايته الرئاسية على وضع أسس ثابتة لمشاريع "خرائط طرق" لمنطقة الشرق الأوسط تنطلق من تطلعات القسم الأكبر من ممثلي الأقليات الدينية والمذهبية والعرقية التي تتمحور كلها حول ضرورة منح الحكم الذاتي لهذه الأقليات عبر إقامة أنظمة حكم ديمقراطية فدرالية بديلة للأوطان والحكومات القائمة الآن".

أما بالنسبة للعراق فيقول التقرير إن "العراق الفدرالي" سوف يتم ضمه (أو ربما ضم بعضه؟) إلى صيغة كونفدرالية، تحت عنوان "الاتحاد الهاشمي"، تتألف من الأردن أيضاً، والسلطة الفلسطينية... وقد بدأ يتضح الآن المقصود بما قاله ريتشارد باركر.

غير أن موقف الكتل البرلمانية فيما يسمى البرلمان العراقي (في ظل الاحتلال) يبقى موقفاً أكثر طرافةً من موقف إدارة الرئيس بوش نفسها. ففي الأيام التالية لإقرار مشروع تقسيم العراق من قبل مجلس الشيوخ الأميركي، نقلت وسائل الإعلام خبرا مفاده أن كل الكتل النيابية العراقية اجتمعت وأخذت موقفا موحدا برفض وإدانة قرار مجلس الشيوخ تقسيم العراق.

ولكن مهلاً! أليس هذا مجلس النواب نفسه الذي أنفذ بالأغلبية قراراً في شهر أكتوبر/تشرين الأول 2006 قبل أقل من عام من قرار مجلس الشيوخ الأميركي بحضور 175 نائباً من أصل 275، وبموافقة 148 نائباً حسب جريدة "الحياة" اللندنية في 12/10/2006، يقر قانون تشكيل الأقاليم "من محافظة واحدة أو أكثر... عن طريق الاستفتاء الشعبي لثلثي سكان المحافظة التي ترغب بتشكيل الإقليم"؟!

وقد مر ذلك القانون بقوة دفع الأحزاب الكردية و"المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق"، وبتأييد النواب المنتمين لكتلة إياد علاوي، أي بتأييد قوى نافذة في إيران والولايات المتحدة.

والآن يريد كل هؤلاء أن يتبرؤوا من جريمة تفكيك العراق، من الرئيس بوش إلى مؤيدي الفدرالية في مجلس النواب العراقي (غير المشروع لأنه قام في ظل احتلال)، في حين أن التقسيم ماضٍ على قدم وساق!!

وكان عبد العزيز الحكيم قد صرح بعد إقرار البرلمان العراقي للقانون المذكور بأن بوسع أي محافظة الآن أن تتقدم بطلب لتأسيس إقليم بعد عام ونصف من إقراره، أي بعد نصف عام من القرار غير الملزم لمجلس الشيوخ الأميركي.

وكأننا نعيش قصة تضييع فلسطين من جديد في خضم صيحات الشاجبين والمنددين نفاقاً بتلك الجريمة، أو قصة الحصار الإجرامي للعراق على مسمع ومرأى إخوانه المتآمرين عليه من العرب والمسلمين.

حتى جماعة عبد العزيز الحكيم وحزب الدعوة، وهم من أنشط دعاة تشكيل إقليم شيعي يتمتع بالحكم الذاتي في جنوب ووسط العراق باتوا يصرون على أن التقسيم الذين صوت مجلس الشيوخ الأميركي عليه غير التقسيم الذي كانوا يدعون هم إليه، باعتبار التقسيم الذي يدعو إليه عبد العزيز الحكيم "لا يقوم على أساس طائفي وعرقي" كما زعم الشيخ جلال الدين الصغير من "المجلس الأعلى الإسلامي" (بعد تغيير اسمه من المجلس الأعلى للثورة الإسلامية) حسب "الحياة" في 1/10/2007!

فهل كان كل هؤلاء ليتجرؤوا أن يصوتوا ضد قرار مجلس الشيوخ الأميركي لو كان ملزماً مثلاً؟!

الخلاف على التوقيت والإخراج لا على المبدأ

ولا يعني ذلك طبعاً أن اعتراضات جيمس بيكر وبوش على قرار مجلس الشيوخ هي اعتراضات شكلية فحسب. فقد أوضح بيكر أن تقسيم العراق الآن سوف يصب في مصلحة إيران، ولسوف يثير حفيظة الدول المحيطة بالعراق من حلفاء الولايات المتحدة.

وهذه محاذير حقيقية لا تستطيع واشنطن تجاهلها وهي تبذل الجهود لتشكيل "حلف المعتدلين" لمواجهة إيران وسوريا وحماس وحزب الله، وعلى أعتاب المؤتمر الدولي لتطبيع العلاقات العربية الصهيونية بدون اتفاقية سلام.

وهي كذلك تحشد التأييد العربي والإسلامي في مواجهة برنامج إيران النووي، وبينما قضية المحكمة الدولية في لبنان ومشروع التدخل الدولي في دارفور مطروحان على بساط البحث، لأن المرء لا يحتاج للكثير من الذكاء ليدرك أن تقسيم العراق يعني تقسيم محيطه، أو إثارة الحروب الأهلية فيه على الأقل.

"بعضهم يريدها فدرالية مثل إدارة بوش حالياً، وآخر يريدها كونفدرالية ضعيفة, وهناك من يطرح منح "حق تقرير المصير" لكل من أقاليم العراق الثلاث, ويبقى الخلاف هنا حول درجات التفكيك التي تقود الواحدة منها إلى الأخرى، وتوقيت حدوثها "

كما أن كل النقاش حول العراق يجري أميركياً على خلفية نقد أداء إدارة بوش، والبحث عن مخرج لفشلها، وهو الأمر الذي يحمل معنًى أميركياً سلبياً، انتخابياً وسياسياً.

وكذلك لا تريد الإدارة الأميركية أن تفقد السيطرة فجأة على العراق لإيران، ولا أن تستثير تركيا وإيران حول الملف الكردي، ولا السعودية ودول الخليج حول احتمال تشكيل دولة شيعية في جنوب العراق، وهي لذلك تضع بعض الكوابح على اندفاع اللوبي الصهيوني والمحافظين الجدد وشوقهم لتحقيق هدف قديم هو تفكيك العراق، وإثارة "الفوضى الهلاكة" في الوطن العربي بأي ثمن، ولو على حساب التوازن الإقليمي.

ولكن الاتجاه العام من المجازر الطائفية التي قام بها "جيش المهدي" إلى قوننة الانتماء الطائفي والعرقي، يبقى مشروع تفكيك العراق، بمشاركة بعض القوى التي تدين تفكيك العراق بأعلى صوت ممكن الآن.

ففي ظل حكم الانتداب كانت بريطانيا أحياناً تقيد الهجرة اليهودية مؤقتاً إلى فلسطين استرضاءً للعرب، ضمن الإستراتيجية العامة لتسليم فلسطين لليهود.

المهم أن آلية تفكيك العراق قد انطلقت من عقالها منذ الدستور الفدرالي على يد إدارة بوش، والمسألة مسألة وقت بدون مشروع مقاومة حقيقي للتفكيك يتجاوز الطوائف إلى الوطن، وما يتم الحديث عنه رسمياً اليوم من قرار غير ملزم -في ظل مسعى الطامحين للرئاسة الأميركية وللتجديد في مجلس الشيوخ لكسب الدعم اليهودي- سيصبح غداً أمراً واقعاً يدعوننا "الواقعيون" إلى التعامل معه "بعقلانية" تماماً كما يدعوننا إلى التعاطي مع وجود "إسرائيل" بعقلانية!

وبعضهم يريدها فدرالية مثل إدارة بوش حالياً، وآخر يريدها كونفدرالية ضعيفة مثل جوزيف بايدن وحليفه الرئيسي في هذا المشروع ليزلي غلب، الرئيس الفخري السابق لمجلس العلاقات الخارجية، وهو مركز أبحاث صهيوني بامتياز.

وهناك بعض آخر مثل الباحثين ليام أندرسون وغاريث ستانسفيلد يطرح منح "حق تقرير المصير" لكل من أقاليم العراق الثلاث "باعتبار أن التقسيم أمر واقع حالياً، وأن البديل هو الحرب الأهلية"، ويبقى الخلاف هنا حول درجات التفكيك التي تقود الواحدة منها إلى الأخرى، وتوقيت حدوثها، وليس حول ديناميكية التفكيك النابعة منها بأية حال.

تفكيك العراق مشروع صهيوني قديم

"تفكيك العراق والوطن العربي هو في الأساس مشروع يهودي قديم، ولعل أقدم وثيقة صهيونية تتحدث رسمياً عن تفكيك العراق والوطن العربي هي تلك المعروفة باسم "وثيقة كارينجا""

لتجنب الحديث عن اليهود يحب بعض المحللين التركيز على النفط، وكيف يقود قانون النفط العراقي المطروح إلى سيطرة الشركات الأجنبية على النفط العراقي، وإلى تفكيك العراق، أو كيف يؤدي تفكيك العراق إلى سيطرة الشركات الأجنبية على النفط، وهو ما لا شك فيه.

غير أن مشروع تفكيك العراق والوطن العربي هو في الأساس مشروع يهودي قديم، ولعل أقدم وثيقة صهيونية تتحدث رسمياً عن تفكيك العراق والوطن العربي هي تلك المعروفة باسم "وثيقة كارينجا"، الصحفي الهندي الذي أعطاه الرئيس الراحل جمال عبد الناصر وثيقة "هيئة الأركان الإسرائيلية" حول تفكيك المنطقة، فنشرها في كتاب يحمل عنوان "خنجر إسرائيل" عام 1957.

وهي وثيقة وضعت على خلفية العدوان الثلاثي على مصر، ونشرت بالعربية في تموز/يوليو 1967 عن "دار دمشق"، وتتحدث تلك الوثيقة عن إنشاء دولة درزية في "منطقة الصحراء وجبل تدمر"، ودولة شيعية في جبل عامل ونواحيه في لبنان، ودولة مارونية في جبل لبنان، ودولة علوية في اللاذقية حتى حدود تركيا، ودولة كردية في شمال العراق، ودولة أو منطقة ذات استقلال ذاتي للأقباط.. وتضيف الوثيقة: "تبقى المناطق العربية التالية: دمشق، جنوبي العراق، مصر، وسط العربية السعودية وجنوبها. ومن المرغوب فيه إنشاء ممرات غير عربية تشق طريقها عبر هذه المناطق العربية".

وهو ما يوحي بإمكانية تفاهم براغماتي صهيوني إيراني على جنوب العراق، على طريقة نقل الأسلحة الأميركية و"الإسرائيلية" لإيران خلال الحرب العراقية الإيرانية التي انكشف أمرها في فضيحة "إيران كونترا".

وكان المحلل العسكري "الإسرائيلي" زئيف شيف قد طرح فكرة تقسيم العراق في "هآرتس" في 2/6/1982، قبل أيام من العدوان الصهيوني على لبنان، كما طرحتها "وثيقة كيفونيم" التي وضعها الكاتب الصهيوني عوديد ينون ونشرتها مجلة "كيفونيم" (اتجاهات) الناطقة باسم المنظمة الصهيونية العالمية في شهر شباط/فبراير 1982.

كما كانت إستراتيجية تقسيم العراق حجر زاوية في ورقة المحافظين الجدد لنتنياهو عام 1996، وفي المشروع الذي وضعوه في الولايات المتحدة عام 2000 في ورقة بعنوان "بداية جديدة".

وفي 25/11/2003، طرح الصهيوني ليزلي غلب فكرة تقسيم العراق رسمياً في مقالة في صحيفة نيويورك تايمز تحمل عنوان "حل الثلاث دول"، وبالتعاون معه تبني جوزيف بايدن صيغة مخففة منها (كونفدرالية ضعيفة)، بتأييد من الحزبين الجمهوري والديمقراطي، في مقالة بنيويورك تايمز في 1/5/2006 تحمل عنوان "الوحدة من خلال الحكم الذاتي".

وفي 8/10/2006 ذكرت صحيفة التايمز اللندنية أن خطة بيكر هاملتون تقوم في أحد بنودها على تقسيم العراق على أسس طائفية وعرقية.

"مشروع تفكيك المنطقة ينبع من اعتبارات إستراتيجية، لأن الكيان الصهيوني وقوى الهيمنة الخارجية لن تعرف الراحة ولا الأمن حتى يتم تفكيك دول المنطقة إلى دويلات متصارعة على أسس طائفية وعرقية"

وعبر اللوبي الصهيوني ومن ثم المحافظين الجدد، أصبح تقسيم العراق بشكل أو بآخر مشروعاً ديمقراطياً وجمهورياً في الولايات المتحدة حتى أن السيناتورة كاي بايلي هاتشنسون تقول على موقعها على الإنترنت إن تقسيم العراق "سينجح في وقف العنف مثلما نجح تقسيم يوغسلافيا في وقف العنف فيها"!

نتحدث بوضوح عن مشروع تفكيك إذن، وهذا المشروع ينبع من اعتبارات إستراتيجية، لأن الكيان الصهيوني وقوى الهيمنة الخارجية لن تعرف الراحة ولا الأمن حتى:

1- يتم تفكيك دول المنطقة إلى دويلات متصارعة على أسس طائفية وعرقية.

2- يتم شطب الهوية العربية الإسلامية لبلادنا. فالتفكيك للهوية قبل الجغرافيا.

وعلى كل حال تتحمل القوى السنية، العشائرية والحزبية المقاومة سابقاً، المتعاونة مع الاحتلال، وزراً لا يقل خطورة عن وزر كل من يتعامل مع الاحتلال من أية طائفة، لأن المشروع مصممٌ على مقاسها.

ولكن خطأ تنظيم "القاعدة في بلاد الرافدين" بإعلان الإمارة، وبخوض المعارك مع قوى غير عميلة لأنها لم تعلن الولاء ليس سوى الوجه الآخر لنفس العملة، عملة الصراع الطائفي وضمن الطائفة للسيطرة عليها، ولكن هذا موضوع آخر لمعالجة أخرى.

__________________

كاتب فلسطيني

المصدر: الجزيرة

------------------------------------

تقسيم العراق.. نهاية التمهيد وبداية التنفيذ

نبيل شبيب

- ثلاث مراحل تمهيدية للتقسيم

- اكتمال التمهيد للتقسيم

- تقسيم العراق كارثة إقليمية

معذرة إلى كلّ من فاجأه قرار مجلس الشيوخ الأميركي الداعي إلى تقسيم العراق، أن نقول إنّ من السذاجة السياسية انتظار موقف آخر، وكذلك انتظار جواب آخر غير الجواب الرسمي من جانب بوش الابن بالقول إنّ هذا القرار غير ملزم، بمعنى أنّه لن يتحرّك لتنفيذه من خلال الحكومة الأميركية والجيش الأميركي.

"قرار تقسيم العراق قائم منذ البداية، ليس من جانب بوش الابن ولا مجلس الشيوخ، وليس من جانب غالبية المحافظين ولا غالبية الديمقراطيين، بل هو قرار آليات صناعة القرار الأميركي عبر مراكز القوى الثابتة نسبيا، بغض النظر عن تقلّب البنية الهيكلية لأجهزة الحكم"

 

ثلاث مراحل تمهيدية للتقسيم

قرار تقسيم العراق قائم منذ البداية، ليس من جانب بوش الابن ولا مجلس الشيوخ، وليس من جانب غالبية المحافظين ولا غالبية الديمقراطيين، بل هو قرار آليات صناعة القرار الأميركي عبر مراكز القوى الثابتة نسبيا، بغض النظر عن تقلّب البنية الهيكلية لأجهزة الحكم التشريعية والتنفيذية، وجلّ ما يصنعه تبدّل التشكيلة الحاكمة عبر الانتخابات الرئاسية والنيابية، هو أساليب التنفيذ ووسائله.

لا مبالغة في القول إنّ قرار التقسيم قائم من عهد الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش الأب على الأقل، وربّما أخّره قليلا عهد كلينتون على مدى ثماني سنوات، ولكنه لم يصنع شيئا مضادّا لما صنعته المرحلة التمهيدية الأولى في عهد سلفه.

بل على النقيض من ذلك رسّخ ما تحقق قبله من خلال المرحلة التمهيدية الثانية، أي من خلال الحصار الإجرامي وما كان يسمّى تقسيم "المجال الجوي" للعراق، ليمكن إيجاد معطيات أخرى على أرض العراق نفسه، كما رسّخ مسيرة التمهيد للتقسيم من خلال ما كان يمارس من سياسات إقليمية في المنطقة، تثبيتا لبذور المحاور التي ظهرت للعيان بشكل أوضح وأشدّ مفعولا مع نهاية عهد بوش الابن.

لقد بدأت معطيات القرار الأوّل للتقسيم مع نهاية الحرب الإيرانية العراقية، أو بتعبير أوضح فور نهاية المهمّة التي كانت مطلوبة من العراق القويّ عسكريا، المتقدّم على أكثر من صعيد علمي وتقني وصناعي وزراعي، بغض النظر عن اتجاه نظام الحكم فيه.

فليس السؤال المهمّ هو هل يوجد حكم استبدادي أم حكم عادل، وهل تُنتهك حقوق الإنسان والأقليات أم تُصان، ولا حتى مدى الارتباط التبعي أو غيابه تجاه الغرب وزعاماته، بل السؤال الأهمّ من وراء اتخاذ القرار هو هل ينسجم وضع العراق القوي المتقدّم الموحّد مع المشروع الصهيوأميركي أم لا ينسجم؟

في المرحلة التمهيدية الأولى توقفت الحرب الأميركية (الدولية) الأولى، أو ما سمّي حرب الخليج الثانية على العراق بمشاركة إقليمية، قبل إسقاط نظام الحكم القائم فيه، رغم أنّ المعطيات العسكرية لذلك كانت متوفرة، ومعها معطيات سياسية دولية وإقليمية، ولكن لم يكن ممكنا أن يؤدي إسقاط الحكم آنذاك إلى تقسيم العراق، ولا حتى القضاء على أسباب قوّته على الأصعدة العلمية والتقنية والصناعية والزراعية.

بل كان لا بدّ من الفترة التمهيدية الثانية عبر بضعة عشر عاما حصارا وحظرا جويا، وهنا أيضا بمشاركة دولية وإقليمية، إلى أن أصبح العراق داخليا في وضع يسمح بالانتقال إلى الخطوة التمهيدية الثالثة في اتجاه تنفيذ قرار التقسيم في عهد بوش الابن، بمشاركة محلية من خلال من تمّ تجنيدهم للدخول إلى العاصمة العراقية على ظهر دبابات الاحتلال، وبمشاركة إقليمية من خلال تحويل المنطقة من محور القضية المصيرية حول فلسطين، إلى محور اصطُنع في عهد بوش الابن.

والهدف من ذلك أن يصبح الاقتتال الطائفي بين السنة والشيعة أو بين إيران والمنطقة العربية والاقتتال القومي بين الأكراد والعرب، بديلا عن التطلّع إلى تحقيق هدف كريم على جبهة القضية المصيرية، وليس إلى تحقيق هدف التصفية بما يتفق مع المشروع الصهيوأميركي.

"أي إعلان رسمي من جانب بوش وحكومته لتأييد عملية التقسيم يمكن أن يعرقل تنفيذها بدلا من أن يعجّل به، وهذا ما يكمن وراء المعارضة اللفظية الرسمية لقرار مجلس الشيوخ الأميركي"

 

اكتمال التمهيد للتقسيم

إنّ أي إعلان رسمي من جانب بوش الابن وحكومته لتأييد عملية التقسيم يمكن أن يعرقل تنفيذه بدلا من أن يعجّل به، وهذا ما يكمن وراء المعارضة اللفظية الرسمية لقرار مجلس الشيوخ الأميركي.

ولكن سياسة الاحتلال في عهد بوش الابن كانت من اللحظة الأولى، وبتنفيذ مباشر من جانب الحاكم العسكري الأول بريمر سياسة ترسيخ معطيات التقسيم، لتصبح واقعا قائما على الأرض وإن لم ترتفع ثلاثة أعلام جديدة، ولم تُرَسّم حدود انفصالية رسميا.

وهي كذلك لتأخذ عملية التمهيد الثالثة للتقسيم صيغة ممارسات محلية من جانب الفرقاء العراقيين، كما لو كان الاحتلال بريئا ممّا يجري، مع أنّهم كانوا من اللحظة الأولى ولا يزالون ساسة تابعين للاحتلال الأميركي لا ساسة وطنيين عراقيين، ناهيك عن أن يكونوا ساسة وطنيين عربا ومسلمين، بل لا يمكن القول بانتماء "تشرذمي" قويم لهم على مستوى التقسيم المراد تنفيذه، بين شيعة وسنة وأكراد، فما يصنعون لا يخرج عن توجيه الضربات القاصمة للفئات الثلاث معا.

إنّ كل مشروع استعماري من حجم تقسيم دولة قائمة إلى دويلات ضعيفة، لا يمكن أن يتحقق على أرض الواقع، إذا اتبع الطريقة المباشرة التي حاولتها على سبيل المثال دولة فرنسا الاستعمارية من قبل في سوريا عندما كان يراد لها أن تتحول إلى دويلات.

فالإقدام المباشر على التقسيم يوجد قوّة مضادة للتقسيم، وهذا بالذات ما تجنّبته الولايات المتحدة الأميركية شكليا، ومارسته واقعيا، سواء تحت عنوان الديمقراطية أو الفيدرالية أو إعلان أهداف مزيفة للحرب العدوانية، بل يكاد الانسحاب العسكري المنتظر يتحوّل إلى وسيلة من وسائل التمويه.

وأغلب الظن أن يجري تنفيذه بحيث يعطي أنصار التقسيم في الشمال والجنوب القدرة الأكبر على التحرّك في اتجاه تنفيذه، جنبا إلى جنب مع الاحتفاظ بقواعد عسكرية كبرى، لضمان استمرار التقسيم إن وقع.

إنّ الانسحاب العسكري جزئيا أو كليا قبل انتهاء وجود بوش الابن في السلطة، أو فور تبديله، يمكن أن يوجد لدى الساسة المحليين الذين صنعتهم الفترة التمهيدية الثالثة للتقسيم ذريعة للادعاء أنّه أمكن إنهاء الاحتلال، وأن قراراتهم آنذاك تقوم على أساس "السيادة" و"حق تقرير المصير" وما إلى ذلك من شعارات يدّعونها لأنفسهم، بل ولا يُستبعد أن تتبدّل الوجوه السياسية دون أن يتبدّل نهج التقسيم الذي يستحيل تنفيذه إلا بالقوّة، ولكن آنذاك بقوة السيطرة الاستبدادية المدعومة أميركيا وغربيا، المسكوت عنها أو المدعومة إقليميا أيضا، على حساب إرادة الشعب بمختلف فئاته وتوجّهاته.

تقسيم العراق كارثة إقليمية

إنّ أخبار العراق في اتجاه التقسيم تتوالى دون انقطاع ودون أن يظهر من خلالها بصيص ضوء لتبدّل مجرى الأحداث في الاتجاه الصحيح.

فمن الداخل العراقي تزداد سخونة المواجهات، وآخرها المواجهات المسلّحة والكلامية بين "القاعدة" التي فتح الاحتلال الأميركي أبواب العراق أمام مسلّحيها، وبين قطاعات من المقاومة العراقية المسلّحة ومن الأحزاب السياسية بما فيها الإسلامية، ومن خارج الحدود يعلن الرئيس الأميركي بوش الابن عن انسحاب جزئي قادم لا قيمة له من الناحية العددية أو المفعول ويليه تصريح وزير دفاعه غيتس بالإعلان عن انسحاب جزئي أكبر عددا ولكن دون أن يرتبط بجدول زمني لإنهاء الاحتلال بل على النقيض من ذلك يراد تثبيت الوجود الأميركي من خلال قواعد عسكرية، قد تخفّف من عدد القتلى الأميركيين ولكن لا توجد أسباب التحرّر ليمكن إيجاد حل سياسي مستقرّ عراقيا وإقليميا.

"الأعمق مغزى فيما يكشف عنه قرار الكونغرس هو أن أي تبدل في السياسة العسكرية الأميركية بعد الانتخابات القادمة أيا كان الفائز لن يؤدي إلى تغيير الباقي من الهدف الإستراتيجي الصهيوأميركي لتقسيم العراق"

بل الأعمق مغزى فيما يكشف عنه قرار الكونغرس الأميركي هو القول إن أي تبدل في السياسة العسكرية الأميركية بعد انتخابات أميركية قادمة، يرجح أن يفوز بها الديمقراطيون، لن ينطوي على تغيير الخطّ الأهم الباقي من الهدف الإستراتيجي الصهيوأميركي لتقسيم العراق على وجه الخصوص.

فالديمقراطيون هم الغالبية في مجلسي الكونغرس الأميركي حاليا، ولن يأتي منهم رئيس آخر يعترض كلاميا على قرار التقسيم، كما صنع بوش الابن في إطار لعبة صناعة القرار الجارية.

ولقد بدا في الآونة الأخيرة أنّ القوى الإقليمية الفاعلة، بدءا بإيران وسوريا وانتهاء بتركيا والسعودية، أصبحت وكأنّها تنتظر حدوث تبدّل في سياسة الاحتلال الأميركي بعد إخفاق آخر محاولات السيطرة العسكرية وازدياد الحملات السياسية داخل واشنطن لتعديل تلك السياسة.

وتأتي مواقف بوش وغيتس ومجلس الشيوخ بعد تقرير رجالاتهم من القادة السياسيين والمسؤولين الدبلوماسيين عن الوضع، لتؤكّد أنّ الاحتلال الأميركي لن يغيّر سياسته تغييرا يستحق الذكر، على الأقل إلى ما بعد انتهاء فترة ولاية بوش الابن.

فهل يمكن أن ينتظر العراق وتنتظر دول المنطقة عاما آخر، مع كل ما يحمله كأعوام الاحتلال السابقة، من نزيف على مختلف المستويات بشريا وماديا وأمنيا واقتصاديا؟

أما إن كانت المنطقة تنتظر تحوّلا حقيقيا بعد بوش الابن، في جوهر السياسة الأميركية تجاه العراق، فقد جاء قرار الكونغرس الآن ليؤكّد علنا استحالة ذلك.

وهنا يُلفت النظر إلى أنّ جميع التحركات والمواقف السياسية بشأن العراق وبشأن تقسيمه لا تواكبها أي مبادرة عربية أو إسلامية إقليمية أو جماعية، تضع القوى الدولية أمام مطالب محدّدة، وتعطي أطراف النزاع العراقي التشرذمي الناشئ بفعل الاحتلال أرضيةً أخرى خارج دائرة إملاءات الاحتلال، للخروج من نفق الاقتتال العسكري والسياسي.

ورغم انعقاد مؤتمر آخر لدول الجوار في العاصمة العراقية نفسها هذه المرّة، فإنّ ما يُطرح على بساط البحث لا يعدو معالجة بعض الظواهر الجانبية لقضية العراق، وهي -على أهميتها الكبيرة كقضية اللاجئين- لا يؤدّي التعامل معها إلى معالجة القضية نفسها من الجذور.

إن تقسيم العراق إن وقع كارثة إقليمية كبرى لا عراقية فقط، وليس من طبيعة الأحداث أن ينتهي أمر التقسيم إلى استقرار، بل ستشتعل أرض العراق أكثر ممّا هي مشتعلة في فترة الاحتلال، وستشتعل معها المنطقة بأسرها.

وليس مجهولا أنّ ما هو أقلّ من ذلك ممّا يجري في الأرض اللبنانية، يصنع على المستوى العربي من ألوان النزاع والمواجهات، ما قد يكون "لاشيء يذكر" بالمقارنة مع ما يمكن أن يصنعه تقسيم العراق.

إنّ ما شهدته أرض فلسطين ويراد ترسيخ مزيد من التقسيم فيها انطلاقا منه، وما شهدته أرض لبنان ويراد تنفيذ المزيد من التقسيم من خلاله، وما شهدته وتشهده أرض السودان.. والصومال.. وحتى باكستان في أقصى المشرق الإسلامي، جميع ذلك يؤكّد أنّ المنطقة بمجموعها مقبلة على أخطر مراحل تاريخها الحديث.

ولن يقف شيء من هذه التطوّرات عند أبواب هذه الدولة أو تلك، كمصر أو السعودية أو الأردن أو سوريا ما لم ترتفع الحكومات القائمة في هذه البلدان وسواها إلى مستوى المسؤولية الثقيلة الواقعة على عاتقها جميعا، وتنتزع نفسها من مختلف أشكال ارتباطات التبعية السياسية والأمنية والاقتصادية بالولايات المتحدة الأميركية خصوصا والغرب عموما.

وليس العجز عذرا، فهو عجز مصنوع من خلال اتباع سياسات متفرقة، وسياسات مرتبطة بالولاء الخارجي، وهو عجز يذوب ويضمحلّ فور العودة إلى الشعوب واستعادة ثقتها ودعمها وتعبئة طاقاتها، للخروج من نفق تلك السياسات التي لم تؤدّ في الماضي، ولن تؤدّي في الحاضر أو المستقبل، إلى أي شكل من أشكال الاستقرار، إقليميا شاملا أو قطريا ضيقا، ولا إلى أي شكل من أشكال التحرر والبناء والتقدّم، إقليميا أو قطريا.

وإن أي التقاء سياسي حقيقي، وأي خطوة عملية في الاتجاه الصحيح لتخفيف ما تصنعه الحدود المفرّقة والسياسات الأنانية القطرية الضيقة، علاوة على إنهاء الاستبداد وما يفرزه من معارك داخلية، من شأنه أن يفرض واقعا جديدا يضطر القوى الدولية رغما عنها إلى التعامل معه، ويسحب من بين أيديها القوة الحقيقية التي تعتمد عليها في تنفيذ مخططات الهيمنة على المنطقة، فقد كانت ولا تزال تعتمد على تشرذمنا ونزاعاتنا التافهة، وما كان يسري في الماضي يسري إلى اليوم: فرّق تسد.

والحري بالحكومات أن تُسقط بنفسها مفعول هذه القاعدة، قبل أن تُسقطها الشعوب بانفجار غاضب لا يبقي ولا يذر.

__________________

كاتب سوري

المصدر: الجزيرة

----------------------------------

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها

----------------------------

للمراسلة فقط على البريد الخاص بهذا الباب وهو

hiwar.asharq@gmail.com


السابقأعلى الصفحة

 

الرئيسة

اطبع الصفحة

اتصل بنا

ابحث في الموقع

أضف موقعنا لمفضلتك

ـ

ـ

من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ