ـ

ـ

ـ

مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وقولوا للناس حسنا

اتصل بنا

اطبع الصفحة

أضف موقعنا لمفضلتك ابحث في الموقع الرئيسة المدير المسؤول : زهير سالم

الأربعاء 06/10/2004


أرسل بريدك الإلكتروني ليصل إليك جديدنا

 

أبحاث

 

إصدارات

 

 

    ـ أبحاث

 

 

    ـ كتب

 

 

    ـ رجال الشرق

 

 

المستشرقون الجدد

 

 

جســور

 

 

التعريف

أرشيف الموقع حتى 31 - 05 - 2004

ابحث في الموقع

أرسل مشاركة


في الذكرى الحادية والأربعين لفصم عرى أول وحدة عربية في العصر الحديث يتقدم مركز الشرق العربي بهذه المحاولة لرؤية وحدوية تبقى هدفاً مستداماً حتى يعود الفرع إلى أصله.

محاولة وحدوية

زهير سالم

نبذة تاريخية

يؤكد الخطاب الشرعي الإسلامي في أكثر من موطن وحدة الأمة، وترابط أفرادها على اختلاف أعراقهم وألوانهم. ويجعل التقوى والعمل الصالح معيار التفاضل في هذا البناء القائم على (العقيدة) لا على أي معطى بشري آخر: (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُون). وأمر بالاعتصام بحبل الله ونهى عن الاختلاف والتفرق (وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُم) (شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيه) وهكذا أرسى الإسلام قاعدة الوجود السياسي والاجتماعي للأمة الإسلامية.

في الأدوار التاريخية المختلفة للوجود السياسي الإسلامي ظهرت أشكال من الانقسامات: (الأمويون في الأندلس)، (الأدارسة في المغرب)، (الفاطميون في مصر وشمال أفريقيا)، إلى جانب العديد من الدويلات والإمارات التي كانت تقوم في ظل دولة الخلافة المركزية ترفع شعارها، وتستمد شرعيتها منها. واستشرى أحياناً سرطان التجزئة في بنيان الأمة، وضرب حكامها بعضهم بعضاً إلى الحد الذي جعل صاحب إمارة يتحالف مع العدو الخارجي (الإفرنجي) ضد أخيه أو ابن عمه كما حصل في دول الطوائف في الأندلس، أو في إمارات الشام إبان الحروب الصليبية. في كل أدوار التاريخ كانت التجزئة تتبع قوة وسلطان المتغلب لا رسوم جغرافية محددة تفصل إقليماً عن إقليم، وبلداً عن بلد بالمعنى الذي تكرست عليه الدول القطرية بعد الحرب العالمية الأولى.

وبهذا المفهوم للتجزئة، تعتبر الدولة القطرية التي أقيمت على أنقاض الدولة العثمانية، ظاهرة شاذة في السياق التاريخي العام للأمة، إذ أن هذه الدولة التي رسمت حدودها، وفق أسس ومعايير وهمية، أفرزت ثقافة رسمية وشعبية مريضة، تتركز في الحديث عن خصوصية متخيلة، تحت ما اصطلح على تسميته بالخطاب الوطني، مقابل الخطاب الوحدوي، حيث شرعت أصغر الوحدات السياسية أو الاجتماعية تتفنن في البحث عن مسوغات وجودية في حقب التاريخ، أو واقع الإنسان، وتعزز روح الانزواء وتتذرع بذرائع (الاستقلال) (لاحظ الاشتقاق)‍‍!!

لا نزعم أن الخطاب الوطني بكل أبعاده جاء مناقضاً للخطاب الوحدوي، فنحن مع توظيف كل خصوصية في سياقها الإيجابي لتحقيق المزيد من الإنجاز، ولكننا نؤكد على ضرورة أن يوزن الخطاب (الوطني) بدقة بالغة، وفق معيار وحدوي يعتبر هو الأصل، لكي تبقى الحقيقة الوحدوية مطلباً متّقداً في ضمير (الفرد) وفي وعي (الجماعة).

لقد قامت الدولة القطرية على أساس مشروع هيمنة أجنبي معروف الغايات والأبعاد، ثم وجدت في ظروف الأمة العوامل التي تكرسها، والخطاب الذي يحميها وينميها، فظلت على هشاشة قواعدها، بناء عائماً عجز عن تجاوزه جهد قرن من رجال الفكر والسياسة على حد سواء.

تكريس التجزئة من عناوين إخفاق المشروع النهضوي

لقد أفرط رواد المشروع النهضوي العربي أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين في التفاؤل، معتقدين أن كل ما ينجز على الورق يمكن أن ينجز في الواقع، وأن وعود الآخرين مما يمكن أن يعتمد عليه. فجروا وراء السراب، وشاركوا في توجيه الضربة القاضية للكيان الجامع (على علاّته). وقد غابت عنهم معادلة: الهدم والبناء، غافلين عن الحكمة العربية لكل من لمع أمام عينيه السراب: (لأن ترد الماء بماء أكيس).

انفرط عقد الأمة، وسلَّ خيط نظامها، وأقيمت من أشلائها أشباه دول، طالما ذكرتنا بقول القائل عن دول الطوائف في الأندلس:

ألقاب مملكة في غير موضعها.

وكان قيام الدولة القطرية، بالحدود التي رسمتها الإرادة الخارجية، مراعاة لمصالحها، وتنفيذاً لمخططاتها، البداية والنهاية في عصر التجزئة العربي. ومنذ ذلك اليوم لم تجد الأمة مخرجاً من حالة الشتات والارتهان التي هي فيه، على الرغم من خطب الخطباء، وبيان البلغاء، وجهد المصلحين. وكأن حبات العقد المهشمة، وليس فقط المنفرطة، لم تكن يوماً جزءاً من كلٍ، ولا كلاً في نظام، فهيمنت حدود رسمت بحبر زائف على كل حقائق: العقيدة والانتماء والحضارة واللغة.

وعلى الرغم من الإخفاقات المتتالية المصاحبة للدولة (القطرية) على كل الصعد: السياسية والتنموية والاجتماعية، إلا أن عنوان الإخفاق النهضوي المعاصر إنما يتمثل في العجز عن تجاوز التجزئة، وتحقيق المشروع الوحدوي، مع صلابة الأساس، وتوفر الدواعي، وإلحاح البواعث، والرغبة المؤكدة لجماهير الأمة في تحقيق هذا المطلب العام.

انعكاسات الإخفاق

وقد انعكس هذا الإخفاق عن تحقيق المشروع الوحدوي، على بعض النفوس من النخب والجماهير يأساً وإحباطاً وتشككاً في (الذات)، التي أقيم المشروع على أساس تميزها أو تفردها. وعلى العكس من الحديث عن التفرد أو التميز، طفت على سطح الخطاب الفكري جهود ارتدادية تركزت في محاولات بائسة لجلد الذات، أو تعرية هذه الأمة بنيوياً وعقلياً من فضائلها وقدراتها، والادعاء عليها تحت مجهر مستعار، بنقائص لا يجليها أمام عيني صاحبها إلا وهن أصاب نفسه، ويأس ملأ قلبه.

كما انعكست حالة التجزئة على الصعيد الواقعي ضعفاً وتمزقاً، فتمكن العدو من مقدرات الأمة، فاغتصب الأرض، وسلب الثروة، واستلب الإرادة وتحكم في القرار والمصير؛ دون أن تمتلك الدول المجزأة القدرة على المواجهة الحقيقية، وهي في أقصى حالات الضعف المادي والمعنوي. وكان أبلغ انعكاس لحالة الإخفاق تساؤلات بدأت تتوارد من هنا وهناك: لماذا الوحدة؟!!

لماذا الوحـدة ؟

كان من أخطر انعكاسات العجز عن تحقيق المشروع الوحدوي للأمة، الانكفاء عن المطلب تحت ذرائع متفاوتة. فلم تعد الوحدة المطلب الشعبي الأكثر إلحاحاً، بل إن جماهير الأمة قد ارتهنت لحالة من اليأس، جعلتها قانعة بأقل القليل من التضامن العربي، المتمثل في وقف النار الإعلامية بين أنظمة قطرية، طالما تراشقت التهم بأساليب مباشرة أو غير مباشرة.

بينما انحازت بعض النخب المثقفة، إلى فلسفة العجز وتسويغه، والبحث عن مستنداته النظرية والعملية، مما قادها في النهاية إلى لمز القوى التي تطالب بهذا الهدف الحيوي للأمة: بالانفعالية أو الطفولية أو السذاجة، فغدت (الوحدة) عند بعض الدارسين حلماً رومانسياً، يغفل عن معطيات الواقع، ويتعلق بعالم المثل في عالم لا مثل فيه !! ويقرر آخرون بين مهزوم ومأزوم وصاحب دخيلة: أن ما يفرق الأمة أكثر مما يجمعها، ولذا كان علينا أن نكف عن التفكير في الهدف، وأن نقنع بما دونه من أشكال التنسيق أو التكيّف، في ظلال علاقات دولية أكثر حدة، وأبلغ في تجاوز الخصوصيات.

إن وحدة (الأمة)(1) هي مطلب أساس يحتل رأس أولويات العمل السياسي العربي والإسلامي، ويعتبر هذا الإنجاز، شرطاً أساسياً لعبور الأمة إلى مجال وجودها الحيوي على خارطتي: الزمان والمكان.

الوحدة أولاً لأنها الأصل في وجود الأمة، دون أن تستغرقنا معطيات لحظة يأس تاريخية، أو تقعدنا تحديات واقع مرير، أو يحبطنا ثقل العبء المفروض علينا.

والوحدة ثانياً، لأنها حقيقة تاريخية، تقوم عربياً على الانتماء لأمة واحدة مكرمة باستعدادها الفطري الأصيل لتحمل رسالة السماء، وتقوم إسلامياً على الانضواء تحت قوس قوله تعالى: (كنتم خير أمة أخرجت للناس، تأمرون بالمعروف، وتنهون عن المنكر، وتؤمنون بالله.)

والوحدة ثالثاً، لأنها مطلب استراتيجي تجمع طاقات الأمة، وتلم شعثها، وتخرج بها من حالة الغثائية وذل الوهن، وتصوغ منها قوة كبرى ذات دور ورسالة.

عوامل: تكريس التجزئة. وإعاقة مشروع الوحدة

في إطار الحديث عن التجزئة: الواقع المريض المكرَّس، وعن الوحدة المشروع: ـ المخرج ـ المعطل أو المؤجل لا بد للإنسان أن يتساءل، عن سر القناعة بالنقص، أو الرغبة عن الكمال ؟! والرضى بالضعف، والانصراف عن القوة ؟ وتجرع زقوم المهانة القومية والسياسية والاقتصادية، والصدوف عن بوابة العز التي تحمل الأمة إلى مكانتها تحت الشمس؟!! من الذي يكرس هذه التجزئة بكل ما فيها من خلل وضعف ووهن، ويعيق مشروع الوحدة بكل ما يحمله من أمل وبشرى وألق؟!

إن أول هذه العوامل، أو العوائق هو: الاستبداد بكل ألوانه وأشكاله. الاستبداد (السلطوي) والاستبداد (السياسي) والاستبداد (الفكري).

الاستبداد (السلطوي): كرس التجزئة، وأعاق الوحدة، لأن أحداً من الممسكين بعناق السلطة (فرداً) أو (حزباً) لا يتصور في الوحدة إلا تهديداً لوجوده، وأنها لا يمكن أن تتم إلا إذا تنازل عما يعتبره مصلحة ذاتية أو مكسباً شخصياً، ومن هنا يقترن الخطاب (القطري) دائماً بتمجيد الحاكم وتقديمه على كل من عداه.

والاستبداد السياسي، هو دائرة من الاستبداد أوسع من الاستبداد السلطوي، لعب دوره في تكريس التجزئة بتعطيل القوى السياسية التي يقع على عاتقها عبء المشاركة في تحقيق مشروع الوحدة، لينفرد في ساحة العمل (القومي) أو (الوطني)، بجهد ضعيف محدود صُرِف أكثره في الترويج للذات، أو في إقصاء الآخرين أو الاستحواذ عليهم.

أماّ الاستبداد الفكري، فقد كان استبداداً (إيديولوجياً) أقصى المعرفة بأبعادها التاريخية والواقعية، واكتفى باستيراد الأنموذج الليبرالي أو الماركسي فجاءت معادلة (القبعة) و(الرأس) مخيبة للآمال.!!

الاستبداد هو سرّ استمرار التجزئة، منه استمدت نسغ وجودها، كما كان للتجزئة أيضاً دورها في تكريس الاستبداد ونعشه، وإنها لدائرة للشر والعجز والهوان، لا بد للأمة أن تجهد لكسرها، وبناء دولة وحدتها وتحررها أو تحررها ووحدتها. وكان فيما عناه الاستبداد غياب الإرادة الفاعلة، التي يناط بها السير في طريق المشروع الوحدوي، على أسس منهجية واقعية.

العامل الثاني: غياب المشروع الوحدوي

على كثرة ما كتب في المشروع الوحدوي تأصيلاً تفصيلاً، فقد تردد الجهد الوحدوي بين حالة شعاراتية عائمة لا تعتمد على أرضية علمية واقعية، تضع الأسس وتحدد الآليات، وترسم طريق الإنجاز. وبين خطوات انفعالية أو إعلامية تنساق وراء رغبة عابرة لحاكم أو مجموعة، فتنجز شكلاً من أشكال (الوحدة) القشرية الظاهرية، التي لا تقترب عملياً من أي إنجاز حقيقي، يخلق حالة من الانصهار العضوي، يصعب الانفكاك منها أو العودة عنها، إنه باستثناء الحدث (الطفرة) الذي أنجز مشروع الوحدة بين سورية ومصر سنة /1958/، لا يمكننا التحدث عن إي إنجاز وحدوي حقيقي ذي ظلال غير إعلامية!! إن التخلف عن إنجاز مشروع وحدوي يحدد الأسس والأطر والآليات، ترك الطرح الوحدوي أشبه بفقاعة عائمة في عالم من الفضاء الفكري والسياسي. وساهم بدوره في تكريس التجزئة وأعاق قيام دولة الوحدة. ومسئولية هذا تقع في رأينا على فريقين: رجال السلطة الممسكين بالقرار، والنخب السياسية المختلفة، التي لم تستطع طوال قرن أن تحدد لنفسها ولمشروعات الأمة الكبرى برامج وآليات تتابع أمر تنفيذها.

 أما العامل الثالث من عوامل تكريس التجزئة، وإعاقة مشروع الوحدة؛ فهو اختلال التوازن أو التفاوت الحاصل بين البنى القطرية المختلفة، ولقد أدى اختلال التوازن: الحضاري والثقافي والاجتماعي والاقتصادي، إلى حالة ظاهرية من تضارب المصالح، اتكأ عليها مكرسو التجزئة في حماية مصالحهم، والتحذير من مخرجات أي مشروع وحدوي، حيث حاول كل فريق من جهته أن يتصور في المشروع الوحدوي محاولة لربط : الهر بالحصان، وهي حالة مرضية لم تنشأ عن الأنانية والأثرة فقط، وإنما نشأت عن سوء التقدير أيضاً.

ولو أن مشروعاً وحدوياً عربياً استطاع أن يميط عوامل التخوف هذه عن الأذهان، لكان له بلا شك دوره في إبعاد حجر عثرة من طريق المشروع الوحدوي العربي.

العامل الرابع من عوامل تكريس التجزئة، غياب الدور الشعبي الفاعل عن المشاركة المنتجة، وفي ضبابية الرؤية العامة المتعلقة بالشعار وحمياه. غاب الدور الشعبي الفاعل لأبناء هذه الأمة عن إبراز حقيقتها في صيغة سياسية عملية حية، تكون ملء سمع الزمان وبصره، هذه الجماهير التي ماتزال تمثل (وحدتها) حقيقة حية ناطقة كلما حزبها أمر، أو نزل بها خطب، وحري بمن مايزال يشكك في حقيقة الوحدة التي تغمر قلوب أبناء هذه الأمة، أن يتابع مواقف جماهيرها من القضايا الكبرى: في إندونيسيا والملايو وتركية وإيران ومصر والشام والعراق، على رغم من عنت السياسة وإرادة السياسيين!! أمة واحدة لا تجمعها فقط لحظة انفعالية، وإنما رغبة حقيقية في فعل منجز، واستعداد لتضحية قد تذهب بالمال وبالنفس.

هذا الدور الشعبي الفاعل قد غيب منذ قرن عن الساحة، هُمّش حيناً، وهشم حيناً آخر، وزور ثالثاً؛ ولاسيما في الأقطار ذات الثقل النوعي التي يشهد تاريخها القديم والحديث بقدرتها على أن تكون (القطر القاعدة) أو الملاط القوي الذي يجذب الأقطار الأخرى ويجمعه في إطار متماسك ومتين.

لأمر ما مايزال المدافعون عن الديمقراطية وحقوق الإنسان في العالم، يبتلعون ريقهم إذا ما ذكر العالم العربي والإسلامي، لأن دوراً فاعلاً وحقيقياً لجماهير هذه الأمة سيحول بينهم وبين ما يشتهون، وسيثمر لهذه الأمة المشروع الذي يجمع كلمتها، ويوحد صفها، ويخوض معركة تحررها وبنائها.

والعامل الأخير من عوامل تكريس التجزئة وتعويق الوحدة، وهو العامل الرديف للاستبداد والمكافئ له: الاختراقات الخارجية. ودور المشروعات المعاكسة.

إذا كان (الآخرون) لم يصنعوا كل واقعنا، فهم لم يغيبوا أبداً عنه، وإنما كانوا دائماً حاضرين تخطيطاً وتوجيهاً وإشرافاً وتنفيذاً. قامت الدولة القطرية وفق مشروع غربي رعته ابتداء فرنسا وبريطانيا، ثم تولت هذه الرعاية منذ أواسط الخمسينات الولايات المتحدة الأمريكية. ووضح للخلف كما للسلف أن أي مشروع وحدوي عربي، هو مشروع مهدد بل مناقض لمشروع الهيمنة الغربي، والمشروع الصهيوني المشتق منه.

يلحظ المراقب بسهولة، أن الولايات المتحدة تعتبر الحفاظ على النظام الممثل للتجزئة، بكل أبعادها، أمراً استراتيجياً يلمس مصالحها الحيوية، في المنطقة الأكثر حساسية، وللالتفاف على المشروع الوحدوي العربي، ماتزال قوى الهيمنة تنسج العديد من المشروعات الجديدة القديمة، لإبقاء المنطقة في مربع السيطرة الغربي. ومن يتابع المشروعات الأمريكية والأوروبية تحت مسميات (الشرق الأوسط الكبير أو الأوسع) لما يعرف بمبادرات الإصلاح يلحظ تماماً غياب أي رؤية وحدوية لبنيات هذه الأمة.

فمع سقوط سياسات الدعوة إلى الأحلاف الاستراتيجية مع انتهاء الحرب الباردة، بدأت الجهود الغربية والأمريكية بشكل خاص، تسعى، وفق استراتيجية مقررة، إلى تجريد المنطقة من هويتها (العربية والإسلامية) ومن خصوصياتها (العقائدية والقيمية)، وحشرها تحت مسميات (الشرق الأوسطية)، تعزيزاً للهيمنة الغربية واشتمالاً للوجود الصهيوني.

يصطنع الغرب بعض الأنظمة العربية بسياسات الترغيب والترهيب، كما يصطنع بعض النخب العربية ويؤمن لها (الدعم) المسبق، والحماية اللاحقة لكل موقف يوهن بناء الأمة، ويعزز مصالح أعدائها.

لقد لعب التحالف غير المقدس بين ثالوث (الاستبداد) و(الهيمنة) و(أدعياء الفكر) في تكريس التجزئة، وتزييف إرادة الأمة، وإجهاض مشروعها الوحدوي.

محاولتنا الوحدوية

ترتكز محاولتنا الوحدوية، على إصرار مطلق على تحقيق الإنجاز الوحدوي كمشروع عام يعتبر مدخلاً لتحقيق مشروع نهضوي مترابط الحلقات.

كما يحتل مشروعنا الوحدوي بأطره: الرسمية والشعبية كما سيتوضح في هذه الورقة، أولوية منهجية في الفقه السياسي، وفي التحرك العملي، وعلى جميع القوى السياسية على الساحتين العربية والإسلامية، أن تفسح للمشروع الوحدوي في برامجها المكانة التي يستحق.

كما نرى من الضروري، في هذا السياق، أن نعبر عن ألمنا وقلقنا من الانكفاء عن المشروع (الوحدوي) وخفوت النبرة الوحدوية في خطاب النخب السياسية والمثقفة، انكفاءً وخفوتاً يعبران عن حالة من اليأس والإحباط لا يعرفها المصلحون ورجال الدعوات. بل تعدى الأمر حتى وصل بالبعض إلى الشك في إمكانات (الذات)، أو أهليتها تحت دعوى (الواقعية). ولا يجوز أن تُفهم الواقعية خضوعاً لمعطيات الواقع، مهما كان ثقلها أو حدتها، وإنما أن تفهم دائماً منهجاً حيوياً يقوم على استنباط أقرب السبل لتحقيق الأهداف، وتطوير معطيات الواقع وحسن توظيفها.

إن إخفاق الأمة خلال ما يقرب من قرن في تحقيق الهدف الاستراتيجي العام في (الوحدة)، لا يجوز أن يحملها على التخلي عن الهدف، أو التشكيك فيه، أو تحويره أو اختزاله بحيث يفقد معناه. ولن يكون عبثاً أبداً مع الاستمساك بالهدف أن نعيد طرح الأفكار والتصورات من جديد !!

محاولتنا الوحدوية.. خطوات على الطريق

أولاً ـ التأسيس الثقافي:

نعيد طرح التأسيس الثقافي على المستوى القطري، كما على المستوى العام للأمة، كمدخل تأسيسي لا بد منه لإنجاز المشروع الوحدوي، ولإدامته على أولويات العمل العام في جميع سياقاته.

يبدأ التأسيس الثقافي للمشروع الوحدوي من إعادة بناء شعور الانتماء إلى الأمة (عقائدياً) و(حضارياً). وهو شعور سُحِق تحت وطأة الهزائم المتتالية، والواقع المزري لأمة يراها أبناؤها في أقسى صور المهانة والعجز.

إن التأكيد على الدور الحضاري للأمة، المتجسد في واقع تاريخي لا يستطيع أن يجحده جاحد، يعتبر أرضية صالحة وصلبة لبناء موقف معتز بالانتماء، وإنه الأولى والأجدى من جميع محاولات جلد الذات، التي يحاولها البعض بإجراء مقارنات خارج إطارها (التاريخي) بين واقع وواقع.

كما أن التأكيد على دور الأمة (الرسالي)، المستنبط من معطى قوله تعالى (كنتم خير أمة أخرجت للناس، تأمرون بالمعروف، وتنهون عن المنكر، وتؤمنون بالله.) هذا الدور الذي رشح الأمة لتحمل أمانة البلاغ والشهادة على الناس؛ يسقط مباشرة محاولات البعض تفكيك الأمة بنيوياً، وتعريتها عقلياً ونفسياً بدعاوى الدراسات الموضوعية كما يزعمون.

الوحدة فريضة شرعية:

ويعزز شعور الانتماء هذا، تكوين الوعي الداخلي (للفرد) و(للمجموع) تكويناً وحدوياً، والتركيز في منظومة الفقه السياسي الغائب أو المغيب عن المناهج التربوية والإعلامية والثقافية؛ على أن (الوحدة) بين أبناء الأمة وأقطارها، فريضة شرعية، وليس خياراً استراتيجياً، أو ضرورة سياسية فقط. فريضة مأخوذة من قوله تعالى ( إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون).

إنه بمثل هذا التأسيس البنيوي المبكر، في ضمير الفرد، والجماعة، يخرج المشروع الوحدوي من إطار الشعار أو المصلحة، إلى واقع المطلب الضروري المرتبط بعقيدة الأمة وشريعتها.

إعادة صياغة الثقافة الوحدوية:

والخطوة الثالثة على طريق التأسيس الثقافي للمشروع الوحدوي هي: إعادة صياغة الثقافة الوحدوية، حسب معطيات القرن الحادي والعشرين ومستجداته. ذلك أن الخطاب الوحدوي الذي ساير القرن العشرين، كان ينبع، وهذا أمر طبيعي، من معطيات القرن المنصرم. ولقد شهد ذلك القرن نشوء دول وزوالها، وبزوغ أفكار ونظريات وأفولها؛ ولقد أبرهت الأحداث صحة بعض المعطيات، ونقضت بعضها، وكل هذا مما يجب أن يؤخذ في الاعتبار لدى صياغة الخطاب الوحدوي المعاصر.

فكل ما ذكر عن الروابط والمعوقات التي تجمع بين أبناء الأمة، لا يلغي بعضه بعضاً، ولكنه يحتاج ربما إلى إعادة ترتيب، وربما يحتاج إلى التأكيد على بعض المعاني، وتفنيد بعض الشبهات. وإنه لممّا لا ينبغي أن يفوتنا في هذا المقام، أن ضرباً من الاستبداد (الفكري) أو (الثقافي) قد لعب دوره في إدخال الخلل على المشروع الثقافي الوحدوي، مما زاد في ضبابية الرؤية، أو الإبحار في العماء، نحو الهدف المنشود.

إن إعادة صياغة الخطاب الوحدوي، أو تحديثه وتجديده، لا يعني أبداً الانكفاء عن الهدف، ولا تقزيمه تهرباً من تحمل مسئوليته، وإنما يعني طرحه بأسلوب يتمشى مع روح العصر ومستجداته، وحقائق الواقع ومعطياته.

ثانياً ـ التأسيس الشعبي:

لم يتوقف الانقسام في بنيان الأمة في القرن الماضي عند حد الانقسام (الرسمي)، الذي كانت الدول القطرية عنواناً له. بل إن الأمة شهدت ألواناً من الانقسام الشعبي في أطره: العقائدية والمذهبية والسياسية والفكرية والاجتماعية؛ وكان هذا الانقسام حاداً وعنيفاً في كثير من الأحوال، وغاب عن مناهج النخب ووسائل تعاطيها مع الواقع الروح الحضاري الذي ساد مواقف الأفذاذ من الأمة، وكان للشعارات على كل صعيد لهيبها، الذي احرق كل عوامل الترابط بين أبناء الأمة، ليجعل منها وحدات فسيفسائية شبه مجهرية.

لقد كان القرن العشرون بحق قرن النبذ أو التنابذ، داخل بنيان الأمة الواحدة، وربما آن الأوان لتنتقل الأمة إلى حالة من الجذب مقابل حالة النبذ تلك، إنها ليست دعوة للتخلي عن الخصوصية، أو التنازل عن العقائد والأفكار، وإنما هي دعوة إلى اكتشاف ما يجمع، وتحديد ما يفرق لا تهويله وتعظيمه، دعوة مستمدة من منهج قرآني أصيل في الحوار: ( وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد.) فحدد ما يجمع قبل الدخول بالمجادلة الذي اشترط أن تكون بالتي هي أحسن.

إن أهم ما يقرب المشروع الوحدوي، ويضعه على مدرجة التنفيذ العام، هو التفاهم الذي يجب أن يحصل بين تيارات الأمة الكبرى، وبين مفردات كل تيار وفروعه، وكذا بين النخب والجماهير، نظن أن الصراع خلال قرن من الزمان قد دار في كثير من الأحيان حول الألفاظ والشعارات، لا حول الحقائق والمضامين. على مائدة الحوار (الوطني) أو (القومي) أو (المذهبي) أو (الديني) ستجد كل الدوائر أن بينها نقاط التقاء تقل أو تكثر. وإن الإخلاص للمشروع السياسي لكل فريق يقتضي منه أن يسعى إلى تحديد نقاط اللقاء وتعزيزها. إن تقارب تيارات الأمة الكبرى على اختلاف توجهاتها خطوة لا بد منها للتمهيد لمشروع وحدوي عام. ونظن أن قرناً خلا قد أثبت أن سياسات (الانغلاق) أو (الاقصاء) أو (الوصاية) هي التي قادت الجميع إلى هاوية الإخفاق المهين.

وفي إطار التأسيس الشعبي للمشروع الوحدوي، من حقنا أن نشير إلى بناء مؤسسات المجتمع المدني على الصعيدين العربي والإسلامي، من خلال (الروابط) و(الجمعيات) و(النقابات) اللاقطرية التي يمكن أن تكون أساساً تمهيدياً لنشاط وحدوي غير محدود. إن (النقابات) و(الروابط) العربية القائمة على الساحة اليوم، قد غلبت عليها الصبغة الإيديولوجية، والسياسات التي تولي وجهها قبل (الأنظمة) أكثر منها قبل (الجماهير)، وهذا يمثل ثلمة في الجدار، وعائقاً يجب تداركه، إن هذه الروابط الممثلة للنخب العربية بأطرها المختلفة يمكن أن تشكل (مرقاة) صالحة نحو المشروع الوحدوي العربي، ولاسيما إذا استطاعت أن تكون أوسع تمثيلية وأصدق لهجة وحديثاً.

إن الجميع يدرك اليوم، أن ما تعيشه الأمة اليوم من خلل في البناء العام، يفقد أي فريق الفرصة للتفكير في خصوصية يقوم عليها برنامجه الذاتي، وكيف نتحدث عن خصوصية البرنامج والأرض محتلة، والقرار مصادر، وسياسات الاستحواذ أو الوصاية أو الإقصاء هي السياسات المعتمدة في هذا القطر من أقطار الأمة أو ذاك.

ثالثاً ـ التأسيس الرسمي للمشروع الوحدوي:

إذا كانت (الإرادة) هي الشرط الأساسي المسبق لتحقيق أي (فعل) أو (إنجاز) إنساني، فإننا قد نختصر على أنفسنا الجهد إذا قررنا أن كثيرين ممن يمسكون بأيديهم القرار، ويرفعون شعار الوحدة، لا (يريدونها)‍‍!! فالمعضلة الأولى في تصورنا هي في إرادة هؤلاء، لا في قدرتهم، وإن كانت (القدرة) كشرط تالٍ هي مناط من مناطات الإنجاز.

ومن هنا نرى أنه لا بد من إيجاد قنوات التأثير المباشر في القرار الرسمي الوطني والقومي ، وأَطْر أصحاب القرار على السير في الطريق الذي اختارته الأمة أطراً.

إن حالة (التمزق) التي عاشتها نخب الأمة في القرن الماضي جعل منها: إما مطية لرغبات صاحب القرار، أو هدفاً لعدوانه وأذاه، وكان لسلوك هذه النخب وطرائق تعاطيها مع الواقع، دوره في فرزها في أحد الخندقين. نظن أن مراجعة أولية لدور النخب العام، وعلاقاتها البينية من جهة، وعلاقاتها مع صاحب القرار من جهة أخرى، كفيلة بأن تجعل منها قوة ضاغطة منظمة ومؤثرة في سبيل تحقيق مشروعات الأمة الكبرى.

إن مراجعة تاريخية لتجربة الوحدة سنة 1958 بين سورية ومصر، تؤكد حقيقة أن الوحدة لم تقم بقرار من النظام السياسي وحده. وإنما كانت هناك قوة شعبية ضاغطة هي التي حققت هذا الإنجاز التاريخي، أو دفعت إليه.

إن على (النخب) المثقفة أن تقتنص من فقه اللحظة السياسي أنموذجاً وحدوياً، ثم تضع كل ثقلها في سبيل تحقيقه وإنجازه. ومن هنا تبرز (المرحلية) كأسلوب أو إطار لتحقيق إنجاز وحدوي، على هذه الجبهة أو تلك.

ومفهوم المرحلية يشمل صوراً كثيرة؛ منها المرحلية (القطرية)، ومنها مرحلية الصيغ من تنسيق إلى اتحاد إلى وحدة، ومنها مرحلية الميادين: الاقتصاد، الأمن، الدفاع ...

وفي هذه الأطر جميعاً يمكن التأكيد على أهمية الوحدات الإقليمية الكبرى، على أسس أكثر موضوعية، على غرار مجلس التعاون الخليجي، أو الاتحاد المغاربي، أو دول الطوق العربي، أو دول الشرق العربي، أو وادي النيل... الخ إن جميع الصيغ الوحدوية المرحلية الناجحة، ستقود حتماً إلى صيغ أكثر عمقاً وشمولاً.

إن النظرة المتجاوزة لتقليل شأن الجامعة العربية بواقعها الراهن، تدفعنا إلى التأكيد: أنه لو عجز الجيل الأول عن إنشاء مثل الجامعة العربية لكان جيلنا الحاضر حسب المعطيات القائمة عن مثلها أشد عجزاً.

إن الجامعة العربية كرابطة أولية لأبناء الأمة العربية تمثل أساساً صالحاً للتطوير لمن أراد الإنجاز.


(1) نقصد بالأمة دائماً إطاريها العربي والإسلامي، حيث العلاقة بين الدائرتين علاقة (اشتمال)  لا علاقة تضارب أو تضاد.

أعلى الصفحةالسابق

 

الرئيسة

اطبع الصفحة

اتصل بنا

ابحث في الموقع

أضف موقعنا لمفضلتك

ـ

ـ

من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ