ـ

ـ

ـ

مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وقولوا للناس حسنا

اتصل بنا

اطبع الصفحة

أضف موقعنا لمفضلتك ابحث في الموقع الرئيسة المدير المسؤول : زهير سالم

السبت 05/02/2005


أرسل بريدك الإلكتروني ليصل إليك جديدنا

 

أبحاث

 

إصدارات

 

 

    ـ أبحاث

 

 

    ـ كتب

 

 

    ـ رجال الشرق

 

 

المستشرقون الجدد

 

 

جســور

 

 

التعريف

أرشيف الموقع حتى 31 - 05 - 2004

ابحث في الموقع

أرسل مشاركة


دولة العدل والرعاية الاجتماعية

ضرورة كونية وواجب شرعي

لإزاحة الطغيان والاستبداد وبسط العمران وتكريم الإنسان

من جهة، والتصدي لعولمة الفقر ومسخ الفطرة من جهة أخرى

عبد الحميد حاج خضر*

في مقالة سابقة بعنوان "لمن ستقرع لأجراس؟ للعقلانية الصارمة وصوت الضمير أم للأنانية والأوهام" كتبت عن مسألة ( تغوّل الدولة ) كما يراه المشروع السياسي للإخوان المسلمين ومشرع البرنامج الداخلي للحزب الديمقراطي الاجتماعي حيث أشرت إلى إغفال كلا المشروعين لمسألة شرعية النظام السوري القائم، والسبيل إلى إقامة نظام شرعي يعبر عن إرادة الشعب كشرط لابد منه لمسيرة الإصلاح الشاملة لما أفسد الاستبداد والاستئثار بالسلطة، وتوريثها لمدة أربع عقود. سأستعرض في هذه المقالة لطبيعة الإصلاح المطلوبة التي عرضها المشروعين. من لطيف الصدف أن كلا المشرعين، ورغم اختلاف المرجعيات، يتفقان على مجموعة من المطالب التي لو تحولت إلى سياسات معتمدة من السلطة ثم نقلت مؤسسات الدولة هذه السياسات، كلها أو بعضها، إلى المجتمع فستكون الدولة المنشودة نمط من أنماط (دولة الرعايا الاجتماعية) Social State أي دولة ديمقراطية ليبرالية في السياسة والإدارة، أما الإنتاج والاستهلاك فيتم وفق آليات السوق ( العرض والطلب واحترام الملكية الفردية )، وللدولة وظيفة محورية في سياسة السوق الاجتماعية Sozialmarktwirtschaft أهمها توفير الإطار العام لازدهار العمران والإنتاج من جهة وتأمين المواطن من الجوع والخوف والمرض والجهل من جهة ثانية. أي لكل حسب حاجته ولكل حسب استطاعته. وبالتعبير الإسلامي " تأخذ الدولة من فضول أموال الأغنياء وتردها إلى الفقراء كحق معلوم وسياسة شرعية ". لقد أعادنا المشرعان الإخوان والاجتماعي إلى المربع الأول، أي إلى الوسط السياسي السوري في نهاية الخمسينيات وبداية السينيات مع فارق جوهري أن السلطة في سورية في تلك الحقبة كانت تتمتع بشرعية برلمانية ودستور يرسم فصل السلطات والتعددية السياسية وحقوق المواطنة وحق البيان والتعبير...الخ من طيبات الدولة العصرية، وفوق كل هذا وذاك أن قضية العدل الاجتماعي كانت محورية في دستور الاستقلال وتحتاج إلى تفعيلها غالبية برلمانية معتبرة يمكن كسبها بالحكمة والإقناع، خاصة أن المنظمات النقابية، العمالية والمهنية، عرفت طفرة في الأهمية والتنظيم. كل هذه المكاسب تم إزاحتها عن المشهد السياسي والاجتماعي عبر العقلية الشمولية التي أخذت طريقها إلى المؤسسة العسكرية والأجهزة الأمنية التي لا تستطيع أن تستوعب أساليب الحوار المدني والتطور العضوي وآليات التغير الديمقراطي للمجتمعات الإنسانية؛ يضاف إلى هذا أن طبيعة حياة العسكر والأجهزة القمعية لا تعرف حياة الإنتاج والتنمية فهي تعيش على جعالة أو راتب مفروض لقاء خدمات لا تمت إلى الإنتاج بصلة، فالجيوش منذ فجر التاريخ لا تعرف إلا الحرب والسلب والنهب، وطريقها إلى الثروة هو التخلص من الآخر والاستحواذ على ثروته وما يملك. لقد وجدت هذه العقلية الشمولية في دعوى الوحدة، وزخم الحرب الباردة، والعدوان الصهيوني ما يبرر تمردها على الإرادة السياسية والتطاول عليها، خاصة أن الإرادة السياسية كانت لا تستند إلى مؤسسات عريقة أو عزوة سياسية متجانسة؛ مثلها كمثل الحكيم الضعيف الذي لا يملك إلا حكمته البالغة. لقد وضعت العقلية الشمولية الوحدة في مقابل الحرية، فأضاعت الوحدة والحرية، ووضعت التنمية والإنتاج في مقابل الثورة والأماني الكاذبة فكان الفقر والفاقة فأدخلت البلاد والعباد في دهاليز التخلف والتبعية، فكانت كالمنبت لا أرضاً قطع ولا ظهر أبقى. هذا إذا ضربنا صفحاً على سفر المؤامرة والتدخل الأجنبي الذي كان يتعامل مع بعض رموز الشمولية بسهولة ويسر. إن مثل من يطرح مشرع إنساني المعالم على غول وعنقاء الدولة الشمولية غير الشرعية كمثل من يلقي بالؤلؤ والمرجان أمام الخنازير، وقد نهى شاعر الألمان الشهير غوته عن هذه الفعلة. وقد انتهينا عن ذلك، ومع ذلك لا يمنعنا أن نناقش ضرورة وماهية وكنه دولة الرعاية الاجتماعية خاصة في عصر الرأسمالية المتوحشة وعولمة الفقر والعوز والفاقة.

أما عن ضرورة العمل على بناء دولة الرعاية الاجتماعية فهي نابعة عن قراءة البنية السكانية (ديمغرافية) لأي مجتمع إنساني بعقلانية مسؤولة وفطرة سليمة للوصول إلى مجتمع منتج ومزدهر العمران من جهة وتحقيق أكبر قدر من السلم الاجتماعي. إن مجتمع التدافع والاستهلاك الذي يسعى إلى تحقيقه منظري الرأسمالية المتوحشة والعولمة هو النقض لمجتمع دولة الرعاية الاجتماعية. هناك حقيقة حسية موضوعية تفرض نفسها على أصحاب القرار السياسي ألا وهي بنية الهرم السكاني، وحاجة كل شريحة من شرائح الهرم إلى سياسات متناغمة مع طبيعة تلك الشريحة. لنقارن بين الهرم السكاني في جمهورية ألمانيا الاتحادية والجمهورية العربية السورية. يبلغ عدد سكان ألمانيا 82,424 - نسبة المواطنين ما بين 0-14 يصل إلى 14,7 ونسبة المواطنين ما بين 15-64 يصل إلى 67% أما المواطنين الذين تزيد أعمارهم عن 65 سنة فيصل إلى 18,3% متوسط العمر هو 41,6 عام. أما في سورية فيبلغ عدد السكان الإجمالي 18,037 نسبة المواطنين مابين 0-14 يصل إلى 38% ونسبة المواطنين ما بين 15-64 يصل إلى 58,7 أما المواطنين الذين تزيد أعمارهم عن 65 سنة فيصل إلى 3,3% متوسط العمر هو 20 عام. أهل الاختصاص يصفون المجتمع السوري أنه مجتمع فتي في حين يوصف المجتمع الألماني بأنه مجتمع هرم. إلا أن المجتمع الهرم يقدم 67% من مجموع السكان كيد عاملة، بغض النظر أن العمل بأجر أو عمل المنزل غير المأجور، الذي يقوم بمهمة الرعاية عادة، في حين لا يقدم المجتمع السوري الفتي إلا حوالي 58,7% فقط. هذه النسبة- تلطف عندما نعلم أن الشعب السوري مصدر للعمالة الرخيصة بينا المجتمع الألماني متسورد لمثل هذه العمالة من دول أخرى. الذي يهمنا في الموضوع الذي نحن بصدده هو: سواء كان المجتمع فتياً أم هرماً هناك شريحتان من الهرم السكاني غير منتجة وتحتاج إلى رعاية. في الحالة الألمانية تصل إلى 33% وفي الحالة السورية تصل إلى 41,3%. إلا أن كلفة الشريحة الألمانية التي تحتاج الرعاية أعلى من نظيرتا السورية لأن الراتب التقاعدي والعناية الصحية التي يحتاجها الشيوخ أكبر في مجتمعات هرمة منها في مجتمعات فتية؛ يضاف إلى هذه الشريحة شريحة أخرى تتراوح نسبتها ما بين 8-10% من السكان تحتاج إلى رعاية دائمة، وهم المصابين بعاهات دائمة أو المعوقين يضاف إليهم المرضى بمرض طارئ يمنعهم من العمل والإنتاج. هذه الحقائق الموضوعية تضع الدولة والطبقة السياسية أمام معضلة واجبة الحل. بالنسبة لرواد العولمة والنظم الشمولية الاستبدادية فالحل هو العشوائية وإلقاء الحبل على الغارب. وظيفة الدولة في الحالة الشمولية أو المعولمة هي القمع أو الاستئصال، ويقولها منظرون العولمة دون حرج أو خجل، والشأن الاجتماعي لا يهمهم البتة بل إن أي دولة يراد الاستثمار بها من قبل الشركات المعولمة لا تجعل الدول التي تملك منظومة حقوقية أو قوانين أو حركة نقابية نشطة تحمي العمال من التعسف وتدافع عن حقوقهم في سلم أولويتها، ما لم تكن هناك إغراءات أخرى تعوض عن هذا العامل السلبي في نظرهم. ومثالها الحسي بنوتشة في تشيلي. رغم هذه النظرة اللبرالية، جديدة كانت أم قديمة، إلى دولة الرعاية الاجتماعية بهذه السلبية، فقد قدم نموذج دولة الرعاية عبر التاريخ الحديث البرهان الحسي على تفوقه علي النموذج الشمولي والنموذج الليبرالي المنفلت؛ ليس في تحقيق السلم الاجتماعي وسيادة القانون فحسب بل وفي ازدهار العمران وحسن الأداء ورفاهية الإنسان. عندما صعد بسمارك إلى سدة السلطة عام 1871جابه مشاكل لا حصر لها من أجل توحيد ألمانيا ومجابة خصوم هذه الوحدة من جهة، وبناء قاعدة صناعية قادرة على المنافسة في بلد لا يملك مستعمرات يستغلها للحصول على رأس المال الكافي لخلق طفرة صناعية متقدمة. سارت السياسة الألمانية على عدة محاور ومتزامنة: عسكرة الدولة أي خلق طبقة من الموظفين مرفهة نسبياً، ولكن صارمة ونزيهة ومثال لحسن ودقة الأداء؛ أصبحت فيما بعد نموذج يضرب به المثل. التقشف في نفقات الدولة، غير المنتجة، والتركيز الشديد على بناء البنى الأساسية التي تسهل لأصحاب الفعاليات الاقتصادية والرأسمالية الوطنية وغير الوطنية ببناء المشاريع الصناعية العملاقة. ربط النظام المصرفي بالعمران وعدم تقديم مساعدات تذكر لرأس المال الطفيلي الريعي، فأصبحت العلاقة بين رأس المال والعمال مباشرة مما دفع العمال أن ينظموا صفوفهم في تجمعات نقابية تطالب بنصيب عادل من الثروة والعمران الذي بات حسياً بصائرياً، ولما كانت الحاجة ماسة إلى العمال الفنين خاصة، فقد حصل هؤلاء على مكاسب مادية معتبرة وأخذت نقاباتهم تطالب بمكاسب سياسية عميقة الأثر، وتقدم الدعم للأحزاب الاشتراكية الديمقراطية لمجابهة الطبقة الاستقراطية والرأسمالية المتحالفة معها، إلا أنها، أي النقابات، رفضت منطق الثورة البرولتارية (بروليتارية تعني الطبقة التي لا تملك أي ثروة) مما دعا لينين أن ينعتها بالاستقراطية العمالية. وتعالت أصوات الماركسيين تطالب بالثورة بسم الكادحين (البروتاريا)، دون أن تقدم الدليل الحسي على وقوف الكادحين في خندق الثورة مستندةً إلى ما عرف برهط باريس (كومنة باريس ) والبيان الشيوعي الذي صدر بعد تجربة الثورة الفاشلة في فرنسا. الاستقراطية العمالية، كما أسماها لينين، كانت تطالب بحقوق المواطنة وتحسين ضروف العمل والأجور أي الإصلاح في مقابل الثورة، وشعارهم آنذاك "نريد حلب البقر لا ذبحها". خاض بسمارك جدلاً سياسياً مع الكنيسة الكاثوليكية عرف آنذاك "بالصراع الحضاري" لتحجيم نفوذ الكنيسة الكاثوليكية وبنفس الوقت معركة مع الاشتراكيين الديموقراطيين لتنتهي المعركة باللقاء التاريخي بينه وبين فرديناند لاسالزFerdinand Lassalles أحد قادة الحزب الاشتراكي الديمقراطي، وصدر على إثر هذا اللقاء ما عرف بالقوانين الاجتماعية أو الاشتراكية Sozialistengesetz وهي مجموعة قوانين أقل قسوة من قوانين الطوارئ المعمول بها في سورية اليوم، وتهدف إلى كبت نشاط الأحزاب اليسارية وخاصة الحزب الاشتراكي الديمقراطي وكان السبب المباشر لإصدار هذه القوانين المحاولة الثانية لاغتيال القيصر فيلهم الأول Kaiser Wilhelm I، ولكن اضطر بسمارك إلى تأسيس الضمان الاجتماعي الذي يرسم إقامة الضمان الصحي، الضمان ضد الشيخوخة، الضمان ضد البطالة في حدود متواضعة جداً. بقيت هذه القوانين سارية المفعول حتى عام 1890 ومع ذلك ترشح الحزب الاشتراكي الديموقراطي للانتخابات العامة عام 1884 ليضاعف مقاعده البرلمانية عما كانت عليه في انتخابات عام 1881. في الحقبة مابين 1877 وحتى عزل بيسارك عن السلطة في 20. 3. 1890عانت المبادئ اللبرالية في ألمانيا على الأقل ضعف في المصداقية والأداء، رغم النجاحات المعتبرة لسياسة المستشار الحديدي بيسارك في السياسة الخارجية. ما يهمنا من هذا العرض التاريخي المقتضب أن دولة الرعاية الاجتماعية ضرورة موضوعية قد تستطيع القوى اللبرالية وأنانية الرأسماليين أن تحجبها أو تأخرها ولكن لا تستطيع أن تمنعها. بعد خسارة ألمانيا الحرب " العالمية " الأولي قامت في ألمانيا اضطربات وتمردات في مناطق مختلفة من ألمانيا كان في بعض وجوهها مشابهاً لما حدث في روسيا أبان الثورة البلشفية حيث تشكلت مؤتمرات Raete=Sowjets على مستوى الأحياء والمدن من العمال والجنود وأخذت تمارس إدارة المناطق التي تقع ضمن نفوذها. هذا النموذج الساذج والعشوائي لسياسة الملك، لا يناقض مبدأ فصل السلطات فحسب، حيث أن المؤتمر "المنتخب" مباشرة من الشعب يمارس السلطة التنفيذية والتشريعية والقضائية أي "الديمقراطية المباشرة" وإنما أصبح المؤتمر نفسه فريسة للسفسطائية والفوضى والأهواء التي لا تستقر على رأي سديد، كما كان وبالاً على العمران والاجتماع الإنساني. تروتسكي ثم ستالين لم يجدا صعوبة تذكر في القضاء على المؤتمرات والتنكيل بروادها بفضل الجيش الأحمر، وإقامة السلطة والقيادة المركزية متمثلة باللجنة المركزية للحزب الشيوعي تم بالسكرتير الأول للحزب. أما في ألمانيا فكان الحل أكثر حضارية وأقل دموية، حيث أحسنت الطبقة السياسية وخاص الحزب الاشتراكي الديمقراطي وقادة النقابات الاستفادة من الجوانب الإيجابية لحركة المؤتمرات التي حظيت في بادئ الأمر بتعاطف عفوي من قبل الطبقات المهمشة وجماهير العمالية المستغلة بقسوة. في ديتسمر(كانون الأول) عام 1919 دعا فردرش ألبرت Friedrich Ebert إلى مؤتمر عام لكافة ممثلين المؤتمرات Raete أطلق عليه مؤتمر مندبي الشعب Rat der Volksbeauftragten قرر هذا المؤتمر بأغلبية معتبرة حل المؤتمرات في كافة المناطق وإقامة جمهورية ديمقراطية برلمانية؛ إلا أن بعض المناطق تمسكت بنظام المؤتمرات مما دعا الحكومة، وبتواطؤ من الحلفاء، التصدي لسلطة المؤتمرات في كل من ميونخ Muenchen وبريمن Bremen وبادن Baden وفورتسبورغ Wuerzburg وبراونشفايش Braunschweig فحلتها، كما عملت الحكومة إلى مطاردة الاشتراكيين والشيوعيين والمليشيات الأخرى. وفي 10 أكتوبر(تشرين الأول) عام 1919صدر دستور فايمار (نسبة إلى مدينة فايمار Weimar القريبة من برلين) وهو دستور ليبرالي وتعددي بامتياز. إلا أن القانون الانتخابي النسبي المنبثق عنه يفسح المجال لتعددية سياسية غير منضبطة تجعل تشكيل حكومة أمراً عسيراً مما دعا المشرع الألماني بعد الحرب العالمية الثانية أن يتلافى هذا النقص بوضع حاجز 5% أمام الأحزاب الصغيرة وأصحاب الخصوصيات والنحل المتطرفة (راجع بحث الانتخابات العامة في القدس العربي وموقع مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية). لم يلغى نظام المؤتمرات كلياً بل قننها وهذبها ووظفها في خدمة المجتمع والدولة، ودمقرطة العلاقة بين العمال وأرباب العمل، والحد من غلو وتطرف الحركات اليسارية والماركسية والعشوائية Anarchy. كيف حدث كل هذا؟ للإجابة على هذا السؤال لابد من وقفة على أس وتاريخ نظام المؤتمرات أو المجالس، خاصة وإن هذا النظام يطبق بخنفشارية قذافيية في ليبيا؛ لتخدم سلطة فرعونية متعجرفة يمليها هوى وأنانية مفرطة، فتصعر خدها للناس، وتسير في الأرض مرحاً، تظن أنها  ستخرق الأرض وتبلغ الجبال طولاً. وبالمناسبة: إن الذي أوحي هذه الفكرة الخنفشارية، ولقيت هوى عند القيادة الليبية، نفر من أبناء الغرب أعرف منهم ثلة من المثقفين الألمان، معرفة شخصية، أخذوا طريقهم إلى ليبيا ليتخذوا منها حقل اختبار لأفكارهم الشيطانية بعد أن استضافتهم الجماهيرية كحلفاء لها في مقارعة الإمبريالية.

نظام المؤتمرات مستوحى من ممارسات ساذجة للديمقراطية في أثينا، حيث يجتمع أحرار أثينا من الرجال، دون النساء والعبيد، حيث أن نظام الرق ودونية المرآة من مسلمات المجتمع الأثني (نسبة إلى أثينا)، فيتنابذ القوم بالحجج، ويتبارون ببليغ القول وسقيمة، حتى تأخذ الخمرة منهم كل مأخذ، ثم يرفعون أيديهم بالموافقة أو الرفض على ما استقر في أحلامهم أو أوهامهم أنه الصواب والحقيقة، وينفذون الآمر بقسوة الإغريق المعهودة، وهكذا حكم على سقراط بالموت وتجرع السم الزعاف. هذه البدائية والهمجية استفزت كوامن الحكمة عند أفلاطون فكانت الأتوبا Utopia، حيث الملك الفيلسوف أو الفيلسوف الملك بمثابة الحوذي الذي يقود عربة المجتمع؛ التي تجرها الخيول القوية رمز المؤسسة العسكرية التي عرفتها مملكة اسبارطا Spartaالمستبدة التي لم تستباح كما استبيحت أثينا الديمقراطية بفضل الجند والجندية الصارمة. إن قسوة المجتمع الصناعي الغربي الوليد في نهاية القرن الثامن عشر وعلى مدار القرن التاسع عشر رسخ في أذهان بعض النخب المتعاطفة مع الطبقة الكادحة ضرورة الرجوع إلى ديموقراطية أثينا الأولى؛ مسبغين عليها رومانسية القرن التاسع عشر وصرامة وحتمية الماركسية، فكانت فكرة المؤتمرات التي تنسف كل المنظومة اللبرالية، وتحسم الشأن العام واستغلال الإنسان لأخيه الإنسان مكاناً وزماناً؛ مستفيدة من حنق واحتقان الظلم في نفوس الناس.

بعد أن تمكنت الحكومة الألمانية من حل مؤتمرات العمال والجنود في كافة ربوع البلاد، وأصدرت دستور الجمهورية الديموقراطي البرلماني الذي يضم 181 مادة دستورية؛ رسمت المادة 165 من الدستور حق العمال والمستخدمين في المعامل والهيئات العامة والمؤسسات الخاصة انتخاب مؤتمرات ترعى وتدافع عن حقوقهم أمام أرباب العمل وأعطتهم حقاً استشارياً بعضها ملزم Mitbestimmung وحق استشارياً غير ملزم Mitwirken وصدر في 20.4. 1920 قانون مؤتمر العمل Betriebsverfassungsgesetz ينظم العلاقة بين العمال ورب العمل وآلية انتخاب أعضاء المؤتمرات وانتخاب اللجان المختصة وكأنه نسخة عن البرلمان العام. هذا الإنجاز الحضاري القابل للتطور والارتقاء قوبل في البداية من القوى الرجعية بالاستنكار ولكن سرعان ما أكتشف الإداريون الفائدة الجمة من هذه المؤتمرات التي كانت بمثابة واسطة العقد بين العمال والإدارة وكانت اقتراحات المؤتمر ذات فائدة تفوق التكاليف المادية التي تصرف عليه، حيث أسهمت المعارف الميدانية في تحسين الأداء وترسخ السلم الاجتماعي وبالتالي تقليص النفقات. ألمانيا التي خسرت الحرب، وكبلت بمقررات مؤتمر فرساي الجائرة، وإتاوات باهضة تدفع لدول الحلفاء، وخاصة فرنسا، نجدها تنهض من كبوتها وتحقق معدلات نمو تزيد أضعاف مضاعفة عن دول الجوار المنتصر فرنسا وإنكلترا كما حقق العمال مكاسب معتبرة جداً، تحسن الخدمات والأجور، تعزيز صناديق الضمان الاجتماعي، وتحسن مضطرد لضروف العمل. لقد قضي على البطالة نهائياً وأخذت ألمانيا تستورد العمالة من بولونيا والدول الشرقية الأخرى. لقد بلغت الأجور والخدمات التي تلقاها عامل المناجم والحديد تعادل أربع إلى خمسة أضعاف ما يحصل عليه زميله في بريطانيا، وعندما زار مراسل التايمز منطقة الرور الغنية بالفحم عام 1928كتب مقالاً يصف المستوى المعاشي للعمال الألمان وضروف العمل مقارنة مع زملائهم الإنكليز فخلص إلى مقالة يناشد بها سكان القارة الأوربية أن يدعوا قيادة أوربا للساسة الألمان. دولة الرعاية الاجتماعية الوليد على التراب الألماني والتي بدأت حسناتها تسري في أوصال القارة الأوربية وتزعزع ثقة الطبقة العاملة في الاتحاد السوفيتي بجدوى الثورة، والآمال العريضة التي تعقد عليها. والحقيقة التي لا مراء فيها أن صناعة دولة الرعاية الاجتماعية في المجتمعات الصناعية الحديثة هي صناعة ألمانية بامتياز، ألا أن هذا الصرح الإنساني الكريم أصيب بنكسة مع الأزمة الاقتصادية العاتية التي هبت رياحها الصفراء من قلب الولايات المتحدة الأمريكية، فعصفت بالاقتصاد العالمي، ولما لم يكن لألمانيا رصيد معتبر من الذهب يكون بمثابة مرفأ أمان يلوذ به الاقتصاد القومي وقت هبوب العواصف الاقتصادية، فقد نالت الأزمة الاقتصادية من ألمانيا أكثر مما نالت من دول صناعية أخرى، لأن الاقتصاد الألماني كان يعتمد على تصدير السلع إلى الولايات المتحدة وأمريكا الجنوبية يشكل أساس، وانتشرت البطالة بشكل مخيف، ومع انتشار البطالة اشرأبت أعناق الأحزاب المتطرفة التي تصطاد بالماء العكر، فانتعش الحزب القومي الاجتماعي الألماني Nationalsozialistisch Partei Deutschland الذي يرمز إليه بNSPD الذي يري في سياسة الأحزاب الأخرى تواطؤ وتفريط بالحقوق القومية، كما يرى معاهدة فرساي بيت الداء وإسقاطها أصل كل دواء، أما الأحزاب الاشتراكية والشيوعية فطابور خامس في جسم الأمة الألمانية وبؤرة الفساد اليهودية. كان نجاح الحزب القومي الاجتماعي في البداية متواضعاً، فلم يحصل على أكثر من 12 مقعداً في انتخابات مايو (أيار)عام 1928في حين حصل غريمه ونقيضه الحزب الشيوعي على 54 مقعداً من أصل 491 مقعداً. ومع تصاعد الأزمة الاقتصادية وتفاقم التظخم المالي وتعسف الساسة الفرنسيين وعنجهية كيمنصو، رئيس الوزارة الفرنسي آنذاك، تأجج الشعور القومي عند الألمان، ليحصد الحزب النازي NSPD نصراً انتخابياً عارماً في الدورة البرلمانية التالية مكنته من تشكيل الحكومة وليصبح هتلر مستشار ألمانيا الحديدي.

دولة الرعاية الاجتماعية التي نبحث عن ماهيتها وكنهها تتكون من شقين لا يمكن الفصل بينهما؛ الشق السياسي والشق المطلبي المادي، وأعني بالشق السياسي: الحقوق السياسية، الحرية بكل مفرداتها، حرية الاعتقاد، حرية الفكر، حرية التعبير والبيان، حرية التجمع ...الخ ثم نظاماً سياسياً تعدديأً، وتداول سلمي على السلطة. أما الشق المادي فنعني به الرعاية لمستحقي الرعاية، حقوق معتبرة للعمال، وضمان اجتماعي شامل ضد المرض ولبطالة والشيخوخة،  مع تحسن مضطرد لضروف العمل مع ازدياد الإنتاج واحترام الملكية الخاصة وحمايتها مع تعهد الدولة بناء البنية الأساسية والإطار العام لانتعاش المبادرات الفرية والجماعية، وسياسة نقدية متناغمة ومتوازية مع شقي العمران (الاقتصاد) إنتاجا واستهلاكاً. عند ما استولى الحزب النازي على السلطة في ألمانيا عام 1933 أصد البرلمان الألماني في 4.2.1934 قانوناً يحل محل قانون مؤتمرات العمل أطلق عليه " قانون تنظيم العمل القومي" Gesetz zu Ordnung der natioalen Arbeit. لم يقلص القانون والاجراءت الحكومية وغير الحكومية من المكاسب المادية للعمال أو الشريحة الاجتماعية صاحبة الحق في الرعاية، وإنما أزاح الحقوق السياسة والمدنية للمؤتمرات العمالية والنقابات بعد أن استولى عليها بتعين قيادات حزبية مكان القبادات المنتخبة أوعبر انتخابات صورية. عسكرة الإنتاج وإيجاد فرص العمل للعاطلين عن العمل بتنفيذ مشاريع تؤهل الدولة النازية لتصبح دولة جبارة عسكرياً؛ منها إقامة صناعات حربية وطرق سريعة تؤمن سرعة الحركة للقوات المسلحة. كانت القيادة النازية تعبئ المجتمع للحرب وتعد المجتمع الألماني بنصر كاسح خلال عشر سنوات. أما المسألة الزراعية فقد تركت للآليات القديمة المعتمدة في مجتمع ما قبل الصناعي، والإضافة الوحيدة كانت في إدخال نظام السخرة الرومانية، حيث وضعت اليد العاملة الأجنبية الفلاحية التي جلبت من البلاد المحتلة لتعمل في المزارع والحقول بأجر رمزي أو بدون أجر تماماً كأقنان الأرض في العصور الوسطى. المشكلة الزراعية أو الفلاحية من المشاكل المحورية، خاصة في البلاد العربية، مشكلة محورية وحلها يقتضى مراجعة تاريخية لمسألة العمران وسأشير إلى بعض جوانب هذه المسألة عند الحديث عن بناء دولة الرعاية الاجتماعية في سورية المستقبل، إنشاء الله.

ومع اختراع الراديو تمكن النازيون من الهيمنة التامة على الوسط الإعلامي، وبدأ السواد الأعظم من الناس ينتمون إلى الحزب النازي طمعاً أو خوفاً، وخاصة من أبناء الطبقات المتوسطة، وكذاك ما يعرف عندنا (بالبلطجية). هذا التحول "الانتهازي" المدفوع بغريزية حب البقاء، أو لكسب (ال) التعريف عبر الانضمام إلى الحزب أو السلطة؛ كان أقل كارثية من الأنظمة الشمولية التي سادت في العالم الثالث، والعالم العربي بشكل خاص، لأن النظام النازي جاء 1- عبر صناديق الانتخابات 2- وجود جهاز بيروقراطي شديد الضبط والربط 3- مشاركة فعالة من قبل البرجوازية الكبرى ورجال المال والأعمال في بناء صناعة حربية عملاقة 4- حرفية وانضباط في المؤسسة العسكرية وأجهزة الدولة القمعية والدفاع المدني 5- الفلسفة القومية ورمنسياتها كانت في عنفوانها ولم تقتصر على ألمانيا بل كان لها مريدين وأشياع في كل بقاع العالم كردة فعل على التعسف والقهر الاستعماري. كان الصراع في الحرب العالمية الثانية بين طغيان اللبرالية والاستعمار من جهة وطغيان الشمولية التي لم تتكشف معالمها بعد. لقد أحاطت النازية بالمفكرين والمثقفين وكاد ينضب معين الفلسفة والشعراء والفنانين والرسامين وأهل الفنون الجميلة، في بلد أنجب أساطين الفكر والفلسفة المعاصرة وعرف بالغرب أنه بلد المفكرين والشعراء، وعندما خسرت ألمانيا معركة الفكر والآداب لم يسعفها تشنجات رجل أصابه مس من الجن، فأصبحت خسارة الحرب مادياً مسألة وقت فقط، واستسلمت ألمانيا عام 1944 بدون قيد أو شرط بعد أن دك الحلفاء أمهات المدن الألمانية لتصبح أنقاضها قبوراً لملايين الأبرياء.’مزق التراب الوطني الألماني، فاقتطعت بولندا والاتحاد السوفيتي وتشكوسلوفاكيا 25% من الأراضي الألمانية وقامت على 15% دولة ألمانيا الشرقية ثم اتفق الحلفاء على إقامة دولة ألمانيا الاتحادية على 60% من الأراضي الألمانية التي رسمت حدودها بعد الحرب العالمية الأولى. لم يعد أمام الحلفاء متسعاً من الوقت، فالشمولية السوفيتية والثورة أصبحت تقرع الأبواب بقوة، فضربت البراغماتية الأمريكية بأحقاد تشرشل ومورغنتاو Morgenthau الصهيوني عرض الحائط، الذي كان يريد أن يجعل من ألمانيا حقول للبطاطا، فأطلقت أمريكا مشروع (مارشال) الذي وضع ألمانيا الغربية على عتبة إعادة الإعمار، ومن حسن حظ ألمانيا أن حركة بناء دولة الرعاية لم يعد صناعة ألمانية وإنما مطب شعبي على امتداد القارة الأوربية وحتى في أمريكا. الذي يستوقفنا من هذا التاريخ هو بناء دولة الرعاية الاجتماعية. من المسلم به أن نظرية كينز Keynes كانت المهيمنة على صناعة القرار في العالم الغربي سواء عند قادة الأحزاب اليمنية مثل لودفغ إرهارد Ludwig Erhard، الذي كان وزيراً للاقتصاد ثم مستشاراً لألمانيا الغربية صاحب نظرية الرفاه للجميع Wohlstand fuer alle. أو من الاشتراكين الديمقراطيين من أمثال هيلموت شميت H.Schmidt. ويمكن تلخيص هذه النظرية على الشكل التالي: إن النظرية اللبرالية تقوم على مقولة آدم سميث Adam Smith " ادع للإنصاف – ادع للحرية " Lassiere faire – Lassiere passer. إلا أن اللبرالية أخذت بالشق الثاني وتجاهلت الشق الأول، فقدمت بذلك حبال المشنق إلى المنظومة الشمولية الفكرية (ماركسية أو فاشية ) لتعلق بها المنظومة اللبرالية نفسها، فأوجدت الفقر والبطالة في الدول الصناعية، والاستعمار والقهر والعدوان في المستعمرات. بعد اتفاق برتن وود Bretton Woods الشهيرة، والذي تعهدت فيه الولايات المتحدة الأمريكية من جانب واحد بمعدل ثابت للصرف اندفع الساسة الألمان في تفعيل المخزون الفكري والدراية العملية في بناء دولة الرعاية الاجتماعية المألوف عندهم في جمهورية فايمر التي قامت بعد الحرب العالمية الأولى. كل القروض والمساعدات التي قدمها مشروع مارشل صبت في إعادة بناء البنية الأساسية والإطار العام للنهوض بالاقتصاد وتشجيع الاستثمار من كل حدب وصوب، بهذه السياسة لم تقضي على البطالة فحسب بل أصبحت تستورد العمالة من الدول المجاورة ثم من تركيا. إن الطفرة الاقتصادية التي عرفتها ألمانيا بعد الحرب الثانية كانت متزامنة مع تحسين الرعاية الاجتماعية خاصة وأن الشريحة التي تحتاج إلى الرعاية كانت واسعة جداً بسبب ويلات الحرب وعودة أسرى الحرب، فصدر قانون رعاية المعوقين وإعادة تأهيلهم وفرضت على الشركات تقديم فرص عمل للمعوقين تصل إلى 7% من مجموع فرص العمل وبأجر يعادل أجور غير المعوقين- تقدم الدولة الفارق بين الأجرين وتتحمل أجور تكيف فرص العمل فنيناً ليتلاءم وضروف المعوقين. في عام 1952 صدر قانون المؤتمرات العمالية سمح لعمال المناجم والحديد والصلب بتمثيل موازي لأرباب العمل في أعلى مراكز القرار     Aufsichtsrat، ولكن سبق هذه الخطوة استبعاد الشيوعيين من قيادات النقابات وكانت وكالة المخابرات الأمريكية غير بعيدة عن هذه الإجراءات غير الديمقراطية،  فالشيوعيين نقابيين بامتياز، وقد شبهتهم مرة: بالنار فهي خادم جيد ولكن سيد سيء، ولعل السبب يرجع أيضاً في استبعاد الشيوعيين من دائرة القرار النقابي إلى تخوف الطبقة السياسية وأرباب العمل من تسرب المعلومات إلى المعسكر الاشتراكي- انسجاماً مع المكارثية والهوس الأمني الذي تولد عنها. المكارثية نسبة إلى السيناتور الجمهوري جوزيف مكارثي Joseph Raymond McCarthy. طرداً مع ازدياد الإنتاج كانت تتحسن الأجور وأداء مؤسسات الضمان الاجتماعي، ومع زيادة اليد العاملة الأجنبية بدأ الجدل حول الجاليات الأجنبية، وفي بداية السبعينيات أطلق رئيس وزراء فيستفالن السيد كوون Kuehn. كلمته الشهيرة: لقد طلبنا قوة عاملة فجاء الإنسان! وما هي إلا بضع أشهر حتى صدر قانون المؤتمرات العمالية المعدل الذي يسوي بين العمال الأجانب وزملائهم الألمان بالحقوق والواجبات وحق الترشيح والانتخاب للمؤتمرات العمالية. نقابات العمال كانت السباقة في إحقاق الحقوق والاندماج Integration. طالبت بدورات لغوية وتأهيل سياسي ونقابي ليكون للعامل الأجنبي لسان يدافع به عن حقه. منذ منصف الستينات وحتى منتصف الثمانينيات عرف جمهورية ألمانيا الاتحادية سلسلة من الإصلاحات وكانت كلمة إصلاح Reform. تعني زيادة الأجور، تحسين ضروف العمل، تحسين أداء مؤسسات الضمان الاجتماعي، زيادة مخصصات الأطفال، زيادة المنح الدراسية ...الخ وبكلمة مختصرة كانت كلمة إصلاح تعني بشائر وطالع خير للناس. بدأت عقارب الساعة تدور إلى الوراء بعد صعود مارغريت ثاتشر Margaret Thatcher إلى سدة الحكم عام 1979في بريطانيا ورولاند ريغان عام 1980 في الولايات المتحدة الأمريكية. بدأت سياسات العولمة حسية بعد أن كانت نظريات وفلسفات وجدليات أكاديمية في جامعة هارفر وشيكاغوا، ولكن أيضاً كان لها حقول تجارب وممارسات ميدانية في أمريكا الجنوبية، وخاصة في تشيلي Chile. بعد الانقلاب الدموي في 11. 9. 1973 على الرئيس سلفادور أليندي Salvador Aliende.  سبق الانقلاب اضطربات ومظاهرات عمت شوارع العاصمة سنتياغو دي تشلي، وكان وراءها وكالة المخابرات الأمريكية، كما تبين فيما بعد، وتأجيج التضخم المالي حتى وصل إلى 300% بعد أن سحب رأس المال الأجنبي والوطني، وفرضت أمريكا على تشيلي حصاراً اقتصادياً- لتركيع الرئيس أليندي المنتخب ديموقراطياً عام 1970. بعد الانقلاب أنقض ما عرف بغلمان شيكاغو Chicago Boys كنسور عوائف على السلطة التي يقودها الجنرال بنوتشة Pinochet، وهم جمع من خريجي جامعة شيكاغو، وعددهم 30 تقريباً، دربوا على يد أستاذ الاقتصاد السياسي ميلتون فريدمان Milton Friedman الصهيوني والحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد عام 1976 وأحد تلاميذ الفيلسوف الصهيوني شتراوس Strauss. لقد عاثوا في الأرض فساداً وأفسدوا الحرث والنسل وجعلوا من ذلك البلد الجميل وشعبه الوديع معسكرين: معسكر العمل والاستغلال، ومعسكر التعذيب والاعتقال.

كان الثنائي ثاتشر وريغيان من المعجبين بتجربة تشيلي التي قطعت رأس تنين التضخم المالي، كما يحلو لهم توصيف التجربة التشيلية. السيدة الحديدية ثاتشر كانت تحمل تحت إبطها كتاب الاقتصادي النمساوي فردريش فون هايك Friedrich von Hayek الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد أيضاًعام 1974 وصاحب نظرية (نقداً) Monetarism: أي أن تمويل المشاريع العامة أو الخاصة يجب أن يتناسب مع رأس المال العيني لصاحب المشروع. هذه النظرية هي النقيض لنظرية كينز التي قامت عليها النهضة الصناعية والعمرانية بعد الحرب العالمية الثانية وأدت إلى إيجاد فرص العمل لملايين العاطلين عن العمل. لم يقدم منتقدون نظرية كينز برهان مقنعاً على خطأ نظرية كينز، ولكن قدموا وقائع حسية قابلة للتأويل والجدل، فالتضخم المالي، وخاصة في جمهوريات الموز والدكتاتوريات البونابرتيه، يرجع إلى توظيف القروض في مشاريع غير منتجة كبناء القصور والحرس الجمهوري ومظاهر الأبهة والفساد وتهريب الأموال وإعادتها إلى البنوك الأجنبية على حساباتهم الخاصة، أما الدولة والمجتمع الذي يسوسونه فعليهم دفع فوائد الديون، وكانت الدول الدائنة جذلانة فرحة بهذه السياسة وتدعمها بالفعل والقول، وتغض الطرف عن كل الممارسات القمعية وانتهاكات حقوق الإنسان. على سبيل المثال: كانت ديون الجزائر الخارجية في عام 1988 تصل إلى 28 مليارد دولار- تدفع الحكومة الجزائرية 1,6 مليارد فوائد وخدمات إلى الدول الدائنة ؛ بنفس الوقت كانت الودائع الخاصة وفي البنوك الغربية لرجال السلطة وبطانتهم وأقاربهم تصل إلى 30 مليارد دولار. هل هناك مصلحة للدول الغربية في تغير هذه السياسة أو تغير القائمين عليها؟  أما سبب التضخم في الدول الصناعية الذي وصل في أسوء الحالات إلى 10% فسببه معروف: منها ارتفاع سعر الفائدة وتمويل مشاريع البنية الأساسية التي تحتاج إلى قروض طويلة الأمد، وفائدتها تعود للمنفعة العامة وخاصة أصحاب الفعاليات الاقتصادية. لقد كان الحل للمشاكل القائمة في الدول الصناعية ودول العالم الثالث ممكنة وإنسانية المحاور وليس "اقتصادية" أو سياسية عسكرية. إن الإرهاب بدأ في الغرب وتجذر في سياسة الكيل بمكيالين. لقد وقف الغرب بكل مؤسساته، الثقافية، والعلمية، والدبلوماسية وحتى الدينية ضد العالم الثالث. كانت هناك قناعة عند صناع القرار والمثقفين في الغرب أن الديمقراطية وحقوق الإنسان وبناء دولة الرعاية الاجتماعية - نبتة غربية لا يمكن استنباتها في دول العالم الثالث إسلامية، كانت أو غير إسلامية، وإن تطور الصنائع (تكنولوجيا) في العالم الثالث سيؤدي إلى نقص مخيف في الطاقة، وخاصة النفط، وسيهدد مستقبل الدول الغنية ويؤدي إلى تلوث البيئة، ويهدد الرفاه في المجتمعات الغربية. السياسي في الغرب أصبح يحمل هاجسين لا يفارقانه أبداً: الهاجس السكاني (ازدياد عدد السكان) وهاجس الطاقة، وكل سياسة تحجم هذين الخطرين ولو كانت الحروب والدمار والقتل الجماعي بالجوع والأمراض ستلقى القبول عند الإنسان الغربي مع بعض التململ من قبل شريحة صغيرة في المجتمعات الغربية يمكن استيعابها. صدرت في العام الماضي مجموعة من الأبحاث والمقالات والكتب وبعض المسلسلات التيلفزونية تذكر وتنظر وتؤبن حركة إنسانية شقت طريقها إلى أمريكا الوسطى والجنوبية في منتصف الستينيات وعرفت بحركة لاهوت التحرير، وكان روادها الأوائل من الطلبة العائدين من بعثات دراسية منحتها لهم بعض الدوائر الكنسية الكاثوليكية أو البروتستنتية في أوربا وأمريكا الشمالية، وقامت بعملية توفيقية بين التحرر الديني بالمفهوم الكنسي الغربي الفردي، والحاجة الملحة للتحرر الجمعي من العبودية والاستغلال من البرجوازية والإقطاع الموروث من الحقبة الاستعمارية، فوجدوا لهم حليف من بعض الكهنة ورجال الدين والفنانين والشعراء تولد عنها حركة عرفت بحركة لاهوت التحرير Teologia de la Liberation كان من أبرز رموزها غكستافو غوتيرريث Gustavo Gutierrez من البيرو ولألماني غرها رد لود فش Gerhard Ludwig إلا أن أبرز رموزها الإعلامين كان الكاردينال والوزير في حكومة الثورة بعد الإطاحة بحكومة نيكاراغوا الفاشية المدعومة من الولايات المتحدة الأمريكية بقيادة Somoza. كان السيد ارنست كاردينال Ernesto Cardinal  أديباً وشاعراً وفنانأً رقيق المشاعر. وعندما زار البابا يوحنا بولس الثاني Johannes Paul II نيكاراغوا وصافح أعضاء الوزراة وكان بينهم وزير الثقافة ارنست كاردينال الذي جثي على ركبته إجلالاً للحبر الأعظم ومعلناً ولاءه للكنيسة هز البابا بسبابته موبخاً ومقرعاً الوزير على فعلته "الشنيعة"، وأمام الكميرة،  لاشتراكه بحكومة ثورية معظم أعضائها من الاشتراكين والشيوعيين. لقد تذكرت وأنا أرقب المشهد الذي لا يبت إلى الرحمة والتسامح المسيحي، فتذكرت مقالة ماكس فيبر Max Weber. "عندما يطلق لقوانين السوق العنان، فإنها لن تعترف إلا بقيمة الأشياء؛ لا مكان لقيمة الإنسان، لا مكان للأخوة وصلة الرحم، لا مكان للبراءة والطفولة، بل لا مكان للفطرة الإنسانية في المجتمع". في الثمانيات كان حديث العالم عن النموذج الألماني Model Deutschland (الضمان الاجتماعي، المشاركة العمالية في القرار، البرلمانية الفاعلة، عدالة الأجور ...الخ ) كل هذه العوامل تكون شكل ومضمون دولة الرعاية الاجتماعية، وكانت نقطة جذب ليس لدول السوق الأوربية التي تسعى لمحاكاتها ولاقتراب منها فحسب بل مدرسة للحركات الإسلامية النشطة لتأخذ عنها وتطور وتولف بينها والفقه الإسلامي حيث بدأت الحركات الإسلامية تشجع أتباعها للانخراط في صفوف الحركات العمالية وتترشح لعضوية المؤتمرات العمالية فاجأت الحركات اليسارية وأحرجتا أمام القيادات النقابية الألمانية. معطيات دولة الرعاية الاجتماعية زعزعت الثقة بالنظام الشمولي الاشتراكي في المنظومة الاشتراكية، فالأماني والطموحات للطبقة العاملة في الاتحاد السوفيتي هي واقع حسي بصائري في ألمانيا الغربية الرأسمالية، وعندما تصبح الأمور حسية فلا مجال للسفسطة الكلامية والجدلية التاريخية، فالتململ كان واضحاً على شفاه ووجوه زملائنا في الاتحاد السوفيتي أو دول المنظومة الاشتراكية. فقد كان أحسن دعاية للغرب الزيارات المتبادلة للوفود النقابية بين المعسكرين، فجاءت الطامة الكبرى عندما أرسلت السيدة الحديدة مارغريت ثاتشر الأسطول البريطاني عام 1983 إلى جزر الفوك لاند في أقصى الأرجنتين لتؤدب الطغمة العسكرية الأرجنتينية وتعيد الجزر الصخرية إلى السيادة البريطانية، فدغدغت المشاعر القومية عند البريطانيين لتحصد منها نصراً مؤزراً في انتخابات الجمعية العمومية يمكنها من شن حرب "مقدسة" على الحركة النقابية العمالية العريقة، وتقصم ظهرها لتفتح الطريق إلى الخصخصة وسياسة السوق المنفلتة من كل عائق. أما في الولايات المتحدة الأمريكية فقد كان الهجوم على المكاسب العمالية الضئيلة مقارنة بألمانيا مختلف في الوسيلة متفق بالهدف. بعد اندلاع الثورة ضد الشاه في عهد الرئيس كارتر ثم قيام الجمهورية الإسلامية رسمياً في فبراير (شباط) عام 1979؛ طالبت حكومة الثورة بإرجاع الأموال المودعة في البنوك الأمريكية، وكانت هذه الودائع ذات شقين: الشق الحكومي أي ديون بين دولتين ذات سيادة، حيث أعلن كارتر استعداده لإعادتها إلى حكومة الجمهورية الإسلامية صاحبت الحق والسيادة وتبلغ حوالي 6 مليارد دولار، والشق الثاني أوال مودعة باسم الشاه وعائلته وتبلغ أضعاف مضاعفة لهذا المبلغ قد تصل إلى 30 مليارد. كانت العلاقة بين الجمهورية الإسلامية والولايات المتحدة متأزمة. في خريف عام 1979 تسلل مجموعة من الطلاب والطالبات إلى مقر السفارة الأمريكية واحتجزوا من فيها من دبلماسين ورجال أمن ومخابرات وجواسيس واتخذوهم رهائن مطالبين بإرجاع أموال الدول والشاه إلى إيران صاحبة الحق، أغرب حادثة في تاريخ الدبلوماسية الدولية، وقفت حكومة كاتر اتجاه هذه الحادثة شبه مشلولة تتخبط؛ علماً أن عمل من هذا النوع مبرر لإعلان الحرب، وزاد المراقبين السياسيين حيرة إرسال عدد من الطائرات العمودية قديمة الصنع وعلى متنها مجموعة من المغامرين والمحاربين القدامى إلى صحراء طابس لينطلقوا منها بسيارات جيب لتحرير الرهائن من السفارة الأمريكية في طهران التي تبعد حوالي 300كم من موقع الإنزال، وشاءت الأقدار أن تتحطم بعض هذه الطائرات ويتفحم من بها، وتفشل العملية. احتفظ الطلاب برهائنهم الأمريكيين لمدة 444 يوماً، وكانت قضية الرهان من العوامل الحاسمة قي سقوط المرشح الديمقراطي في الانتخابات الأمريكية وفوز المرشح الجمهوري رونالد ريغن، وهو ممثل سينمائي من الصنف الثاني، وعبر مفاوضات سرية وغريبة استعادت الولايات المتحدة الدبلوماسيين والجواسيس المحتجزين، واستعادت إيران بعض من ودائعها المجمدة في البنوك الأمريكية. أصبح رونالد ريغن سيد البيت الأبيض والخميني عزز سلطته كصاحب الولاية في طهران. لم يمضي على هذه الحادثة الغريبة، والتي تحتاج إلى دراسة عميقة وموثقة لمعرفة أسرار وملبسات هذه الحادثة الغامضة، والتي تبدوا للوهلة الأولى كردة فعل ثورية ساذجة، ولكن عندما نعرف أنها كانت مقدمة للحرب العراقية الإيرانية التي استمرت ثمان سنوات أكلت الأخضر واليابس ووضعت منطقة الشرق الأوسط وثرواته النفطية تحت مطرقة العولمة والهيمنة الأمريكية، ولما كان موضوع البحث هذا هو: دولة الرعاية الاجتماعية، فسنضطر للإشارة فقط إلى بعض الحوادث المريبة والتي لا تفسر فقط بشهوة السلطة وعنفوان الأحداث المتولدة عنها، وأهمها على الإطلاق الفلسفة الغنوستية المتجذرة في النخب الإيرانية التي فقدت سلطانها بعد الفتح الإسلامي، فجنحت إلى التنسك وطلب المعرفة والعلوم والفلسفة اليونانية واعتناق المانوية، مذهب الطبقة المختارة والنخب صاحبة النفوذ في الإمبراطورية الفارسية، وبعد أن أفل نجم الإمبراطورية الفارسية ووصل القوم إلى قناعة؛ أن عودة المجد الضائع أمراً مستحيلاً، فالدين الجديد حرر الشعوب الإيرانية من نظام الأصناف الذي يفرض على الناس إطاراً مهنياً أو طبقياً يلازمهم مدى الحياة ولا يستطيعون الخرج عليه. زاوجت النخب الفارسية بين النسك والفلسفة والعقيدة الإيرانية القائلة بالمتعة الدنيوية وسلكت فيها دهاليز السرية والتحريض الحذر على السلطان العربي بالتعالي واللمز والغض من شأنهم. عرفت هذه الحركة (بالشعوبية)، وكشرت عن أنيابها في شعر بشاربن برد وأبو نواس الماجن وغيرهم كثيرون، ولعل تشيع ابن المقفع الزيدي منعه من الانحدار إلى الدرك السفيل الرذيل الذي كان مرتع الحاقدين على العرب والإسلام، وكما قالت العرب:  ومهما تكن عند امرء من خليقة        وإن خالها تخفى على الناس تعلم إن صلة الشريحة الشعوبية سواء العلمانية (الدنيوية) أو التي تتستر بالتشيع أو التصوف بالدوائر الغربية الاستشراقبة أو الماسونية أو النحل والفرق الباطنية أو اليهودية التلمودية أو قوى العدوان الخارجية (مغولية كانت أو صليبية أو صهيونية) يمكن لباحث حصيف متواضع الهمة أن يوثقها بأصدق المصادر التاريخية. ليس ابن العلقمي والطوسي وغيرهم من السفراء والوزراء والمرجعيات إلا غيض من فيض؛ ممن تأمروا على الأمة وكانوا عون لهم. ليس من المعقول أن تقع كل هذه الأحداث التي بدأت بالثمانينيات متزامنة وتهدف كلها إلى هيمنة الدوائر الظلامية في الغرب والشرق على مقدرات العالم- تزع الخراب والدمار وتفسد الحرث والنسل محض صدفة. هل من المعقول أن يترشح قوم ليصبحوا أهل الحل والعقد في العراق ولا يعرف عنهم شيئاً؟ ليس من السياسة في شئ أن يجلس سراة الأمة وأهل الحل والعقد والخبرة يندبون حظهم التعيس وما ابتلوا من مصائب وكوارث ولا يأمرون بمعروف وينهون عن منكر.

العمل على إقامة دولة الرعاية الاجتماعية: ضرورة إنسانية، وواجب وطني، وعود إلى الفطرة، وعقلنة الاجتماع الإنساني. في المقابل: الطغيان والعولمة وجهان لعملة واحدة، تعززان ظلم الإنسان لأخيه الإنسان، واجتثاث الإنسان من رحم الأمة ورميه في أتون الغربة، وهيمنة الهوى والكبر والاستعلاء. من خلال العرض التاريخي لولادة وصعود وارتقاء وانتكاس دولة الرعاية الاجتماعية سنسعى إلى تحديد المعالم الرئيسة لمسيرة الإنسان نحو دولة الرعاية الاجتماعية العصرية في مجتمع صناعي متخذين ألمانيا نموذجاً للبحث. كما سنعرض المخزون الحضاري والفقهي الذي تزخر به الأمم العربية والإسلامية، الذي سيسهم إذا قيم بعقلانية وتجرد عن الهوى والتعصب في رفد مشروع دولة الرعاية بعوامل مهمة للنهوض والارتقاء. إذا كانت الدولة اللبرالية مشرع الطبقة البرجوازية الصاعدة وساسة الملك في حقبة ما قبل البرجوازية أو تحالفهم معاً، فالدولة الشمولية كانت ردة فعل وأتوبياUtopia استنفرت؛ العقلانية واللاعقلانية، المروءة والخسة، العدل والهمجية أي جمعت المتناقضات والخير والشر؛ لتجعل منها برميل من المتفجرات أحرق الأخضر واليابس. دولة الرعاية الاجتماعية هو مشروع النخب المثقفة التي تجعل العدل والرحمة نصب أعينها وتسعى إليه بالحكمة والإيمان والعمل الصالح والصبر الجميل. أما ثمرة هذا المشروع فهي للسائل والمحروم والكادح والمغبون. أما آليات الوصول إليها، التي تغيب أحياناً وتظهر أحياناً أخر، فهي ما ستناوله بالبحث والتدقيق. 1- الشرعية وآلية الوصول إليها، فالشرعية كانت قبل الحقبة البرجوازية تقوم على الحق الإلهي. الملك أو الأمير يحكم بسلطة مطلقة مستمدة من الله، سبحانه، تمنحها الكنيسة أو تباك وجوها لقاء أجر معلوم أو منفعة مشتركة، وعندما استطاعت البرجوازية الصاعدة أن تزعزع هذه الشرعية، وعلى كل الصعد، قبلت الكنيسة بحقها المعلوم ونفها المرقوم، دون أن تمنح أو تبارك، وهذه لعمري لم تكن قسمة ضيزى. كان هذا بعد سلام فيستفاليا Westfaelisch Frieden عام 1648 حيث بدأت مسيرة العلمانية (الدنيوية) Secularismأو فصل الكنيسة عن الدولة. ينبغي علينا، كما علمنا ابن خلدون، أن لا نختز التاريخ السياسي بدراسة سيرة الملوك. بل يجب أن تكون دراسة العمران والاجتماع الإنساني موضع اهتمامنا الأول. في القرن السابع عشر لم يعد الإنسان والحيوان والأرض والعلاقات الإقطاعية مصدر الثروة والثراء، بل السفن التجارية والصنائع (التكنولوحيا) والمهارات اليدوية والعلاقات التعاقدية هي التي تصنع الثروة والمجد. وهكذا زحفت البرجوازية إلى مركز القرار، ورست سفينة السلطة والدولة والجدل حولهماعلى مفهومين أساسيين (الدستور) و (الديمقراطية). الدستور أو العقد الاجتماعي هو منظومة المبادئ العامة المتفق عليها لمضمون وشكل الدولة والسلطة، والآليات التي تؤهل السلطة لتكون شرعية واجبة الطاعة ونفاذ الأمر. أما الديمقراطية Demokratie فتتألف من مفردتين إغريقيتين. المفرة الأولى (ديمو) Demo وتعني الشعب أما المفردة الثانية (قراطي) Kratie فتعني القرار وهي كلمة عربية الأصل لاكتها ألسن اليونان بهذا المعنى، والتزاوج بين المفردتين يتولد عنهما كلمة (ديموقراطي) وتعني قرار الشعب وليس حكم الشعب كما عربها أهل اللغة بدليل أن اللغات الغربية تفرق بين كلمة حكم وقرار، فكلمة Judgment أو Right تعني الأولى حكم أو عدل أما الثانية فتعني حق واستقامة ولا يوجد علاقة حسية بينهما وبين أمر أو قرار، فالحق والعدل مطلقان ويبعثان في النفس الإنسانية الأمل والصبر. أما الأمر والقرار فيبعثان في النفس الإنسانية التمرد ما لم يكونا متناغمين مع العدل والحق. إن كلمة قاد الإنكليزية Rule أو أمر Order أو قرر Decision كلها من مفردات السلطة التنفيذية ولا تتداولها السلطة القضائية إلا مجازاً. لقد ارتكب المعربون خطأً شنيعاً عندما لم يفرقوا بين كلمة حَكَمَ وكلمة أَمَرَ وسموا الأمير حاكماً والوزارة حكومة ولكن، والحمد لله، لم يقع فقهائنا الأوائل بهذا الخطأ غير المبرر. من هنا نستطيع القول أن كلمة ديموقراطية لا تخرج في مبناها أو معناها عن قوله تعالى ( وأمرهم شورى بينهم) بل إن كلمة (بينهم) تعطي المني دقة عالية، حيث أن الأمر يجب أن لا يخرج عن دائرة الأمة ذات الشأن، ويرفض تدخل الغير في هذا الشأن الجلل. الحكم شأنا آخر ( قد نعود إليه في بحث لاحق).

إلى جانب الدستور والديموقراطية هناك مسألة الملكية الخاصة التي تعتبر بيت القصيد في كل الدساتير اللبرالية ومحور الديمقراطية. حق الملكية الشخصية يأتي في المرتبة الثانية في سلم الأولويات بعد حماية الدولة في كل الدساتير اللبرالية، ولكي نلقي الضوء على هذه المسألة في الفقه الإسلامي لابد من مقارنة عقلانية مجردة من التعصب والهوى مع الفقه الوضعي. في عام 1992كنت ضيفاً في أحد الندوات حول الشريعة ومكانتها في الفكر الإسلامي المعاصر، وكنت الوحيد بين الحضور من الهواة غير المحترفين في القضايا القانونية، حيت كان الحضور من أساتذة القانون والقضاة الذين أحيلوا على التقاعد، ويدير الحوار رئيس المحكمة الدستورية السابق. كان زادي الوحيد من المعرفة الحقوقية؛ تتبع الفتاوى والأحكام التي تصدرها المحكمة الدستورية العليا في القضايا المتعلقة بالشؤون العمالية واللجوء السياسي من خلال الصحف والنشرات، وكان علي أن ألقي كلمة قصيرة عن معنى ومبنى الشريعة خلال 15 دقيقة، فنقلت عن أهل الأصول بعض ما كتبوه في مقاصد الشريعة، والإضافة الوحيدة مني كانت مقارنة مع مقاصد القانون الوضعي وترتيب الأولويات في كلا المنظومتين. من المعرف عندنا أن الشريعة تضع حماية الدين على رأس الأولويات ثم حماية النفس ثم حماية العرض ثم حماية العقل ثم حماية المال. فما هي مقاصد القانون الوضعي وترتيب الأولويات في المنظومة الوضعية ؟ وفوجئ القوم عندما قلت لهم أن القانون الوضعي يضع في رأس الأولويات حماية الدول ثم حماية المال ثم حماية النفس وحديثاً حماية الأقليات، ويسكت عن مسألة العرض والعقل. إن رأس الأولويات في الفقه الإسلامي حماية الدين ورأس الأولويات في الفقه الوضعي حماية الدولة. الدين يعني الإسلام والملل الأخرى التي ارتضت التعايش أو تعاقدت مع السلطة الشرعية على شرط ارتضوه ولم تعرف سياسة الملك في الغرب قبل عصر النهضة وعصر التنوير مثل هذه العقود، وجنحت الدولة العصرية إلى مثل هذه العقود وهو ما يعرف بعقود الدولة Staatsvertrag يمنح بموجبه الملل والنحل حقوق متفق عليها بين الدولة والملة أو النحلة ضمن إطار الدستور. بينما يعتبر حماية الملل والنحل من مسلمات الفقه الإسلامي وبنص قرآني يدعوا أهل الملة إلى البر والإحسان إليهم، بل إن حمايتهم وحماية الدولة صنوان. ولهذا عجز الفقهاء الغربيون أن يجدوا بديلاً أفضل من قانون (المليات) المعمول به في الدولة العثمانية بعد إلغاء الخلافة العثمانية. من المفارقات الأخرى أن الفقه الإسلامي يجعل حماية النفس والعرض والعقل مقدم على حماية المال، مما يجعل الملكية العامة في خدمة الإنسان وليس العكس كما هو الحال في الدولة اللبرالية البرجوازية. لقد كان مطلب البرجوازية الصاعدة حماية الملكية الخاصة لا بل توثينها فهي، أي الملكية، قدس الأقداس، ولهذا فإن بناء دولة الرعاية الاجتماعية ضمن المنظومة الفقهية الإسلامية أكثر يسراً وأقل عرضة للانتكاس. السؤال الأساس ما هي البوابة الرئيسية لولوج عالم دولة الرعاية الاجتماعية؟ أو بصورة أدق؛ ما هو الشرط الذي لا بد منه لإقامة دولة الرعاية الاجتماعية؟ بكل بساطة الشرعية والديمقراطية. إن إي نظام غير شرعي هو نظام زنيم؛ سواء قام على الاحتلال أو صنّعتة آليات الاحتلال فهو نظام، وينسحب هذا التعريف على النظم الثورية أو الانقلابية، في أحسن الحالات اغتصاب السلطة بالقوة غير المخولة، كالعسكر أو العصبية أو النحل التي تدعي الحق بوصية أو وراثة، وتستعين بالخارج للحفاظ على ملكها الجبري. الغرب الليبرالي يقول بآلية الديمقراطية للوصول إلى الشرعة، ونحن نقول بقوله تعالى (وأمرهم شورى بينهم). اللبراليون العلمانيون (الدنيويون) يرون أن الديمقراطية وسيلة وغاية، أي (إكونه)، والدولة الديمقراطية العلمانية (حيادية). أما نحن المسلمين (المسلمين منصوبة على الاختصاص) يرون أن الأمر الشورى وسيلة لهدف أسمى وهو إقامة دولة الرعاية الاجتماعية (كلكم راعي وكلكم مسؤلون عن رعيته). الدولة في المنظومة الفقهية الإسلامية هي دولة العدل. إن كلمة العدل ومترادفاتها ترد في القرآن الكريم أكثر من مائتين مرة " إِنَّ للَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ " إن حسم المفاضلة بين دولة العدل ودولة الحياد بجدل عقلاني فلسفي أمر قد يقود إلى السفسطة، وأري إن هذه المسألة من المسائل الجوهرية التي يجليها تاريخ وسيرة ومسيرة المسألة نفسها، فالدولة الحيادية مقالة ورأي أكثر مما هي واقع معاش. لم يسلم الفكر الماركسي بهذه المقالة، ورأى في الدولة الليبرالية: دولة طبقية برجوازية، وذهب لينين أبعد من ذلك ووصف البرلمان أنه " حجرة الثرثرة والثرثارين" Schwätzbude حيث أن القرارات المصيرية تتخذ في مكاتب الشركات الكبرى وصالونات أهل الثراء. لعل الرجل أصاب كبد الحقيقة وكأنه كان يضارع ما حل بالعالم اللبرالي خلال العولمة في تسعينيات القرن الماضي، ولا يزال يعاني من ويلات الخصخصة وسياسة السوق المتوحشة. لقد وقفت البرلمانات الغربية على "الحياد" أو قل متفرجة على غول العولمة وهو يزرع الرعب في قلوب العمال والنقابات والمحرومين. لقد أصبحت كلمة إصلاحات Reforms تثير الرعب والفزع في نفوس الناس بعد أن كانت في السبعينيات تبعث في النفوس بشائر الخير والأمل. إن غول العولمة جعل من النمور الآسيوية قططاً بائسة تدعوا إلى الرثاء. أما عالمنا العربي والإسلامي فقد فرض عليه الاحتلال والتنكيل بأهل المروءة والحمية باسم مكافحة الإرهاب. عندما اجتمعت المعارضة السورية في صيف عام 2002 حول ميثاق الشرف الوطني وشاركت بذلك المؤتمر كإسلامي مستقل خاطبت الحضور: يا قوم لو استبدلت جملة " الدولة الحديثة" أو "الدولة العصرية" بدولة العدل لاستقام المعنى والمبنى فكلمة عصرية أو حديثة أو حيادية ليس لها مدلول حقوقي فليس كل حديث أو عصري يعني الأفضل والأعدل وليس كل قديم يعني الأسوأ والأظلم والحياد يعني في أفضل الحالات دعه يمر!! يقول الدكتور مراد هوفمان Murad Hofmann في كتابه الإسلام كبديل Der Islam als Alternative : إن الفقه الإسلامي يتناول مسألة الدولة والسلطة بحزم وجدية أكثر من الفقه الوضعي ، والفقه الإسلامي لن يسمح إلا مكرهاً لإعلام السوق وزخرف الصناعة الديمقراطية أن’تسلع هذا الأمر الجلل وتحط من شأنه. لقد بدأ تاريخ الدولة والسلطة الإسلامية بالنبوة، وجعلت النبوة من الناس أمة تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتؤمن بالله. لقد ترك رسول الله (ص) في الأمة كتاب الله وسنة نبيه عصمة لهم من الزيغ والضلال، فتنادوا وأهل الحل والعقد فيهم إلى سقيفة بني ساعة وتأخر بعض أهل الحل والعقد بأمر جثمانه (ص)، ومنهم علي بن أبي طالب وأمهات المؤمنين وفاطمة الزهراء رضي الله عنهم، فتجاذبوا الأمر (خلافة رسولا الله وإمارة الأمة) بينهم وتنابذوه، حتى استقر رأيهم وعقوا أمرهم على تولية أبا بكر الصديق (رضي الله عنه) خليفة لرسول الله(ص) عملاً بقوله تعالى " وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ " ثم تولية عمر الخطاب الذي لا يمت إلى أبا بكر بصلة قربى، وقبول الغالبية العظمى من أهل الحل والعقد، ثم آلت إلى عثمان ذو النورين وبغالبية أهل الحل والعقد، ثم إلى سيدنا وإمام الفقه والزهد علي بن أبي طالب - بغالبية عظمى من أهل الحل والعقد، وكانت الفتنة فنقلت دار الخلافة من مدينة رسول الله إلى الكوفة ثم إلى دمشق. لا بد من وقفة تقيم لهذه الحقبة، التي تعتبر بحق أس الحضارة العربية الإسلامية، ومنهل علم الغيب والشهادة عند أهل الملة. إن ما بذله علماء الأمة من جهد صادق دؤوب، لتوثيق هذه الحقبة جعل الباحثين والدارسين على وشك أن يتلمسوها حسياً ويرونها بصائرياً. لا يساورهم الشك ويستحوذ عليهم اليقين- أن ما وقف عليه أهل الرواية والدراية معين صدق لكل باحث حصيف ودارس حذر، لمعرفة دقائق النبوة وسيرة الخلفاء من بعده. لن يستوقفني ما كتب وتأول المستشرقون وتبناها أهل الدسيسة والحقد من أبناء الأمة، فلو طبقنا المنهج الذي سار عليه المستشرقون على ما كتبوه عن حضارتهم وأصولهم ولغاتهم وملكهم لوصلنا إلى يقين أن كل ما كتب عن العهد القديم والجديد وما قبل التاريخ أو بعده صناعة أسطورية وخيال خصب ورجم بالمجهول والمنكر. أما رواية أهل النحل والفرق فمعظمها صناعة تلمودية وأحقاد شعوبية، فالقول بالوصية إنكار لصريح النص " وأمرهم شورى بينهم " وتأويل فاسد لرواية مخترعة أو مختلقة. إن اجتماع أهل الملة في سقيفة بني ساعدة واختيارهم أبا بكر الصديق يمثل كنه وماهية وصورة الشرعية الإسلامية وانسجاماً مع الفطرة وطبيعة الأشياء وناموس والاجتماع. أما ولاية عمر رضي الله عنه فقد كان رجل الدولة والسياسة فرضته طبيعة المرحلة وطبيعة العمران حيث كان أهل الحل والعقد موزعين على الأمصار ولم يكن في المدينة من أهل الحل والعقد من أنكر أو استنكف عن بيعته وما يروى من أقوال قدح وذم فهي من صناعة أهل الهوى والدسيسة، وأوضح دليل على رضاء الأمة بخلافة عمر، رضي الله عنه، أنه اتخذ قرار عزل خالد بن الوليد عن قيادة جيوش الشام، أولي البائس والشدة، بكتاب ساذج بسيط يرسل إليه فيمتثل خالد له، وعمر رضي الله عنه هو الذي عمل أن تكون الشورى مؤسسية واستبعد كل ما يمت إلى الوصية أو حكم الطبقة الدينية Theocracies، فكان أهل الشورى رجال أعمال وسياسة وسيف كعبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام وطلحة، ورجال كرم ومروءة كعثمان بن عفان، ورجال فقه وقلم وسيف كعلي بن أبي طالب، ورجال جهاد وفتح وصبر كسعد بن أبي وقاص. أما بيعة علي بن أبي طالب بالخلافة فلا تختلف عن بيعة أبا بكر رضي الله عنه في السقيفة، ففي بيعة أبا بكر كان عمر بن الخطاب أول المبايعين، وكان العباس عم رسول الله (ص) أول من بايع علي رضي الله عنهم جميعاً. التأويل والوصية والتنطع بقصص الرواة الكذبة؛ صناعة لم تعرفها طبيعة الاجتماع والعمران العربي قبل الإسلام أو بعده، وهي صناعة تلمودية شعوبية مفعمة بسقيم الفكر الفلسفي والتأويل الفاسد. ذكر العلامة ابن خلدون في المقدمة في الفصل السابع والعشرين "مذهب الشيعة في حكم الإمامة" كما ذكر كل الروايات المتعلقة في أمر الفاطمي(المهدي) في الفصل الثاني والخمسين فوجدها إما روايات ضعيفة فاسدة السند، أو تأويلات لا يعتد بها عقلاً أو نقلاً. ومن غريب الأمور أن هذه السلعة يتبضعها العامة ويبعها أهل البدع والنحل والشعوبيون في المشرق، وينكرها أهل المغرب العربي رغم حبهم الشديد لآل البيت.

عصر النبوة والخلافة الراشدة كان الملهم للحركات الإسلامية الحديثة منذ جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبدو، وعبد الرحمن الكوكبي، وعبد الحميد بن باديس ورشيد رضا، وحسن البنا، للنهضة بالأمة بعد كبوة وعود على بدء والعود أحمد، كما يقال. إن عصر النهضة العربية كان طفرة نوعية أعظم أثراً وأغزر فكراً من النهضة الأوربية، فقد كشفت الغطاء عن أمهات الكتب العلمية وعرّفت الأمة بلغتها، التي كادت أن تفترسها الرطانة والأعجمية؛ وعاد الشعر العربي العذب السلس على لسان الشعراء المبدعين لتتغنيه حناجر وشفاه المطربين. لم يكن كل هذا أمراً هينناً. لقد بات المثقف العربي بوسعه أن يقرأ بن خلدون، حتى إذا قرأ ماكيافليMachiavelli يجد أن ما كتبه عملاق النهضة الأوربية لا يعدو عن حاشية مبتسرة وساذجة مما كتبه العلامة ابن خلدون، ويجد أيضاً أن دانتي Dante كان عالة على أبي العلاء المعري. وبكلمة مختصرة عادت الثقة بالنفس عند النخبة المثقفة، عل الأقل. صحيح أيضاً أن المطبعة التي جاء بها الفرنجة إلى مصر كان لها دور لا ينكر في نشر سفر المعرفة، ولكن مادة المعرفة هي التي أعطت لهذا السفر أريجاً وروعة. ولكن المترفون وسدنة الاستبداد، في البلاد العربية والإسلامية، كانوا بواد ورواد النهضة في واد آخر. على عكس ما حدث في أوربا في عصر النهضة وعصر التنوير، فقد بسطت الطبقة البرجوازية الطموحة وأهل الثراء، المغلولة أيديهم إلى الأعناق عادة وسجية، المال والعطاء على أهل المعرفة والفن. كما تنافس المستبدون فيما بينهم في حماية أهل الفكر، لأنهم أدركوا أهمية العلم في صنع القوة والثروة والمتعة وزينة الحياة الدنيا. لقد كان الأفغاني مدمن الدخان يرتاد المقاهي، فيتحلق المريدون الفقراء حوله ينهلون من علمه ويحتسون الشاي على مائدتة حتى تغيب الجوزاء وينحدر النسر، فيقوم إلى الساقي فينقده، من جيبه الخاص، ما احتساه القوم دون إسراف أو تقتير. أما المترفون والمستبدون فكانوا في غيهم ولهوهم وصغائرهم يعمهون. ومع أن عصر النهضة العربية كان عظيم الأثر في مناحي عديدة؛ إلا أن الفقه السياسي كان يحبو حبوا.ً لقد أحسن الصحافي والكاتب النمساوي الأصل، والذي هداه الله للإسلام، محمد أسد عندما أشار إلى نقطة مهمة في النظام السياسي في الفترة الراشدة- ملاحظته تنم عن حصافة وبعد نظر. قال محمد أسد: لقد انتهت الخلافة الراشدة دون أن يتوصل المجتمع الإسلامي إلى مؤسسة تتولى شأن الشورى رغم أن المجتمع الإسلامي أصبح شورياً من رأسه حتى أخمص قدميه، ولو أنجز المجتمع المسلم مؤسسة شورية ولو ساذجة لساد الإسلام المعمورة كلها.

إن (لو) تفتح عمل الشيطان، ولكن لنتخذ (لو) لنفتح بها باب الاجتهاد والفقه السياسي لمستقبل الأمة (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) لقد وصلنا من خلال استعرضنا لهذه المسألة أن المجتمع الإسلامي الأول كان يخلو من السلطة بمعناها ومبناها الكسروي أو القيصري وكما قال حافظ إبراهيم: وراع صاحب كسرى أن رأى عمراً            بين الرعية عطلا وهو راعيها

وعهده بملوك الفرس أن لها                  سوراً من الجند والأحراس تحميها

وعندما هجا الحطيئة الزبرقان، وأراد عمر حبسه عقاباً له لم يجد سجناً يزجه به فوضعه في بئر مظلة، فستعطف عمر بقصيدة تمزق القلب أساً وحسرة، فعفا عمر عنه، وساحت جيوش الإسلام في شرق الأرض وغربها فلم تقطع شجرة أو تهدم بيتاً أو تروع شيخاً أو تدمر مدناً كما فعلت جيوش الديمقراطية في الفلوجة وجيوش الصهيونية في فلسطين. لم تكن معاهدة حنيف أو مواثيق دولية تمنعهم من تعذيب الأسرى كما في أبو غريب أو غوانتانمو، وكما قال المفكر الإنكليزي إيتن Gai Eaton في كتابه الرائع الإسلام ومصير الإنسان Islam&the Destiny of man إن مخافة الله سبحانه كانت كافية لكف يد الجندي المسلم عن كل منكر عرفته الحروب القديمة والحديثة. هناك سببان أساسيان في ضمور السلطة ومؤسساتها القمعية وأجهزتها الإدارية والتنفيذية المترهلة(البيروقراطية) في الدولة الإسلامية الراشدة 1- تمالؤ المجتمع الإسلامي الأول على نصرة الحق والعدل والكف عن العدوان والبغي. 2- عزوف فطري عند أهل الملة (العرب) عن الصورية والروتين وأبهة السلطة، فالعقلية العربية تنظر إلى خواص الأشياء وتحكم بأحكام الماهيات والحقائق واستعمال الأمور الروحانية. أما الروم والعجم فأكثر ميلهم إلى تقرير طبائع الأشياء، والحكم بأحكام الكيفيات والكميات واستعمال الأمور الجسمانية. ليس من دواعي الفخر والاعتزاز- أن تقام الصرح والقصور والسجون وتجيش الجيوش ويسخر الإنسان، الذي كرمه الله سبحانه، لإشباع رغبات ونزوات أهل السلطة. إن إشارة السيد (محمد أسد) إلى غياب المؤسسة الشورية التي تضطلع بالأمور الدستورية وتحدد وتوزع صلاحيات السلطات على أهل الحل والعقد في الأمة إشارة معتبرة وتتعاظم ضرورتها كلما ابتعد الإنسان والمجتمع عن الفطرة ومشكاة النبوة وقيم الخير والعدل، وكما يقول ابن خلدون: إن غاية البداوة وسذاجة العيش هو العمران، ومع العمران تتشابك المصالح وتتعقد علاقات الناس بالناس ويضعف وازع الخير فيصبح السلطان الضرورة والحل لبسط الأمن وإقامة موازين القسط. أما غاية العمران، عند ابن خلدون، فهو الانغماس في فنون الترف والارتكاس في الوهن والضعف حتى يقيض الله قوماً أولو عزم وشكمية من أهل البداوة وبساطة العيش يعيدون سيرة الملك الأولى، ولعل إضافة السيد محمد أسد إلى ما ذهب إليه ابن خلدون نابعاً من خلفية السيد محمد أسد الثقافية الغربية، فالإمبراطورية الرومانية التي انطلقت من أرض شحيحة الخيرات لا تزيد مساحتها على 6000 كم مربع، ولكن الشعب اللاتيني أو الرماني أقام نظام ملك فريد من نوعه في ذلك العصر، فقد أختار الرومان عصبة من أهل الحل والعقد عرفت بمجلس السيناة Senat = Senatus وهي كلمة مأخوذة من سينكس Senex اللاتينية ومعناها مجلس الأعيان أو الشيوخ. كان بعض أعضاء هذا المجلس يتسنم منصبه وراثيا،ً والبعض الآخر من ذوي الخبرة والدراية في إدارة الدولة والحرب..إلا أنهم جميعاً كانوا يمارسون مهمتهم التشريعية والقضائية مدى الحياة، وهذا ما مكن الإمبراطورية الرومانية من الاستقرار السياسي النسبي والتوسع على حساب الدول غير المستقرة سياسياً، واستطاع الرومان أن يهيمنوا على الحضارة الإغريقية والفينيقية (قرطاجة) ويجعلوا القانون الرماني الصارم الذي يقنن العبودية يسود معظم العالم القديم. إن دروس التاريخ السياسي وتاريخ العمران والاجتماع الإنساني لا يمكن لها أن تحل مكان النبوة، فمشكاة النبوة، وخاصة عند المسلمين، تهدي للتي هي أقوم، حيث تجعل مناط التشريع والإدارة والعمران الإنسان نفسه، وليس العكس، أي أن الإنسان في خدمة السلطة والعمران. بعد الفتنة بين علي ومعاوية، والتي أسهم في إيقادها عوامل عدة، منها موضوعي يتعلق بطبيعة وخواص الأشياء، كالعصبية، وبعد الشفة بين الأمصار، والضعف النسبي لوسائل الاتصال، والتنوع العرقي، ودخول أهل الكتاب من اليهود أو النصارى العرب في دين الله أفواجاً والانصهار جزئياً فقط في الوسط الحضاري الإسلامي، وأخرى ذاتية كشخصنة الخلاف والتعصب للرأي- مع ورع وخشية شديدة من الخطل والزلل عند أهل الرأي والمشورة شل من قدرتهم على رأب الصدع ودفع الفتنة مما أتاح لأهل الدهاء والوقيعة أن يلعبوا دوراً سياسياً بعيداً عن مشكاة النبوة وكأن سورة الحجرات لم تنزل عليهم ليعملوا بها وخاصة الآية الثامنة (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ). ماذا يقول أهل التاريخ والرأي في واقعة الفتنة وتحول الخلافة الراشدة إلى ملك عضوض ثم ملك جبري كما أخبر رسول الله (ص)؟ في هذا الشأن آراء ومقالات وكتب ومجلدات ما تنوء عن حمله البغال والجمال والحمير، حتى المستشرقين أدلو بدلوهم في هذا الشأن، والمصيبة بل الطامة الكبرى أن أهل الهوى والنحل ومن شايعهم من الدهماء والمتشدقين بفصل الخطاب يلوكون الواقعة وكأنها وقعت البارحة. لقد استقر بنا الرأي في هذه المسألة إلى ما ذهب إليه ابن خلدون، خاصة وإن تعاقب الأحداث، حتي يومنا هذا تسير على نفس الناموس وكأن التاريخ يعيد نفسه، ومن بعض ما كتب ابن خلدون مؤولاً استباب الأمر والسلطة لمعاوية وبنو أمية من بعده: "بسم الله الرحمن الرحيم؛ دولة بني أمية. كان لبني عبد مناف في قريش جمل من العدد والشرف‏.‏ لا يناهضهم فيها أحد من سائر بطون قريش‏،‏ وكان فخذاهم بنو أمية وبنو هاشم حياً جميعاً ينتمون لعبد مناف وينسبون إليه‏،‏ وقريش تعرف ذلك وتسأل لهم الرياسة عليهم. إلا أن بني أمية كانوا أكثر عدد اً من بني هاشم وأوفر رجالاً، والعزة إنما هي بالكثرة قال الشاعر‏:‏ وإنما العزة للكاثر‏، وكان لهم قبيل الإسلام شرف معروف انتهى إلى حرب بن أمية وكان رئيسهم في حرب الفجار‏.‏ وحدث الاخباريون أن قريشا تواقعوا ذات يوم، و(حرب) هذا مسند ظهره إلى الكعبة، فتبادر إليه غلمان منهم ينادون !يا عم أدرك قومك، فقام يجر إزاره حتى أشرف عليهم من بعض الربا ولوح بطرف ثوبه إليهم أن تعالوا، فبادرت الطائفتان إليه بعد أن كان حمي وطيسهم‏؛‏ ولما جاء الإسلام دهش الناس لما وقع من أمر النبوة والوحي وتنزل الملائكة، وما وقع من خوارق الأمور، ونسي الناس أمر العصبية مسلمهم وكافرهم‏.‏ أما المسلمون فنهاهم الإسلام عن أمور الجاهلية كما في الحديث أن الله أذهب عنكم عبية الجاهلية وفخرها، لأننا وأنتم بنو آدم وآدم من تراب‏.‏ وأما المشركون فشغلهم ذلك الأمر العظيم عن شأن العصائب، وذهلوا عنه حيناً من الدهر‏.‏ ولذلك لما افترق أمر بني أمية وبني هاشم بالإسلام‏.‏ إنما كان ذلك الإفتراق بحصار بني هاشم في الشعب لا غير‏؛‏ ولم يقع كبير فتنة لأجل نسيان العصبيات والذهول عنها بالإسلام حتى كانت الهجرة وشرع الجهاد‏.‏ولم يبق إلا العصبية الطبيعية التي لا تفارق وهي بعزة الرجل على أخيه وجاره في القتل والعدوان عليه فهذه لا يذهبها شيء ولا هي محظورة بل هي مطلوبة ونافعة في الجهاد والدعاء إلى الدين‏.‏ ألا ترى إلى صفوان بن أمية وقوله عندما انكشف المسلمون يوم حنين وهو يومئذ مشرك في المدة التي جعل له رسول الله، فقال له أخوه: ألا بطل السحر اليوم؛ فقال له صفوان اسكت فض الله فاك لأن يربني رجل من قريش أحب إلي من أن يربني رجل من هوازن‏.‏ ثم إن شرف بني عبد مناف لم يزل في بني عبد شمس وبني هاشم‏.‏ فلما هلك أبو طالب وهاجر بنوه مع رسول الله وحمزة كذلك‏.‏ ثم من بعده العباس والكثير من بني عبد المطلب وسائر بني هاشم خلا الجو حينئذ من مكان بني هاشم بمكة، فاسغلظت رياسة بني أمية في قريش ثم استحكمتها مشيخة قريش من سائر البطون في بدر، وهلك فيها عظماء بني عبد شمس‏:‏ عتبة وربيعة والوليد وعقبة بن أبي معيط وغيرهم‏.‏ فاستقل أبو سفيان بشرف بني أمية والتقدم في قريش وكان رئيسهم في أحد وقائدهم في الأحزاب وما بعدها‏.‏ ولما كان الفتح قال العباس للنبي لما أسلم أبو سفيان ليلتئذ كما هو معروف وكان صديقاً له يا رسول الله إن أبا سفيان رجل يحب الفخر فاجعل له ذكراً فقال: من دخل دار أبي سفيان فهو آمن‏.‏ ثم من على قريش بعد أن ملكهم يومئذ وقال‏:‏ اذهبوا فأنتم الطلقاء وأسلموا‏.‏ وشكت مشيخة قريش بعد ذلك لأبي بكر ما وجدوه في أنفسهم التخلف عن رتب المهاجرين الأولين وما بلغهم من كلام عمر في تركه شرارهم، فاعتذر لهم أبو بكر وقال‏:‏ أدركوا إخوانكم بالجهاد؛ وأنفذهم لحروب الردة فأحسنوا الغناء عن الإسلام وقوموا الأعراب عن الحيف والميل‏.‏ ثم جاء عمر فرمى بهم الروم، وأرغب قريشاً في النفير إلى الشام فكان معظمهم هنالك‏، واستعمل يزيد بن أبي سفيان على الشام وطال أمد ولايته إلى أن هلك في طاعون عمواس سنة ثماني عشرة فولى مكانه أخاه معاوية وأقره عثمان من بعد عمر، فاتصلت رياستهم على قريش في الإسلام برياستهم قبيل الفتح التي لم تحل صبغتها ولا ينسى عهدها أيام شغل بني هاشم بأمر النبوة برسوله‏.‏ وما زال الناس يعرفون ذلك لبني أمية‏.‏ وانظر مقالة حنظلة بن زياد الكاتب لمحمد بن أبي بكر‏:‏ أن هذا الأمر إن صار إلى التغالب غلبك عليه بنو عبد مناف‏.‏ ولما هلك عثمان اختلف الناس على علي. كانت عساكر علي أكثر عدداً لمكان الخلافة والفضل إلا أنها من سائر القبائل من ربيعة ويمن وغيرهم‏.‏ وجموع معاوية إنما هي جند الشام من قريش شوكة مضر وبأسهم نزلوا بثغور الشام منذ الفتح فكانت عصبيته أشد وأمضى شوكة‏.‏ ثم كسر من جناح علي ما كان من أمر الخوارج وشغله بهم إلى أن ملك معاوية وخلع الحسن نفسه، واتفقت الجماعة على بيعة معاوية في منتصف سنة إحدى وأربعين عندما نسي الناس شأن النبوة والخوارق ورجعوا إلى أمر العصبية والتغالب، وتعين بنوا أمية الغلب على مضر وسائر العرب، ومعاوية يومئذ كبيرهم‏.‏ فلم تتعده الخلافة ولا ساهمه فيها غيره؛ فاستوت قدمه، واستفحل شأنه، واستحكمت في أرض مصر رياسته، وتوثق عقده‏.‏ وأقام في سلطانه وخلافته عشرين سنة ينفق من بضاعة السياسة التي لم يكن أحد من قومه أوفر فيها منه يداً من أهل الترشيح من ولد فاطمة وبني هاشم وآل الزبير وأمثالهم ويصانع رؤوس العرب وقروم مضر بالإغضاء والاحتمال والصبر على الأذى والمكروه‏.‏ وكانت غايته في الحلم لا تدرك وعصابته فيها لا تنزع ومرقاته فيها تزل عنها ذكر. أنه مازح عدي بن حاتم يوما يؤنبه بصحبة علي فقال له عدي‏:‏ والله إن القلوب التي أبغضناك بها لفي صدورنا، وإن السيوف التي قاتلناك بها لعلى عواتقنا، ولئن أدنيت إلينا من الغدر شبراً لندنين إليك من الشر باعاً، وإن حز الحلقوم وحشرجة الحيزوم لأهون علينا من أن نسمع المساءة في علي، فشم السيف يا معاوية يبعث السيف‏.‏ فقال معاوية هذه كلمات حق فاكتبوها وأقبل عليه ولاطفه وتحادثا، وأخباره في الحلم كثيرة‏."(منقولة عن تاريخ بن خلدون الجزء الثاني)‏.

لقد غابت بعض الشورى أحياناً عند أهل السلطة أو بصورة أدق استأثر بها أهل العصبية ومن والاهم من العصبيات الأخرى، ولكنها لم تندثر وكانت تشرئب بين الحين والآخر كما حدت لمعاوية بن يزيد الذي تنحى طوعاً عن الملك لما دقت عليه الأمور ولم يجد في نفسه القدرة على القيام بشأن الخلافة على سيرة عمر، وكذلك أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز الذي رد الخلافة إلى أهل الحل والعقد، فأجمعوا على خلافته، وسار بالأمة سيرتها الأولى عدلاً ورحمة. إن من الظلم أن يختصر تاريخ بني أمية بسيرة يزيد بن معاوية والوليد بن يزيد أو الحجاج بن يوسف أو حتى بسيرة ملوك بني أمية كلهم، سواء من الفرع السفياني أو المرواني، فالأمة كانت لا تزال وثابة إلى عمل الخير ونشر الدعوة وإقامة العدل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. نقول ونكتب هذا إحقاقاً للحق بعد أن اشرأب رأس الفتنة من جديد تقوها شعوبية جديدة حاقدة على العرب والمسلمين تحاول أن تمسخ تاريخ العرب ودورهم المسؤول عن حفظ الدين وسياسة الدنيا به. لقد أنجبت الأمة رجالاً ونساء غاية في الحلم والصبر على المكروه، وكما يقول الشاعر: كفى المرء نبلاً أن تعد معايبه. لقد وقفنا بعد معانة إلى أن الرجال معادن خياركم في الجاهلية خياركم بالإسلام إن فقهوا، وإن كل امرء ميسر لما خلق له، فمن يصلح للقضاء بين الناس قد لا يصلح لسياسة الملك والناس، وفد يكون العكس صحيحاً، ومن بصلح للحرب والمكيدة قد لا يصلح للسياسة وحسن العمران والاجتماع، وقلما تجتمع القوة والأمانة لرجل أو امرأة، وكما ورد في القرآن الكريم (اِسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْر مَنْ اِسْتَأْجَرْت الْقَوِيّ الْأَمِين ) وقد جعل الإمام ابن تيمية هذه الآية محوراً أساسيا في كتابه السياسة الشرعية، ويحسن دائماً الرجوع إليه. وقد بينت تجربة الإنسانية أن هذه المسألة من النوع السهل الممتنع، ولا تحسم إلا بمشورة أهل الحل والعقد، وخاصة في الشأن العام وسياسة الملك. لو كان كل من مارس السياسة على مستوى الدولة أو الأحزاب أو الجمعيات صادق مع نفسه، لاعترف بحقيقة مرة وقاسية، وقام على رؤوس الأشهاد يقول: إن 90% من الجهد المبذول في سياسة الدولة والأحزاب والجمعيات يذهب في ترتيب البيت من الداخل، وتأليف العقول والأفهام والتقريب بين أهواء الناس وتطلعاتهم، فيبقى 10% أو أقل من ذلك، للشأن الذي من أجله هم يعملون، وبدلاً من أن يكونوا روحاً يسري في الأمة يصبحون في صغائرهم يقتتلون وبأوهام الرياسة يرتكيسون، ولا يخرجون من هذه الأوحال إلا بخصومة وعداوة وبغضاء يصطنعونها ليحسبهم الناس جمعياً وقلوبهم شتى. إن أهل النحل والفرق، الذين جعلوا الدين وسياسة الملك والناس اتيباع رجل منهم يتلوا عليهم خرافاته، ويسبغون عليه العصمة، وينسبون إليه فصل الخطاب. حتى إذا تمت الغاشية أو تكاد، وجاءت الطامة وهرولوا ومن معهم إلى الكارثة- شخصت أبصارهم إلى منقذ جديد أو وهم تليد. إن الأمة كانت ولا تزال، إنشاء الله، عصيت على الملك العضوض والملك الجبري، أي الاستبداد والطغيان، والأمة الخيرة هي كما قال الله تعالى: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) وهذه الأمة الخيرة وجدت بعيداً عن قصور الاستبداد وصروح الطغيان ودفعت غالياً لتقوّم وتهدي للتي هي أقوم، فأشادت حضارة وفقها وعلماً لا ينكر. بعد معاناة عظيمة رأى السواد الأعظم من الفقهاء أن الأمر، أي الإمامة العظمى لا تنعقد إلا بجمهور أهل العقد والحل على شرط ارتضوه أو عقد عقدوه.  إلا أن الماوردي، الذي عاش في نهاية القرن الرابع وتوفي في 450 للهجرة، في كتابه الأحكام السلطانية والولايات لا يثمّن هذا الرأي بل يدفع به. يقول الماوري ملخصاً رأي فقهاء السنة في هذا الشأن: والإمامة تنعقد من وجهين: أحدهما باختيار أهل العقد والحل، والثاني بعهد الإمام من قبل: فأما انعقادها باختيار أهل الحل والعقد، فقد اختلف العلماء في صدد من تنعقد به الإمامة منهم على مذاهب شتى، فقالت طائفة لا تنعقد إلا بجمهور أهل العقد والحل من كل بلد ليكون الرضاء به عاماً والتسليم لإمامته إجماعاً ، وهذا مذهب مدفوع ببيعة أبي بكر رضي الله عنه على الخلافة باختيار من حضر ولم ينتظر ببيعته قدوم غائب. وقالت طائفة أخرى: أقل من تنعقد به منهم الإمامة خمسة يجتمعون على عقدها أو يعقدها أحدهم برضا الأربعة استدلاً بأمرين: أحدهما أن بيعة أبى بكر رضي الله عنه انعقدت بخمسة أجمعوا عليها ثم تابعهم الناس فيها، وهما: عمر بن الخطاب وأبو عبيدة بن الجراح وأسيد حضير وبشر بن سعد وسالم مولى أبي حذيفة رضي الله عنهم والثاني أن عمر رضي الله عنه جعل الشورى في ستة ليعقد لأحدهم برضا الخمسة، وهذا قول أكثر الفقهاء والمتكلمين من أهل البصرة، وقال آخرون من علماء الكوفة تنعقد بثلاثة يتولاها أحدهم برضا الاثنين ليكونوا حاكماً وشاهدين كما يصح عقد النكاح بولي وشاهدين. وقالت طائفة أخرى: تنعقد بواحد، لأن العباس قال لعلي رضوان الله عليه امدد يدك أبايعك فيقول الناس عم رسول الله (ص) بايع ابن عمه فلا يختلف عليك اثنان، ولأنه حكم وحكم واحد نافذ.

نلاحظ من النص الذي أوردناة أن الماوردي، وبعد أربع قرون، يدفع بالرأي القائل: أن الإمامة لا تنعقد إلا بجمهور أهل العقد والحل من كل بلد ليكون الرضا به عاماً والتسليم لإمامته إجماعاً، لأنه لم يجد سابقة يقيس عليها أو إجماعاً يستند عليه. علماً أن هذا الرأي هو التطبق الأقرب للنص القرآني، " وأمرهم شورى بينهم " في الواقع المعاش. ولأن الإجماع والقياس أعتبر من مصادر التشريع عند جمهور الفقهاء وهما في حقيقة الحال آلتين معتبرتين. لاشك أن القباس والإجماع مصدران معتبرتان في فقه العبادات وفقه الأحوال الشخصية، والنظر في قياس وإجماع السلف من الصحابة والتابعين في هذه المواضع أمر جدير بالاحترام لأنهم الأقرب إلى عهد النبوة ولحرصهم الصادق على النقل السليم، ومعانات النص، قرآن أو سنة. إلا أن تعسف الآلة (القياس والإجماع، ونسخ النص بالنص أو تحكيم النص بالنص، أو تحكيم المنطق بالنص...الخ) لم ينقطع إلى يومنا هذا. المعتزلة أو العقلانيون، كما يحلو لأهل الحداثة تسميتهم، حكّموا آلة العقل بالنص، وخفف من تعسف آلتهم مبدأ العدل الذي راموه، ومع ذلك أقاموا مملكة الاستبداد الفكري عندا آلت السلطة إليهم أو مالأتهم. لا يوجد ملاذ للفقهاء والباحثين عن الصواب واليقين في فهم النصوص (قرآن أو سنة ) إلا الفطرة السليمة والعقل السليم وعدم إعمال الآلة في الأمر(السياسة) أو العمران والاجتماع الإنساني سواء أكانت الآلة قياساً أو إجماعاً أو ذوقاً أو جدلية مادية أو تاريخية أو رأياً (اديولوجية). لأن الشأن العام، سياسة الملك، العمران، والاجتماع الإنساني- أمور متغيرة مكاناً وزماناً، وفقه الواقع مقدم في الحكم(القضاء بين الناس) والأمر(السياسة) والعمران(الاقتصاد) ليتمكن الفقيه أو القاضي أو السياسي أو رجال المال والأعمال على استنباط الحكم الشرعي والسياسة الشرعية.

الشرعية هي أس الداء وحلها أصل كل دواء، وقد جعلها الله سبحانه شورى بينهم على شرط اشترطوه وعقد عقدوه وكان هذا العقد هو كتاب الله وسنة نبيهم، وكان التفريق بين الحكم (القضاء) والأمر(السياسة) واضح المعالم في كتاب الله، فقد جعل القرآن الحكم لله والسلطة والسياسة لأهل الحل والعقد، ولليقين والاطمئنان في هذه المسألة يجب الرجوع في هذه المسألة إلى كتاب الله والتدقيق في كل مفردات (حَكَمَ) ومشتقاتها التي وردت في القرآن وكذلك كلمة ( أَمَرَ ). لهذا يجب أن يكون القصد والهدف والغاية في مسألة الشرعية أن تكون شأن أهل الحل والعقد ممن ترتضيهم الأمة دون إكراه أو إغراء ورأس الدولة والوزراء وبالتالي السلطة التنفيذي تعقد بجمهور أهل العقد والحل، ومصطلح أهل الحل والعقد أدق لغة من المصطلحات التي انتقلت إلينا من ترجمة الكلمات الأعجمية مثل نائب في الإنكليزية Representative أو عضو المجلس Member of Parliament أو مبعوث كما في الفرنسية D`epute` وكذلك في الإسبانية يطلق عليه مبعوث Diputado ويطلق الألمان مبعوث أيضاً Abgeordnete وقد ترجم الأتراك هذه الكلمة (بمبعوثان) عندما عين السلطان عبد الحميد الثاني أول مجلس للأمة وأطلق عليه مجلس المبعوثان. أردنا من هذا العرض اللغوي، الذي قد يكون مملا ًللبعض، أن نلقي ضوء على دقة المصطلح الفقهي الذي يقدم المعنى والمبنى لصاحب الاختصاص وغيره، ويعرف الناس بالوظيفة والمطلوب من صاحب الوظيفة، ويغنينا عن تعريفات أبراهم لينكولن A. Lincoln عن الديمقراقراطية بأنها: حكم الشعب بالشعب وللشعب. الشرعية المنبثقة من أهل العقد والحل، كما أسلفنا، هي الشرط الذي لابد منه أو كما يقال في لغة السياسة Condicio sine qua non لإصلاح ما أفسد الطغيان والاستبداد والطغيان أو الوقوف في وجه الطغيان والفساد، ولكن من هم أهل العقد والحل ؟ من التاريخ السياسي الإسلامي وخاصة في عهد النبوة كانوا المقدمين والسراة وأهل الفضل في قومهم ( شيوخ القبائل ) حتى ولو لم يكونوا من أهل العلم والتحصيل والفقه. وبكلمة مختصرة (المطاعون في قومهم ). في عام الوفود دخل قوم إلى رسول الله (ص) وكان رئيس الوفد رجل أحمق، فأكرمه رسول الله خير إكرام، فلما خرج القوم من عند رسول الله قال من حضر: ولكنه أحمق. فقال رسول الله(ص) نعم؛ ولكن أحمق مطاع. هذه الرواية تحدد بدقة متناهية المقصود بأهل العقد والحل – ليس المثقفين أو أهل الاختصاص أو الفقه أو العلماء بل المطاعين من أبناء الشعب ولا نعتقد أن الشعب سيختار الحمقى، ولكن إذا اختار قوم أحمق فلا مناص من القبول به، وهذا ما حملنا لرفض النظام الرئاسي وتفضيل النظام البرلماني لان النظام البرلماني يسد الطريق على الحمقى أولي العزوة المطاع في قوم، ومرفوض عند الآخرين. لقد أصبح النظام الديمقراطي الأمريكي يولد الحمقى وألي العزم والعدوان. لقد ذاب النظام القبلي أو يكاد والفلسفة القومية الرومانسية في طريقها إلى الاندثار رغم تشنجات بعض زعماء الكرد الذي يكدون السير   إلى وثن القومية بعد أن قفل الآخرون راجعين.  أما الجهوية فندعها للتواصل السريع والإعلام البديع وطلب الرزق الوفير يجهز عليها، وكلها بقايا حقب أكل الدهر عليها وشرب، فالناس تنشد العدل والحرية واليسر والرحمة، وستبحث عن الذين ينقلون همومهم وتطلعاتهم إلى مراكز القرار وستختارهم كأهل للعقد والحل.

دولة الرعاية الاجتماعية Social state

في هذه المسألة رأيان: الأول ينطلق من مرجعية علمانية(دنيوية) حيث أن طبيعة العمران (الاقتصاد) والاجتماع الإنساني تتطلب حلولاً تهذب من شرور اللبرالية دون أن تلغيها بل إن الحرية وحقوق المواطنة مقدمة على النفع العيني للطبقات المحرمة وصاحبة المصلحة لتحسين ضروفها المعاشية. الدولة حسب هذا الذهب يجب أن تكون (حيادية) في الجدل الديني والاجتماعي في المجتمع؛ على أن يحسم هذا الجدل عبر آليات الديمقراطية وتبادل السلطة، ويجنح منظرون هذا الرأي إلى نظرية التطور الفطري للمجتمعات Evolution ويرفضون مبدأ الثورة Revolution ولما كان التطور الاجتماعي بطيئاً فيرون دورهم هو تسريع التطور عن طريق التركيز على الإصلاحات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي توفر للطبقات الفقيرة حياة كريمة أي الرفاه للجميع شعار وزير الاقتصاد الألماني والمستشار السابق في الستينيات لودفغ إرهاد، وقد فصلنا في نشوء وارتقاء وانتكاس دولة الرعاية الاجتماعية في بداية البحث. الطيف في هذا السياق أن أحد أعضاء البرلمان الألماني، منذ فترة قصيرة، كان يقرأ في البوندستاغ (المجلس النيابي ) بعض الحجج ضد "الإصلاحات" التي اعتمدها البرلمان الألماني، والتى تهدف إلى تقليص الخدمات التي تقدمها الدولة ومؤسسات الضمان الاجتماعي، فثار اليمين عليه كالثور الهائج، وكان يستمتع بثورة اليمبن على كلمته وحججه، حتى إذا فرغ من كلمته وهدأت الثورة- التفت إلى زملاءه الثائرين قائلاً: إن ما قرأت عليكم من قبل كانت مقاطع من كتاب رئيس حزبكم ( المسيحي الديمقراطي) ومستشاركم الذي كنتم تفاخرون به (لودفغ إرهارد). من هذه الطرفة نعلم أن حيادية الدولة شعار يرفع، لعلم لا ينفع، والجهل به قد لا يضر. الشئ الذي نتعلمه من تجربة دولة الرعاية الاجتماعية أن قوانين الاقتصاد ليست قوانين حيادية وسرمدية مثلها مثل قوانين الفيزياء والكيمياء وأن الأحزاب الديمقراطية الاجتماعية تستطيع أن تقوم بدور الوسيط Catalyst أو Katalysator لتسريع وضبط التفاعل الاجتماعي، فإجراءات العولمة لم تكن تطبيق لقوانين اقتصادية حيادية صارمة لا مناص منها فرضتها طبيعة التطور العلمي والصنائعي (التكنولوجي)، وإنما سياسات هيمنة وسيطرة تلبس لبوس الفلسفة والمعرفة والعلم. كثيراً ما تتردد كلمة (مصلحة) الدول والأفراد وشرائح المجتمع المختلفة تبحث عن مصالحها، كما يردد البعض مقالة تشرشل العدوانية " بين الدول لا يوجد صداقات دائمة أو عداوات دائمة ولكن مصالح دائمة" المصلحة يشترك فيها طرفان أو أكثر وما يعتبر مصلحة لطرف قد يكون مفسدة لطرف آخر ولحسم المسألة بدون غبن أو ظلم لا بد من موازين العدل والقسط لدفع الظلم والعدوان وإقامة السلم.

الرأي الثاني في مسألة دولة الرعاية الاجتماعية هو الرأي القائم على مكنوز الفقه الإسلامي في سياسة الملك والعمران (الاقتصاد) والاجتماع الإنساني، ونسمي مشروع الدولة الإسلامية ( دولة العدل والرعاية الاجتماعية) Social & Justice State. العدل هو السمة المميزة للإسلام كدين كما كانت المحبة السمة المميز للمسيحية قبل أن تصبح صليبية مع بداية القرن السابع الميلادي، والتوحيد كانت سمة الديانة اليهودية قبل أن تصبح تلمودية بعد السبي البابلي. إن كلمة عدل ومشتقاتها وردت في القرآن أكثر من 200 مرة، ورمز للعدل بالميزان ليكون حسياً بصائرياً عند الخاصة والعامة بل جعل العدل سياسات وتشريعات واجبة التنفيذ وكلمة صدقة لا تعني المكرمة أو الأعطية ليتلذذ المالك بما يملك لأن لذة الملك بالعطاء، كما يقول ابن المقفع، الصدقة من الصدق، وهي العربون واجب الدفع على صدق المواطن في انتماءه للأمة. كالضريبة تماماً، وجعلها حق معلوم (وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ ) بل حدد الفقه الإسلامي الحد الأدنى لهذا الحق 2,5% من رأس المال نأخذ من الأغنياء وترد إلى الفقراء يضاف إلى هذا زكاة الريكاز ومقدرها 20% من ريع النفط والمعادن تحت الأرض، وعلى مؤسسة الرعاية الاجتماعية أن تنتزع هذا الحق المهدور من الشركات أو الدولة وتضعه في صندوق الرعاية الاجتماعية الذي يضطلع بحق الشريحة الاجتماعية التي تحتاج إلى الرعاية وكذلك الأطفال والمطلقات من النساء الذين يقمن برعاية الأطفال عندما يكون الوالد غير قادر على الإنفاق حتي لا تصبح الحياة الزوجية مؤسسة بؤس وإكراه. هناك الفيء وهو مجموع العقارات والأراضي الزراعية التي تملكها الدولة وهي في حقيقة الحال تعود ملكيتها إلى الفقراء وأصحاب الحاجة وعلى الدولة أن تبحت عن موارد أخرى لتسديد نفقاتها. قد يتسأل البعض لماذا هذا الفصل بين الدولة ومؤسسات الرعاية الاجتماعية؟ إن مصدر هذا التساؤل هو الدولة الشمولية التي فرضت علينا فالدولة الشمولية هي الأب والأم والجلاد والمخبر. إن المواطن الألماني لا يطرح هذا التساؤل لأن هذا الفصل واقع معاش، فراتب من يستحق الرعاية أو مخصصات الأطفال Kindergeld وحتى الراتب الذي يعطى إلى طلاب اللجوء السياسي ( وهم من نوع أبناء السبيل الذي تجب لهم النفقة) يصرف من صندوق الرعاية الاجتماعية، وهناك صندوق الضمان الاجتماعي للصحة وصندوق الضمان الاجتماعي ضد البطالة، وصندوق الضمان الاجتماعي التقاعدي، وهي مؤسسات تعمل بشكل منفصل وتنسق بينهم وزارة الشؤون الاجتماعية ووزارة الصحة ومؤسسة العمل التي تفوق ميزانيتها وصلاحياتها أي وزارة أخرى، وتقوم بصرف راتب البطالة وتؤهل العمال وفق متطلبات سوق العمل. في عام 1992 ألقيت محاضرة بعنوان " مذهب الإسلام الاجتماعي " Islamische Soziallehre وكانت محاور المحاضرة ما ذكرته آنفاً، وركزت على فصل مؤسسة الرعاية الاجتماعية عن الدولة والسلطة فلم أجد من يعترض أو يتسأل عن مغزى الفصل وعلق أحد الرهبان، وهو أستاذ جامعي، "إن مذهب الإسلام الاجتماعي يختلف عن المذهب المسيحي الاجتماعي Christlische Soziallehre ويكاد يتطابق مع مذهب الاشتراكين الديمقرطين من حيث المبدأ، ولكن يبدوا لي أن الإسلام يجعل من الإجراءات حقوقاً غير قابلة للمساومة ولا يمكن الرجوع عنها حتى في وقت الأزمات الاقتصادية التي تقتضي التقشف لاجتياز الأزمة" هذا التعليق من الأستاذ أصاب كبد الحقيقة، كما يقال، وقد أجبته إن دولة الإسلام تنطلق من مبدأ (العدل) وليس (حيادية الدولة) وهذا معنى الوسطية في الإسلام فلن يكون للأزمات موضع قدم إلا في حالة الكوارث الطبيعية غير المتوقعة، والأزمة هي من طبيعة النظام الاقتصادي الرأسمالي الذي لا يرى في إنتاج السلع مجال لترتيب الأولويات بينا يرى الفقه الإسلامي في ترتيب إنتاج السلع حسب سلم الأولويات أمراً لا مناص منه، فجعل السلع منها ما هو ضروري ومنها ما هو حاجي ومنه ما هو كمالي أو تحسيني، فتوفير السلع الضرورية (المأكل والملبس والدواء والمسكن) مقدم على السلع الأخرى؛ ليس بمعنى منع إنتاج السلع الكمالية، ولكن الإطار العام الذي يجب أن توفره الدولة لتنشيط الإنتاج والتنمية، وكذلك الدعم العيني يجب أن يكون بالدرجة الأولى لتكثير السلع الضرورية، كما أن التحديد العيني والحقوقي لحق السائل والمحروم يجعل منه رأس مال يسهم في تطوير الإنتاج ويدخله سوق المنافسة كلاعب معتبر في التنمية. ليس مهمة هذا البحث التفصيل في مبادئ وآليات العمران(الاقتصاد) الإسلامي ولكن فقط الإشارة إلى النقاط التي تقتضيها ضرورة البحث. بين مشرع دولة الرعاية الاجتماعية العلماني ومشروع الرعاية والعدل الإسلامي، ولكن هناك قواسم مشتركة لابد من الإشارة إليها. أولاً كلا المشروعين لابد أن يسبقه إرساء الحرية بكل مفرداتها وإقامة الشرعية المنبثقة من إرادة الشعب. ثانياً جعل التنمية مشروع حضاري أو معركة حضارية تبدأ بوقف سرقة رأس المال الوطني وإيداعه في البنوك الأجنبية من قبل رموز السلطة والمتعاونين معهم من المفسدين. يجب أن يكون معيار المواطنة والوطنية مدى استعداد المواطن لتوظيف ثروته في ربوع الوطن في مشاريع منتجة، مع ضمانات كافية لحق وحرية الملكية. ثالثاً يجب مصارحة الشعب أن بناء دولة الرعاية وحمايتها من الطغيان الشمولي والعولمة من شؤون الأمة الأساس. إن دولة الرعاية الاجتماعية أصبحت منذ ثمانينيات القرن الماضي هدف مشترك للطغيان والاستبداد والعولمة، ولا تتورع قوى الهيمنة التي تقود العولمة من تحالفات تكتيكية مع أعتى مؤسسات الطغيان في سبيل تطبيق تعليمات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة الدولية الصارمة والتي لا تقبل الجدل والحوار، وإن شعار الديمقراطية وحقوق الإنسان وحتى حماية البيئة فقط للتضليل والاستهلاك الإعلامي المعولم أيضاً. إن حكومات المافيات في أوربا الشرقية وحكومات لصوص القصب والفواكه والمخدرات في أمريكا الجنوبية في طريقهم إلى الزوال وربما أسرع مما يتوقعون ونتوقع. إن احتلال العراق سبقه احتلال أفغانستان، وتدمير الدولة في الكنغو الديمقراطية، وإفساد الحرث والنسل في أمريكا وإكراه أوربا الموحدة للتخلي عن سياسات الرعاية الاجتماعية، ففي معاهدة ماسترش Maastricht أصرت مارغريت ثاتشر ومن بعدها ميجر على استبعاد أي إشارة إلى مسألة الرعاية الاجتماعية، ومنذ ذلك التاريخ انخفض الدخل أو القوى الشرائية للمواطنين في دول الوحدة الأوربية إلى 60% عما كان عليه قبل هذا التاريخ، لم يبقى في جعبة رؤوس العولمة إلا شن الحروب لأسباب يختلقونها وأوهم يدعونها. إن سياسات أمريكا الحالية كان يمكن توقعها بل يمكن تجنبها لو عملت القوى الديمقراطية المسالمة في أمريكا على بناء دولة الرعاية الاجتماعية في أمريكا نفسها وتوفير الضمان الصحي لسبع وأربعين مليون مواطن أمريكي، وتحسين ضروف العمل، وتحسي الضمان ضد الشيخوخة الذي تسعى الإدارة الأمريكية الحالية لخصخصته. لا أعرف كيف غاب على مراكز الفكر العالمي والبحت الفلسفي والاجتماعي أطرحة شتراوس Strauss "الفلسفية" والاجتماعية في بحث يرد فيه متهكماً على ماكس فيبر Max Weber ورواد علم الاجتماع، الذين يدعون إلى العقلانية وفكرة دولة الرعاية الاجتماعية، فلا يرى في مشروعهم إلا تلك الآلة المطلبية المتواكلة التي تهدف إلى خلق رجل الاختصاص المنغلق بغبائه المهني أو الرجل الغارق حتى أذنيه في اللذة والمتعة الرخيصة، وهو في كلا الحالتين أناني، سطحي الثقافة، متوسط الدخل والوسيلة، هزيل المعرفة، متواضع التطلعات، عديم الطموح، وضامر الروح والمغامرة. هكذا صور شتراوس إنسان الرعاية الاجتماعية أو هكذا تكلم شتراوس ومن قبله نيتشه Nietzsche على لسان زردشت. ما هو النموذج الذي كان يسعى إليه شتراوس ليكون رائداً وقائداً للعولمة؟ إنسان الفلسفة الطبيعية المشبع بسادية هوبز Hobbes وسفسطائية نيتشه وخبث ماكيافلي وباطنية الحشاشين ليصبح الدين شعاراً، والإلحاد جوهراً، والطاعة العمياء مسلكاً، والغدر والعدوان مبرراً. لقد حدث شيئاً مريباً في عهد الرئيس ريغان حيث تداعى أيتام التوتسكية الصهاينة ( نسبة إلى ترو تسكي Trotzki ) من كل حدب وصوب ليقيمون ما عرف بمجمعات الفكر Tank think يملاؤن منها عقول الساسة، من تجار الحروب والمتعصبين وأهل العدوان، بزخرف القول وحجج التضليل والعدوان. لقد وقعت الواقعة وما على المؤمنين بحق الإنسان بالحرية والأمن إلا الصدق والصبر والثبات. لقد رموا العالم العربي، الذي يجثم على صدره الطغيان والاستبداد، بكل سفيه وشريد وطريد، فدعاة الشمولية وحملة الراية الحمراء التي كتب عليها " يا عمال العالم اتحدوا" أصبحوا بين عشية وضحاها دعاة الحرية والديمقراطية، وقد استبدلوا الراية الحمراء براية زرقاء أو سوداء كتب عليها "يا لصوص العالم وأبواق التضليل اتحدوا". صحيح أنهم يشكلون صورة كاريكاتورية لزملائهم أو أسيادهم في أمريكا ولكن يحملون سم أفاعي الشعوبية وحقدها الدفين.

السؤال؟ الذي يجب أن نجيب عليه قبل إنهاء هذا البحث هو: هل يمكن إقامة (دولة العدل والرعاية الاجتماعية) في دولة صغيرة محدودة الموارد والإمكانيات مثل سورية أو دولة كبيرة وعظيمة السكان مثل مصر ولكن فقيرة ؟

الواقع العربي والإسلامي مخزي على كل الصعد وتقويم هذا الخزي ضرورة إنسانية وواجب ديني، وكما كان الوضع الأوربي مخزياً ودموياً في النصف الأول من القرن الماضي، وحتى وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها، وأجبرت الكوارث الدول الأوربية على التعايش المشترك ثم الوحدة بعد أن كانت متصارعة فيما بينها على المغانم الاستعمارية، ويؤجج روح الحقد والضغينة بينها رمانسيات القومية ووثنية السلطة. إن المصيبة والكوارث وحدة الشعوب الأوربية غير المتجانسة ديناً أو لغة أو عرقاً؛ بينما الكوارث تزيد الدول العربية فرقة وتباعداً، فأين العلة؟ الدول الأوربية بدأت بعد الحرب العالمية الثانية تقيم دول الرعاية الاجتماعية بعد أن أقامة الشرعية على مبدأ الحرية والديمقراطية أو بصورة أدق متزامنة معها، وكانت أكثر الدول سعياً للوحدة هي الدول الأكثر سعياً نحو العدالة الاجتماعية ألمانيا وفرنسا وأكثرها تخلفاً في مضمار العدل الاجتماعي أقلها سعياً للوحدة اسبانيا البرتغال ثم الدول المتحررة من الشمولية. كل دولة أوربية صغيرة مثل هولندا أو كبيرة مثل فرنسا سعت إلى إرساء قواعد دولة الرعاية الاجتماعية ولم تنتظر حتى تصبح غنية بل إن سياسة الرعاية الاجتماعية سرعت عملية التنمية على عكس ما يدعي منظرين العولمة، وتباطأ النمو الاقتصادي يزداد مع تقليص الخدمات الاجتماعية التي تقدمها الدولة أو مؤسسات الضمان الاجتماعي مع العلم أن العلم والصنائع (التكنولوجيا) حققتا قفزات مذهلة. مع الارتقاء في سلم الضمان الاجتماعي تزايدت الحاجة إلى سياسة الاندماج بين الدول الأوربية. قبل ميثاق روما الذي يرسم المعالم الاقتصادية للسوق الأوربية المشتركة بين الدول الموقعة على الميثاق كانت الدول الأوربية تعقد فيما بينها ثنائياً معاهدات اجتماعية تنظم وتحمي حقوق المواطنين العاملين خارج دولهم في دولة أوربية أخرى ( الضمان الصحي، الضمان ضد البطالة، الضمان التقاعدي ...الخ ) الفوارق كانت طفيفة بين معاهدة وأخرى وتكاد تصبح نمطية Standard السوق الأوربية المشتركة قامت على ثلاث ركائز أساسية: حرية تنقل الأفراد بين دول السوق بدون سمة مرور (فيزا) أو إجراءات أخرى؛ حرية تنقل البضائع والسلع، حرية انتقال رؤوس الأموال. صحح أيضاً أن الناتو كان يشكل مضلة حماية وحربة عدوان للدول الأوربية قبل وبعد معاهدة السوق الأوربية المشتركة، ولكن استطاعت أمريكا أن تشل هذا الحلف في حرب السويس عام 1956 لتناقض المصالح بين إنكلترا وفرنسا من جهة وأمريكا من جهة ثانية. فحلف الناتو لم يستطيع أن يلزم أوربا بقبول تركيا في دول الوحدة الأوربية حتى يومنا هذا رغم أن تركيا أنظمت مبكراً إلى حلف الناتو. لقد عشت في أوربا أكثر من ثلاثين عاماً لم أرى أو أسمع بمظاهرة تطالب بالوحدة الأوربية في أي دولة أوربية بل العكس، كانت مظاهرات وشعارات في دول أوربية كثيرة ضد الوحدة الأوربية. لقد كان الشعب الألماني منقسم على نفسه في مسألة الوحدة بين ألألمانيتين الشرقية والغربية واندفاع الألمان الشرقيين نحو الوحدة هو بالدرجة الأولى ليتمتعوا بحياة دولة الرعايا الاجتماعية في ألمانيا الغربية، والهروب من الشمولية نحو الحرية والديموقراطية. ومع هذا تحققت الوحدة بين الدول الأوربية الصغيرة والكبيرة. أردنا أن نقدم تلخيص سريع لسياسات الدول الأوربية الصغيرة والكبير للوصول إلى الوحدة الأوربية وسوف نقارنها بسياسات الدول العربية في الشأن نفسه مع الإشارة إلى المعوقات الخارجية التي شارك في صنعها الدول الغربية نفسها متخذة من المنطقة العربية وشعوبها حقل تجارب لأفكارها الشيطانية في سياسة الشعوب التي تعتبرها عدوة ودنها في القيمة والإنسانية، وموضوع سيادتها العنصرية المتعالية.

على سبيل المثال: لنأخذ سورية التي حصلت على استقلالها الناجز في 17/4/ 1943وكان عدد سكانها قد تجاوز3,5 مليون بقليل ، كما أنجزت الكتلة الوطنية التي قادت النضال ضد المستعمر دستوراً وطني المعالم ليبرالي المبنى اجتماعي المعنى. سورية المستقلة هي جز من بلاد الشام جغرافياً وجزء من بلاد الشام والعراق عمرانياً(اقتصادياً) واجتماعياً لا بل إن المنطقة الشرقية من سوريا أكثر التصاقاً بالعراق من الناحية القبائل والعشائر وصلة الرحم والعادات من الساحل السوري مثلاً. طبيعة الأمور البشرية والعمرانية والاجتماعية في المنطقة كانت تفرض على الطبقة السياسية سياسة مشابهة لسياسة الدول الأوربية، على الأقل، في كل من الأقطار العربية (سوريا العراق الأردن لبنان وفلسطين). وحتى اغتصاب فلسطين، من قبل أصحاب الخرافة والأساطير الصهاينة، كان يجب أن يكون عاملاً يدعوا إلى تسريع سياسة الرعاية الاجتماعية والتقارب الحثيث بين هذه الأقطار، وتعزيز الاستقلال بالحرية والشرعية والرعاية الاجتماعية. حدث العكس تماماً، فحكومة خالد العظم الأولى قامت بأول خطوة خاطئة على طريق الكوارث المتلاحقة، فصل سوريا عن لبنان فعلياً، وذلك عندما اتخذت سياسة نقدية انفصالية عن السياسة النقدية اللبنانية وأصدت عملة "وطنية" باسم البنك المركزي السوري بدلاً من العملة المشتركة بين لبنان وسورية، والتي كانت تصدر باسم بنك سوريا ولبنان، ولم تكتفي بذلك بل أقامة حواجز جمركية بين البلدين " لحماية " المصنوعات الوطنية التي لم يكن لها وجود أصلاً، وعملت بكل قوة لبناء مرفأ اللاذقية كبديل عن مرفأ طرابلس وبيروت وليس كرديف لهما. هذه الخطوات التي كان ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب أطلقت الشرارة التي فجرت الأنانيات بكل أشكالها المدمرة ( الجهوية والقبلية والطائفية والفرق والنحل وكل كفار أثيم ) كما شجعت العسكر والانقلابين على أفعال السوء وإطلاق الشعارات والادعاءات الفارغة، وبعد دوامة الانقلابات العسكرية عادت الشرعية، وخلال أربع سنوات استطاعت أن تنجز من العمران والنفع العام ما لم تستطعه (اللاشرعية) خلال أربعين سنة من الطغيان والاستبداد والقمع المخيف، لقد كانت السياسية البرلمانية تدرك الضرورات وتسعى لإنجاز ما يجب إنجازه، ووفق الامكانات المتاحة إقليمياً وعالمياً، وكما يقال العين (بصيرة واليد قصيرة) اكتشف العسكر سر المهنة التخريبية وإحراج السلطة الشرعية وإكراهها على التخلي عن السلطة أو على الأقل الأمور السيادية. كانت العملية بسيطة نسبياً (الشعارات البراقة في مقابل السياسات الحصيفة). كان مخزون الطبقة السياسية من الأفكار الحصيفة والسياسات الرشيدة التي تعزز التعاون بين المحيط الاقتصادي السوري لا يستهان بها؛ كانت تثمّن التعاون وإقامة مشاريع مشتركة مع العراق والأردن ولبنان خاصة أن 30% من ميزانية الدولة السورية كانت من عائدات نقل النفط العراقي عبر الأراضي السورية، وكانت تبحث عن أسواق لمنتجاتها من الغزل والنسيج المزدهرة في دول الجوار والعراق خاصة، ولكن السلطات في دول الجوار، وبدون استثناء، كانت تنتهج سياسات في صالح الفئات والجماعات التي يعتمد وجودها في السلطة على رضاء قوى الهيمنة الخارجية- السلطة في الأردن والعراق مرتهنة للسياسات البريطانية في المنطقة، ولبنان تعتبر منطقة نفوذ فرنسية. لقد أصبحت كل دولة من هذه الدول الأربعة مرتبطة إنتاجاً واستهلاكاً، وبالتالي سياسة بسياسة الدول التابعة لها. سورية هي الدولة الوحيدة في المنطقة التي حافظت على قدر لا بأس به بحرية المناورة فحققت أعلى معدلات الدخل في العالم الذي وصل إلى 25% مابين 1954-1958 أي حتى قيام الوحدة في فبراير(شباط) عام 1958. استفادت سوريه من كفاءات النازحين الفلسطينيين في التعليم والإدارة وتعاملت مع الفلسطينيين كمواطنين مع الحفاظ على الهوية الفلسطينية. الغالبية البرلمانية في المجلس النيابي السوري كانت تعتمد على صناديق الاقتراع على الناخب الصامت كما كانت أجهزت الدولة تعتمد معايير دقيقة إلى حد كبير في الأداء والنزاهة، وكان القضاء ليس مستقلاً فحسب بل وطموحاً يسعى إلى تطوير القانون الوضعي لينسجم مع الأعراف والفقه الشرعي، ولكن إرادة دول الجوار السياسية كانت مرتهنة للخارج، حتى لبنان أوجدت المارونية السياسية له خصوصية تبعده عن سياسة التعاون والتنسيق رغم أن لبنان الكبير تكون بعد اقتطاع أجزاء من سوريا وضمها إلى لبنان أيام الانتداب الفرنسي. ألا أن الخطر جاء من العسكر وعقلية الرحل التي كانت تغذيها الأحزاب القومية والأحزاب اليسارية. لقد قام زميل لي ألماني بمقارنة أدبيات حزب البعث العربي الاشتراكي مع أدبيات الحزب النازي في ألمانيا قبل وصوله للسلطة، وخاصة ما كتبه زكي الأرسوزي فوجدها متطابقة تماماً، حتى أساليب التحريض كانت متشابهة إلى حد بعيد. كما وجد أن أدبيات الحزب الشيوعي السوري واللبناني متطابقة مع أدبيات الحزب الشيوعي الألماني بقياد أرنس تلمان Ernst Tellmann هذا التشابه لم يكن محض صدفة أو فقط نقل أدبيات حزبية معينة إلى حزب آخر، ولكن أيضاً لتشابه الضروف التي كانت تمر بها المنطقة العربية وألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية وشعور الطبقة السياسية في كلا المنطقتين بالغبن والخديعة والهيمنة من نفس القوى الإمبريالية ( فرنسا وإنكلترا) بضاف إلى ذالك أن كلا الحزبين في كلا الدولتين كانت أحزاب إيديولوجية شمولية وعلمانية متطرفة ورومانسية حالمة. كان شعار الوحدة بالنسبة لحزب البعث هو المصباح السحري الذي يشبع الجائع ويكسي العاري ويغني الفقير ويشفي المرضى ويبرئ الأعمى. أما الحزب الشيوعي فمصباحه السحري في موسكو. إن من طبيعة رجل السلطة، وكان قادة حزب البعث كلهم طلاب سلطة، أن يفكر فقط بالوسيلة التي توصله إلى السلطة، أما القصد والهدف والغاية فلا تعنيه شيئاً. السلطة أكونه أو وثن يقربه إلى عالم السعادة وحلم الطفولة. رجل السلطة يبقى طفلاً حتى بلوغ التسعين، ويدفن كما ولدته أمه. هذه العقلية لا تؤمن بإرادة الشعب والديموقراطية. إنها تبحث دائماً عن القوة ووسائل القمع وتدمير الآخر، ومن أفضل من الجيش والجندية العمياء وسيلة لتحقيق هذا الغرض؟ الجيش في سورية كان في معظمه من الريف أو يحمل عقلية ريفية، والعقلية الريفية ذات خصوصيات باتت معروفة عند علماء الاجتماع. إنها عقلية حسية مادية لا تعرف ولا تعترف بالعقود والتعاقدية، وإذا جيشت هذه العقلية وأعطيت الوسيلة وشعرت بأنها تملك السلطة فإنها لا تعترف بأنصاف الحول والمساومات البرجوازية وقد أشار القرآن إلى ملامح هذه العقلية في سورة يوسف ( اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ ) وأوربا لها تجارب مع هذه العقلية ففي الحملة الصليبية الأولى والثانية كان معظم المتطوعين في الحملتين من الفلاحين وعندما توجهت الحملة إلى بيت المقدس تركت ورائها الدمار والخراب والمدن المحترقة، حتى الكنائس الأرثوذكسية في القسطنطينية لم تسلم من القتل والتهب والدمار، حتى تصدى لها الأتراك السلاجقة فأبادوهم جميعاً. عندما أعلن مارتين لوثر عن حركته الإصلاحية وظن الفلاحون أن أزفت الساعة للخروج على الكنيسة والسلطان، وجيشوا أنفسهم لذلك، ولكن مارتين لوثر سرعان ما تنكر لهم وخذلهم؛ خوفاً من الثورة التي لا تبقي ولا تذر. في الثورة البلشفية وقعت الكارثة عندما ظن ستالين أن المشكلة الزراعية يمكن حلها عن طريق الكلخوزات (التعاونيات الزراعية) وانتزاع الأرض من الفلاحين، فحدثت الثورة المضادة، وكان حصادها 10 ملايين نسمة من الطرفين. في الانتخابات الأمريكية الأخيرة شارك حوالي 10% ممن يحق لهم الانتخاب زيادة عن النسبة المعهودة، وقد ظن المراقبون أن هذه الزيادة ستقضي على فرص النجاح لبوش، قياساً على حالات مشابه في معظم الدول الأوربية الصناعية، ولكن حدث العكس تماماً-لأن معظم هذه الزيادة كانت من المناطق الريفية التي عبأتها الكنيسة، فقلبت المعادلة لصالح اليمين، وسيضطر اليمن أن يحافظ على سياساته المتطرفة- قناعة وخوفاً من استفزاز المزارعين الذين أدلوا بأصواتهم لصالح بوش. في 28/12 2004. كتب الدكتور مصطفى الفقي مقالا بجريدة الحياة اللندنية بعنوان " شارون ...مزارع أم محارب" ذكر فيه أنه استمع أخيراً لدبلوماسي أوربي يقول إن مفتاح شخصية شارون هي أنه ليس محارباً فقط ولكنه مزارع أيضاً، وقال: لقد أدهشتني تلك الملاحظة ودفعتني إلى تأمل المسيرة التاريخية لرئيس الوزراء الإسرائيلي ومحطاتها معروفة في حرب 48 و56 و67 و73 والتي توجت بمذبحة صبرا وشتيلا. يرى الفقي أن الزراعة حياة متجددة بينما الحرب معاناة ودمار وقتل وخراب ...الخ. يبدو لي أن الفقي لم يفهم ما يعنيه ذلك الدبلوماسي الذي لا شك أنه وّصف شخصية شارون بدقة أعلى مما يتصور الدكتور الفقي، ولكن ليس بشكل كامل، كان يجب أن يضيف إلى توصيف شارون أنه مزراع ومحارب وتلمودي العقيدة حتى يستكمل التوصيف، فالصورة النمطية في ذهن المثقف العربي؛ أن الفلاح رجل وديع مسالم فقير ودؤوب على العمل. هذه الصورة كانت للفلاح العربي المسلم أو المسيحي صاحب الدين كمنظومة عقدية وأخلاقية وقيمية وليس مجرد عصبية وولاء لرجل الدين ولاء خنوع وخضوع، والفلاح الغربي منذ بداية القرن السابع الميلادي أكره أن يصبح متديناً بمعني الولاء والخضوع والخنوع للسلطة الدينية والدنيوية، ومثاله الأعلى أن يملك الأرض ويصبح سيد غيره، وكل وسيلة للوصل هذا الهدف مباحة ومبرره، ولو أدى إلى قتل أخيه والفتك بأمه وأبيه. لو كلف السيد الفقي نفسه مشقة البحث عن العقلية التلمودية، وكيف صورت أنبياء الله مثل يوشع النبي يقود بني إسرائيل بعد وصولهم إلى " أرض الميعاد" ويفتك بالمدينين والعبرانيين والفلسطينيين ويستبيح الحرث والنسل ليقيم ملك " إسرائيل ". هذه العقلية انتقلت إلى أوربا وبدلاً من (يوشع) أصبحت الكنيسة التي لا ترى خلاصاً للإنسان خارج دائرة الكنيسة، وعلى جيفة ووخم هذه العقلية قامت الحروب الصليبية والفتك بالسكان الأصليين في أمريكا الشمالية والجنوبية، وتجذر العقلية الإستئصالية. أما في الشرق كان الأمر يختلف أداء ويتفق هدفاً فملك فارس كان يقوم على نظام الأصناف حيث كان لا يسمح للفلاح أو صاحب الصنعة ( الكار) أن يترك الصنف أو الطبقة التي وجد فيها، فلما جاء الإسلام وضرب النخبة الحاكمة وفكك سلطانها على الناس؛ حدثت أكبر حركة تحررية في العالم. عادت النخب الإيرانية إلى الساحة من جديد ومن عباءة الشعوبية والمزاوجة بين التلمودية واالغنوسية وشذرات الفلسفة اليونانية والمانوية والزردشتية، فأوجدت الحركات الباطنية التي جعلت الدين إتباع رجل وتقليد مشعوذ أفاك، فدمرت الحضارة والإنسان.

الحقيقة أن المسألة الفلاحية من المسائل الجوهرية ولا تحل بعدالة صورية، كتوزيع الأراضي الزراعية، أو إقامة المزارع الجماعية، فالزراعة عمل شاق ودخل شحيح وعبودية للأرض، ولم يتوصل أي نظام في العالم وعبر التاريخ أن يجد لها حلاً. وكل ما يستطيع الفكر الإنساني هو أن يخفف من غلوائها ويقنن مصائبها ويحجر على جنونها، ولعل بعض الحل يكمن في مكنة الزراعة وتطوير علوم الزراعة والحيوان التي لا تخلوا من أخطاء جانية أو متفرعة عنها، كجنون البقر وانفلونزيا الطيور ولإنتاج الزراعي المعدل وراثياً الذي لا يقدم الضمانات التي يطمئن لها الإنسان صحياً. لقد استطاعت دول الاتحاد الأوربي حل المشكلة الزراعية بمكنته وبدعم مالي هائل، وعلى حساب الدول النامية، فنسبة العاملين بالزراعة في فرنسا من اليد العاملة لا يزيد عن 2,8% بينما تصل النسبة في سوريا إلى 28% أي عشر أضعاف، ومع أن الزراعة والفلاحة لم تعد في دول الوحدة الأوربية بمعناها التقليدي قائمة وإنما يمكن تصنيفها ( بالصناعة الزراعية ) إلا أن العقلية الفلاحية الاستئصالية لا زالت قائمة في كثير من المناطق الأوربية وخاصة في بعض الولايات الأمريكية التي تعتبر الخزان والحاوية للتطرف اليمني الصليبي الصهيوني. في الستينيات والسبعينيات والثمانينيات قامت السلطة في سورية بتجيش هذه العقلية وتمكنيها من مفاصل السلطة فكانت وبالاً على الحياة التعاقدية البرجوازية وعلى التعددية السياسية. إن هذه العقلية الاستئصالية الأنانية الشحيحة لن تغادر السلطة وتفسح المجال لحياة سياسية تعددية أو حياة اقتصادية إنتاجية واستهلاكية متقدمة إلا بعد أن تحل كوارث تزيحها عن سدة السلطة أو عقلانية صارمة وحصيفة تكرهها على سلوك طريق الرشاد. مع أن نسبة العاملين بالزراعة في الدول الأوربية ضئيلة قياساً إلى مجموع اليد العاملة إلا أن أي رجل دولة أو سياسي محنك يتجنب المواجهة مع هذه العقلية الماكرة والقاسية والمراوغة، ويجنح إلى حل المسألة الزراعية بالالتفاف عليها بالصنائع الزراعية باهضة التكاليف. إن من أعراض هذه المعضلة غزو المدن والحواضر وإقامة المساكن العشوائية وإقامة سوق موازية للسوق العادية، وقد تلقي بنفسها في البحر أملاً في الوصول إلى " الجنة " الأوربية أو الأمريكية. أما تفاقم هذه المشكلة فسببه الأساس هو سياسة العولمة التي تتنكر حتى إلى إنسانية هؤلاء البشر، وتقف بالمرصاد لكل محاولة جادة لإعادة مسير بناء دولة العدل والرعاية الاجتماعية. إن المشكلة الكردية في إيران وتركيا والعراق وسورية ليست في جوهرها مشكلة قومية أو حقوق ثقافية ولكن وبالدرجة ألأولى مشكلة فلاحية زراعية لا تحل إلا بالتنمية وسيادة القيم التعاقدية والقيم الدينية الإسلامية المتسامحة والبعيدة عن عقلية النحل والفرق والرومانسية القومية، ولكن يبدوا لي أن هذه القضية دخلت نفق مظلم بعد أن ارتضي قادتها أن يكونوا أداة في يد تجار الحروب وشياطين العولمة وندعوا الله أن لا تقع الكارثة.

* باحث في الفقه السياسي الإسلامي المعاصر / ألمانيا - بوخوم

أعلى الصفحةالسابق

 

الرئيسة

اطبع الصفحة

اتصل بنا

ابحث في الموقع

أضف موقعنا لمفضلتك

ـ

ـ

من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ