ـ

ـ

ـ

مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وقولوا للناس حسنا

اتصل بنا

اطبع الصفحة

أضف موقعنا لمفضلتك ابحث في الموقع الرئيسة المدير المسؤول : زهير سالم

الأربعاء 22/12/2004


أرسل بريدك الإلكتروني ليصل إليك جديدنا

 

أبحاث

 

إصدارات

 

 

    ـ أبحاث

 

 

    ـ كتب

 

 

    ـ رجال الشرق

 

 

المستشرقون الجدد

 

 

جســور

 

 

التعريف

أرشيف الموقع حتى 31 - 05 - 2004

ابحث في الموقع

أرسل مشاركة


أمن العالم وحريته

بين سرطان الشمولية وطاعون العولمة

 ( الحالة الأكرانية )

عبد الحميد حاج خضر*

I

لم تجمع المعاهد اللغوية العربية على كيفية كتابة كلمة ( أوكراينا ) . أهي بتاء مربوطة لتصبح قابلة للصرف أم بألف ممدودة لتصبح غير قابلة للصرف ؟ . ربما لم تبحث هذه المسألة في المعاهد اللغوية العربية أصلاً ؛ شأنها شأن الكثير من المفردات الأجنبية المعربة وغير المعربة ، ولهذا فهي عندي غير ممنوعة للصرف ، وربما لعقد أو عقود من الزمن ، لأسباب سياسية ، ولهذا سأكتبها بألف ممدودة . عندما وقف عبد الرحمن الغافقي في منتصف القرن الثامن  بجيشه على سهول بواتيه القريبة من باريس في مقابل الفرنجة ، وخسر المعركة أمام شالمان ؛ لأن جند الفاتح العربي المسلم ، حديثي العهد بالإسلام ، انشغلوا بجمع الغنائم بعد النصر المبدئي الذي حققه جيش القرشي المسلم على الفرنجة ، فغتنم الفرنجة الفرصة فكروا على جيش الغنائم ، فولوا هاربين ،  وانسحب الجيش العربي بعد أن خسر قائده المحنك ، صقر قريش ، وتوقف الفتح الإسلإمي عند هذه النقطة في أوربا . هكذا لقنا هذا الدرس التاريخي في المدارس والمعاهد العلمية العربية ، ولكن لبعض المؤرخين من الفرنجة في هذه الحادثة التاريخية رأى آخر . يرى البعض أن العرب لم يخسوا معركة فاصلة مع الفرنجة في بواتية ، أو بلاط الشهداء ، كما يسميها المؤرخون العرب ، وكان بإمكانهم معاودة الكرة مرة أخرى ؛ بدليل أنهم عاودوا الكرة مرة أخرى ، بعد قرن من الزمن ، بقيادة الخليفة الأموي ، الحكم الثاني ، فوصلوا إلى مشارف جنيف ، عاصمة المال والأعمال اليوم في أوربا ، ولكنهم ، وبعد هذا النصر المؤزر ، انسحبوا إلى قرطبة وإشبيليا الدافئة . حسب رأي المؤرخين الأوربيين : لقد كان العرب زاهدين بأوربا ذات الثلوج والأمطار الغزيرة ، والضباب والبرد القارس ، والغابات المظلمة ، فكان كل ذلك يذكرهم بالموت ويبعث بهم الكآبة والحزن . لم يكن لدى الفرنجة ما يدفعون به سنابك الفاتحين سوى التعصب والجهالة والعناد المعهود ، واليوم يتهافت العرب والأفارقة ، مسلمهم وكافرهم ، على أوربا ، راكبين زوارق الموت ، ليصلوا إلى شاطئ " الفردوس " المنشود . ما الذي تغير ؟ الأرض هي الأرض والسماء هي السماء والإنسان هو الإنسان .؟ إن عوامل العمران أربع : الأرض والماء والطاقة ومعارف الإنسان . العوامل الثلاثة الأولى محسوسة أو موضوعية أما العامل الرابع فهو (المعقول ) أو الإكسير الذي الذي يجعل من المادة الخسيسة ذهباً وفضة . الإنسان هو خليفة الله في الأرض وهو المناط بالعمران . الفليسوف الألماني كانط Kant هو القائل : أما الكوارث والنوازل تقود الإنسانية قسراً إلى التعايش الحضاري وإما العقلانية الصارمة تجد له مخرجاً إلى التعايش الحضاري . الغرب لم يجد الطريق إلى التعايش الحضاري بالعقلانية الصارمة ، رغم ما كتب عن العقلانية الأوربية ، ولكن عبر الكوارث والنوازل الكثيرة التي بدأت متزامنة تقريبا مع البعثة النبوية ، وتحديداً بعد أن هيمنت حركة دينية متعصبة انطلقت من الجزر البريطانية لتضم أولاً شمال فرنسا ، وتزحف إلى غرب وجنوب أوربا ، ومع إطلالة القرن التاسع الميلادي توج كارل الكبير Karl der Grosse في عقر الأمبراطورية الرمانية روما قيصراً على الجناح الغربي من الامبراطورية الرومانية ليخضع ملوك الفرنجة والغوط والجرمان إلى سلطانه وسلطان الكنيسة الكاثولكية المتعصبة ، ويضع حداً للمسيحية السمحة التي صاغ معالمها الآباء المسيحيون الأوائل من أمثال أوغسطين Augustin  ( 354- 430 ) م والكثير من المبشرين الوافدين من سوريا واليونان وأسيا الصغرى ، طوعاً أو كراهية ، وكانوا أوفياء لوصية السيد المسيح " دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله " خاصة ، بعد أن ضرب التعصب أطنابه في شرق الامبراطورية الرومانية ، واعتبر القصير قنسطنطين Konstantins قيصراً مبشراً بالمسيحية " المنقذة " من عهر وفجور روما ، وفي عام 325 أمر ببناء القسطنطينية ( اسطنبول ) كمدينة مقدسة في مقابل روما " الفاجرة " .  ما أريد الإشارة إليه أن القسم الغربي من الامبراطورية الرمانية وبعد سقوط روما الأول على يد الغوط الغربين عام 401 بقيادة ألاريك Alarich ، وحتى قدوم الموجة الدينية المتعصبة من بريطانيا في مطلع السابع الميلادي لم تكن أوربا تعرف التعصب الديني الصليبي ، وكان هَمّ الملوك والأمراء ورجال البلاط من الفرنجة أو الغوط محاكات نمط الحياة الرومانية في العادات والترف واللغة والمتعة المفرطة والتأمر والمكيدة لبعضهم البعض . رغم موجات الهجرة المتتابعة ، من الشمال الأوربي ، لم تكن نسبة عدد السكان المهاجرين يزيدون على 10% من مجموع سكان القسم الغربي من الأمبراطورية الرومانية . إلا أنهم كانوا ورثة الأباطرة الرمان في السلطة . أما بقية السكان فكانوا خليط من سكان حوض البحر الأبيض المتوسط ، ومن الوسط الحضاري لهذا الحوض . لقد كان السوريون الذين  يتبعون الكنيسة السريانية ، وحتى القرن الثامن الميلادي ، يشكلون 80% من سكان مدينة البندقية ، أما سكان جنوب فرنسا واسبانيا وايطاليا فقد كان خليط من الإغريق والسوريين وشمال افريقيين ، وشعوب لاتينية متنوعة ( راجع كتاب محمد وكارل الكبير ) ، وخاصة بحث المؤرخ البلجكي هينري بيرين Henri Pirenne ، الذي يرى أن سقوط الحضارة الرومانية ، كحضارة ، لا يعود إلى اجتياح قبائل الغوط والجرمان الشمالية ( البرابرة ) لممتلكات الإمبراطورية الرمانية ، فقد كانت هذه الشعوب تألف هذه الحضارة ، وتسعى إلى محاكاتها ، بل والاندماج بها . ولكن هيمنة الموجة الدينية المتعصبة المتقشفة القادمة من بريطانيا ، التي رفضت نمط الحياة الرومانية المترفة مع عجزعن التصدي للمد الإسلامي ، الذي هيمن على الشاطئ الجنوبي والشرقي المزدهرين من البحر الأبيض المتوسط ، وأقام علاقات تجارية وحضارية يصل سناها إلى الصين ، كما أحاط ببقايا الأمبراطورية الرومانية كإحاطة السوار بالمعصم . بدلاً من أن ينفتح الفرنجة على الحضارة العربية الإسلامية والدين الجديد ؛ تقوقعوا على أنفسهم ، وآثروا طوعاً الدخول في نفق العصور الوسطى المظلم يجترون الجهل والتعصب . هذه المقدمة التاريخية قد تلقي بعض الضوء على الخلفية التاريخية على نشوء وارتقاء الفكر الصليبي والعقلية الكارثية الأسطوية   Apocalypse اللتان عصفتا بالقارة الأوربية ودفعتا بفلذات أكبادها إلى حرب ظالمة استباحت المحرمات والقيم المسيحية والإسلامية ، خاصة عندما دفعها الحقد الصليبي إلى التحالف مع الهمجية القادمة من الشرق على وقع سنابك الخيل المغولية . في عام 1256 سقطت حاضرة الخلافة الإسلامية ( قرطبة ) علي أيدي الصليبين المتعصبين ليتبعها سقوط بغداد على يد الهمجية المغولية عام 1258 ، ومن قبل  أسقطت ( كييف ) في أيدي أبناء عمومتهم من التتار في عام 1237-1240 . الرسائل المتبادلة بين ملوك فرنسا الصليبية من جهة ، وورثة جنكيزخان ون جهة أخرى ؛ كانت تنم عن تواطئ وتحالف عدواني بين ملوك الصليبين وملوك وأمراء المغول على العالم الحضاري الإسلامي . كما أن تجارة الرقيق المزدهرة بين أمراء المغول ودولة البندقية ، حيث كان أمراء المغول يسطون على الحواضر الأسلامية ، ويسوقون الشباب القوي الفتي من بلاد القفقاس ووسط آسيا ، ليبيعونهم إلى تجار العبيد من دولة البندقية ، ليقوموا ببيعهم إلى أمراء الفاطمين ، ليتخذونهم للسخرة أو في الجيش ، ولكن آليات المجمع الإسلامي ، ولكون غالبتهم أصلاً مسلمون ، فقد أستطاعوا ليس فقط التحرر من الرق بل ليصبحوا أمراء الحرب والسلطة في مصر وسوريا ، ولم يضيرهم أن يطلق عليهم المماليك ؛ أن يحملوا لواء التصدي وبحماسة ضد المغول والصلبيين . هناك مسألة ، تشغل أذهان المؤرخين ، وهي الفرق بين غزو المغول للممالك الأسلامية في الشرق ، وغزو التتار لأوربا الشرقية وروسيا . لقد كان الدمار في الممالك الإسلامية الشرقية شاملاً ووحشياً وهمجياً ، في حين كانت الموجة التترية في أوربا قاسية ، ولكن فيها قدر من " الفروسية " وكان الدمار للمعالم الحضارية محدود جداً . على سبيل المثال : بعد خروج جحافل المغول من مدينة بلخ ، أحد الحواضر الإسلامية المزدهرة ، كتب شاهد عيان يصف المدينة فيقول : لقد أصبح كل شيء أثر بعد عين ، ولم يعد هناك أثر للحياة غير الكلاب والهوام تنهش جثث القتلى  . أما مأساة بغداد بعد دخول جيش هلاكو فمعروفة للجميع . في أوربا الشرقية لم تصمد أي مدينة في وجه القائد التتري ( باتو خان ) ، أحد أحفاد جنكيزخان ، وكان اقتحام كييف وبولندا والمجر نهاية المطاف للموجة التترية . عاد التتار  إلى مدينة ( ساراي ) ، على حوض  نهر الفولكا Wolga ؛ متخذين منها عاصمة لملكهم . والجدير بالذكر هنا ؛ لقد دخل التتار الإسلام في نهاية القرن الثالث عشر وغاليبتم على المذهب الحنفي . لم يقدم المؤرخون أي دليل على تعاون التتار ، الذين عرفوا ( بالقطعان الذهبية )  مع الفرنجة ، أو أنهم ارتكبوا الفواحش مثل أبناء عمومتهم في الشرق الإسلامي . إلا أنهم فرضوا الجزية على كافة أمراء روسيا وأكرانيا . لم يكره التتار المسيحين ، سواء من الأثودكس أو الكاثوليك ، على الدخول في الإسلام ، ولكن تنصيب الأمراء والملوك السلافين والروس رهن بموافقة خان التتار ، وكانوا صارمين في جمع الجزية منهم . هاجم تيمورلنك ، الذي كان شيعاً متعصباً ، مملكة التتار العامرة في عام 1395م ، وعاث فيها فساداً ؛ تماماً كما فعل في دمشق لاحقاً . انطلاقاً من هذه الوقائع التاريخية يمكننا أن نتسائل : هل الطبيعة البدوية القاسية للمغول هي المسؤولة وحدها عن الفضائع التي قام بها أحفاد جنكيزخان في الممالك الإسلامية ، أم أن التحريض الصليبي والمذاهب الشعوبية الباطنية التي تسترت بالتشيع كانت وراء تلك الفضائع ؟

هناك عوامل أخرى أسهمت في تكوين العقلية ( الكارثية الأسطورية ) عند الإنسان الغربي ، بشكل خاص ، إلى جانب هيمنة التعصب والصليبة وما رافقها من أعمال حربية ودعائية لا ترى في الآخر إلى عدو يتربص به ويتحين الفرص للإنقضاض عليه . عاش الغرب نهاية القرن الثالث عشر وحتى منتصف القرن القرن الرابع عشر أقسى أنواع الاستغلال الاقتصادي والقمع السياسي ، حيث تحالفت الكنيسة والسلطة وقسوة الطبيعة مع تزايد معتبر في عدد السكان ، و تخلف  تكنولوجي ومعرفي وعمراني ، وإيغال في التعصب والقسوة . في عام 1348 م ، وربما قبل ذالك بسنوات ؛ هاجم الطاعون والكوليرا القارة الأوربية ولم يبرح حتى عام 1370 بعد أن أجهز على نصف سكان القارة الأوربية ، وفي بعض المناطق وصلت النسبة إلى 60% . فر الناس ، وفي مقدمتهم الإقطاعيون والأمراء والملوك ورجال الكنيسة ، ينشدون السلامة في الغابات وشعاف الجبال ، وتركت الكنيسة الناس البسطاء والحرفين وأقنان الأرض ؛ يجابهون الموت الأسود ، فيفر المرء ، طالباً النجاة ، من أمه أخيه ، وصاحبته وبنيه ، وكأن لكل امرء شأن يغنيه . تفككت العلاقات الاجتماعية وصلة الرحم ، وتجذرت الأنانية حتى أصبحت غريزة وسجية . لقد فقد الإنسان الغربي كل صلة بالقيم والمؤسسات الدينية والأخلاقية والسلطة ، فكان لا يتحرك إلا بغريزة البقاء ، ومجرد بقاءه دليل على أنه الأصلح والأجدر بالحياة ومتاعها . أعتقد أنه مهما كتبنا في هذا الموضوع فلن نستوفي إلا جزء يسيراً من أبعاد هذه المأساة الكارثية ، وأثرها في صياغة النفسية والعقلية الأوربية التي لن نستطيع ، نحن المسلمين ، أن نستوعبها مهما صرفنا من عمرنا القصير بين ظهرانيهم . مما زاد الطين بلة ؛ أن الموت الأسود ( الطاعون ) كان يعاود الكرة مرات أخرى ، فينشر الموت ، ويجذر الأنانية ، وغريزة حب البقاء ، والعدوانية ضد الآخر . لم يفارق الطاعون القارة الأوربية إلا في نهاية القرن السابع عشر . عرفت القارة الأوربية بعدها " انفجار " سكاني هائل لم تجد له حلاً إلا بالهجرة إلى العالم الجديد ( أمريكا ) ، بعد أن توفرت الوسيلة وانعدمت الفضيلة ، بفضل اكتشاف الآلة البخارية ، وتقدم آلة القتل وفنون الإبادة ، لتصب حمم عدوانيتها وتعصبها على الهنود الآمنين والأفارقة والمسلمين ؛ تسوقهم عبيداً إلى مزاع القطن وقصب السكر ، فكان الاستعمار أحد الحلول " الناجعة "  لمضاعفات البطالة ، وسبيلاً لتراكم رأس المال . إن كل ما كتب في عصر النهضة وعصر التنوير ، من فكر وفلسفة ، لم يكن إلا محاولات تبرير وتفسير واستقراء للنوازل والكوارث التي حلت بالغرب ؛ تنقض غزل الكنيسة والسلطة  تارة ، وتحاول بعقلانية عرجاء أن تجد مخرجاً إيدولوجياً للإنسان تارة أخرى ، فكان تلفيقاً مضطرباً وتناقضاً مزدهراً يدفع الإنسان ثمنه حروباً وعدوان . الشيء الراسخ والمتطور ، الذي يؤتي أكلة كل حين ، كان ولا يزال العلوم الطبيعية والتجربية والتكنولوجيا ، ولكن العقلانية الغريزية الغربية ؛ أحاطها بسياج من السرية والكهنوت السياسي ، حتى لا يدخل عليها محروم ، ورسخت في أذان المتغربين من غير أبناء الغرب ؛ أن طيبات المعرفة والتكنولوجيا ، لا ينالها إلا من كفر بما كفرنا وآمن بما آمنا ، مثلها كمثل سحر هاروت وماروت . إن هذه المعادلة لا يمكن حلها بالتأمل الفلسفي أو من خلال مجردات الفكر النظري أو التقليد الببغاوي ، فالنتيجة التي أمامنا اليوم ، لها مسار تاريخي ؛ يجب التعرف على معالمه ، واسقراء مسالكه . إن الحضارة العربية الإسلامية انطلقت من الدين ، وبين الدين والإيديولوجية تشابه كبير ؛ يدق على الحصيف ولا يدركه السخيف . أما الدين فيثبت بالإيمان والعمل ، وأما الإيديولوجية فتنتفش بالخصومة والعدوان ، فمن جعل الدين خصومة وعدوان ، فقد جعل الدين إيديولوجية ، ومن جعل الدين إيديولوجية فقد ترك العنان لهواه وأفتى لنفسه وكان أمره فرطاً . الإيدولوجية تقود إلى التوثين ، وتشحذ العصبية والبغضاء . إن أدلجة الدين تجلت عند أهل الفرق والنحل ، الذين جعلوا الدين اتباع رجل ، والانشغال بمقالته عن هدي من يهدي إلى التي هي أقوم . لقد بدأ الانحراف عند الشعوبيين وأهل الأحقاد ؛ الذين اتخذوا الباطنية مركباً ، وزخرف القول منهجاً ، فبرروا خيانة الله والرسول والأمة ، عند العامة ، بالمصلحة ، وعند الخاصة بالسفسطة . لقد بدأت مقالتهم ساذجة وبسيطة ، لتصبح بمرور الأيام ؛ فتنة وسلطان ، وتعاون مع الشرك والكفر والعدوان . لقد صبت ، همجية المغول وصليبية الغرب وحقد الباطنية ، حممها على الأمة ، ولم تخرج الأمة من ذلك الجحيم إلا بشق الأنفس . وابتليت الأمة بعد ذلك بما ابتلي الغرب به ، من الطاعون والكوليرا والأسقام الأخرى ، ويذكر ابن خلدون في تاريخه ؛ أن الطاعون ضرب المغرب العربي حتى جاء على نصف السكان وشح الرجال القادرين على الدفاع عن بيضة الإسلام ، ولم تنقطع أمواج الطاعون تجتاح البلاد وتقتل العباد حتى النصف الثاني من القرن التاسع عشر . لم تدرس هذه الظاهرة وأثار هذا الوباء الفتاك بشكل منهجي ، كما هو الحال في الغرب ، ولكن لدينا شذرات من المعرفة تنبي عن عمق الكارثة ، منها ما حل بجنود حملة نابليون على مصر عند حصار عكا ، حيث مات نصف الجيش بالطاعون ، وكذالك تقرير قنصل السويد في الأستانة ، الذي يصف لحكومته  أكوام الجثث التي تجمع من شوارع اسطنبول من قبل السجناء المحكومين بالإعدام أو السجن المؤبد ، وعندما تسأل عن سر عدم إصابة بعض الذين يجمعون الجثث بهذا المرض القاتل ؛ تبين له أن غذائهم اليومي كان الزيت والخل ، كما تبين له أن الذين كانوا يتعاطون تجارة الخل والزيوت لا يصيبهم هذا المرض إلا نادراً ، فكتب لحكومته بذالك ، ومن شذرات المعرفة عن تفشي هذا الوباء في العالم العربي بعد منتصف القرن التاسع عشر ، أن عائلة الشاعر العراقي بدر شاكر السياب والكثير من أقاربة قضى معظمهم في هذا المرض ، حتى أن نصف سكان البصرة والكثير من مدن العراق قد توفوا بهذا المرض . لم يتعافى العالم العربي من هذا المرض إلا في نهاية الحرب الأولى ، وعندما خلع السلطان عبد الحميد الثاني عن السلطنة عام 1909 كان مجموع سكان البلاد التي تسيطر عليها " الأمبراطورية العثمانية " لا يزيد عن 26 مليون نسمة ، أي ما يعادل سكان العراق اليوم ، في حين كان عدد سكان أصغر دولة عظمى في أوربا ، ايطاليا مثلاً ، يزيد عن 30 مليون نسمة . اليوم يبلغ عدد سكان العالم العربي حوالي 300 مليون نسمة ، ومعدل الزيادة السكانية وسطيأ حوالي 2.6% بينما التنمية والعمران وكذلك الدخل القومي الإجمالي لا يعادل دخل دولة أوربية عدد سكانها 50 مليون نسمة ومساحتها لا تزيد عن مساحة العراق . إن الغرب ينظر إلى " الانفجار السكاني " في العالم العربي الإسلامي بعين الريبة ويعتبره تهديداً دائماً لحضارته ووجوده ، وقد كان صريحاً ، أي الغرب ، عندما خاطب العالم العربي الإسلامي من خلال مؤتمر القاهرة السكاني عام 1996 وطلب من أهل القرار تطبيق سياسات بعينها ، لو طبقت لكان أثرها لا يقل عن أثر الطاعون في القرن الرابع عشر . علماً أن العالم العربي يملك من امكانات التنمية ما يجعل منه قادر على استيعاب ضعف هذا العدد من السكان . على سبيل المثال : تستطيع ليبيا أن تستوعب 100 مليون نسمة ، وتأمن لهم مستوى معاشي يعادل مستوى فرنسا ، لو استغلت الإمكانيات المتاحة ( الإنسان ، والأرض ، والطاقة ، والماء ) ولكن الشعب الليبي الذي ابتلي بالخنفشارية المستبدة الأنانية التي أفسدت الحرث والنسل ، والله المستعان . أما لو طبقت إملاءات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية ، لكانت الكارثة أشد وطأة عل الأمة من الخنفشارية المستبدة في ليبيا . ولعلنا عندما نبسط الحديث عن أوكرانيا نتلمس بعض الأبعاد الكارثية لهذه الإملاءات . لو تقصيت الهواجس التي تشغل رجال الدولة والساسة وأهل القرار في الغرب ؛ لوجدت أن هناك هاجسان يشغلانه ويؤرقانه وهما " الهاجس السكاني ( الديموغرافي ) وهاجس الطاقة . إن النخب الغربية ، مهما تشدقت باليبرالية والإنسانية ، فإنها ترى في كل نسمة بريئة وليدة في العالم العربي الإسلامي ؛ تهديداً لمستقبله وحضارته . النخب الغربية لا ترى في العالم العربي الإسلامي إلا أرحاماً تدفع وأفواهاً تبلع ، والعجيب أن الطغاة في العالم العربي الإسلامي يشاركونهم الرأي ، ويرون في التزايد السكاني تهدياً للمال الحرام الذي سرقوه وأودعوه في المصارف الربوية الغربية . حسني مبارك لا يترك مناسبة إلا ويذكر " بخطر " التزايد السكاني في مصر المحروسة . لم يعد السؤال : كيف نرشد التزايد السكاني وننمي الوعي والمسؤولية عند أفراد الأمة ، لحماية النشئ وإعداده ، لمتلاك قوة المعرفة ، وأمانة الأداء ، وعزيمة الإنجاز . السؤال عندهم : كيف نتخلص من هذا " الكم " البشري الهائل لتتقذ ما يمكن إنقاذه .؟ ما كان لأوربا أو أمريكا أن تستوعب هذا العدد من البشر لو بقيت بلدان زراعية بتقنيات متخلفة ، وإدارة فاسدة ، ونرجسية سلطوية مقيته . إن أوربا ، شمال البرنيه ، وشمال أمريكا ، وكندا ؛ ستصبح أرضاً بورأً ، وسيفر منها الناس كما فر الجيش العربي الإسلامي في بواتيه ، لما بدت الثلوج والأمطار والضباب والظلام ، ولكن أوربا اليوم أصبحت قبلة الجائعين والمحرومين ، بفضل العلم والتكنولوجا ، التي أصبحت اليوم ميسورة ومبسوطة لكل جبار عنيد ، ممنوعة عن كل خوار مهين . إن العالم العربي يحتاج إلى 10% فقط مما تحتاجه أوربا من رأس المال ، ليستوعب ضعف العدد من السكان ، ويؤمن لهم حياة كريمة وعيش رغيد . ورأس المال المطلوب متوفر في البنوك الغربية ، وباسم " النخب " العربية السياسية والاقتصادية . إن سياسات العولمة أصبحت اليوم تلقي على النخب العربية والإسلامية سؤالاً ثقيلاً . تكون أو لا تكون ؟ أو كما يقول أهل الرطانbe or not to be ? . النخب الغربية جادة فيما تقول ، إن منطق الحرب هو السائد ، والجدل والتضليل مادة الحوار ، والصبر عزاء الضعيف .

إن الانتقادات على سياسات بوش " المتدين " من النخب الغربية ، أمريكية أو أوربية ، قاسية ، لأنها غريزية غير عقلانية كما يقولون ، ولكن عندما يطرح الهاجس السكاني على بساط البحث ؛ تتبخر العقلانية ، وتكشر الغريزة عن أنيابها الصليبية والصهونية والعنصرية . هاجس " الانفجار " السكاني ( الديموغرافي ) وثيق الصلة بهاجس الطاقة . أهل القرار في الغرب ، وخاصة في أمريكا ، يرون كل قطرة نفط أو فقاعة غاز في العالم ، يجب أن تكون ملكاً خالصاً لهم دون غيرهم . لقد قلت مرة لمحاوري ، وهو نائب في البرلمان الألماني ، ساخراً : نحن في العالم الثالث لا نملك الثروة أو التكنولوجيا التي تمكنا من التعرف على مواطن النفط في العالم ، ومع ذلك نستطيع أن نكتشف مواطن النفط والغاز بسهولة ويسر ، يكفي أن نعرف ؛ أين ستنشب الحروب ، وأين تتواجد الجيوش الأمريكية ، وأين تتواجد الحكومات المستبدة الفاسدة المدعومة من أمريكا ، لنعرف أين حقول النفط والغاز المستغلة أو التي ستستغل . النفط أكثر من طاقة إنه عصب الصناعات الكيمائية ، ولهذا يجب الحفاظ عليه كمادة أساس للصناعات الكيميائية ، من هذا المنطلق يجب على المجتمع الدولي أن يبحث حثيثاً عن مصادر أخرى للطاقة  . وللطاقة مصادر ومصادر . بعضها استبعد على المدى الطويل ، الطاقة الذرية ، لخطورة النفايات المتبقية ، ولهذا إن مقالة ؛ الاستعمالات السلمية للطاقة النووية ، سخف وتضليل . لقد أوقفت ألمانيا العمل في أحدث المفاعل الذرية في العالم في نهاية الثمانينيات الذي بني كنموذج للإنصهار النووي Nuclear fission  ، بعد التأكد من استحالة الحصول على الطاقة النووية " النظيفة " ، وفي عام 1992 وضعت خطة ، معقولة زمنياً ، للتخلص من المفاعل الذرية القائمة في طول البلاد وعرضها . بل لم يسمح بتشغيل المفاعل الذري الذي أنجز بناءه منذ عام 1988 في مدينة مولهايم – كرليش  Muelheim-kaerlich القريب من مدينة كوبلنز ، وهو نموذج طبق الأصل عن المفاعل الذي يبنى أو بني في مدينة بوشهر الإيرانية من قبل الشركات الألمانية ( قد نبحث في المستقبل الملف النووي الإيرني بتفاصيله ) . الهدف والغاية من الأبحاث النووية هو حيازة أسلحة الدمار الشامل النووي ، وليس توفير أوحل مشكلة الطاقة . إن إقامة المفاعل الذرية في العالم هي جريمة العصر التي ستدفع الأجيال القادمة ثمنها باهضاً ؛ أملتها العقلية الكارثية التي تحدثنا عنها آنفاً . إن الدول التي لا تملك كميات معتبرة من النفط أو الغاز لن تلقى اهتمام الشركات النفطية العملاقة ، وبالتالي اهتمام الدول صاحبة القرار في التنمية . أكرانيا هي المثال النموذجي الذي يفضح أخلاقيات وعنصرية القرارات السياسية ، وأوهام النخب السياسية والجماهير التي تسعى للتحرر من الاستبداد والفقر ؛ عندما تضع كل بيضها في سلة العولمة ، وتضليل اللبرالية الجديده .

يتبع

* باحث في الفقه السياسي الإسلامي المعاصر / ألمانيا

أعلى الصفحةالسابق

 

الرئيسة

اطبع الصفحة

اتصل بنا

ابحث في الموقع

أضف موقعنا لمفضلتك

ـ

ـ

من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ