ـ

ـ

ـ

مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وقولوا للناس حسنا

اتصل بنا

اطبع الصفحة

أضف موقعنا لمفضلتك ابحث في الموقع الرئيسة المدير المسؤول : زهير سالم

الاثنين 28/12/2009


أرسل بريدك الإلكتروني ليصل إليك جديدنا

 

أبحاث

 

التعريف

أرشيف الموقع حتى 31 - 05 - 2004

ابحث في الموقع

أرسل مشاركة


الاستثنائية الغربية تحت رحمة العولمة

(1)

L'exception occidentale au péril de la mondialisation"

تأليف سيرج لاتوش أستاذ فخري للاقتصاد بجامعة باريس

ترجمة أ. رشيد أبو ثور

الاستثنائية و نهاية الحلم الغربي

برهان :لا يغيب عنا، منذ ماكس فيبر Max Weber خاصة، الطابع المتفرد للحداثة. غير أن الفضل يعود إلى الأنطربولوجيا (مع بيير كلاستر Pierre Clastres ومارشال سالهين Marshall Salhins ومارسيل موصMarcel Mauss, وكارل بولانيي Polanyi (Karl في لفت النظر إلى أن الاقتصاد الذي يعتبر النواة الصلبة للتجربة الغربية، هو نفسه استثنائية ثقافية. إن هذا التاريخ المتفرد، ضمن الحضارات، ناتج عن جملة من الظروف الخاصة. ومن مفارقات الغرب أنه متمركز حول جنسه، كسائر الثقافات، غير أنه يدعي لنفسه العالمية. ونتج عن هذا، أن الإمبريالية المحررة (بكسر الراء) ( بدءا بالاستعمار وانتهاء بالعولمة، مرورا بالتنمية) خلقت ألوانا من الانكفاء على الهوية الذاتية، ومن الرفض الإرهابي، بحجم وحشية هذه الإمبريالية.

 

نهاية الحلم الغربي

غداة الحادي عشر من سبتمبر، يوم الهجوم على البرجين التوأمين " "Twin Towers"، اتصل بي صديق هاتفيا، ليقول لي أنه وجد، خلال مراجعته فصل "نهاية الحلم الغربي" الذي ختمت به كتاب " الاقتصاد المكشوف"، أن تحليلي كان موفقا في تنبؤاته. ولقد كتبت بالفعل أن "الاقتصاد العالمي، عندما اختزل هدف الحياة في السعادة الدنيوية، واختزل السعادة في الرغد المادي، والرغد المادي في الناتج الوطني الخام، حول غنى الحياة المتعدد إلى صراع من أجل الاستحواذ على المنتجات المنمذجة standard.

في واقع الأمر، ليست اللعبة الاقتصادية المفترض فيها أن تحقق الرفاه للجميع، إلا حربا اقتصادية شاملة. وبالتالي لها، مثل سائر الحروب، منتصروها و ومنهزموها، حيث يظهر المنتصرون بصخبهم وبذخهم مكللين بهالة من المجد والأنوار؛ في حين لا يُعبأ بجحافل المنهزمين. ثم إن المآزق السياسية والإخفاقات الاقتصادية والحدود التقنية للمشروع الحداثي تتظافر لتحول الحلم الغربي إلى كابوس. فلا مفر إذن من هذه الآفاق المظلمة إلا بإعادة دمج المجالين الاقتصادي والتقني في المجال الاجتماعي؛ حيث يجب علينا أن نحرر مخيالنا من الاستعمار لكي نغير حقيقة العالم، قبل أن يجبرنا تحول العالم على ذلك"(1) . فلقد سبق لي في كتاب "تغريب العالم" أن حذرت من تنامي إرهاب يمتلك إمكانيات تكنولوجية لا تزداد إلا تطورا، وأمامها مستقبل مشرق، بسبب تنامي الفوارق بين الشمال والجنوب، وتنامي الحرمان والامتعاض(2) . ولقد حرصت مع ذلك على عدم التسرع كما فعل البعض، بالقول بأننا شاهدنا مباشرة سقوط الإمبراطورية الأمريكية، بل سقوط الغرب؛ فأقصى ما يمكن أن نراه في هذا الحدث، هو أنه دليل على هشاشة آلتنا التقنية الاقتصادية الكوكبية الضخمة، كما هو دليل على الكراهية التي ولدتها غطرسة أسلوب حياتنا. فإذا لم يكن لدى إرهابيي القاعدة من مشروع إلا أسلمة الحداثة، ومحاولة إنتاج "حداثة أخرى" على نفس القواعد التقنية الاقتصادية، لكن مع إضافة "الشريعة"، فإن المحضن المغذي لمثل هذا المشروع القائم على العدوان والثأر، ليس إلا التنامي القياسي للمظالم الاقتصادية والسياسية التي يتعرض لها ضحايا تغريب العالم. ولن ننزع فتيل القنبلة التي تهدد بتدميرنا، ولا تعطش المتخلى عنهم للثأر، بدفن رأسنا في الرمال مثل النعامة، وبالتشدق بكلمات طنانة تزعم بأننا مقبلون على مجتمع عالمي متعدد الأعراق والثقافات. فمن مصلحتنا ، دون شك ، أن نكون على بينة من أبعاد "الاستثنائية الغربية"، ونواجه خطر العولمة الذي قد يعني إفلاس عالميتنا «القبلية"، لنفكر بهدوء في تعويضها "بعالمية تعددية" حقيقية.

 

التفرد الغربي

لا وجود لمكان اسمه الغرب. فالتجربة التاريخية المتفردة والخاصة للعالم المعاصر تبرز لنا ، جملة من القوى الدائمة نسبيا، وأبعادا ثابتة تتخذ أشكالا متجددة باستمرار. ومن الطبيعي جدا إسناد هذه العناصر الدائمة المتجلية بهذا الشكل، إلى فاعل يسمى "غرب". ويعني فعلا هذا المصطلح في الاستعمال الدارج أمرين: تجربة متعددة الجوانب والأشكال، وزيغا تاريخيا. نلاحظ أن تاريخ العالم قد تم قلبه رأسا على عقب من خلال حركة خاصة، رأت النور في أوروبا الغربية، وأن هذه الحركة تتخذ أشكالا جد متنوعة، لدرجة أضحت معها هذه الحركة صفة مميزة للظاهرة نفسها أكثر مما هي مميزة لأشكالها. ويمكن جزئيا تفسير النجاح الحالي للمجتمع التقني والتجاري بالتصور الإغريقي لل"فوسيس phusis " و "التكني tekhné "؛ غير أن القبول بإيمان بالغيب ذي استمرارية مطلقة وحتمية قطعية، هو وحده الكفيل بتنحية الحظ، والحوادث والظروف، من المسار الطويل الذي يفصلنا عن أصولنا اليونانية القديمة واليهودية والمسيحية. فليس للغرب من كيان إلا ضمن تاريخ حقيقي، ما هو بالحتمي كلية، ولا هو بالتطوري بشكل شامل. إن الماضي ينير الحاضر، ويشرحه، غير أنه أحيانا يناقضه، ليجعلنا نتنبأ بمصائر جديدة. فالحاضر يواصل بعض مرامي الماضي، غير أنه يبدع كذلك بشكل جذري. من الواضح أن السير في الاتجاه المعاكس لتعريف دقيق للغرب، عملية ضرورية رغم ما يحف بها من مخاطر. فالجميع يدرك أن الغرب يحيلنا إلى أوروبا ككيان جغرافي، وإلى المسيحية كدين، وإلى الأنوار كفلسفة، وإلى جنس الأبيض كجنس، وإلى الرأسمالية كنظام اقتصادي؛ غير أن الغرب لا يتماهى مع أية ظاهرة من هذه الظواهر؛ ألسنا إذن أمام ثقافة أو حضارة ؟

لقد تم لزمن طويل نعت الغرب بالمسيحي(3) ، ولا زال الأمر كذلك. تستعمل عبارة "الغرب المسيحي" من طرف الحركات المتطرفة الرجعية و كذلك من طرف الإسلاميين (إحالة إلى الحروب الصليبية). ويجدر التذكير بأن "كاثوليكي" مشتقة من الكلمة الإغريقية "كاثوليكوس katholicos التي تعني "كوني". والاعتراف بالفرد بصفته قيمة مطلقة أوضح في المسيحية عن غيرها من الديانات التوحيدية الأخرى. إن المسيحية تقيم علاقة شخصية خاصة بين كل مؤمن والإله. وبصفتها لاهوتا وبسبب هذا، تجد نفسها أكثر انفصالا عن قاعدتها الثقافية؛ فهي مؤهلة افتراضيا لاستقبال كل الرجال وكل النساء. فمما لا جدال فيه أن المسيحية شكلت مكونا هاما للغرب ؛ ولقد اقترن تغريب العالم لمدة طويلة بالتنصير؛ ولا زال إلى اليوم يمارس ذلك (أنظر المشاريع الهستيرية للأصوليين الأمريكيين في العراق) ؛ غير أن إثبات الذات هذا لا يستقي مصدره من الرسالة النصرانية التي ينشرها، وحدها، فلقد تراجع السعي إلى تحويل العالم إلى الكاثوليكية أمام ما أبدته الديانات والثقافات من مقاومة. فالبروتستانتية في شكلها الظاهري والواثق من انعكاساته على الكاثوليكية التقوية (piétiste)، ستمنح الغرب بلا شك اندفاعة جديدة. والدفع بالفردانية إلى حدها الأقصى ينتج "أخلاقا" اقتصادية دنيوية، والتي هي"النفعية".

إن الثراء الناتج حتما عن التقوى والزهد الممارسين على المستوى الشخصي، بشكل يمجد بذل الجهد والحساب، ويبحث بقلق في النجاح الدنيوي، عن علامات الاصطفاء الإلهي، سرعان ما سيسفر عن علمنة هذه الديانة رغم ما تتميز به من قطعية وطائفية على مستوى الاعتقاد. والبروتستانتية في شكلها غير الديني هي الاقتصاد السياسي. وتماهي الغرب مع هذه الأخلاقية ذات الأصل الديني يؤدي في نهاية المطاف إلى اعتبارها كيانا اقتصاديا؛ فالعقلانية البروتستانتية التي اختزلت في النفعية، لا تمثل رسالة خلقية، بقدر ما تمثل وصفة عالمية، كما يبدو، لخدمة "المصالح الاقتصادية". في نفس الوقت نجد عالمية هذا المفهوم قد منحت لنفسها محتوى إيجابيا، لم تنضب بعد قوته التخريبية؛ ويتمثل في المناداة بحقوق الإنسان وبمثل الديمقراطية.

إذا كانت الدعوة البروتستانتية الخالصة لم تعرف، رغم ثروة وحركية طوائفها، انتشارا أوسع مما عرفته المسيحية الكاثوليكية، فإن دعوة رسالتها الدنيوية، المتعلقة بحقوق الإنسان و بالديمقراطية الشكلية، وبالنفعية والحساب الاقتصادي، وبالعلم والتقنية وبالتنمية والتطور، قد عرفت بالمقابل نجاحا مذهلا. وهي دعوة يمكن استيعابها وربما إعادة إنتاجها، بل وتجاوزها من طرف الشعوب ذات التقاليد البوذية، والكنفوشيوسية والشانتوية (ديانة اليابان القديمة). ومثال اليابان والدول المصنعة الجديدة لجنوب شرق آسيا خير شاهد على ذلك.

إن الهوية المتمثلة في "الغرب والمسيحية" تتضمن رغم حدودها، حقيقة عميقة؛ فهي متصلة بالفردانية (إذا قبلنا بتحليل عالم الأنتروبولوجيا لويس دومون Louis Dumont ) . فتماهي الغرب إذن مع الرأسمالية قضية جدية، وربما جد عميقة. مما لا جدال فيه أن الرأسمالية قد ٍرأت النور في أوروبا الغربية؛ وفي شمالها وجنوبها في آن واحد تقريبا. ولقد تطورت هناك خلال عدة قرون، لتنطلق من هناك إلى باقي أرجاء العالم، غير أن انتشارها هذا كان شكلا من أشكال خضوع العالم للغرب، حيث لم تحدث خارج المنطقة الأصلية، إلا عمليات نهوض وإنضاج قليلة جدا. فعندما تبلورت رأسماليات "حقيقية" في جهات أخرى مثل الولايات المتحدة واليابان، تحولت هذه الدول بدورها إلى جزء من الغرب. فاختزال الغرب في نظام اقتصادي غير مرض بشكل كامل ، لأنه يعني أن الغرب لم يكن معنيا بما جرى قبل ميلاد الرأسمالية ! فرغم محاولات خبراء الاقتصاد اعتبار الرأسمالية مجرد آلية طبيعية كما يرى اللبراليون، أو مصطنعة كما يقول الاشتراكيون، فالظاهر حقيقة أن الرأسمالية هي بالضبط الخاصية "الغربية" للغرب، وليست طبيعته الأساسية، أو على الأقل، ليست كليته الظاهرة؛ وإلا، لما وقف عائق في وجه انبعاثات عالمية للرأسمالية، ولكان العالم قد صار منذ أمد بعيد سوقا واحدا، وأمة واحدة، ومجتمعا واحدا متجانسا ومتماثلا؛ وهذا غير ما نراه اليوم. فأطروحة اختزال الغرب في إثبات ذاتي للاقتصاد غير مقنعة من وجهتين؛ إنها تقسم تاريخ أوروبا المسيحية وتاريخ توسعها إلى قسمين: قسم سابق عن ميلاد الرأسمالية، التي تعزى حيويتها إلى عوامل "ثقافية"؛ وقسم بعد ميلادها، حيث تعود حيويتها إلى آليات اقتصادية. وتنكر هذه الأطروحة من جهة أخرى خصوصية الغرب لحساب آلة طبيعية، أو على الأقل قابلة للاستنساخ وللتعميم على العالم؛ غير أن الرأسمالية إذا كانت قابلة من دون شك للاستنساخ بشروط معينة فإنها لا تبدو قابلة كلية للتعميم. إن التنمية الاقتصادية تنتج التخلف، أو على الأقل تستتبعه. ويبدو لي أن جانبي الاستثنائية الغربية الأكثر وضوحا، يكمنان في إيديولوجيتها وفيما تمثله من آلة تقنية اقتصادية ضخمة.

 

أ - الكتلة الغربية

إن الغرب اليوم مفهوم إيديولوجي أكثر مما هو جغرافي. ويشير العالم الغربي، في الجغرافية السياسية المعاصرة، إلى مثلث يحوي النصف الشمالي من كوكبنا مع أوروبا واليابان والولايات المتحدة. فالثلاثي المشكل من أوروبا واليابان وأمريكا الشمالية، يمثل فعلا ذلك الفضاء الدفاعي والهجومي. وقمة الثمانية الكبار التي يتداعى لها دوريا ممثلو الدول الثمانية الأغنى والأكثر تطورا في العالم (الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا واليابان وكندا وروسيا)، تمثل الجهاز التنفيذي المؤقت لهذه المجموعة.

إن الغرب الذي لا يمكن حصره في بلاد معينة، ليس كيانا دينيا أو خلقيا أو عرقيا، أو حتى اقتصاديا فحسب ؛ بل يمثل ، باعتباره وحدة تركيبية لمختلف هذه المظاهر، كيانا "ثقافيا" ؛ أي ظاهرة حضارية. و لا يمكن إدراك وجاهة هذا المفهوم الذي يجعل من الغرب وحدة أساسية متصلة بعدد من الظواهر التي عرفها التاريخ، إلا في حركته. وبما أن فصله عن جذوره الجغرافية متعذر، فإن امتداداته وتفرعاته تتجه نحو تحويله إلى كائن متخيل. فالغرب من الناحية الجغرافية والإيديولوجية عبارة عن مضلع ذي ثلاثة أبعاد أساسية : فهو يهودي –إغريقي-مسيحي. ثم إن ترسيم حدوده الجغرافية لم تكن بنفس الدقة خلال كل العصور؛ ولقد أضحت تكتسي يوما عن يوم طابعا إيديولوجيا. فلقد تماهى الغرب كلية تقريبا مع ما أنتجه من نموذج غير مرتبط بالجغرافيا. ويبدو لي أن المهم في هذا المتخيل المشترك، هو الاعتقاد الغريب، على مستوى الكون والثقافات، بأن الزمن تراكمي وخطي، وتكليف الإنسان بمهمة الهيمنة الكاملة على الطبيعة ، من جهة، و الإيمان بقدرة العقل الماهر في التخطيط، على تنظيم فعله ، من جهة ثانية. يستقي هذا المتخيل الاجتماعي، الذي يتجلى من خلال برنامج الحداثة كما يشرحه ديكارت Descartes، جذوره من الأصول الثقافية اليهودية، والأصول الثقافية اليونانية، ومن انصهارهما. فلم تصل في نهاية المطاف الإديولوجية و"الثقافة" الغربيتين إلى اختزال الحياة في البعد الاقتصادي، إلا بعد رحلة مغامرة طويلة. ومن المستحيل، فعلا، أن يعيش المرء في عالمنا العصري، خارج الاقتصاد. وهذا يعني أمرين مترابطين بشكل وثيق: فكل فرد يساهم في الحياة الاقتصادية، ولكل فرد حد أدنى من المعلومات الاقتصادية، ومن الإيمان بالاقتصاد. إننا جميعا، في مجتمعاتنا المعاصرة، دواليب في آلة ضخمة، هي التي تحدد موقعنا في المجتمع، بالنسبة للشغل أو البطالة، ولمستوى الدخل، ولطبيعة الاستهلاك؛ فلقد احتلت هذه الملامح الاقتصادية للحياة مساحة كاسحة، إن لم تكن حصرية في بعض الأحيان؛ فوضعية المواطن تتحدد قبل كل شيء من خلال موقعه ودخله ومصارفه. وبما أن الحياة قد اختزلت بهذا الشكل في جوانبها الاقتصادية، فلا بد أن يكون كل فرد مهووسا بالهموم الاقتصادية، وعلى رأسها، الدخل، الذي يعتبر شرط البقاء على قيد الحياة، سواء تعلق الأمر، حسب السن والظروف، بأجرة، أو بتعويضات البطالة أو التقاعد؛ فرئيس شركة يعيش، مثل ربة البيت، وهو يعاين المؤشرات الاقتصادية؛ ولا يختلفان إلا في التعبير عن همومهما: فإما الحديث عن نسبة التضخم أو عن سعر الزبد، وإما الحديث عن الاقتطاعات الضريبية والاجتماعية، أو عن التعويضات العائلية والضمان الاجتماعي، الخ. ومن الغريب أن الاهتمامات الاقتصادية بهذا الشكل، لم تكن تحتل إلا حيزا محدودا من حياة الناس قبل عصر النهضة، أو خارج الغرب؛ فلقد كان كل فرد ينجز أعماله، التي كانت في الغالب منزلية، ويهتم في نفس الوقت بالسياسة كما كان شأن المواطن اليوناني، أو بالدين بالنسبة للناس في القرون الوسطى، أو بالحفلات والطقوس كما كان شأن الأفارقة الأصليين. وازدهار الاقتصاد في العصر الحديث وحده، لا يبدو غريبا، لأن الاقتصاد ، في النظرة الموروثة عن عصر الأنوار، ليس إلا نتاج العقل. فلا غرابة أن يعتبر تطور النشاط الاقتصادي عنوانا لتقدم هائل للعقلانية. وتتجلى هذه الأخيرة في كل من التقنية والاقتصاد على حد سواء؛ فالمطلوب هو زيادة الفعالية بأقل قدر ممكن من الوسائل، للحصول على أكبر قدر من النتائج، على قاعدة "دائما أكثر". إن هذه العقلانية الكمية تستحيل إلى عبث عندما تتخذ نفسها هدفا لذتها؛ غير أن هذه قصة أخرى.

ليست العلوم الاقتصادية بدورها إلا اجترارا ثرثارا ومهووسا، لمبدإ العقلانية الحسابية هذا. إن الانتصار الظاهري للحداثة على المستوى العالمي، من خلال الإمبريالية العسكرية والسياسية ابتداء، ثم، الإمبريالية الثقافية أكثر فأكثر، هو الذي أدى واقعيا إلى انتصار الاقتصاد باعتباره ممارسة ومخيال عالميين. لقد عرف اقتصاد السوق، منذ سقوط دول أوروبا الشرقية وإفلاس المشروع الاشتراكي، نجاحا باهرا ، ويعد هذا أكبر نجاح للاقتصاد والاقتصاديين. فلقد فرضت قوانين السوق المقدسة نفسها رغم أنف الجميع، بإسقاطها البيروقراطية الأكثر شمولية، وبتحطيمها الفظاعات الرهيبة لمعسكرات الأشغال الشاقة بالكولاك (goulag) وفي نفس الوقت، الآمال التي علقتها الجموع المعوزة على الطوبى الأكثر نبلا في التاريخ.

ب- الآلة التقنية الاقتصادية الضخمة

ترتكز هيمنة الغرب على قوى رمزية مكملة، أكثر مكرا، لكنها أقل إثارة للنزاع مقارنة مع قوى السوق والمنفعة. وعناصر الهيمنة الجديدة هذه، هي العلم والتقنية والمخيال الذي تقوم عليه، متمثلا في قيم التقدم والتنمية. إن تفوق الغرب يعزى إلى فعالية طريقة في التنظيم تحرك كل التقنيات، من نظام عسكري إلى الترويج والدعاية، لتحقيق ما يصبو إليه من هيمنة، أكثر مما يعزى إلى هذه التقنيات نفسها. يتمثل أروع اختراع للعقل البشري، والذي بدونه ما كان للعلوم ولا للتقنية أن تعرف التألق المشهود، ولا كان للإنسان أن يفكر في الاستعمال التطبيقي لهذه العلوم والتقنيات بشكل كامل، في "الآلة الاجتماعية"؛ ومشروع الحداثة لإقامة مجتمع على قاعدة العقلانية وحدها، هو الذي أنتج هذه الآلية الهائلة. وهكذا لم يعد تنظيم الناس على المستوى السياسي والاقتصادي والعسكري، يتم بالطرق التقليدية. فالأداء لا يخضع للرتابة، بل للسعي وراء الفعالية. والفعالية مصطلح آخر للتعبير عن العقلانية ، التي تعني الاقتصاد في الوسائل عند إنجاز الأهداف وتحريك كل الوسائل للحصول على أحسن النتائج. وهكذا أنتج تفكيك المجموعة المتضامنة إلى عدد من الأعضاء المنفصلين، الفرد الأناني. والبحث من طرف هذه الذرة الاجتماعية على أكبر قدر من السعادة، يدفعه إلى بذل أقصى ما يستطيعه من طاقة ، ليكون جنديا جيدا، ومواطنا جيدا ومنتجا جيدا، ثم، وخاصة، تاجرا جيدا. ولهذا أضحت عبارة " أن تعرف كيف تبيع نفسك" كلمة حاسمة في تكوين الأجيال الشابة.

يحقق التنافس بين المجموعات والأمم نفس الامتيازات على مستوى أعلى. غير أن صراعا من هذا النوع لا يحقق هدف الهيمنة القصوى الذي يصبو إليه إلا داخل منظمة، تعيد إدخال نوع من التضامن بين الفاعلين، وإن كان هذا التضامن يقوم على أساس عقد يتوخى تحقيق أعلى النتائج. أو لنقول أن منطق الأشياء نفسها، يقتضي بأن يكون هذا التضامن مطلوبا. إن العقد الاجتماعي الذي يؤسس للدولة القطرية، هو تكتل تطوعي، يهدف إلى تحقيق أقصى قدر من الحقوق (السلم والأمن والحقوق المدنية ) للمتعاقدين، مع التقليل في نفس الوقت من واجباتهم (الضريبية والقانونية).

يهدف عقد العمل الذي تقوم عليه المؤسسة إلى تحقيق أعلى قدر من الإنتاجية والأرباح، مع خفض التكاليف ( الجهد، والاستثمارات والمواد الأولية ). و منذ أدام سميث Adam Smith ، لم يتردد باستمرار أن تقسيم العمل في المشغل، ليس إلا تنظيم العاملين في الإنتاج بشكل يمكن من الحصول على أقصى قدر من الإنتاجية، في حالة معينة من المعرفة والتقنية. غير أن تنظيم الناس بهذا الشكل يتغير باستمرار تحت تأثير قوته الداخلية نفسها؛ فهناك تنافس الفاعلين وترتيب الأجهزة، والتنسيق بين الإنسان والتقنية، وابتكار تقنيات جديدة، وإعادة تنظيم العاملين من جديد بسبب التقنيات الجديدة ، مع ضرورة تكيف هؤلاء من جديد داخل الدائرة الاقتصادية، مرورا كذلك بالتكيف داخل الدائرة الاجتماعية والسياسية. والقانون الذي يحكم حتما كل هذه التحولات هو قانون "إحداث أعلى الأثر والمتعة، بأقل التكاليف والمتاعب" ؛ وهذا هو مطلب التقدم بالذات. إن عمليات التطوير أيا كانت طبيعتها، وأيا كان مجالها، مستمرة وتراكمية؛ فالمسيرة "غير متناهية و"غير محددة". والتنافس يكشف ما تم من نجاح، ويعاقب على أخطاء الأفراد والمؤسسات والمجموعات والأمم. والبحث الذي يقوم على المحاولات التجريبية هو الحكم الأعلى. فخلال مدة طويلة، كان يبدو لمهندسي القطاع الاجتماعي أن التخطيط المطلق للإنتاج يعتبر التنظيم الأكثر عقلانية للآلة ، والتي لا يمثل الإنسان بداخلها إلا مجرد دولاب. غير أن التجربة أثبتت أن هذه العقلانية المجردة تقتل الطاقة الفردية وتنتج فعالية عملية متدنية. يخبرنا علم التحكم الاجتماعي بأن فعالية الكل تتوقف على مرونة تنظيم الأجزاء. غير أن إيجاد نوع من التوازن بين السلطة والتلقائية، وبين التعاون الضروري والفردانية الضرورية المندفعة، لا يستقر للأسف، وخاصة مع غياب أي هدف آخر، غير تنمية هذه الآلة الضخمة لأجل تنميتها. فلقد جعل تنظيم تيلور Taylor للعمل داخل المؤسسة، من العامل مجرد منفذ للمخطط العقلاني الذي تعتمده سلسلة تركيب (السيارات). واتضح في النهاية أن هذا التنظيم أقل فعالية من الأشكال التنظيمية الأخرى التي تعمل على انخراط الفرد في العملية، وعدم الاستغناء عن ذكاء العمال. فالانضباط قد تم تعويضه ب"الانضباط الذاتي". قد تحقق العقلانية والفعالية بهذا الشكل تركيبا رائعا كما يتم وصفه، بين الصراع على كل المستويات و التعاون في كل المراتب؛ وكل هذا كذلك لصالح البشرية الرابح الأكبر في هذا الصراع الحاسم والكوني مع الطبيعة. غير أن العولمة تفسد هذا التوازن؛ و الأمور تسير في اتجاه تفضيل المنافسة على التعاون، رغم ما يحققه التعاون من مصلحة بينة.

=========================

الاستثنائية الغربية تحت رحمة العولمة (الجزء الثاني)

L'exception occidentale au péril de la mondialisation

تأليف سيرج لاتوش ، أستاذ فخري للاقتصاد بجامعة باريس

ترجمة أ. رشيد أبو ثور

وهم التعددية الثقافية

في سنة 1989، قبل عشر سنوات بالضبط ( والتي تعتبر في نفس الوقت مدة زمنية طويلة!) كان يبدو أن سقوط جدار برلين سيضع حدا للأكاذيب والأوهام الشمولية؛ وبدأ العالم الغربي يحلم خلال بضع سنوات بالسلام الأبدي الذي سيجلبه حتما الانتشار السريع عبر كافة أرجاء المعمورة لاقتصاد السوق ولحقوق الإنسان وللعلوم التقنية و للديموقراطية ؛ ويتضح اليوم أن الكابوس هو الذي تلا ذلك الحلم. ففي كل مكان في العام يقتتل الناس بحماس بالغة، ويتم تفكيك الدول باسم النقاء العرقي أو الديني. يسود الاعتقاد أن هذه العودة المخيفة للمركزية العرقية لدول الجنوب والشرق، هي في الواقع متناسبة بشكل صارم مع العنف الخفي الناتج عن الانفجار الداخلي الذي عرفه النموذج الغربي الموجه للناس كافة، وكأن عدد من الشعوب تلمح بشكل غير مباشر، خلف الحيادية الظاهرة للسلع وللصور ولحرفية القانون، مركزية عرقية مفارقة، مركزية عرقية ذات نزعة عالمية، مركزية الشمال والغرب العرقية، والتي هي مدمرة بقدر ما تمثل نفيا رسميا وجذريا لوجاهة غيرها من الثقافات؛ والتي لا ترى في الثقافة إلا رمزا لماضي يجب إلغاؤه كلية.

غير أنه من السذاجة وسوء النية، أن نتأسف على العواقب السيئة لأربعين سنة من التغريب الاقتصادي للعالم؛ فهذا ما يجعلنا سجناء مانوية مشبوهة وخطيرة: فإما النزعة العرقية أو المركزية العرقية، وإما الإرهاب المتصل بقضية الهوية أو العالمية المتوحشة.

إن الإمبريالية الاقتصادية وإمبريالية الاقتصاد، اللذين يميزان ما فوق الحداثة في مرحلتها الراهنة، يدمران اليوم كوكب الأرض. وهذا ما يمكن معاينته من خلال مشاهد الحياة اليومية ، شريطة ألا نكون مصابين بحسر الرؤية اللبرالية المتطرفة التي يعتمدها "أصوليو" مؤسسات بروتون وودز Bretton-Woods, ؛ تلك المؤسسات التي أطلقت العفريت ولم تقوى على إرجاعه...فلقد اختزلت هذه النزعة الاقتصادية الثقافية في الفلكلور ونفتها إلى المتاحف(4) .

 

تؤدي العولمة بقضائها على الثقافات، إلى بروز «قبائل" وانكفاءات ونزعات عرقية، وليس إلى تعايش وحوار. إن تصاعد العنف الحربائي على خلفية تحويل أكباش الفداء إلى ضحايا، ليس إلا النتيجة الطبيعية للتنميط والتهجينات المزيفة. فلقد أحدثت هذه الظواهر التي ضخمها الإعلام، اشمئزازا قويا ومشروعا من دون شك، لدرجة أضحت معها، عالمية من لون واحد ومبالغة الاغتباط، ومن طبيعة غربية حصرا، مع تكرار تمائمي لشعارات فارغة، محل إشادة وإطراء. وإذا كان من الواجب إدانة ما تحدثه الانكفاءات على الهوية الذاتية، وتحدثه النزعة العرقية من ضرر، فلا بد كذلك من التمحيص قبل الإدانة. فمن الضروري تحليل آليات هذه الآفات، وبالخصوص آلية إضفاء متعاملين بلا ضمير في الهوية، صبغة الإطلاق على اختلافات اعتباطية. ويجب كذلك في المقابل، تفكيك المركزية العرقية المتعجرفة والمنتصرة من جديد على ارتياح الضمير لدى الغرب ، كما يجب فضح وهم ثقافة كوكبية، لن تكون إلا إنتاجا ثانويا للعولمة التقنية الاقتصادية.

إن العولمة على وجه الخصوص، وهي تشوه البعد العالمي، تعمق في نفس الوقت الحنين إلى قيمها التي تتعرض لامتهان متزايد. ف"العولمة والعالمية، كما كتب جان بودريارد Jean Baudrillard، لا تتصاحبان، بل على العكس، تتنافيان". فالعولمة عولمة التقنيات والسوق والمعلومات؛ أما العالمية، فهي عالمية القيم وحقوق الإنسان والحريات والثقافة والديمقراطية. وإذا كانت العولمة، على ما يبدو، لا رجعة فيها، فإن العالمية في طريقها إلى الاندثار"(5) . فعندما يضع بودريارد Jean Baudrillard ما هو عولمي في تعارض مع ما هو عالمي، فإنه لا ينقل إلا الواقع. لكن، أليست عالمية العلوم والتقنية، وعالمية الاقتصاد بشكل أكبر، والتي هي من طبيعة غربية واضحة، هي التي أنتجت هذه العولمة "الشيطانية" ؟ يأتي صدور درس الجغرافية لإيمانيل كانت Emmanuel Kant في الوقت المناسب ، ليذكرنا بضيق المركزية العرقية لعالمية أكبر مفكر لعصر الأنوار، مع منتقياتها من الصور النمطية العنصرية(6) ؛ ألا يعبر بشكل من الأشكال ، واقع قضم وسحق القيم من طرف الآلة التقنية الاقتصادية الضخمة الشاملة، عن حقيقة العالمية ، ما دامت هذه العالمية غربية حصرا، وما دامت نواتها الصلبة ليست إلا تسليح العالم واختزاله في البعد الاقتصادي ؟

يكتسي هذا النقاش خاصة حول المركزية العرقية راهنية أكبر، عندما تقتحم علينا مشاكل الحق في الاختلاف

حياتنا اليومية، من الحجاب الإسلامي إلى الختان، ومن تصاعد العنصرية إلى إحالة ضواحي المدن إلى أحياء مغلقة. فمن الضروري أن نضع أنفسنا مكان الآخر، بشكل يمكننا من رؤية معتقداتنا في أبعادها المختلفة، وإلا سنفقد المعرفة بأنفسنا، وهو الخطر الذي تنذر به العولمة الثقافية.

 

النجاح الظاهر للتعددية الثقافية.

يرى ممتدحو عولمة سعيدة، أن النجاح العالمي لاقتصاد السوق وللفكر الأحادي، لم "يقض على الثقافات الوطنية والإقليمية" بل أفرز على العكس، تشكيلة لا مثيل لها من التنوع الذي يستجيب للطلب المتزايد المتعلق بثقافات البلاد غير الغربية. وبالتالي سيتشكل المجتمع الشامل بالحفاظ على قيم الحداثة الأساسية، المتمثلة في حقوق الإنسان والديمقراطية. مما لاشك فيه أن المواطن الحر يستطيع في المدن الكبرى، أن يتذوق حسب اختياره، كل فنون الطبخ العالمية في المطاعم "العرقية"، وأن يستمع إلى مختلف أنواع الموسيقى (الفلكلورية، و الكوبية الإفريقية و الأمريكية الإفريقية)، وأن يشارك في المراسيم التعبدية لمختلف الديانات، وأن يلتقي في الشارع بأناس سود وصفر وغيرهم، وبلباسهم الخاص في بعض الأحيان. ثم إن مختلف أنواع التهجين واختلاط الأجناس الذي لا ينقطع، بسبب مزج الاختلافات، تزيد هذا التنوع الثقافي "الجديد" المعولم، ثراء على ثرائه. وهذا ما يؤدي إلى ظهور "منتجات" جديدة. يتم كل هذا في جو من التسامح المبدئي الكبير الذي تسمح به دول الحق والقانون لائكية. وهذا ما كان يعلنه جان ماري ميسيي Jean-Marie Messier أيام تألقه عندما كان ممثلا نهما لشركات الإعلام العابرة للقوميات ، وهو يقول : "لم يسبق للعرض الثقافي أن كان واسعا ومتنوعا كما هو عليه اليوم" ، وأضاف " أن الأفق بالنسبة للأجيال القادمة، لن يكون أفق الهيمنة الأمريكية الكبرى، ولا أفق الاستثنائية الثقافية الفرنسية، بل أفق الاختلاف المقبول والمحترم من طرف الثقافات"(7) . والغريب أن يلتقي هذا الموقف مع موقف بعض علماء الأنتروبولوجيا مثل جان لو أمسيل Jean-Loup Amselle، والذي يرى أنه "بدلا من التنديد بالهيمنة الأمريكية والمطالبة بحصص نسبية تضمن نوعا من الاستثنائية الثقافية، يحسن بنا أن ندرك أن الثقافة الأمريكية قد صارت عاملا لتحقيق العالمية، ويمكن لخصوصياتنا أن تعاد صياغتها بداخل الثقافة الأمريكية، دون أن تضيع. فالخطر الحقيقي لا يكمن في التنميط ؛ وإذا كان هناك من أمر مقلق في العولمة الحالية، فيتمثل في انكفاء الهويات وبلقنتها" (8). وهكذا،[ومع الإقرار بشكل قاطع بأن الثقافات ليست إطلاقا "خالصة ولا معزولة ولا منغلقة" ، بل تتغذى من التبادل والمكاسب المستمرة، مما يجعل كل محاولة لأمركة شاملة للعالم، محكوم عليها بالفشل؛ وأنه رغم الصبغة الإنجليزية و"الماكدونالية"، التي أضفيت على العالم، فإن الفوارق اللغوية والمطبخية ستتشكل من جديد،] يستخلص بشكل متسرع، على ما نعتقد، بأن الخشية من إخضاع العالم إلى شكل واحد، لا تقوم على أساس ، لأن ابتكار ثقافات ثانوية محلية جديدة وبروز "قبائل" في ضواحي مدننا، سيمسح آثار الإمبريالية الثقافية.

لا يمكن إقرار وجهة النظر هذه إلا عند الخلط بين التوجهات الكبرى للنظام المهيمن و ما يثيره من ضروب المقاومة، وعند الفصل على الطريقة "الأنجلوساكسونية" بين الاقتصاد والثقافة، ورفض الإقرار بأن الاقتصاد في الغرب بصدد التهام كل جوانب الحياة. فالعولمة لا تؤدي إلى الإخصاب الهجين لمختلف المجتمعات، بل تفرض على الآخر نظرة خاصة، هي نظرة الغرب، بل نظرة أمريكا الشمالية. ولقد صرح دافيد روطكوبف David Rothkopf ، الذي كان مسؤولا سابقا في إدارة كلينتن Clinton، قائلا ببرودة تامة: "بالنسبة للولايات المتحدة، يجب أن يكون الهدف المركزي للسياسة الخارجية في عهد المعلومات، هو الانتصار في معركة تدفق المعلومات العالمي، بالسيطرة على موجات الاتصال، كما كانت بريطانيا العظمى تتحكم في الماضي في البحار." وأضاف: " ومن مصلحة الولايات المتحدة، في حالة ما إذا اعتمد العالم لغة مشتركة، أن تحرص على أن تكون هذه اللغة هي الإنجليزية؛ وأن تحرص، إذا ما اتجه العالم نحو معايير مشتركة في مجالات الاتصالات والأمن والجودة، أن تكون هذه المعايير أمريكية، و تحرص إذا ما تم ربط مختلف الدول عن طريق التلفزة والراديو والموسيقى، أن تكون البرامج أمريكية، وإذا ما اعتمدت قيم مشتركة، فلتكن القيم التي يتبناها الأمريكيون." وختم بالتأكيد على أن كل ما هو صالح للولايات المتحدة، فهو صالح للبشرية ! " يجب على الأمريكيين ألا ينكروا بأن أمتهم هي، من بين كل الأمم، الأكثر عدالة وتسامحا والأكثر رغبة في إعادة النظر في نفسها وتحسينها على الدوام، وأنها تمثل أحسن نموذج للمستقبل." (9)

 غالبا ما تنتهي هذه الإمبريالية الثقافية إلى تعويض ثروة المعاني التي كانت تميز الثقافة القديمة، بفراغ مأساوي، متمثل في فقدان العالم لسحره، وفي تبخر الأحلام والآمال؛ ولقد أحسن تصوير ذلك ماكس فيبر Max Weber بقوله : " الحافلة تسير، وبعض الأسباب تحدث بعض النتائج، غير أننا لا ندري ما هو واجبنا، ولماذا نعيش، ولماذا نموت."(10) إن كل ما تحقق من نجاح بخصوص اختلاط الثقافات ليست إلا استثناءات سارة. وهو نتاج ردود فعل إيجابية تجاه التطورات الجارية، أكثر مما هو إفراز للمنطق الشامل.

تشكل حفنة من الدول الغنية المتطورة مركزا، تحتل فيه الولايات المتحدة موقع القلب؛ أما باقي العالم فلا يمثل إلا ضاحية واسعة. وبالتالي يمكننا الحديث عن اجتياح ثقافي حقيقي من طرف الولايات المتحدة، مع إضافات تكميلية، هنا أو هناك، لدول أو أخرى من دول الشمال. فرغم الفشل الواعد الذي حصل في مدينة كانكون Cancun,، لم تغير الدورة الجديدة للمنظمة العالمية للتجارة التي انعقدت في الدوحة بقطر، اتجاه المسير، بل أكدت على العكس، الانتصار شبه الكامل للنظرة الأمريكية الغربية. غير أن الولايات المتحدة بالذات تستورد أقل من 2 % من استهلاكها السمعي البصري، ولا تترجم إلا بالتقتير. وهي بالتالي أكثر مناهض لاستيراد ثقافة الغير، وبطلة كل الأوزان فيما يتعلق بالحمائية الثقافية ( وكذلك الحمائية الاقتصادية )

فأين هو الصدق والأمانة في هذه المنافسة الكوكبية ؟ ربما كان جهل الشعب الأمريكي (وفي بعض الأحيان حتى قادته الكبار) بما يجري وبما يفكر فيه خارج الولايات المتحدة، مأساويا، غير أنه يفسر الانعكاسات السلبية التي تم تسجيلها مع أحداث 11 سبتمبر؛ وهو جهل يُحرص، طبعا، بشكل منهجي على إدامته."(11) ولعل الفرق (النسبي طبعا) بين الأوروبي العادي والأمريكي العادي يتمثل في هذا الجهل بالآخر. فلم يسبق لمزارع من ألكانساس Arkansas، ولا لعامل من أوهيو Ohio، أن رأى أو سمع إلا ما تنتجه صناعة الثقافة الأمريكية. قال رونالد ستيل Ronald Steel " إننا على رأس نظام اقتصادي يشكل إيذانا نهائيا بسقوط كل شكل آخر من أشكال الإنتاج و التوزيع؛ إنه يخلف في طريقه ثروات ضخمة، لكنه يحدث كذلك في بعض الأحيان، دمارا وخرابا هائلين. إننا ننشر ثقافة تقوم على تسلية وتلبية رغبات الجماهير، ثقافة تبجل البحث عن اللذة والمنفعة، والمراكمة حتى عندما تتحدث عن الفردانية والوفرة. إن الرسائل الثقافية التي ننثرها عن طريق هوليود و ماك دونالد، تنتشر في العالم لاستهواء مجتمعات أخرى، و لتقويضها كذلك. إننا على عكس الغزاة التقليديين، لا نكتفي باستعباد الآخرين، بل نصر على كسب حبهم. وكل هذا، بالطبع، لأجل مصلحتهم. تعتبر حماستنا في نشر قيمنا الأكثر قسوة في العالم (...) ولهذا لا نستغرب أن يشعر العديد من الناس بأن ما نمثله يشكل تهديدا لهم."(12) لقد كان هذا مكتوبا قبل سنة 2001 ونجاح انفرادية بوش بكثير ! يعتقد مواطنو الولايات المتحدة، المخدوعون بأنغام الحلم الأمريكي، بأنهم ينتمون لإمبراطورية الخير؛ وبالتالي لا يستطيعون، وهم صادقون في ذلك، فهم سبب كره الغير لهم. غير أن الأمر يختلف بالنسبة للأوروبيين؛ وذلك فبفضل، أو على الرغم من جان ماري ميسيي Jean-Marie Messier وغيره من أمثال برلوسكوني Berlusconi : إننا نعلم جميعا، أن لباقي العالم، وخاصة لمواطني مستعمراتنا القديمة، أكثر من سبب للحقد علينا، والتطلع إلى التغيير.

 

ب. عودة المكبوت : ثورة المطالب المتعلقة بالهوية.

تجتث الآلة الكبرى الشاملة كل شيء يتجاوز مستوى الأرض، غير أنها تعمق البنية الفوقية، لتحافظ دون أن تدري على الأسس، أو بالأحرى على هذا التطلع الغير قابل للاجتثاث، الذي هو التطلع إلى هوية. بإمكاننا أن نجد تحت التنميط الممارس على المستوى العالمي، جذور الثقافات الممتهنة التي لا تنتظر إلا الفرصة السانحة للانبثاق من جديد، وقد تخرج في بعض الأحيان مشوهة ووحشية. وبسبب افتقادها لمكانها الضروري واعتراف مشروع، تعود الثقافات المكبوتة في كل مكان إلى البروز، أو تعيد ابتكار نفسها بشكل متفجر ، أو خطير أو عنيف. إن ما سببه التنميط الممارس على المستوى العالمي من انكفاءات على الهوية الذاتية ومن دفع نحو منافسة حادة بين مختلف الفضاءات والمجموعات، ليزداد عنفا كلما ازدادت القاعدة التاريخية والثقافية هشاشة (أو غابت نهائيا في الحالة القصوى التي تمثلها بادانيا la Padanie). وبما أن العالمية التي أعلنتها مُثُل عصر الأنوار، ليست إلا خصوصية "القرية الغربية"، فإنها تترك وراءها الكثير من البقايا الحية، وتثير ضروبا من المقاومة، كما تشجع إعادة التشكيلات، وتنتج أشكالا هجينة غريبة أو خطيرة.

ستتخذ ردود الفعل الدفاعية أمام إخفاق التنمية، وإرادة إثبات الهوية الذاتية، ومقاومة الهيمنة العالمية، أشكالا مختلفة، تتفاوت في عدوانيتها، أو في ابتكاريتها وأصالتها. إن التطلع إلى امتلاك هوية ثقافية تطلع مشروع، غير أنه يصير خطيرا إذا لم يستوعب الظروف التاريخية. فلا يمكن اعتبار الهوية الثقافية مجرد وسيلة؛ فبمجرد ما تشرع مجموعة في إدراك هويتها الثقافية ، يحتمل جدا أن تكون قد ولجت منطقة الخطر، بشكل لا رجعة فيه. إن الهوية الثقافية موجودة في حد ذاتها داخل المجموعات الحية ؛ لكن عندما توجد لذاتها، فهذا مؤشر انكفاء أمام تهديد ما؛ وبالتالي فإن الهوية الثقافية قد تتجه صوب الانغلاق، إن لم تتجه نحو التضليل والدجل. تكون الهوية الثقافية، وهي نتاج في الغالب غير واعي للتاريخ، دائما منفتحة ومتعددة داخل المجموعات الحية ؛ أما إذا تحولت إلى وسيلة فستنغلق وتصير مانعة، وكتلة واحدة، وغير متسامحة ، وجامعة قد تصير شمولية ؛ ووقتها نكون قاب قوس أو أدنى من التطهير العرقي. ولقد كان ماكسيم رودنسون Maxime Rodinson، محقا عندما وصمها ب »الطاعون الطائفي « .

في الماضي كان أرنولد تويمبي Arnold Toynbee يميز بين "الهيروديانية l'hérodianisme والزيلوطية zélotisme," في مواجهة الإمبريالية الثقافية ، أي بين الحربائية المشوهة والانغلاق اليائس.

ربما يمكن إضافة، إلى هذين التوجهين، المفلسين لا محالة كما يرى تويمبي، شكلا ثالثا، أكثر تفاؤلا، ويعتبر إبداعا تاريخيا حقيقيا، ألا وهو بناء تعددية كونية أصيلة. فلندع جانبا الخطاب الوطني الشعبوي، الذي هو اقرب إلى الحربائية، للحديث عن المشروع الأصولي الذي يماثل الزيلوطية. إن الدول الإسلامية، تنجذب، فعليا، وبشكل متزايد كما يبدو، نحو الأصولية. نلحظ في المجتمعات الإسلامية التي أدى التصنيع وفردانية الحداثة إلى تفكيك بنيتها، بروز وتطور نوع رجعي لإثبات الهوية الضائعة، بعدما اجتذبها لمدة طويلة المشروع القومي. وتعتبر الأصولية الإسلامية عموما، التعبير الحالي الأكثر دلالة عن انبثاق حركات البحث عن الهوية. ويجب ألا يحجب عنا الاندفاع البارز لهذا التيار، ظواهر أخرى مماثلة، من قبيل التطرف البرهماني في الهند، و المطالب الإقليمية في بلاد أوروبا القديمة. كل هذه الظواهر تعبر عن إخفاق التحديث، وما ترتب عنه من حرمان. إن الجموع العربية الإسلامية التي أضحت اليوم تنجذب نحو الإخوان المسلمين أو الحركات الشيعية، كانت قبل ثلاثين سنة ناصرية أو بعثية ؛ يعنى أنها كانت تعلق آمالها على الحداثة، معتقدة بإمكانية الجمع بين الإٍرث العربي والحداثة. وتماثل حدة ما يبدونه اليوم من تعصب ، حجم خيبة آمالهم.

يبدو أن العجرفة الأمريكية، التي فاقمتها السياسة الوحشية لولايتها 52 (إسرائيل)، تستهدف تيئيس العالم العربي والإسلامي والدفع به نحو نهج الإرهاب. مما لاشك فيه أن هذا التيار يحمل الكثير من اللبس. إنه تيار يتغذى مما تبقى من المعاني الدينية والثقافية الهائلة، والتي ما كان له أن يرى النور من دونها ، كما أنه يجد في الحنين إلى ماضي تاريخي تليد، بل أسطوري في بعض جوانبه، قوة للمقاومة والانتشار، ثم إنه يمثل محاولة إشكالية للتوفيق بين التصنيع والتقنية من جهة والقرآن من جهة ثانية ( يعني التحديث بدون حداثة). فهذا التيار يواجه المحاولة القومية "لتحديث الإسلام" بمشروع "أسلمة الحداثة"، بل بمشروع عولمة إسلامية.

إن الدول المعنية لم تجعل أبدا من الإسلام مبدأها الوحيد لتحقيق ذاتيتها الإسلامية. فالمجتمعات التقليدية في بلاد الإسلام تتميز بتداخل مركب بين مختلف الطوائف والخصوصيات؛ وبالتالي كانت الهوية الثقافية على الدوام متعددة ومنفتحة، ولم تكن الأمة، أو جماعة المؤمنين، إلا معلما موحدا خياليا، بالنسبة للمسلمين المشتتين عبر المجموعات المتداخلة، المشكلة من شبكة معقدة من العلاقات التاريخية. وحتى الشريعة لم تمثل أبدا القانون المدني الوحيد والمطبق على الجميع. وعندما يندد الأصوليون بالعصر الذهبي لإمبراطوريات العربية الكبرى باعتباره كان عصر فساد وزنقة وبدع، فإنهم محقون في بعض الجوانب. فلقد كانت مرحلة الخلافة الكبرى في دمشق وقرطبة وبغداد والقاهرة، مرحلة شعراء فارس المتغنين بالغزل والخمر، مرحلة المنمنمات الرقيقة وقصور ألف ليلة وليلة، على طرفي نقيض مع التشدد والصرامة التي فرضها آيات الله؛ فالمتعصبون يحطمون اليوم في اليمن أو في غيره، الأعمال الفنية من أضرحة وأدوات وأماكن للعبادة الشعبية ، التي لا تقدر بثمن، والتي أنتجت في عصور الإسلام المتسامح إبان تألقه الأول. كتب كامي طارو Camille Tarot : "حتى الإسلام الذي يتبناه (الأصوليون الجزائريون)، ورغم أنه مضاد للحداثة، لا يمثل الإسلام التقليدي. إنه إسلام مستورد من طرف المعاونين الذين أتوا إلى الشرق الأدنى، أي إسلام ممزوج بالنضال القومي والأفكار الشمولية والطرق الحركية المستعارة من الحروب الثورية آنذاك، ومن حرب العصابات الأفغانية، وإسلام منبهر بالنجاح التكتيكي للثورة الخمينية."(13) فالأمر لا يتعلق بالرجوع إلى الحياة الدينية التقليدية، ولا إلى أحد أشكال المجتمع السابق، حتى ولو كان الحنين إلى العصر الذهبي للإسلام، أو إلى الصفاء الأصلي الذي كان على عهد النبي وأصحابه، يلهم مخيال عموم الناس. لقد ساهمت في صياغة المعتقدات الشعبية في المجمعات الريفية، طقوس وممارسات محلية غريبة عن القرآن، وبقايا من العهود السابقة عن الإسلام، والتي توصف بالخرافية، مثل ما يدل على ذلك التعلق بالأولياء والأضرحة، المنتشر في إفريقيا السوداء، ومختلف الاتجاهات الصوفية؛ وهذا ما لا يروق بالطبع الأصوليين. وهذا ما يشير إليه حسين بن خيرة عندما يقول:" إذا كانت الأصولية تعتبر أشد اتجاه محافظة فيما يتعلق بالأخلاق، فإن مناهضتها لأساليب الحياة التقليدية، وخاصة المتعلقة بالتدين، لا تقل تشددا. فبخصوص أساليب الحياة، يقوم هذا التدين حسب قوله، على نسيج من المعتقدات الخرافية، التي حجبت الدين الحقيقي، والتي يجب تنحيتها للعودة إلى الإسلام الحقيقي، والإيمان الحقيقي، الذين كانا قائمين في العصور الأسطورية." ويضيف بأننا، عندما لم نر في ذلك إلا عودة للإسلام التقليدي "سنكون قد منعنا أنفسنا من أن نرى في انتصار الأصولية، إذا ما حصل، القضاء على التدين الذي ساد في المغرب العربي منذ عشرة قرون."(14) إن السعي بأي ثمن إلى العودة إلى إسلام حقيقي، يعني القضاء على التدين التقليدي مثل ما يعني تنحية قيم الحداثة الغربية.

من المفارقات أن ما أحدثه الغرب من قضاء على الهوية الثقافية (التصنيع والحضرنة والقومية العسكرية)، هو الذي هيأ الظروف بشكل لم يكن منتظرا، لعودة الدين بهذا الشكل. إن النزعة الفردية، أو التفريد بعابرة أصح، المندفعة كما لم يسبق من قبل، تمنح مغزى لمشروع إعادة تشكيل النسيج الاجتماعي على قاعدة الرابط الديني المجرد وحده، دون اعتبار للانتماءات الجغرافية. وهكذا يتحول الدين إلى القاعدة التي يرتكز عليها مشروع إعادة بناء الأمة، حيث يتولى تشكيل الرابط الاجتماعي في كليته. تأثر الحركات الإسلامية الأصولية بالدرجة الأولى في المدن، ومدن الصفيح المنتشرة في الدول التي عانت أكثر من المشاريع التصنيعية، مثل إيران الثورة البيضاء، ومصر ما بعد الناصرية، والجزائر "الاشتراكية"، وباكستان أو إندونيسيا ما بعد سوكارنو وسوهارتو. وليس النشطاء بأعيان ريفيين، أو بعقول رجعية، بل مهندسون وأطباء و علماء تكونوا في الجامعات. يتمثل الدين الذي يقود ويوجه حرمان كل من أقصتهم الحداثة، ومن خيبت آمالهم المشاريع التحديثية للخط الناصري، وللبعث أو للاشتراكية العربية، في معتقد مجرد ومتشدد وذي نزوع عالمي. وهكذا تجد العالمية الغربية نفسها في مواجهة عالمية من نفس القوة والارتكاز. ورغم هذا لا يتعلق الأمر بمسلك مختلف تمام الاختلاف؛ إن معاداة هذا التيار للغرب ليست عميقة، وإن كانت معلنة بهذا الشكل. فتسيير الدولة من خلال الدين هو تعبير عن فساد الحداثة أكثر مما هو تعبير عن مشروع مختلف تمام الاختلاف. وهذا ما يستدعي من دون شك رفض ميتافيزيقا الغرب المادية، غير أنه في حاجة إلى الاحتفاظ ب"القاعدة المادية"، وخاصة الآلة. إن هذه الحركات المناهضة للغرب تقبل جيدا بالتقنية، كما لا تجد في الغالب غضاضة في اعتماد اقتصاد السوق (التحديث بدون حداثة). ومن دون أن يكون فارغا كل الفراغ، فإن الاقتصاد الإسلامي لا زال جد محدود: فليس هناك إلا الأبناك والمعاملات المالية الإسلامية، وإرادية خلقية بينة الضبابية. فهو لا يرفض حتى ليبرالية شبه كلية. ولا تجد اللبرالية الجديدة بدورها حرجا في التعامل مع الطائفية التي تشاركها إيمانها بالتبادل الحر، وبالمؤسسة الحرة والملكية الخاصة. تشير جونيفييف أزام Geneviève Azam, بأن "قانون السوق يمكنه أن يتخذ أشكالا متباينة، حسب الاختلافات الثقافية التي يتم "حوسلتها" (تحويلها إلى وسيلة) وتسليعها. وقد يدعم ما يترتب عن هذا من مطالب متعلقة بالهوية حتى الخطاب اللبرالي الجديد : فأمام انقسامات تطرح على أنها مطلقة، لا شيء يمكنه أن يحقق السلام إلا القواعد الموضوعية والمحايدة للتبادل الحر والتبادل التجاري."(15) إن هذا المشروع الإسلامي يشكل بالفعل عالمية منافسة لعالمية الغرب. إنه مشروع عولمة من نوع آخر، العولمة الإسلامية. والغريب أن المنادين بعولمة بديلة يتجاهلون تماما هذه العولمة الإسلامية .

فلم تكن دعوة المفكر المسلم طارق رمضان المقيم في جينيف Genève، والمثيرة للجدل، للمنتدى الاجتماعي الأوروبي بسان دونيس Saint Denis، تهدف إلى استكشاف ( وليس إلى ضم) هذه العولمة الأخرى، بقد ما كان همها هو عدم ترك محتجين مسلمين من الشمال، على قارعة الطريق ، ودمجهم في عولمتنا. في كتابه الأخير " إلى منتهى الإيمان Jusqu'au bout de la foi "، يصف نيبول Naipaul بشكل جيد مشروع أسلمة الحداثة المذكور.

فعلى طريقة لينين الذي عرف الاشتراكية بأنها : السوفييت + الكهربة، فإن المهندسين الإسلاميين الإندونيسيين أو الباكستانيين، يعرفون مشروعهم بأنه : التكنولوجية الاقتصادية العالية + الشريعة. وهنا، يتضح لنا مباشرة بأن هذا البديل، ليس بديلا حقيقيا. يرى أوليفيي روا Olivier Roy بأن " الأصوليين الجدد، هم أولائك الذين تمكنوا من أسلمة العولمة، لإيجادهم فيها مقدمات لإعادة تشكيل أمة إسلامية عالمية، شريطة طبعا إسقاط الثقافة المهيمنة، والتي هي الثقافة الغربية في شكلها الأمريكي. وبسعيهم هذا فإنهم لا يشكلون إلا عالمية أمريكية معكوسة، تحلم بماك دونالد حلال أكثر مما تتطلع إلى عودة المطبخ العظيم لخلفاء الماضي الحقيقيين (..) إن الأمة المتخيلة عند الأصوليين الجدد، أمة جد ملموسة، إنها أمة العالم الشامل، حيث يتم تنميط السلوكيات إما حسب النموذج الأمريكي المهيمن (إنجليزي وماك دونالد)، أو حسب إعادة بناء نموذج متخيل مهيمَن عليه (جلباب أبيض ولحية.. و إنجليزي)"(16) فلا خلاف حول جوهر العولمة، وما يضاف إليه من بعد ثقافي يستبعد أن يروق الجميع، كما هو الشأن بالنسبة لقيمنا الغربية المسيحية. إنهم يعتبرون العولمة الأخرى، الديمقراطية الاجتماعية التي ينادي بها "دعاة عولمة بديلة"، مضللة مثل عولمة بوش، إن لم يكن أكثر. إن هذه العولمة الأخرى لا تشكل تحديا للإسلام فحسب، بل إن الإسلام بدوره يمثل تحديا بالنسبة لهذه العولمة الأخرى... غير أن هذه الظواهر ليست حكرا على العالم الإسلامي؛ إننا نجدها في شكلها الديني الخالص مع الهندوسية المتشددة، ومع الأصولية المسيحية، وخاصة عند بعض الطوائف الدينية في الشمال وفي الجنوب على حد سواء. كل الأصوليات الإسلامية، وكذلك مثيلاتها الهندوسية، ونسبيا الأصوليات المسيحية، تندرج في هذا السياق المتمثل في شعبوية دينية جديدة تحمل مشروعا مجتمعيا ملتبسا. فمن خلال رفع خطابهم شعار المساواة وفضح "فساد" الحكام ، يتضح بجلاء لديهم الاستعمال السياسي للدين. وبهذا الشكل تتكاتف شمولية التسليع "اللينة soft "، مع مصادرة المجتمع المدني من طرف التصلب الديني.

 

خاتمة : مرافعة من أجل عالمية تعددية

لا جدال في كون انتصار مخيال العولمة قد سمح ويسمح بعملية هائلة لنزع الشرعية عن الخطاب النسبوي ، حتى ولو كان جد معتدل. فمع حقوق الإنسان والديمقراطية، والاقتصاد بالطبع (بفضل السوق)، اجتاحت الثوابت العابرة للثقافات المسرح، ولم تعد قابلة للمساءلة. إننا نشهد عودة حقيقية "للمركزية العرقية" الغربية من جهة والمناهضة للغرب من جهة ثانية. إن عجرفة انتصار تسليع العالم، تمثل بدورها شكلا جديدا للمركزية العرقية. وتشتم من الاتساع المبرمج لتكنولوجيا الاتصال المتطورة داخل القرية الكونية، رائحة قوية للإمبريالية الثقافية. ألا يحمل انتصار العلوم التقنية نفسه، مع نتائجه العملية (تطور تكنولوجيا الأحياء على الخصوص) بذور عدم تسامح جذري وإشكالي للتنوع؟ على خصوم عولمة الغرب أو عولمة الإسلام الليبراليتين، أن يستخلصوا العبر، ويتجنبوا الوقوع في فخ المركزية العرقية المنصوب لهم. فيجب أن نعلم ابتداء أنه لا وجود لقيم تعلوا فوق تعددية الثقافات، لأنه بكل بساطة، لا توجد قيم بمعنى الكلمة إلا ضمن سياق ثقافي معين. فحتى ألد منتقدي العولمة نفسهم، يجدون أنفسهم أسارى عالمية القيم الغربية. فناذرا ما يحاول بعضهم الانعتاق منها. ورغم ذلك لن نبعد آثام عالم السلع الواحد، ببقائنا محبوسين داخل سوق الأفكار الواحد. لا يتعلق الأمر بابتكار ثقافة للعالمية، والتي لا وجود لها؛ بل يجب أن نحتفظ بقدر كافي من البعد النقدي الذي يسمح لثقافة الآخر أن تمنح معنى لثقافتنا. مما لا شك فيه أننا سنكون واهمين إذا زعمنا الانفلات من إطلاقية ثقافتنا، وبالتالي الوقوع في نوع من المركزية العرقية. فهذه المركزية من أكثر ما يشترك فيه الناس في عالمنا. فالخطورة تبدأ عندما نتجاهل هذا الأمر وننكره، لأن هذا المطلق، بالطبع، دائما نسبي.

كان مونتسكيو Montesquieu يحاول بفارسييه (أهل فارس) أن يدفع أوروبا إلى إدراك نسبية قيمها. غير أنه في عالم واحد، خاضع لفكر واحد، لا يوجد فارسيون! وبكلمة، ألا يجب التفكير في استبدال الحلم العالمي الذي فقد نداوته بسبب انحرافاته الشمولية أو الإرهابية، ب"عالمية تعددية"، والتي هي بالضرورة نسبية، أي أن نستبدله ب"ديمقراطية للثقافات" حقيقية، حيث تحتفظ جميعها بمشروعيتها، أو على الأقل بمكانها ؟

===============

1 - L'économie dévoilée, du budget familial aux contraintes planétaires, sous la direction de Serge Latouche, Autrement, Paris, nov 1995, PP. 194-195.

2  -L'occidentalisation du monde, La découverte, Paris 1989.

3  - «En fait, l'expérience carolingienne est à l'origine, ou si vous préférez, elle a confirmé la naissance de la chrétienté et aussi de l'Europe, les deux termes étant alors identiques, comme deux figures géométriques qui, exactement, se recouvrent. », Fernand Braudel, L'identité de la France , tome 2, Arthaud-Flammation, 1986. p. 105.

4- D'une certaine façon, l'économie (et la technique), que l'on présente souvent comme l'autre de la culture ne sont pas à coté de la culture, elles sont notre culture ou plutôt son "tenant-lieu". La culture, en effet, dans la signification pleine que la tradition anthropologique donne à ce terme, est ce qui donne sens à la réalité humaine et sociale. Or, comme l'homme vit d'abord dans le sens, à la différence des autres êtres vivants, la culture est ce qui permet de trouver une réponse au problème de l'être et de l'existence. Nous sommes littéralement immergés dans la culture.

5- Jean Baudrillard, Le mondial et l'universel. Libération du l8 mars l996.

6- Emmanuel Kant, Géographie, Aubier, Paris l999.

7- Jean-Marie Messier, président-directeur général de Vivendi Universal, "Vivre la diversité culturelle" Le Monde du 10/04/2001.

8- Nicole Lapierre, "L'illusion des cultures pures" compte rendu de l'ouvrage de Jean-Loup Amselle "Branchements. Anthropologie de l'universalité des cultures" (Flammarion, 2001), Le Monde du 4 mai 2001.

9- David Rothkopf, "In Praise of Cultural Imperialism?", Foreing Policy, n° 107, Washington , été l997.

10-Bien résumé ainsi par Christian Laval, L'ambition sociologique. La découverte/MAUSS, 2002. p. 427.

11- Herbert I. Schiller, Décervelage à l'américaine, Manière de voir n° 57 Mai-Juin 2001.

12- Ronald Steel, The New York Times, repris dans Courrier International, n° 300 du 1er au 21 août 1996.

13- Camille Tarot, La violence et la mémoire. Un témoignage sur la crise algérienne. Demosthène-CRI, Caen , l996, p. 29.

14- Mohammed H. Benkheira, Le visage de la femme entre la sharî'a et la coutume, Anthropologie et Société, vol. 20, n° 2, l996.

15- Genevève Azam, Libéralisme et communautarisme, Politis du jeudi 20 novembre 2003.

16- Olivier Roy, "Au pied de la lettre" in Manière de voire N° 64 Juillet-Août 2002.

ــــــــــــ

المصدر : مجلة الرائد ، العدد رقم 269 ، ذو الحجة 1430 ، كانون الأول / ديسمبر 2009

http://www.iid-alraid.de

--------------------

هذه الدراسة تعبر عن رأي كاتبها

 

أعلى الصفحةالسابق

 

الرئيسة

اطبع الصفحة

اتصل بنا

ابحث في الموقع

أضف موقعنا لمفضلتك

ـ

ـ

من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ