ـ

ـ

ـ

مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وقولوا للناس حسنا

اتصل بنا

اطبع الصفحة

أضف موقعنا لمفضلتك ابحث في الموقع الرئيسة المدير المسؤول : زهير سالم

الاثنين 24/05/2010


أرسل بريدك الإلكتروني ليصل إليك جديدنا

 

أبحاث

 

التعريف

أرشيف الموقع حتى 31 - 05 - 2004

ابحث في الموقع

أرسل مشاركة


مقارنة بين ظاهرتي التنصير والاستشراق

عبدالكريم بليل

التعريف:

التنصير: نشاط نصراني مُوجَّه لأفرادٍ من مُختَلف الدِّيانات، يقوم به أفراد ومؤسسات بدَوافِع مُتعدِّدة ووسائل مُتَنوِّعة[1].

يُسَمِّيه أهله "التَّبشِير"[2]، والتَّبشِير من البشارة؛ أي: "الإنجيل"[3]، وهذا تَعبِير أطلَقَه رجال الكنيسة على مَن يَقُوم بالدعوة لتَنصِير غيرهم، ثم تَطَوَّر المفهوم حول المسلمين إلى إخراجهم من دينهم، لا إلى النصرانية؛ لكن إلى الفراغ "اللادين"، وهذا نِتاج النَّظرَة العُنصُريَّة الاستِعلائيَّة نحو العرب عامَّة، والمُسلِمين منهم خاصَّة، "ولا يقف التَّنصِير والمُنَصِّرِين عند حُدُود العمل على تَحوِيل عددٍ من المسلمين عن عقيدتهم الإسلاميَّة إلى النصرانية، وإنما يَتجاوَز الأمر هذه الحدود؛ فالتنصير - في حقيقته - إنما يَعتَمِد على (الإكراه) أكثر ممَّا يَعتَمِد على (حرية الاعتِقاد)، وذلك حينما يصل المُنَصِّرون في رِكاب الغُزَاة الغربيين، مُستَظلِّين بحِمايَات قوَّات الاحتِلال، فيصنع الغزو الكوارث ليأتي المُنَصِّرون ليُقدِّموا المُساعَدات باسم "يسوع"، وليُحوِّلوا ضَحايا الغزو عن دينهم ودين آبائهم، لقاء كِسرَة خبز أو جَرعة دواء[4]!

 

الاستِشراق: هو علم الشرق، أو علم العالم الشرقي، وهو تعبيرٌ أطلَقَه الغربيُّون على الدِّراسات المُتَعلِّقة بالشرقيِّين؛ شعوبهم وتاريخهم، وأديانهم ولغاتهم، وأوضاعهم الاجتماعية، وجغرافية بلادهم، وأرضهم وحضارتهم، وكل ما يَتَعلَّق بهم.

وهذا معنى عام للاستِشراق، وهناك معنى خاص: "دراسة الإسلام والشعوب الإسلامية لخدمة أغراض (التَّبشِير) من جِهَة، وخدمة أغراض (الاستِعمار) الغربي لبلدان المسلمين من جِهَة أخرى، ولإعداد الدِّراسات اللازِمَة لمُحارَبة الإسلام وتَحطِيم الأمَّة الإسلامية"[5]، وهو الذي ينصَرِف إليه الذهن في عالمنا العربي الإسلامي، وهو الشائع في كِتابات المُستَشرِقين[6].

 

نبذ الغرب لهذا المصطلح:

إنَّ كلمة (استِشراق) لم تَعُدْ تُستَعمَل في ألمانيا اليوم، بعد صُدُور كِتاب إدوارد سعيد (الاستِشراق) الذي يَمزُج بين الاستِشراق والاستِعمار، فالمصطلح المُستَعمَل اليوم في ألمانيا هو الاستِعراب والدِّراسات الإسلامية.

 

وقال المُستَشرِق برنارد لويس: "إنَّ هذا المصطلح قد أُلقِي به في مَزابِل التاريخ"، فقد رأى الغرب أن هذا المصطلح يَنطَوِي على مَدلُولات تاريخية سلبية، ولم يَعُدْ يَفِي بوصف الباحثين المُتَخصِّصين في العالم الإسلامي، فكان من قَرارات "منظمة المُؤتَمرات العالمية" الذي عُقِدَ في باريس عام 1973، أن يَتِمَّ الاستِغناء عن هذا المصطلح، وأن يُطلَق على هذه المنظمة (المؤتمرات العالمية للدِّراسات الإنسانية حول آسيا وشمال إفريقيا ICHSANA)، وعقدت المنظمة مؤتمرَيْن تحت هذا العنوان، إلى أن تَمَّ تغييره مرَّة ثانية إلى (المؤتمرات العالمية للدِّراسات الآسيوية والشمال إفريقيَّة ICANAS، وقد عارَض هذا القَرارَ دُوَلُ الكتْلة الشرقية من روسيا والدُّوَل التي كانَتْ تَدُور في فلَكِها، ومع ذلك ففي المؤتمر الدولي 35 للدِّراسات الآسيوية والشمال إفريقيَّة في بودابست كان مصطلح "استِشراق ومُستَشرِقين" يُستَخدَم دون أيِّ تَحَفُّظات؛ ممَّا يَعنِي: أن الأوروبيين الغربيين والأمريكيين هم الأكثر اعتِراضًا على هذا المصطلح، وهذا ليُفِيد المُغايَرة؛ بحيث يتَحدَّثون عن المُستَشرِقين ليُثبِتوا أنَّهم غير ذلك، بل هم مُستعرِبون Arabists، أو باحثون في العلوم الإنسانية Humanists، أو مُتخَصِّصون في الدِّراسات الإقليمية أو الاجتماعية أو الاقتصادية التي تَختَصُّ ببلد مُعيَّن أو منطقة جغرافية مُعيَّنة.

 

العلاقة بين ظاهرتين:

عناصر التَّلاقِي:

المنشأ: طَلائِع المُستَشرِقين الأولى من النَّصارَى خرجَتْ من الكنائس والأديِرَة، بمناصب دينية[7]، والبداية (الرسمية) للاستِشراق من "مجمع فيينا الكنسي" سنة 712هـ - 1312م، الذي أَوصَى بإنشاء عِدَّة كراسيِّ لِلُّغات، ومنها اللغة العربية[8]، وكانت هذه التَّوصية قائمة على دعوة المُنَصِّر المُستَشرِق (ريموند لول)؛ لإنشاء كراسيِّ لِلُّغة العربية في أماكن مختلفة، وذكر "رادشل" في كتابه "الجامعات في أوربا في القرون الوُسطَى" أن: "الغرض من هذا القرار كان تَنصِيريًّا صرفًا، وكنسيًّا لا علميًّا"[9].

 

وكان الهدف من هذه الدعوة هو: أن تُؤتِي مُحاوَلات التَّنصِير ثمارَها بنجاح من خلال تَعَلُّم لغات المسلمين[10]، وهذا يَعنِي بتعبير أوضح: "إقناع المسلمين بلغتهم ببُطلان الإسلام، واجتذابهم إلى الدين النصراني"[11]، وفَحوَى هذا ومغزاه: أنَّ التَّنصِير هو الأصل الحقيقي للاستِشراق، "وليس العكس صحيحًا كما يذهب أغلب الباحثين"[12].

 

ثم تَوارَد اللاحِقُون وإنْ لم يكن لهم ارتِباط بالكنيسة رسميًّا، فقد خرَجُوا من الجامعات والمعاهد، ومنهم المُستَقِلُّون غير أن أغلبهم نصارى مَوطِنًا أو هُوِيَّة.

الرِّعاية الكنسِيَّة: الاستِشراق مثل التَّنصِير؛ نالَ رعاية الكنيسة ومباركتها، والدعم المادي والسياسي والمعرفي والحماية، فقد اتَّجهت الكنيسة الغربية إلى التَّنصِير من خِلال الفكر والثقافة والعلم، فكان التَّوجُّه إلى ما نُسَمِّيه اليوم بالغزو الفكري في تحقيق ما فشَل فيه سِلاح الغزو الحربي[13]، هذا الغزو الذي اتَّخَذ من الاستِشراق مُنطَلَقًا له، سعى من خلاله إلى تَشوِيه الإسلام بطُرُق شَتَّى[14].

وهذا ما تَفانَى المُستَشرِقون في إنكاره، وزَعَمُوا أنَّ الكنيسة تُبارِك نشاطهم لكن لا تدعمهم، وبُغيَتُهم إيهام الباحِثين بأنَّهم خارِج فلك الكنيسة، وليسوا المتحدِّث الخفي باسمها، والكنيسة تَرعَى حتى الدِّراسات من الأديان الأخرى التي تُهاجِم المسلمين ودينهم، وإن لم يكن أصحابها من المُنَصِّرين أو حتى من النصارى.

الدَّافِع الديني: يُقرِّر جمهرة الباحثين في الاستِشراق أن الهدف الديني يقف على قِمَّة الدوافع؛ فالاستِشراق والتَّنصِير على جبهة واحدة وإن كان من المُستَشرِقين مَن لا ينتَمِي إلى النصرانية دينًا، ففيهم اليهود، والمُلحِدون، والعلمانيون[15]، وكلٌّ يخدم مذهبَه، كما أنَّ هناك انتسابًا صريحًا للصِّهيَوْنيَّة عند فئة أخرى من المُستَشرِقين؛ ممَّا يَعنِي: أنَّ هناك انتسابًا صريحًا للتَّنصِير عند فئة ثالثة من المُستَشرِقين[16]، فإضفاء الصبغة العلميَّة على الاستِشراق، وصَفاء النيَّة من دعاوى الإيديولوجيات الدينية، وأنه ذو مَناهِج موضوعية ولو كان مُنطَلَقُه من الكنيسة، فهو يُفارِقُها بعد خروجه، مثله مثل "العلمانية المسيحية" فهي ضد الأديان كلها ما عدا دين بابا الفاتيكان، ولم يَعُدْ خفيًّا كيف تَحالَفت الكنيسة مع العلمانية الرأسمالية لاقتِلاع اليسار؛ لأنَّه أراد إلغاء النفوذ الكنسي، وما أكثر المراجع التي تحكي تَحالُفات (الكرسي الرسولي) مع [17]CIA.

والنظرة إلى (الاستِشراق التنصيري) لا تُبنَى من كثير بحث؛ فهم عَلَمٌ بين أولئك؛ ذلك أنَّ فِئامًا منهم لم يَتوَرَّعوا عن قبول اللقب الديني، أو الرتبة الدينية (الأب) أو (الأسقف) أو (البطريرك) أو (المطران) سابقًا للاسم الأصلي[18]، ومن مراميهم للاستِشراق مَقاصِد التنصير؛ إذ منهم مَن وَلَج إليه بُغيَة تَعمِيق فكرة التَّنصِير في المجتمعات الإسلامية[19].

 

ويقول إدوارد سعيد: "ولقد أظهر مُؤرِّخون عديدون أنَّ أقدم الباحثين الأوربيين في شؤون الإسلام كانوا من أهل الجدل في القرون الوسطى، ممَّن كتبوا لتَبدِيد تَهدِيد الحشود الإسلامية وتَهدِيد الارتِداد، وبطريقة أو بأخرى تواصل هذا المَزِيج من الفزع والعداء حتى يومنا هذا في الانتِباه البحثي وغير البحثي المنصبِّ على إسلامٍ يُرَى مُنتَمِيًا إلى جزءٍ من العالم (هو الشرق)، يُوضَع مَوقِع النَّقِيض ضدَّ أوروبا والغرب على الصعيد التخييلي والجغرافي والتاريخي"[20].

العنصرية: وتَكمُن في الشعور بـ(الفوقية) الذي انطَلَق من الكنيسة الغربية؛ باحتِقارِها لكلِّ ما هو "غير بابوي" النِّحلَة والهَوَى، وقد تسرَّب هذا الشعور "رُوَيدًا رُوَيدًا بتأثير وُعَّاظ الكنائس والقساوس والرُّهبان، فخلق فيهم حالة (نفسية استعلائية)، صبغت العقلية الغربية والفكر الغربي في القرون الوسطى"[21].

وتابَع المُستَشرِقون على هذه النظرة "ولم يُكَلِّفوا أنفسَهم تبديلها؛ مع عيشهم الطويل بين المسلمين، أو من زياراتهم المُتَكرِّرة، واطِّلاعهم على القرآن الكريم والحديث الشريف"[22].

 

فاستمرَّ شعورُهم العميق بتَفَوُّق ما لديهم، وموضوعيَّته وعلميَّته، حقًّا كان أو باطلاً، ورمَوْا كلَّ ما لغيرهم بالبُطلان والخُرافَة وعدم المِصداقِيَّة، خاصَّة ما عارَض ما لديهم من دين وثقافة وفكر.

الخلفيَّة المعرفيَّة: كثيرٌ من المُستَشرِقين درسوا اللاهوت قبل التَّفرُّغ لميدان الدراسات الاستِشراقية[23]، وكان همُّهم إرساء نهضة الكنيسة وتعاليمها، لا سيَّما في العُصُور الوُسطَى[24]؛ أي: إنَّ هدفهم كان تَنصِيريًّا واضِحًا، فكأنَّ الاستِشراق إنَّما قام ليغذي التنصير بالمعلومة المنقولة بلغة المُنَصِّر، رغم مُحاوَلات تعميم اللاتينية لغةً للتَّنصِير[25].

النتاج المعرفي: أوائل المطبوعات الغربية باللغة العربية للمُستَشرِقين قد ركَّزت على الكتب الدينية النصرانية، وأوَّل ما طبعته لايدن كان الإنجيل (1569 - 1573م) ويذكر (العقيقي) أن أوَّل كتاب عربي طُبِع في هولندا كان الحروف الأبجدية والرُّموز الخمسين تجربة لها (1595م)[26].

 

التعاوُن المعرفي: اتَّكأ التنصير كثيرًا على الاستِشراق في الحصول على المعلومات عن المجتمعات المُستَهدَفة، لا سيَّما الإسلامية، وخاصَّة عندما اكتَسَب مفهوم التنصير معنى أوسع من مجرَّد الإدخال في النصرانية إلى تَشوِيه الإسلام والتَّشكِيك في الكتاب والسنَّة والسِّيرة وغيرها[27]، فكان فرسان هذا التطوُّر في المفهوم الكنسي هم المُستَشرِقين[28].

 

المَقاصِد المعرفية: من مَقاصِد الاستِشراق الرَّئِيسَة التعرُّف على مَصادِر النصرانية من اللغة العبرية، خاصَّةً بعد انتِشار حركة الإصلاح الكلونية في الكنائس، وقد ساقَتْهم دراسة اللغة العبرية إلى تعلُّم اللغة العربية، وتعلُّم اللغة العربية قادَ إلى الاستِشراق، فاللغة العربية هي لغة دين وثقافة وفكر جاء ليَحِلَّ محلَّ الدين النصراني والثقافة والفكر المُنبَثِقَيْن عن الدين النصراني، فأَوجَد هذا نزعة التعصُّب والعداء التي قادَتْ إلى استِخدام اللغة العربية والعبرية في هذا المنحى "الاستِشراقي الذي اتَّجه إلى الإسلام والعربية، وقد قيل: إنَّك لا تَكاد تجد مُستَشرِقًا إلا أجاد اللغة العبرية والعربية معًا"[29].

وللبُعْدِ عن التَّعمِيم؛ فإننا نعلم من دِراسة سِيَرِ المُستَشرِقين وأنشِطتهم العلمية - لا سيَّما المتأخِّرون منهم - أنهم ليسوا بالضرورة جميعًا من المُنَصِّرين، ولم يكونوا بالضَّرورة مُتَعاطِفين جميعًا مع الحملات التَّنصِيرية، وإن كان من هؤلاء المستثنين مَن قد سَعَوْا إلى تَحقِيق الأهداف الأخرى للاستِشراق؛ كالأهداف الاستِعمارية والسياسية، والتجارية الاقتصادية والعلمية، ولا سيما المُستَشرِقون الألمان في غالبيَّتهم، إذ تتبع أنشطتهم الاستِشراقية التي اتَّسمَتْ بالعلمية أكثر من أنشطة المُستَشرِقين الآخَرين كالفرنسيين[30]، فهم كاثوليك في الغالب، وأكثر التِصاقًا بالتَّنصِير من غيرهم؛ وبالتالي فهم أكثر جِنايةً من غيرهم على المجتمع العربي الإسلامي، بإسهاماتهم المُتَعدِّدة في مُواجَهة المجتمع المسلم، ويُمكِن التوسُّع في هذا الافتِراض بالدراسة المستقلَّة[31].

الخدمات غير المباشرة: وهناك فئة من المُستَشرِقين تعاطَفَتْ مع التَّنصِير وأَعانَتْه إعانةً غير مُباشِرة؛ بتَوفِير المعلومة المطلوبة والتحليل المُرَاد حوْل ثَقافَةٍ من الثقافات أو مجتمعٍ من المُجتَمعَات، وهذه الفئة ليسَتْ من المُنصِّرين الذين مارَسُوا التنصير عمليًّا، ولا ممَّن يَتَعامَل مُباشَرة مع التَّنصِير، على الرغم من أنَّ إسهاماتهم ليست كالمُستَشرِقين الذين خدموا هيئات استِخبارية حكومية بالدراسة المُوَجَّهة والتقارير المقصورة على ما يخدم هذه الهيئات[32].

 

عناصر الافتراق:

الأصل عدم الخلْط بينهما، ونحن مُلزَمون هنا بالإقناع العلمي الذي يُركِّز على الحقيقة العلمية، ويَضعُها بين ناظري المُتَلقِّي للإقناع، فالارتِباط بينهما قائِمٌ على المَصالِح المُشتَركة، والتَّنصِير لم ينتَظِر الاستِشراق ليقوم ويُحَقِّق بعض أهدافه، بل هو سابِقٌ له، وليس بالضَّرورة أن يكون قِيام التَّنصِير لتَحقِيق أهداف الاستِشراق، وكذا الحال يُقال مع ظاهرة (الاستِعمار) في علاقته بالتَّنصِير من ناحية وعلاقته بالاستِشراق من ناحية أخرى، ولن يذهب بنا الموقف من الاستِشراق والتنصير إلى الحدِّ الذي يدعونا أن نُقرِّر أنهما وجهان لعملة واحدة[33]، وأنَّ الاستِشراق تنصير من وُجُوه، والتنصير استِشراق من وُجُوه؛ ذلك أن هذا الإطلاق لا يَتَّفِق مع هاتَيْن الظاهرتَيْن؛ فالاستِشراق ليس كله تنصيرًا، والتنصير ليس كله استِشراقًا، وبالتالي فإنه يُمكِننا القول:

* ليس كلُّ مُستَشرِق مُنصِّرًا، كما أنَّه ليس كلُّ مُنصِّر مُستَشرِقًا، والإحصاءات المتغيِّرة تذكُر أنَّ هناك سبعة عشر (17) مليون مُنصِّر[34]، يعمَلُون وَفْقَ إستراتيجيات بعيدة المَدَى، ولديهم (ميزانيات فلكية)، يُنفِقون منها بغير حساب[35]، وقد تَصِل في بعض الإحصائيات إلى ما يَزِيد عن مائة وثمانين (180) مليار دولار[36]، ولا ينتظر أن نفتَرِض أن هذا العدد كله يدخل في تعداد المُستَشرِقين؛ إذ لا يتوقَّع أن يكون هناك مُستَشرِقون بالملايين[37].

* التنصير ميدانه المُحِيط الكنسي، والاستِشراق مُحيطُه الجامعات والمعاهد ومَراكِز البحوث الأكاديمية.

* يَهتَمُّ المُنَصِّرون بالتعليم من دور الحضانة للأطفال إلى الثانوية للفتيان، أمَّا المُستَشرِقون فخِطابهم للجامعيين والباحثين والطبقة المُثقَّفة.

* التنصير ذو طابع دعوي جماهيري يَهتَمُّ بالطبقات الفقيرة والأميَّة والأطفال، قائم على الجمعيات والخِطابات الوعظيَّة والدُّروس التنصيريَّة، أمَّا الاستِشراق طابعه أكاديمي علمي يُرَكِّز على الطبقة المُثقَّفة، يَتَحرَّك في المُؤتَمَرات والنَّدَوات والجمعيَّات العلميَّة، وينشط بالمحاضرات في الجامعات والمعاهد والنوادي الثقافية والعلمية.

* يَهتَمُّ المُنَصِّرون بأعمال الإغاثة والخدمات الصحيَّة ورعاية الأيتام والعَجَزَة، وبِناء المستشفيات، وإرسال الأطبَّاء والعيادات المتنقِّلة، بينما يَهتَمُّ المُستَشرِقون بإنشاء كراسيِّ التدريس في الجامعات الغربية والإسلامية، وإنشاء مراكز البحث.

* يَتحَرَّك المُنَصِّرون بشكل جماعي عبر الإرساليات التنصيرية، أمَّا المُستَشرِقون ففُرادَى لا يجمعهم غير المؤتمرات والندوات الحوارية.

* يَتَلقَّى المُنَصِّرون الدَّعْمَ المالي الكنسي والتبرُّعات الفردية، أمَّا المُستَشرِقون فيتلقون الدعم الحكومي الرسمي العلَنِي أو السرِّي.

* يَتَعامَل المُنَصِّرون مع المرأة المسلمة بواسطة الراهبات والجمعيات النِّسوِيَّة، ومدارس البنات، والندوات الخاصَّة، أمَّا المُستَشرِقون فبينهم وبينها المؤلفات والنوادي الثقافية.

* ينشط المُنَصِّرون في نشر المطبوعات الدينية والملصقات وبعض الكُتَيِّبات، في حين يُرَكِّز المُستَشرِقون على الموسوعات العلمية (زعموا)، والدراسات الأكاديمية، والبحوث.

* تُعَدُّ تَقارِير المُنَصِّرين مادَّة ميدانية تجريبية، في المُقابِل تُعتَبَر دِراسات المُستَشرِقين مادَّة نظريَّة تحليليَّة للحكومات الإمبريالية.

* يمتَلِك المُنَصِّرون القنوات التلفزيونية والإذاعات، والمجلات والصحف، والنوادي الرياضية والترفيهية والثقافية، والمُستَشرِقون عملهم مع المجلات والصحف، والحصص التلفزيونية والإذاعية.

 

خِتامًا:

هذا مُجمَل ما تَراءَى لي من الفَوارِق، وكلاهما تَداعَى على المسلمين تَداعِي الأكَلَة على القصعة، فما لم يلقمه ذا تلقَّفه ذاك، والفِراق بينهما مثله اختلاف السرَّاق على الغنيمة، وإلا فكلهم كاد ولو بزلقة عين، ومَن قيل عنه: موضوعي، فستجده أسلم بعد حين[38]، أمَّا ما يُرمَى من فُتات المديح بين ثَنايَا الموسوعات، فليُتصيَّد به عُقُول الحمام، يشهرون بالمسلمين من أعالي الصَّوامِع، ويُطرُون عليهم بشيء من الكَلِم في السَّرادِيب.

ــــــــــــــــ

[1] "التنصير في العالم العربي"؛ عبدالفتاح إسماعيل غراب، ص12.

[2] سيكون مصطلح (التنصير) هو المُستَخدَم هنا بديلاً لمصطلح (التبشير)، وكلَّما ورد المصطلح الأخِير في هذا البحث فإنما يَرِدُ في نصٍّ مُقتَبَس.

[3] "المسيحية"؛ أحمد شلبي، ص172.

[4] "الفارق بين الدعوة والتغيير"؛ محمد عمارة، ص4.

[5] "أجنحة المكر الثلاثة"؛ عبدالرحمن الميداني، ص 50، بتصرُّف.

[6] "الاستشراق"؛ زقزوق، ص 24، 25.

[7] "الظاهرة الاستشراقية وأثرها على الدراسات"؛ ساسي سالم الحاج، ص 37 - 48.

[8] "الاستشراق"؛ إدوارد سعيد، ص 328.

[9] "المستشرقون الناطقون بالإنجليزية"؛ عبداللطيف الطيباوي، ص 183.

[10] "الإسلام والاستشراق"؛ تأليف نخبة من العلماء المسلمين، ص 71 - 102.

[11] "الاستشراق والخلفية الفكرية للصراع الحضاري"؛ محمود حمدي زقزوق، ص 35.

[12] ساسي سالم الحاج: "الظاهرة الاستشراقية"، ص 44.

[13] سعيد عبدالفتاح عاشور: "بحوث في تاريخ الإسلام وحضارته"، ص 12.

[14] انظر مثلا: "أضواء على مواقف المستشرقين والمُبَشِّرين"؛ شوقي أبو خليل، ص 264.

[15] يُتَرجِم نجيب العقيقي لميشيل أماري على أنه: "صورة حيَّة للاستِشراق العلماني"، انظر: نجيب العقيقي: "المستشرقون"، ص 219 - 221.

[16] يُؤكِّد محمد بن عبود في: "الاستشراق والنخبة العربية" على أن بعض المستشرقين اليهود قد أعلنوا انتماءهم الصهيوني بصراحة مثلما فعل (برنارد لويس) ويُؤيِّد (مازن المطبقاني) هذا الزَّعْمَ بدلائل تُؤَكِّده؛ الاستِشراق والاتِّجاهات الفكرية في التاريخ الإسلامي، برنارد لويس، ص 72 - 73.

[17] "الفاتيكان والإسلام"؛ زينب عبدالعزيز، ص8.

[18] "المستشرقون والتنصير"؛ علي بن إبراهيم النملة، ج1، 7.

[19] الاستشراق والاتجاهات الفكرية في التاريخ الإسلامي: مازن بن صلاح مطبقاني. ص 29.

[20] "تعقيبات على الاستشراق"؛ إدوارد سعيد، ص 119.

[21] "الاستشراق بين الموضوعية والافتعالية"؛ قاسم السامرائي، ص 50.

[22] المرجع نفسه، ص 51.

[23] "المستشرقون وبعض قضايا التاريخ"؛ نبيه عاقل، ص 168 - 199.

[24] "الاستشراق والمستشرقون"؛ عدنان محمد وزان، ص 17.

[25] "تاريخ حركة الاستشراق"؛ يوهان فوك، ص 368.

[26] نجيب العقيقي: "المستشرقون"، ص302.

[27] "الاستشراق في ميزان نقد الفكر الإسلامي"؛ أحمد عبدالرحيم السايح، ص 17.

[28] "الاستشراق في خدمة التنصير واليهودية"؛ علي بن إبراهيم النملة، "مجلة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية"، ع3، ص 237 - 273.

[29] "التبشير والاسشتراق"؛ محمد عزت إسماعيل الطهطاوي، ص 45.

[30] راجع: "الحركة التبشير الفرنسية في الجزائر"؛ خديجة بقطاش.

[31] "المستشرقون والتنصير"؛ علي بن إبراهيم النملة، ج1، 21.

[32] من أمثلة ذلك القريبة المُتَداوَلة والمنقولة إلى اللغة العربية ما صدر من كتاب عن "الأصولية في العالم العربي"؛ لرتشارد هرير ديكميجيان، ISLAM IN REVOLUTION: FUNDAMENTALISM IN THE ARAb WORID، وطبعته جامعة ساراكيوس سنة 1985م، ظهر في 308 صفحة، ويَذكُر المؤلف في تمهيدٍ للكتاب - ص 13 - أن أصله ظهر على شكل تقرير لحكومة الولايات المتَّحدة الأمريكية.

[33] "فلسفة الاستشراق وأثرها في الأدب العربي"؛ أحمد سمايلوفيتش. ص125 - 139.

[34] كفى الله المسلمين كيدهم.

[35] "التنصير والاستعمار في إفريقيا السوداء"؛ عبدالعزيز الكحلوت، ص 38.

[36] "التنصير في الأدبيات العربية"؛ علي بن إبراهيم النملة، ص 15.

[37] المستشرقون والتنصير: علي بن إبراهيم النملة.ج1، 28..

[38] راجِع: "إظهار الحق: قساوسة وعلماء ومستشرقون أشهروا إسلامهم، لماذا؟"؛ محمد عبدالحليم عبدالفتاح.

- "نماذج حيَّة للمُهتَدِين إلى الحق: علماء ومُفكِّرون وأدباء وفلاسفة أسلموا"؛ الحسيني الحسيني معدى.

ـــــــ

الألوكة 17/5/2010

--------------------

هذه الدراسة تعبر عن رأي كاتبها

 

أعلى الصفحةالسابق

 

الرئيسة

اطبع الصفحة

اتصل بنا

ابحث في الموقع

أضف موقعنا لمفضلتك

ـ

ـ

من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ