ـ

ـ

ـ

مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وقولوا للناس حسنا

اتصل بنا

اطبع الصفحة

أضف موقعنا لمفضلتك ابحث في الموقع الرئيسة المدير المسؤول : زهير سالم

الخميس 22/05/2008


أرسل بريدك الإلكتروني ليصل إليك جديدنا

 

أبحاث

 

التعريف

أرشيف الموقع حتى 31 - 05 - 2004

ابحث في الموقع

أرسل مشاركة


ظواهر الفوضى والعنف

واشكالية التخلف في المجتمع الفلسطيني

 ومجتمعات المشرق العربي

دراسة حالة فينومينولوجية ونفس اجتماع  

(4)


بقلم : علي نجم الدين

الفصل الرابع

العنف...نهاية الفوضى

نحن قوم لا توسط بيننا         لنا الصدر دون العالمين أو القبر

"أبو فراس الحمداني"

 1:4– فوضى الذهنية القبلية ( العصبية - Gregariuos) والعنف - Voilence :-

 

ربما يكون لهذا العنوان صلة بما سبقه فبرغم الآواليات والآليات الدفاعية التي يتبعها الفرد العربي لحل مأزقه الوجودي المجبول بالفوضى والجهل والتخلف…( والعنف) إلا أنها لم تخلّصه من ذلك الواقع ، بل منحته أداة ووسيلة للتكيف وعجنته بنمط عضلي وأفكارا منمّطة على حساب النمط الدماغي وحدّت من استخدامه للعقل كمعطى ...وقولبته بجمدة متوارثة ( تخشّب وشلل وجمود - Paralysis ) يتجسد في الإعراض عن العالم وإدارة الظهر له ، بالإضافة... إلى توقف الجهاز الحركي الذي يؤدي إلى العناد الذهني وتفشي العدوانية خاصة إذا كان ذو عصبية/ اختزالية ، وإبراز نفوذ الجماعة المتألقة على حساب تذويت النفس وشحنها بفعل تعبيري شكّل سلوكه ، وخاصة في مرحلة الاستجابة الحرجة- ما قبل تفجّر العنف - التي استخدمها ويستخدمها في كل آن… وهي المرحلة التي تدفعه للعنف…( ولم تمكّنه ) – التشديد من عندنا - من تغيير بيئته وظروفه السببية… وراكمت لديه مخزون وارث ثقيل من القلق والهروب والاستسلام والتوتر… لكن لا مفر من وسيلة لتفريغ هذا التراكم (المرجل - Boiler) الذي يغلي داخليا وخارجيا وقابل للانفجار في أية لحظة ، ولا بد من وسيلة للتصريف (أو للتخفيف - Catharsis ) منه ولكن كيف…؟ ..بالعنف والقتال .. ( بركات ، 1996، ص/ 321- 358) … وسبب ذلك (العنف والعدوانية ) ناجم عن .. فوضى القيم …ومكونات الثقافة ورموز ومعتقدات وتقاليد وعادات متوارثة" حيث يكمن ( فيها) – التشديد من عندنا – سر توارث الأمراض (الاجتماعية) -التشديد من عندنا - وخاصة الفوضى ..؟ ( بركات ، 1996، ص/ 323) و(حجازي ، 1998، ص/ 158 ) .

 

فالعنف إن لم يكن كالفوضى فهو من نتاجها في المجتمع المتخلف ، وهو انحراف سلوكي يعني عدم التماثل مع الدور والمكانة الاجتماعية للفرد بغض النظر عن المعايير والقيم الاجتماعية ، وهو .. إما خفي أو ظاهري…(مقّنع خوفا من ردود الفعل ومنعا من زيادة القمع نتيجة العجز، وهو موجه إما للذات أو للخارج)... وإما رمزي … ويتمثل في السلوك الجانح والهادف إلى خرق وتجاوز قوانين المجتمع والسلطة ، وهو(العنف)… دائم الوجود العام ، ويضع الفرد والمجتمع في حالة استنفار دائم لأتفه الأسباب… وعدم التفاهم وفقدان التوازن في تغيير الواقع ، وعدم وجود الضبط والانضباط والمراقبة الاجتماعية من قبل المجتمع أومن قبل مؤسسات الدولة (السلطة )… حيث ينتشر العنف اللفظي والفعلي والأداتي (كالسكين والسلاح الناري ) أو تخريب الممتلكات …ولكن أخفها…(آليات العنف )…بالألفاظ وهذا في أحسن الحالات .. (حجازي ، 1998،ص/ 304 ) و( معن خليل عمر ، 1998، ص/174 ) .

 

وهو يعني أيضا اختراق قوانين وقواعد المجتمع السائدة بسبب التنشئة والتغيرات الاجتماعية ، بالإضافة للمعوقات الذهنية والجسمية( العضلية) والاجتماعية والعاطفية وهو أيضا على.. نوعين ظاهري بسبب الصراع الثقافي ، ولحظي ( آني ) وليس دائمي .. ( معن خليل عمر ، 1998 ، ص/ 176) .

 

لذا فالعنف سلوك جانح ومنحرف ومنغرس في طبيعة الإنسان الحيوانية .. لتلبية وتأمين الحاجات والمتطلبات الغريزية كالتملك والأمن والسلطة والنفوذ .. نتيجة التفاوت في نظام المكافآت المادية والمعنوية بين الأفراد والجماعات …أي إن العنف مرتبط بأفراد وجماعات في الغالب يكونون مختلين عقليا أو متعصبين بشكل أعمى ، لذا فهناك عنف فردي وعنف جماعي ويكون بصور مختلفة… جسدي أو مدمر وهو إما منظّم أو غير منظّم ، فالأول يشمل مثلا العنف الطبقي أو الديني – الطائفي- وهو مشروع ..( معن خليل عمر ، 1998 ، ص/177)…وحتى هذا النوع غير مسموح به في عرف المجتمع والنظام العربي ، حتى وان كان هناك عنفا مشروعا فانه يقمع بقسوة وبشدة بهدف التنكيل واخذ العبر ، تماما كما حدث للجماهير العربية في القاهرة وعمّان وتأثرها بما سمي في حينه بـ(هبة الأقصى) التي اندلعت في مناطق السلطة الفلسطينية أواخر أيلول/تشرين أول لعام /2000، فما جرى في العواصم العربية كان عنفا أليفا ومخمليا خجولا اشتمل على (مسيرات ومشاركات خجلة ودفع بلاء أمام غضبة الجماهير العربية وانتصارها للفلسطينيين)… والغريب أن هذه الجماهير حركتها الفضائيات ولم تحركّها الأنظمة كما حدث في مسقط والكويت وأبو ظبي وصنعاء وباقي عواصم أنظمة الحكم العربي ، والتي اكتفت بفتح أجربتها وقدّمت عدة ملايين من الدولارات لتعويض الفلسطينيين ، بالإضافة لإرسالها لبعض شحنات من الأدوية والطحين والزيت والعدس والفول عبر مطارات الأردن ، فالهدف من هذه الاستعراضات الكاذبة هو للبرهنة أمام وسائل الإعلام…على أن هذه الأنظمة – ولو أنها هشة ولا تتفاعل مع الحدث العربي ، بل ولا تحتمل سماعه ، وتحاول جل اهتمامها عدم بث أو إذاعة الحدث عبر وسائل الإعلام – ألا أنها تفاعلت من باب المجاملة والمزايدة وتلميع سمعتها أمام سياسات التطبيع مع إسرائيل ، واللهاث وراء إقامة علاقات ديبلوماسية معها ، مما حتم عليها( حياء واستعراضا) أن تطّعم نفسها بشيء من الوطنية والاستجابة القومية مع الأشقاء الفلسطينيين من جهة ، وتجنبا من اندلاع أعمال عنف وشغب وتفجيرات في عواصمها كما حدث في اليمن والأردن والقاهرة … !

 

لنرى كيف يتعايش العنف والقبلية في غياب القانون وما يولده من تذمر وسخط وفوضى ( تأكيدا لما قلناه) وكيف زحف هذا التعايش للمدينة ، فنتيجة لمقتل فتاة من مخيم الأمعري بإطلاق الرصاص عليها في وسط مدينة رام الله على خلفية نزاع عائلي ، فان مجلس بلدية البيرة .. يأسف على ما آلت إليه الأوضاع في المدينة من تسيب وتدهور …وما ترتب على ذلك من فوضى أدت إلى تخريب وتدمير للممتلكات العامة وخاصة الإشارات الضوئية …بالإضافة إلى وقوع خسائر جسيمة ومؤلمة ماديا ومعنويا تبعث في النفس الحسرة والأسى والشعور بعدم الطمأنينة …ويناشد المجلس البلدي ألا تتكرر مثل هذه الأعمال …ووضع حد لمن تسول له نفسه العبث بمقدراته وإنجازاته .. ( الحياة الجديدة ، 8/7/2000، ص/1) …ولنأخذ مثلا آخر على ذلك وهو طبيعة آلية حل القضايا في المجتمع البدوي فالصيغة العامة لحلها…هي الصيغة الجزائية... (الفورية) أي الاعتداء أو الرد عليه بمثل ما اعتدي … من دافع إطفاء النار ( الغل - Malevolence ) والاعتزاز بالكرامة والكبرياء المرتبطة بالقبيلة والعشيرة التي قدمت الخدمات والحماية والخيرات … بغض النظر عن صنف وطبيعة ونوع القضية ( مثار النزاع أو العنف )… فالقضاء العشائري يهدف...( التل ،1999، ص/ 6-8 )… و( يدّعي) – التشديد من عندنا- والحالة هذه إلى وضع الحد وعدم استفحال الجرائم والمخالفات ضمن المجتمع العشائري … وهذا له صلة وعلاقة من واقع التفاعل ( الايكولوجي - البيئي ) للفرد القبلي ضمن بيئته المعيشية في الصحراء التي تفتقر إلى الأمن والأمان ، ولنفس الأسباب نبني استنتاجنا في التمسك بضرورة تطبيق العرف والقانون والحق العشائري في المجتمع المدني حاليا بسبب ازدياد حالات العنف من جهة ، ولإيقاع اكبر الخسائر على المعتدي بدافع الانتقام والتشّفي ، والاهم من ذلك هو عجز وضعف إن لم يكن انعدام الأمن والأمان وإهمال القوانين والتقاعس عن تطبيقها في مجتمع المدينة ، حيث أصبحت ( المدينة) لتشعب واتساع مشاكلها وقضاياها من جهة ، ولجهل ساكنيها بدراية وخبرة القضاة العشائريين القادمين من البادية والريف والأقل من سكان المدن تحضرا وثقافة وعلم ، ساحة تفريخ - Propagation ، بل واغلبيتهم الساحقة أميين وجهلة ومحترفي نصب واحتيال – Plunderage وعاطلين عن العمل ... بامتهان القضاء العشائري ودخلاء عليه من لابسي العباءات .. ( الحياة الجديدة ، 10/6/2000،ص/6) … بحجة ( ضبع وترهيب ) أهل المدينة ، فمن يطالع الصحف اليومية في اغلب دول العالم العربي يرى (صك عطوة أو صلح عشائري ) بين عائلتين أو اكثر في المدينة أو العاصمة الفلانية كإعلان مدفوع الأجر ، ولم نرى صلحا أو عطوة بين العائلات الريفية أو البدوية منشورا في الصحف إلا نادرا... فمن هنا ينبع السؤال… لماذا يتم الإعلان عن صك الصلح والعطوة العشائرية في الصحف عندما يكون الأمر متعلقا بقضايا مجتمع المدينة...؟

 

وهناك صك أخر غريب وعجيب وهو صك إعلان الطلوع العشائري كما حدث في مدينة غزة وغيرها من المدن العربية وبمباركة النظام السلطوي السائد ، وهو صك طلوع – يعني اجلاء وطرد وابعاد- Exile ...عن بعض الأقارب …وذلك جهارا نهارا وعلى رؤوس الأشهاد وحسب النظم المعمول بها عشائريا وقرويا … وبذلك اصبح الطلوع وقعود النوم شاهرا ظاهرا ومستوفى المراسيم والشروط المطلوبة… وبهذه المناسبة تتقدم عائلة… بالشكر والتقدير إلى قسم العلاقات العامة في إدارة شؤون العشائر في مكتب الرئيس…( طبعا رئيس السلطة الفلسطينية …! )…( الحياة الجديدة، 11/7/2000،ص/3) … بالإضافة إلى براءة من الدم والهم وهي التنصل من أحد الأفراد وذريته ، فتصور عزيزي القارئ ان العائلة المطرودة وتنفيذا لقرار الطرد الصادر بحقها ممن يسمون انفسهم قضاة عشائريين وبمباركة من الرئيس عرفات يتقدمون بالشكر الجزيل على هذه الطردة والجلوة ...!

إننا نلاحظ شدة العرف والقانون العشائري في التطبيق كما أسلفنا خاصة في وضع اختلاف أنماط المعيشة والتركيبة الاجتماعية مثل تجزئة المجتمع بين ريف وبدو ومدن ولاجئين … وخاصة في حالة عجز مؤسسات السلطة عن تطبيق القانون والحفاظ على الأمن كما أسلفنا من جهة ، ومن خلال النظرة المتبادلة كل للآخر ، والتي تنم عن الاستعلاء والتشفي والانتقام … وبسبب سوء التنوع والتمايز الطبقي في المجتمع العربي والفلسطيني خاصة …( والذي يعكس عدم الوصول إلى الاندماج الاجتماعي وتعزيز أنسنة المجتمع ، وعكس هذه المعطيات ونتيجة للأزمات المتراكمة والوهن الفردي والشخصي ، تصبح القيم والمعايير الاجتماعية عديمة الفائدة وخاصة في ظل غياب آليات الضبط الاجتماعي وسلطة القانون.. فتتكرر المنازعات وتنعدم وسائل التفاهم وتنظيم العلاقات حتى بين عائلتين أو اكثر من نفس الفئة أو الشريحة للطبقة الاجتماعية … فيعّبرون عن سلبيتهم بطرق عدة منها الجرائم وخرق القوانين…(بالفوضى)…أو التستر بالدين أو بالطائفة أو بالقبيلة- العصبية - .. (عبوشي ، 1980 ، ص/ 243) .

 

ويسهب مصطفى حجازي في مؤلفه ( التخلف الاجتماعي - سيكولوجية الإنسان المقهور) في وصف مظاهر العنف كمظهر من مظاهر الفوضى والتخلف الاجتماعي ، بل ويبدع في ربطه (العنف) بمسببات اجتماعية - نفسية مرضية .. كوسيلة أخيرة في يد الإنسان المتأزم والمقهور وإعادة الاعتبار إلى الذات المفقودة والتبخيس الوجودي والشعور بالفشل…( باتباع سلوك وسيلي يعكس الإفراط العاطفي وانثلام السمعة كارتداد نكوصي يعكس الفشل في مواجهة معايير وقيم ومتغيرات المجتمع ، وخاصة في حالة النسق المغلق والذي يعتبر مفتاح الوظائف في شرعنة وتبرير السلوك الالتفافي...– النكوصي كالمجتمع العربي )-التشديد من عندنا -… في سبيل الاعتراف بكيانه وقيمته في محاولة لإقناعهم (الجماعات الأخرى).. (حجازي ، 1998 ، ص/ 148- 162) …والنيل منهم بشكل خفي (وتحذيري ) أو بشكل علني عبر نشر إعلان تهديد او بصك عطوة او صلح في الصحف المحلية .. كاتجاه إنصافي.. وإحساس بالغبن لتبرير فعل دفاعي مشروع ، وكتخليص للحق المهضوم والكرامة المستلبة جراء انعدام الكفاءة والمكانة الاجتماعية والغبن المفروض على الفرد ، والذي يتحول إلى المثلنة (الندية) بتوجيه العدوان إلى أفراد جماعة غريبة حتى لو من داخل مجتمعه ، جراء العصبية العمياء والتهميش الذي يعانيه ، ليثبت على انه ليس لقمة سائغة أو حيطة واطية أمام الغير أو أمام الأقارب ، وان تهاون الفرد او تقاعس عن هذا الاجراء او ابدى تسامحا ، فان ذلك يجر العار على القبيلة أو الحمولة ، حيث يقوم أحد أو جميع أو كبير عائلة … بنشر إعلان البراءة وعدم المسؤولية التامة عنه...وليسوا مسؤولين عن جميع تصرفاته وأعماله قانونيا وعشائريا .. ( الحياة الجديدة ، 6/6/2000،ص/9) .

 

وهناك رأي أخر حول تحبيذ الإنسان ( الفرد ) للعنف وهو فشله .. في تغيير الواقع سلميا ومحاولة تنفيس المكبوت تاريخيا نتيجة...( تراكم ارثي ) بالانتقام والثار والعدوانية … خاصة إذا كان هناك دعم سياسي واقتصادي وعسكري وثقافي تأمينا لمصالحه وطلبا للسلطة … وبهذا يصبح المجتمع عرضة للعنف والتطرف والفوضى والانفعال اللاعقلاني والاستغلال في ظل (العصبية)… ويمثل هذه الصورة واقع الصراعات والانقلابات واستلام السلطة كوسيلة خلاص على مستوى النظام العربي… فكيف بباقي فئات وقوى المجتمع الأخرى والتي لا تمتلك قدرات وإمكانيات الدولة ...؟ ... ورغم ذلك فهناك عنف وثأر وعصبيات نتيجة تخلف قيمها .. (قباني ، 1997 ، ص/ 86- 87 ) .

 

فحتى المسؤول والإداري في السلطة والمؤسسة الرسمية فانه .. يلجأ إلى إدارة الصراع... (والعنف) ..عن طريق التلويح بالمنصب والارتكان إليه … على مرءوسيه ..( وهذا ما نلمسه حاليا في السلطة الوطنية الفلسطينية خاصة عندما يكون هذا المسؤول مدعوما من فصيل أو حزب الأغلبية في السلطة كصاحبة مشروع سلامي من جهة  ، واعتبار الوطن ومن عليه قطيعا تمتلكه وكأنه ضيعة لها) – التشديد من عندنا - (غسان سلامة وآخرون ، ج2 ، 1989 ، ص/ 600 ) .

 

وهناك العنف ضد المرأة والذي تحدثنا عنه في صفحات سابقة وخاصة في المجتمع المدني والعشائري ، حيث يعتبر موضوع العادات الاجتماعية- Social Norms … موضوعا شائكا من حيث التحديد ( كقضايا التحرش الجنسي ، والاغتصاب ) وتسوده الفوضى .. بسبب تعبيرها عن السلوك الجمعي في التفكير وأساليب الناس ، وتمثل شكلا متصلا تتداخل أجزاءه مع بعضها البعض (والغريب ) – التشديد من عندنا - أن العادة تتحول إلى عرف وسنة وآداب وطقوس وبدع … تبعا لوظائفها الاقتصادية والاجتماعية والضبط التنظيمي … وهي مترسخة الجذور … فلا يستطيع أحد الإفلات أو التخلص أو التحرر منها ، لانتقال بعضها بالوراثة أو بحكم الضرورة القاهرة … فرغم تغلغل الدين في النفوس ، إلا أن الأعراف والتقاليد وخاصة الآمرة منها تكون ذي سلطة قوية وسيد مطاع …-والقوة – واقتصاديا... (كالغنائم والأموال التي تدفع أو تسلب ) واجتماعيا - كالمكانة -... بين القبائل.. (التل ، 1999، ص /28- 35 ) … وهذا ما نسميه بالسؤدد ، والذي يعكس نمط ذاكرة صماء تتوافق مع شبكة التبادل الوظيفي بين الفرد والقبيلة ، ضمن صيغة (ونمذجة) سلوك تبريري معزز ومؤسس على علاقة دمجية – ذوبانية والتي من شانها أن تعجن وتوجد الجماعة القطيعية والتي نسميها بالعامية ( الفزعة أو العزوة ) .

 

وحتى لو افترضنا أن الحكم في هذه القضايا وغيرها سيكون للشريعة أو للقانون الوضعي ، فان ذلك يدعو للسخرية وعدم احترام القرارات الصادرة أن طالعنا القرارات الصادرة وخاصة بالصحف المحلية بتمعن … فهناك قصص يختلط فيها المشهد الجرمي (لفظي أو فعلي ) بالمعنى القانوني ، ويتجسد ذلك في مجتمع المجرمون والهامشيون في المدن العربية حيث يبدأ العنف (اسريا وعائليا) من .. البيت وعلاقة الأبوين ومشاكلهما والطلاق وتعدد الزوجات والأزواج ، فتبدأ مرحلة التشرد والسرقة وهتك العرض والدعارة والتهريب - Smuggle ...( المخدرات وترويجها ) – التشديد من عندنا -… وسرعة سحب الموس (الشفرة ) والتشطيب القاتل …وعندما يقعون بيد القانون أو الشرطة يتحدثون بمرارة عن الفقر والجهل والوضع العائلي ، فترى صورا من قبح المنظر والجرأة في الإساءة والاستعراض الكاذب الذي يعكس سلطة الشارع والعصابات والشللية التي تشكّل عالم المهمّش وأسرته ، فمن هنا تنبع بطولاته وتتجلى العلاقات بينهم ( المهمشين )… في أخر الليل في النوم كالأغنام وممارسة اللواط والاغتصاب وتعاطي المخدرات (والشم ) وحياة المقابر ودور السينما والمقاهي والأزقة المظلمة ، ناهيك عن الجنس القرابي والانحرافات والشذوذ … وفي النهاية نراه يطلق لحيته ويتوب ويتصّنع اتباع طرق ودروب الهدى والتوبة والرشاد ، إلا انه يعود مرة أخرى ويهجر المسجد والدين …ويعود لسيرته الأولى …في العنف والإجرام وهكذا سلسلة لا تنتهي…( من الفوضى والعنف )  – التشديد من عندنا - (الخفاجي ، 1993 ، ص/ 171-184 ) … ولمزيد من التفاصيل هناك حالة مصر(أبعاد هامشية) لثروت اسحق وكذلك ( قاع المدينة ) لسهير سلطي التل ، ص/168- 199)…إذ تشتملان على وصف لحياة الليل في عمان والقاهرة…وهذه الظاهرة –المشكلة- تعتبر من صميم نسق الجماعة القطيعية التي تتصف بالعدمية – المشاعية و الفوضوية –الاستباحية … لنأخذ مثلا الأخبار المنشورة في الصحف العربية المحلية كاستدعاء شرطة رام الله والبيرة وقلقيلية ونابلس وجنين .. لعدد من المشبوهين للتحقيق معهم في قضايا إطلاق النار وإتلاف مال الغير والسرقة والسكر المقرون بالشغب ، والإيذاء والتزوير ومحاولة الانتحار ودخول مساكن الغير والنصب والاحتيال وحوادث السير وحيازة المخدرات وتم تحويلهم للمحكمة لاتخاذ الإجراءات القانونية بحقهم ..( الحياة الجديدة ،9،10/5/2000، ص/4) .

 

أما العنف المقرون بجرائم القتل بحجة انتهاك شرف العائلة أو ادعاء الجنون أو الشك في سلوك فتاة أو بسبب مياه الري ، فهو منتشر في جميع أوساط المجتمع العربي لأسباب مختلفة كما أسلفنا ، كجريمة .. ذبح طفلة صغيرة بالسكين بادعاء الجنون .. الحياة الجديدة ، 20/5/2000،ص/26)…وجريمة امرأة ..خنقت ابنتها لشكها في سلوكها … علما بأن الفتاة كانت (عذراء ) بعد إجراء التشريح ( الحياة الجديدة ، 20/5/2000،ص/27)…وقضية .. أب يخنق ابنته ثم يقطع جثتها إلى 8 قطع … وعند التحقيق مع الأب أجاب... النار ولا العار ..( الحياة الجديدة ، 6/5/2000، ص/26) … وكل هذه الحوادث الإجرامية وقعت في القاهرة ، والأغرب من ذلك ..عراقي يقتل شقيقه بسبب الخلاف على قسمة مياه السقي … حيث تشهد البلاد - العراق - موجة من .. الجفاف ينذر بخطر كبير على الموسم الزراعي والحيواني ..( الحياة الجديدة ، 9/5/2000، ص/19) .  

 

إذن هناك عنف وكل عنف برأينا له عالمه ، فهناك عالم العنف الطبقي … وعنف الطبقة الحاكمة والطبقة البرجوازية وعنف الطبقة الوسطى وعنف الطبقة الكادحة وعنف لطبقة المهمّشين وهو من اخطر أنواع العنف ، ويعتبر المجتمع والأسرة والقانون -بعدم تطبيقه- والدولة وعدم مسئوليتها ورعايتها لمواطنيها والعادات والتقاليد والأمراض النفسية ، من الأسباب الرئيسية المؤدية للفوضى التي تنتج العنف ، والذي يتوقع حليم بركات أن نتخلّص منه بالنهضة وبتحقيق خمس غايات هي .. القضاء على التبعية وإلغاء الطبقية وإنجاز الوحدة والتخلص من الاغتراب وتحقيق الحرية والعدالة .. (بركات ، 1995 ، ص/ 458-460 )… بالإضافة إلى آلية التنفيذ والتطبيق ، إلا أن  بركات لم يلّمح إلى قضية تغيير المجتمع وإعادة بناءه وتركيبه بمجتمع جديد نقي وسليم عند التنفيذ والتطبيق كما طرح دويري ، من اجل الإصلاح الإنساني ضمن بيئته البشرية بطرق التغذية المستقبلة والمسترجعة ، بغية التحكم في الفعل الاجتماعي من جهة ، ومأسسة قيم مشتركة وتنمية المهارات المعرفية التي تعّد من صلب نظرية العقيدة الاجتماعية من جهة أخرى ، والتي تعّبر عن ثقافة سلوكية وذهنية تعويضية وتذويت الذات وتقديرها والتمرس على ضبط النفس والحيلولة دون تمفصلها حول عصبية أخرى من جديد ... من كل ما سبق يتقاطع نمط التخلف المغروس في أعماق …التجربة واللاشعور …والذي تجسّده …الأحوال المعيشية (ونمط المعيشة) …ومستوى الإدراك المرتبط بالذهنية ..( شرابي ، 1999، ص/88) …ان ذلك يعكس مسألة الصور والمشاعر المتبادلة بين طبقات المجتمع المحكوم .. بأنماط معيشية مختلفة .. ( بركات ، 1996، ص/105-120)… الامر الذي يعكس طبيعة العلاقات بين الطبقات ونمط الصراع المستفحل فيها وبالتالي يعكس الاراء والنظرة المتبادلة كل للأخر وما يتخلل ذلك من استعلاء وضحالة . 

 

2:4 - تخلّف وفوضى وسائل الإعلام والاتصال في المجتمع العربي

 

على الرغم من التباين في التعريفات والمفاهيم فان الإعلام- Media يعني الاتصال والإيصال ، فمنظمة اليونسكو تعرّفه .. بأنه لا يعني استمرار الحياة في وجودها فحسب ، وإنما دفع النشاط الاجتماعي والتعبير عن الحضارة … وذلك لأن الاتصال ينتقل بالأفراد والشعوب من التعبير الغريزي إلى الإلهام ، من خلال عمليات وآليات ونظم (وسائل ) متنوعة للاستعلام والتحقق في مسائل تهم الرأي العام ، وإصدار الأوامر والتوجيه والإرشاد، بالإضافة إلى ترجمة الفكر إلى عمل والتعبير عن العواطف والحاجات التي تكفل بقاء الإنسان ، ناهيك عن تكامل المعرفة والتنظيم والقوة وامتداد الاتصال بين الإنسان الحالي من اجل حياة افضل .

 

فكما هو معروف فان وسائل الإعلام والاتصال تتنوع بين سمعي ومرئي ومقروء ، فأما الاتصال فينحصر بين الاتصال الرسمي الموجه والمحلي والجماهيري والخارجي ، لكن الإعلام والاتصال من حيث تحديد الوظائف ، فهو عبارة عن عملية جمع وتخزين ومعالجة نشر الأخبار والبيانات والصور والحقائق والرسائل والآراء والتعليقات ، من اجل فهم الظروف المحيطة ( الشخصية والمحلية والإقليمية والدولية ) والبيئة والتصرف حيالها عن علم ومعرفة ، والوصول إلى وضع يمكّن من اتخاذ القرارات السليمة ، بالإضافة إلى ذلك فهناك وظيفة لا تقل أهمية عن السابق وهي أساس بحثنا ، مثل التنشئة الاجتماعية وفعاليتها في المجتمع وخلق الدوافع والحوار والنقاش والتربية عن طريق نشر التربية ، وأخيرا الترفيه بنشر الفنون والتمثيليات الهادفة وإشهار الأدب وإبراز دور الفن والموسيقى والمسرح والرياضة والثقافة ، لما لها من قيمة روحية ومادية في حياة المجتمع ، لكن …هل هذا معمول به في المجتمع والنظام العربي ونحن نعيش اليوم فوضى الفضائيات لنرى …!

 

سننطلق من هذه الحادثة التي وقعت للشاعر الفلسطيني إبراهيم طوقان عام 1940 خلال عمله في إذاعة القدس التابعة لإذاعة الشرق الأدنى البريطانية أل(B.B.C ) حاليا فقد .. اجبر على الاستقالة من عمله عندما ألّف وقدّم روايتا (عقد اللؤلؤ وجزاء الأمانة ) عندما كان مسؤولا عن القسم الأدبي في الإذاعة المذكورة.. (الموسوعة الفلسطينية ، ج1،1984، ص/ 39)…ولهذه الحادثة مغزى من حيث أن جميع البلاد العربية كانت مستعمرة ومحتلة وكل ما ينشر كما فعل - إبراهيم طوقان - لا يخدم سياسة المحتل الأجنبي وهذا طبيعي ، أما أن يستمر الحال كذلك ( لما بعد فترة الاستقلال وإرساء الحكم الوطني ) عبر اكثر من 60 عاما فهذا هو العجيب والغريب ... فالحكومات العربية تسيطر على وسائل الإعلام الجماهيرية وهناك حدود (ورقابة صارمة -Censorship ) لنشر الأيدلوجية الرسمية..(غسان سلامة وآخرون ، ج1،1989، ص192) .

 

إن النظام العربي في تطبيقه للشعارات ( الوطنية والقومية والوحدة والحرية والديمقراطية ) .. لم يدعمها بتربية بيتية -بيئية -ونظرة اجتماعية تخدمها وتحترمها وتقدّرها … فربى حتى الصغار على الخوف وعدم المسؤولية والأتكالية ..( عبوشي ، 1980 ، ص/ 322)… وعلى الكذب والتضليل والتضخيم الإعلامي والمبالغة ، ولنأخذ مثلا قريبا عايشناه وهو انتفاضة 1987وكيف تعايش (وتعامل ) معها الإعلام المحلي والعربي والخارجي وحتى الإعلام الإسرائيلي ، رغم أنها عمل وطني وعمادها الشاب والشابة … ورغم تنصل الأبوان منهما أحيانا لأنهما... (الشاب والشابة) جرا عليهما غضب الجيش الإسرائيلي ، وهما ( الوالدان ) في غنى عن هذه البهدلة ، والسبب هو ترسيخ عقدة الخوف وتفضيل الانعزال والاستكانة والجبن الذي يسيطر على نفوسهما … فعاقبوا أولادهما لأنهما انخرطا في عمل أثار لديهما( نوازع) الكبت والقهر والاستسلام والخنوع … ورغم أن العمل الوطني له علاقة بالرجولة فهو كذلك ، لكنه ( في الحقيقة ) تحدّي لسلطة الأب ( القائد والزعيم والمستبد ) بشكل غير مباشر( وإسقاطه على العدو )...وهذا له علاقة مباشرة في انتفاضة الاقصى عام /2000 فيما بعد ، رغم انه ( العمل الوطني ) شريف ومحترم ومشروع… إلا انه هدف إلى عقوق الوالدين بمعنى سيكولوجي لصالح سلطة أعلى ، وهي سلطة الوطن … فحتى البنت التي انخرطت في العمل الوطني وأصبحت تخرج من البيت وتنظم المظاهرات في الشوارع وكتفها ملاصق بكتف الشاب… لم تلق أي اعتراف من قبل الأب المتخلف… وان تجرأ ووقف أمامها فماذا سيقول عنه المجتمع ...؟ حتما سيقول…اما خائن أو راضي بالاحتلال أو انه ضد مصلحة الوطن ، فهذه التهم آنذاك كانت تعني ( الموت حيا )…ومع هذا الاندماج الوطني من قبل الشاب والشابة في أعمال الانتفاضة ، إلا انه خدمهما في الفصل (ربما الانفصال الأسرى)…والاستقلالية الاجتماعية والاقتصادية وتحطيم الأتكالية وخاصة العاطفية ، لان الشابة كانت تعيش حالة من (الحرية) ضد العسف والظلم والحرمان … ولكن الأهم من ذلك…هل حافظت هذه الشابة على حريتها ومكسبها لما بعد انتهاء الانتفاضة ، الجواب طبعا …لا ،لأنها في سن ومجتمع تنقصهما تربية بيئية وبيتيه ووطنية ضمن المشروع العائلي والذي له …علاقة بالمشروع الأكبر وهو مشروع الوطن … فهي لم تعد كانسان حر ومقاتل .. فقد انطلقت من بيئة محافظة لهدف مؤقت وهو الوطن…وستكون نتائجه النفسية سلبية ومضرة وستعود الشابة القهقرى إلى سابق عهدها ..( عبوشي، 1980 ،ص/ 325 ) … وفعلا هذا ما تعيشه الشابة اليوم بعد أن كانت قيادية تتحكم في آلاف الشباب والرجال وحتى في أبيها ، فانقلب السحر عليها وضدها ، جراء النقص في التنشئة والتربية الأسرية والاجتماعية ، ولم يكن هناك اتصال وإيصال وإعلام وتوجيه وتوعية ناجحة كما أسلفنا في أول حديثنا عن وظيفة الإعلام ووسائل الاتصال .

 

إذن الاتصال ..عملية اجتماعية … تنطوي على عناصر لغوية وثقافية واجتماعية واقتصادية.. (غسان سلامة وآخرون ، ج2 ، 1989 ، ص/ 855 )… قبل أن تكون عملية وطنية خاصة بعد فترة الاستقلال ، فالبلدان العربية ما زالت تفتقر إلى الاتصالات ووسائلها .. وهي محدودة الاستعمال والتداول ونجدها في المدن الرئيسية والكبرى .. (المصدر السابق ، ص/ 861 ) .

 

إن هدف النظام العربي من اجل الحفاظ على وسائل الإعلام والاتصال يهدف إلى السيطرة الاجتماعية .. فيلجأ إلى التضليل الإعلامي … وخاصة عندما يبدأ دور الشعب في الظهور…(ولو بصورة فجة )… أما قبل ذلك فنجد قمعا شاملا .. إذ لا ضرورة لتضليل المضطهدين عندما يكونون غارقين لآذانهم في بؤس الواقع.. (المتلاعبون بالعقول ، 1999، ص/8 ) .

 

ولم يقتصر الأمر على أجهزة ووسائل الإعلام الحكومية في التضليل والكذب والمبالغة وخاصة ما بعد مرحلة ( 52- 1967)  والتي تعتبر في أدنى درجات التاريخ العربي سوءا وتضليلا (اعلاميا ) ، ويكفي أن نستذكر كيف تلاعب احمد سعيد وأكاذيبه بالعقل العربي عبر إذاعة صوت العرب ، وكم من آلاف الأرواح أزهقت نتيجة ذلك خاصة في احتلال صحراء سينا عام 1967 (اكثر من 15 ألف جندي مصري ) ، فالإسرائيليون وصلوا إلى حافة قناة السويس الغربية والمصريون يذيعون البلاغ تلو البلاغ طالبين من جنودهم التأهب والتحضير لدخول تل أبيب ببث أغنية ( عبد الناصر يا حبيب بكرة حتدخل تل أبيب ) من خلال اذاعاتهم .

 

هناك اكثر من 250 محطة إرسال إذاعية واكثر من 245 محطة بث تلفزيوني عبر الاقمار الصناعية المستأجرة من الاجانب لانهم مطليقيها وصانيعيها .. مهمتها الرئيسية هي التأثير على جيرانها الآخرين … فبرغم جهود التنسيق ( الخجل ) بينها… فقد كانت هناك فوضى موجات الأثير امتدت من الإذاعة والتلفزيون وفي خلق فوضى إرسال …فلم يقتصر دور النظام العربي على المراقبة والتحكم بالإعلام ووسائل الاتصال ، فهناك التشويش المتبادل حيث قوبلت دعوة صوت العرب إلى الوحدة العربية .. بتشويش مضاد ، واصبح الوطن العربي مسرحا للحرب المتبادلة …من خلال الموجات الإعلامية التي … استهدفت السيطرة على الطيف الكهرومغناطيسي وعلى عقل المواطن العربي وروحه .. (غسان سلامة وآخرون ، ج2 ، 1989 ، ص/ 864)… وكما حدث بين بغداد ودمشق إبان حربي الخليج الأولى والثانية ، ولم تكتف الإذاعات العربية في إحداث الفرقة ، بل كانت عاملا للتفسخ الوطني والاجتماعي والقمعي ، حتى وصل الأمر بالنظام الأردني آنذاك ( في مرحلة الخمسينات والستينات) بالتنصت على بيوت المواطنين ، ومن يثبت لديه جهاز راديو في بيته ويقبض عليه وهو يستمع لإذاعة صوت العرب أيام المد الثوري الناصري في تلك المرحلة ، كان يحاكم ويلقى به في السجن ويدفع غرامة لا تقل عن (5) دنانير أردنية .

 

وأما البرامج التي تبثها الإذاعات أو محطات التلفزة العربية ، فتتصف بالبؤس الشديد والضحالة وعديمة الفائدة من حيث الشكل والمضمون والتوجه ، بل ويمتد الى درجة فرض مذيعين ومراسلين وبائعي كلام ضحل يعكس مدى ثقافتهم على المشاهدين بكثير من التأتأة والمأمأة والفأفأة - Stuttering وخاصة في ابجديات القراءة والكتابة ووصف الاحداث ، حيث شكلت عاملا مساعدا في إدمان المواطن العربي - مستمع ومشاهد - على قضاء وقت طويل ( وقت فراغ ) في مشاهدة القحط الفكري والمشاهد المركّبة التي لا تواكب الحدث والبرامج المكررة والمملة أو الموجهة ، والمبالغة في نقل الخبر او الحدث بصورة مضخمة ، لجذب اكبر عدد من المشاهدين من جهة ، ولجلب المعلنين من جهة اخرى ، فالمحطة التلفزيونية والمعلن هما الجهتان اللتان وضعا الجمهور في زاوية شعارها ( كيف تضحك على المشاهد وتنسل من جيبه المال بشكل مخزي ، وكيف تروض المشاهد وتجعله مدمنا على تفاهات هذه المحطات ) ، وشكلت عاملا هاما في تكريس عدم استثمار الوقت أو الزمن في حياة الفرد العربي ، ناهيك عن نقل مشاهد البلادة والخمول وهز الرأس والقيام عن المقاعد والصراخ والتصفيق بإعجاب لذلك المطرب او العارية او القائد أو الملك أو الزعيم العربي على اغنية او  قرار مصطنع أعلن للتو او بأجراء مقابلة او حديث تافه مع شخصية مستهلكة وضحلة في فكرها ، قتتلقفه المحطات الاخرى ( كالقرد) يقفز من محطة الى اخرى ، والمصيبة ان اغلب هذه الشخصيات الباهتة او الفنانين والفنانات يفتخرون بالتحدث عن عقدهم وفضائحهم وامراضهم النفسية ، ولا يدرون ان ذلك ينم عن انعدام القيم والاخلاق والذوق الفني الرفيع ، ولا تملك هذه الفئة البائسة جذور تقاليدية او تربية او معرفة اجتماعية وعدم احترام المشاهد ، بالإضافة إلى دورها في حجب الثقافة عن القراء وجمهور المستمعين والمثقفين .. لاعتبارات لا علاقة لها بطبيعة الأدب أو الفكر أو بالثقافة أو بالعلم أو بالنقد-أو بأمن الدولة ومصلحتها العليا -التشديد من عندنا -…ولكن لها علاقات وثيقة بعادة عربية مستحكمة ومتحكمة وحاكمة منذ زمن طويل ، وهي الاستهتار بعقل القارئ والمستمع والمشاهد والطعن في مقدرته على الفهم والاستيعاب والنقد والمحاكمة …فهناك أطرافا عملت على تكريس هذه العادة أبرزها السلطات الرسمية والجهات (التلقينية وخاصة بعد احداث 9/ سبتمبر ) … بينما كانت هناك فئة -الصفوة - فقط لها الحق في الاطلاع ..( صادق جلال العظم ، 1997 ، ص/ 11 ) …خاصة ما يتعلق بنوع ومضمون المطبوعات العربية والأجنبية ومنع دخولها أو بفرض رقابة صارمة عليها .

 

لقد فقدت الجماهير ثقتها بالإذاعات والصحف العربية فالصحف من حيث التوزيع والكم والنوع والمضمون متواضع جدا إن لم يكن متدنيا وضحلا .. فجريدة الأهرام مثلا … لم توّجه عناية اكبر إلى الشؤون العربية إلا مؤخرا ، حيث كانت – الصحف- تذكي نار الغيرة بين النظم المتنافسة وأصبحت أدوات للفرقة… وهي عبارة عن حشد معلومات وحشو صفحات وتدبيجها بشكل عشوائي مناقض للذوق وملّغز –Cryptic  ، ولغتها الركيكة وأحيانا الموجهة ، والاجدر برؤوساء تحريرها ان يبيعوا الصحف بدل ان يحرروها ، ناهيك عن المجلات وسرقاتها وأخبارها وموادها المثيرة والصفراء ، المليئة بالفضائح الملفقة وبصفحاتها الإعلانية الجذابة ( كفوستا ومعظم المجلات اللبنانية مثلا) ، بالإضافة إلى فئات من الصحافيين والكتاب المبالغين بالتضليل والكذب والذين ..لا يهدؤون ساعة عن تصديع رؤوسنا وتمزيق أفئدتنا كل يوم بعناوين مقالاتهم في معرض التهويل والتضخيم …إن المحراث في يد الفلاح والقدوم في يد النجار…انفع من القلم بأيديهم .. (المنفلوطي ، 1983 ، ص/ 122 ) … بالإضافة إلى ذلك ، هناك ما نسبته .. 53% من مجموع الأفلام التي تعرض في دور السينما في البحرين واردة من الهند والباكستان ، أما الأفلام العربية فيعرض منها ما نسبته 3% فقط والباقي أفلام أمريكية وأوروبية ..(غسان سلامة وآخرون ، ج2 ، 1989 ، ص/870) وتفاهة الافلام العربية هي السبب وفضائحها مع الممثلين والممثلات الذين يستاهلون ذلك ، لانهم غير جديرين بهذا اللقب واداء هذا الدور الخطير في المجتمع ، لضحالة ثقافاتهم واميتهم ومؤهلاتهم العلمية الدنيا ، فالسينما والغناء اصبحتا ادوات لترويج العاهرات والقوادين ومهنة لمن لا مهنة له ولكل من هب ودب .

 

أما الأغاني والمسلسلات والبرامج التي تعرضها أو تبثها وسائل الإعلام العربية - الإذاعات والفضائيات - فهذه الأخيرة تشكّل مهزلة لم تكن بالحسبان ، فمن خلال رصد لأكثر من 240 محطة عربية كانت كلها تعرض بثا مكررا لبرامجها والتي استحوذت عليها بالسطو من محطات اخرى ، بمعنى أن نشرات الأخبار ( كل ساعة وحتى كل 1/4 ساعة )  والبرامج والمسلسلات والاغاني وغيرها تعرض مرتين او ثلاث خلال أوقات البث الذي يتراوح ما بين 18 ، 24 ساعة ، أذن هناك فرق بينها وبين التلفزيون الذي يعرض برامجه ضمن أوقات وفترات محددة تتراوح ما بين 12-18 ساعة بث يوميا وبدون تكرار كبير ، بل وبرامج التلفزيون افضل ، إن فائدة الفضائيات هي النقل الحي والمباشر للحدث فقط ، أما عن آلية العرض فلا تختلف عن التلفزيون البتة ، اللهم إلا أنها تعرض نفس البرامج نهارا ومساءا ، فهي أدوات تضليل لعقول البشر ..وأداة للقهر والملل وقضاء الوقت من اجل تطويع الجماهير لأهدافها…(للنخبة الحاكمة والمتحكّمة) .. باستخدام البرامج المملة والأساطير والصور المركبة والمعلومات التي تتلاعب بالصور واستحداث معاني زائفة لا تتطابق مع حقائق الوجود الإنساني والاجتماعي ، حيث يتحولون …(النخب)…إلى سائسي عقول بحيث لا يستطيع الوعي أن يستوعب بإرادته الشروط الفعلية للحياة أو يرفضها .. ( المتلاعبون بالعقول ،1999 ، ص/7- 27) .

 

أما العنف وأفلام الإثارة فتنم عن واقع واعتقاد بان الإنسان وعدوانيته كامنة في طبيعته الحيوانية ، حيث يصبح القهر الاجتماعي Social Oppression-…( وترسيخه )… وبعثه من مكامنه هو السبب الأساسي أمام هذه الطبيعة والعنف الإنساني ، فهذه هي سياسة مضللي العقول والنخب الحاكمة .. لإلهاء الأفراد والجماعات في صراعاتهم الخاصة .. المتلاعبون بالعقول ، 1999 ، ص/27)… للسيطرة على الشعب من خلال هذه الوسائل ، وهي في هم دائم من اجل تطوير أدائها والتأكيد على النظرة التجزيئية وليست بوصفها أبعادا كل على حدا ، إن هذه الحقائق تثبت ما أسلفناه سابقا حول التلاعب بالصورة والخبر والإثارة المصاحبة .. كتوزيع المعلومات وسرد الأخبار وتغطيتها بطابع تكراري آلي وممل … كإذاعات عمان والقاهرة وصوت إسرائيل واذاعة سوا وغيرها، حيث تذيع كل ساعة نشرة أخبار مكررة سواء في التلفزيون أو في الإذاعة ، وحتى تقنيات البث التلفزيوني والفضائي والإذاعي الذي تحدثنا عنه… فتقوم بقطع مستمر للبرامج من أجل إذاعة فقرات إعلانية أو خطاب للزعيم أو الرئيس ، أو من أجل عرض مباراة لكرة السلة أو كرة المضرب أو كرة القدم ، وخاصة في وقت مشاهدة الأطفال وفي فترة المساء - عند تجمع الأسرة - بأسلوب غث وتجاري ومنغص ومثير لأعصاب المشاهد ، وبشكل يؤدي إلى عدم الاحترام واللامبالاة فيما يتعلق بالظواهر الاجتماعية والسياسية والأخلاقية والقيمية والتربوية والثقافية ، واختزال القضايا الهامة ، حيث يتم عرض القضايا المحتوية فقط على نقد الجمهور كحوادث السير والسرقات وأخبار الجرائم … والعنف إذ تبرز هذه القضايا وكأن الجمهور مسؤول عنها فقط … وليس النظام والسلطة الحاكمة التي تظهر… وكأنه لا دور لها البتة .. (المتلاعبون بالعقول ، 1999 ، ص/ 39 - 41 ) .

 

أما الإنترنت فان كل من يستعرض الوثائق والصفحات التي تنشرها مواقعنا العربية ، سيدرك أنها تعوزها الشروط الأساسية التي يجب أن تتوفر.. في الوثيقة الإلكترونية وكيفية تأليفها وإخراجها وقابلية قراءتها وكيفية البحث عنها واختزالها ( بالتناص ) .. ( نبيل أبو علي ، 2000 ، ص/ 30 ) .

 

ونقطة هامة نود الاشارة اليها وهي ما يسمى بـ ( المساجات - Messages ) او الرسائل المرسلة عبر المحمول او الجوال وترسل للفتيات او للشباب مباشرة ، تعكس تفاهة العبارات المرسلة وغير ذات القيمة او الاهمية من جهة ، ومن جهة اخرى لينظر القارئ للمخازي والعبارات الضحلة والخارجة عن اللياقة والأدب التي تظهر علىشكل شريط متحرك في اسفل الشاشة خلال البرامج التي تبثها الفضائيات العربية من جهة اخرى ، وليمعن النظر فيما يكتب ، ناهيك عما يسمى بالمحادثة او ( الشات - Chat ) فكل من يستطلع او يدخل غرف المحادثة يكاد ان يفرغ ما بجوفه مما يراه او يسمعه او يقرأه على شاشات المحادثة ، والسبب هو الكبت الجنسي والفكري والذهنية المريضة التي تعشش في العقول والتخيلات التافهة التي تراكمت مع الزمن نتيجة تشوه التربية والتنشئة الاجتماعية العربية المسخة ، وكان لا بد ان تفرغ هذه ( التفاهات والكبت والعقد والامراض )  في المجاري ، بدل ان تفرغ عبر الانترنت وخاصة غرف ومواقع المحادثة العربية ، فالإعلام العربي ووسائل اتصالاته لا تراعي البيئة الاجتماعية والخطط التنموية والثقافية والتربوية والتعليمية على الرغم من الانقسامات والاختلافات بين الشعوب العربية ، فهناك تشرذم صارخ ضمن المجتمع الواحد داخل النظام السياسي في الدولة عربية .. وانه لمن المثير للسخرية أن المسلسلات الأمريكية توحّد بين جماهير التلفزيون في الوطن العربي كمسلسل دالاس وداينستي.. غسان سلامة وآخرون ، 1989 ، ص/ 863 ) … فان كان هناك تنسيق وتعاون وانفتاح عربي رسمي فهو كما قلنا فقط في البرامج ..الرياضية والمنوعات والأمسيات والسهرات المشتركة.. ( المصدر السابق ، ص/861 )…اوخطب ومواعظ الرئيس الامريكي بوش باعتباره ولي نعمتهم ومانحهم الرواتب ، ان لم يكن منه فمن وكالة المخابرات المركزية ، أو ببرامج هابطة من حيث المستوى والمضمون والشكل الذي لا يتناسب مع شهر..كشهر رمضان مثل فوازير رمضان ، بالإضافة إلى الأفلام السينمائية والمسلسلات التلفزيونية .. المصدر السابق ، ص/863 ) .

 

أما المسلسلات البدوية المعروضة فتكرّس العادات والتقاليد الأثرية كالثأر والغزو والسلب والنهب -  Rapacityوالسطو والتعصب والنخوة والبشعة ( كي لسان المتهم بالنار ) والقتل والغدر وقطع الطرق – Banditry ، وكل ما ورد في كتاب الباحث غسان التل ( المجتمع العشائري ، قضايا ومشكلات ) من سلبيات وعادات بالية ، ناهيك عن المسلسلات الخليجية العبثية أو اللبنانية المصطنعة أو السورية الخيالية والتي تعالج فترات ما قبل الجاهلية أو المعرّبة ( المدبلجة ) التي تتناول الشركات الاستثمارية والملايين والنهب والاختلاس والجنس ، أما المسلسلات الهادفة والاجتماعية المفيدة كأعمال الكاتب أسامة أنور عكاشة ومحمد جلال عبد القوي في التلفزيون أو أعمال المخرج يوسف شاهين ومحمد فاضل ومحمد عبد الجليل و يحيي العلمي و إسماعيل عبد الحافظ أو عاطف الطيب ، والتي تتناول قضايا ومشكلات اجتماعية وقيمية وسلوكية وأخلاقية وسياسية ، وخاصة فيما يتعلق بقضايا المرأة التي أبدعت فيها المخرجتان إنعام محمد علي وإيناس الدغيدي فهي قليلة ، فاغلبها ترفضها لجان المصنفات الفنية والتي يرأسها عادة أزلام النظام ومواليه عديمي الكفاءة والتخصص والذوق الفني ، إذ يعكسون في مهنتهم نمط تخلفهم وبيئاتهم القبلية وضحالة ثقافاتهم وسخطهم على مختلف شرائح المجتمع ، بحجة انهم حريصين على مصلحة الوطن (نظام الحكم ) وحمايته من الفئات الهدامة وأعداء الوطن ، وحتى الممثلين الذين يحترمون أنفسهم وذوق المشاهد فهم قلة ، ناهيك عن الموسيقى التافهة والأغاني المصطنعة…( زتي عنك هالمريول)… ( صوت المرأة الصادر عن صحيفة الأيام ، 24/8/2000) ...ثم اي مريول على البنت او المرأة ان ( تزته) ..هل هو مريول المدرسة ام مريول المطبخ...؟ وهذه الاغنية وامثالها يؤديها مغنيون لم نسمع بهم البتة ، حيث تصاحب المغني فتاة جميلة تتمايل معه أو يلاحقها في الطرق أو مطرب بدوي على شاطئ البحر أو في الغابة ويتوسل لها ويستعطفها بكلمات نسمعها في مطلع الأغنية وتظل تتكرر إلى نهايتها ، والأدهى من ذلك (الفيديو كليب) الذي اخترعوه … حيث أغلبية المطربين والمطربات العرب يستعينون بممثلين وراقصين هنود وأسبان أو غجر من بلغاريا لأداء الرقصة في الأغنية العربية بلباسهم الفلكلوري ، أو سرقة الحان هندية أو تركية أو إسبانية وتوليفها وتركيبها على كلمات عربية وتلحينها بموسيقى الغجر والفلامنكو ، انه كوكتيل مزعج وهجين وغير منسجم أو متناسق ، ومن يستمع لها أو لغيرها يكتشف ذلك بسهولة ، ناهيك عن الجهل في تصوير اغاني الفيديو كليب حيث يمر اكثر من خمسة مشاهد من زوايا مختلفة وسريعة ومتكررة امام المشاهد في الثانية ، فلا تستطيع العين تجميع ابعاد المشهد الواحد مما يسبب تعبا وارهاقا لعصب العين الذي يفشل في ايصال ما رصده من صور الى الدماغ لتحليلها ،  فيفشل هو ايضا ، ويخرج المشاهد في النهاية وكأن صعقة احدثت لديه تشويش فلم يعي ما حدث او ماذا شاهد ، وهذا ما يسمى (  QUICK ZOOM ) وطبعا هذا المصطلح لم يسمعوا به بتاتا ولم يتقنوا التدرب عليه ، والدليل هو تسليطهم الكاميرا على قفا وصدر المغنية او الراقصة وهي تخض ثدييها امام الكاميرا وعيينها على من وراء الكاميرا .. يطلب منها المزيد من الخض  !

 

إن الأطفال في هذه الفوضى أو( الزيطة ) كما يقول المصريون يحفظون هذه التفاهات عن ظهر قلب ، حتى أن كتّاب الكلمات انحدروا في إحدى الأغاني التي تقول " يا شبشب الهنا يا ريتني كنت أنا " لعبد العزيز محمود ( مطرب مصري – متوفي ) وآخرى تغني " العب العب العب "  وتنقع جسمها بالبانيو وتستحم بالحليب والكورنفليكس ، وآخرى تتمرغ على الرصيف وهي تغني واخرى تتلوى على السرير وتتحسس صدرها وتتقلب وكأنها تريد شيئا ، واخرى واخريات وآخرين مثل الموديل الذي كان في الاصل ( شعبان المكوجي) وكان يفرح اذا استطاع ان يأكل سندويش فول او فلافل طيلة نهاره واصبح ( شعبله) ومن ذوي الملايين ، واليوم يوجد الكثير الكثير من امثاله ..فهل يستحقون منا ان نشاهدهم او نسمع نهيقهم ...لكن هذا هو واقع الفن العربي الهابط اليوم … فبرغم قوتها (وسائل الإعلام والاتصال ) التكنولوجية ، فلم نحسن استغلالها فهي تعود بنا إلى التيارات الاباحية تارة وتارة الى الأصولية أو الفوضوية - العدمية إنها ..مشروع تنميطي منكفئ على الداخل وعلى الذات، ونحن أمام أحادية التوجيه والتوجه ... وهو حصار وخنق وقتل العقل والثقافة والأخلاق وقيم التربية والذوق الرفيع ... فلا مراعاة لدينا لأبعاد الزمان والمكان والإنسان.. ( مصطفى حجازي ، 1998 ، ص/12-13 ) ...ارضاءا للسيد الامريكي الذي طلب منهم تطبيق هكذا نموذج ، لابعاد الجيل عن الالتحاق بالاصولية والارهاب والعنف ، وتشويقه للجنس واثارته واعمائه عبر حاسة النظر ( الابصار- Vision ) وهي اخطر حاسة لدى الانسان لاتصالها بالدماغ مباشرة وبدون استعمال العقل او التفكير ، وعدم تكرار تجربة 11/ سبتمبر /2001 من جهة ، ولنثبت للخواجات من خلال بثنا وانتاجنا لهذه البرامج والاغاني والمسلسلات ، اننا هكذا يجب ان نكون ، واننا بهذه البرامج سنخلق جيل منفتح ومائع ومخنث – Emaseculation  ومجرد من قيم مجتمعه واخلاقه ودينه ، واننا ايضا متغربنين ومتحضّرين من جهة اخرى ، ولكن من خططوا لمثل هكذا سياسة اعلامية تافهة نسوا اننا مجتمعات متخلفة ومكبوتة ، واذا لم يعدوا لنا بيئة كبيئة الغربيين للتنفيس عما يبثوه لنا ، فسوف نغلي كالمرجل او كطنجرة الضغط ثم سننفجر ، وليس مستبعدا ان نعيد تجربة 11/ سبتمبر ثانية ، لأن المجتمع المتخلف في هكذا اوضاع سيعود للدين وللاصولية كملجأ وتصبير للنفس من جانب ، ولعدم توفر بيئة تنفيسية للكبت والطاقة المشحونة نتيجة الهياج المستمر الذي حقنته به الفضائيات ببرامجها التافهة والمهيجة عاطفيا وجنسيا وعصبيا وعقليا ، فسينحرف افراد هكذا مجتمعات وسينتج مشاكل وعلل وانحرافات اجتماعية كالتي مرت في الفصل السابق .

 

ولم يقتصر الأمر على الأغاني والمسلسلات بل هناك إعلانات عن.. أقوى الأفلام العربية …فيلم يصلح للجميع فيه الحب والجمال والمتعة والإثارة والعنف والمغامرات …أجرأ فيلم ظهر حتى الآن .. نشرته إحدى دور السينما في رام الله (الحياة الجديدة ، الأيام ، 20/5/2000، ص12) …بالإضافة إلى أفلام الكرتون التي تعرض على شاشات التلفزيون كمؤثر ثقافي يجسد العنف الحقيقي لدى الأطفال ، ويؤثر على انفعالاتهم وسلوكياتهم ، حيث يعيشون في زمن يتصف بظروف معيشية صعبة وتنافس من اجل الحياة ، وديكتاتورية التربية والتنشئة الأبوية وأجواء البطالة والأمية والاحباطات الاقتصادية والاجتماعية ، والتي من شأنها أن تفاقم حدة العنف المحيط به ، ليتصور المشاهد العربي نفسه وحوله افراد اسرته وفجأة تقفز امامه دعاية (always) والكاميرا مسلطة على الفتاة من الامام والخلف وهي تحسس على قفاها ( لشعورها بالراحة والامان لاستعمالها الـ ( always) في الدعاية...تصور نفسك... وطفلك يسألك عن معنى الـ ( always ) واين يستعمل...ولمن ....؟ فبماذا ستجيبه ايها الأب او ايتها الام ....؟

 

وأخيرا هناك تركيز في الوسائل الإعلامية على أخبار أسواق المال والأسهم والبورصات وأسعار العملات ومؤشراتها ، اذ ان المشاهدين نادرا ما يكون لهم صلة بذلك ، فهل المقصود بهذه الأخبار هو التثقيف المالي … أم جعل المال وسوقه مرجعية أساسية سواء للذي يملك أو لا يملك ..؟ .. فالمال عصب الحياة وتقديم وهذه الوجبة للمشاهد وخاصة المحروم…في كل ساعة تقريبا يعزز لديه الانشغال والاهتمام بالأمر وخاصة أمام الأرقام المذهلة ، فتثور في مخيلته مسائل عديدة أو إحساس بهامشتيه من المال… الذي لا يملكه أمام هؤلاء القنّاصين الذين يفتحون شهية من يملك المال ، إلى المغامرة بضربة مالية للإثراء والتمتع بمباهج الحياة بالتشاطر …بالفهلوة … والاقتناص وبدون مجهود ..(حجازي ، 1998 ، ص/ 53 – 54 ) ... لكن الذي لا يملكه (المال) فماذا يفعل للإثراء بدون مجهود أسوة بمن يملك المال … لنقرا الصحف كل صباح لنعلم ماذا يحصل …؟ طبعا سيجنح ويسرق وينهب ..!  

 

3:4 - العلاقة بين تخلف الوعي وفوضى التغيير

 

لقد سبق الحديث على أن نمط الإدارة والحكم في النظام العربي هو مزيج - هجين-   Half      Bredمن النظام السلطاني العثماني السابق واقتباس بعض النظم الإدارية من النظام الغربي ، فكان طبيعيا أن تأتي المخرجات الاجتماعية أيضا هجينة ومعقدة ، فالمجتمع الأكثر تعقيدا في تركيبته الاجتماعية ونمط حياته هو الأكثر عرضة للإصابة بالأمراض والآفات الاجتماعية والنفسية والذهنية والعصبية ، ولهذا فالمجتمع العربي مزيج من هذه العناصر… فأتى بفوضى شاملة وعارمة في القيم والأهداف والمعتقدات والعادات والتقاليد والنظم الاجتماعية التي انعكست على السلوك الاجتماعي ونتج عن ذلك .. اغتراب وعزلة وقهر وعنف واستغلال وكذب وخداع للنفس .. (شرابي ، 1991 ، ص/64 ) .

 

وعلى عكس ذلك فالمجتمعات البسيطة في تركيبتها الاجتماعية هي الأقل عرضة للإصابة بالآفات والأمراض الاجتماعية ، حيث أثبتت الدراسات الاجتماعية أن العامل الثقافي والتباين الواضح بين الفئات الثقافية من جهة ، وتعرض المجتمع لمؤثرات ثقافية غير موجهة ومتعارضة مع ثقافته الأصلية من جهة أخرى ..تكون فرص إصابته بالآفات والأمراض الاجتماعية اكثر وضوحا وارتفاعا ، وهذا ما ينطبق على المجتمعات المعقدة .. ( علي كمال ، 1983، ص/40) و( حليم بركات ، 1996 ، ص/18) .

 

 وحينما نتحدث عن تخلف الوعي فإننا سنتناول واقع التعليم والخصائص الثقافية للذهنية العربية ولما لها من علاقة مباشرة في التربية والسلوك ، وأما فوضى التغيير فتتعلق بالتنمية والتقدم في ظل سياسة العالم الجديد ، ولهذا تكون الثقافة هي الأرضية (الأساس ) لأي تقدم وتنمية ، حيث يأخذنا ذلك إلى فحص التربية الفردية والتثاقف الجمعي – Collective Acculturation وشكل القيم السائدة – Prevailing Values في المجتمع العربي وطبيعة .. الدفعة الروحية لاستنهاض التنمية … فالنمو هو مزيج من التغيرات الذهنية والاجتماعية لشعب ما …والتغيير الذهني هو الأساس والعامل الحاسم والفاعل واكثر من مجرد عامل من عوامل التنمية ..فلا يمكن لأي دارس جاد لشروط التنمية استبعاد اكثر السمات المادية في المجتمع من تلك الشروط  كالدين والأحكام المسبقة والخرافات والمحرمات ، والدوافع إلى العمل والموقف حيال السلطة السياسية وردود الأفعال التاريخية والأخلاق الفردية والجماعية ونظم التربية ومجمل القيم..( محمد الرميحي ، 1998 ، ص/23) …الثابتة والراسخة  في المجتمع (وهذا ما كنا سنربطه بالعامل الذهني ) ـ التشديد من عندناـ لأنها تؤثر في سلوك كل شعب وتحور مسار كل حضارة

 

وعودة إلى نمط وإدارة المجتمع والدولة في المجتمع العربي ، ولنرى انه رغم سيرورة التحديث منذ بداية الخمسينات وحتى الوقت الحاضر الذي يتصف بالعصرنة…في ظل البيروقراطية الحاكمة عبر عقود مضت، أنها غربية الأسلوب وشرقية المضمون والتطبيق .. (غسان سلامة ، 1995، ص/800)… فهذا عامل آخر من عوامل تخلف الوعي وفوضى التغيير في النظام والمجتمع العربي . 

 

والواقع أن ما كان يجري طيلة العقود الماضية .. هو قيام نخبة جديدة هجينة … كان يعتقد انهم اختفوا في مرحلة الستينات.. (المصدر السابق ، ص/ 690)… بالإضافة إلى أن المجتمع بقي ينتج نفسه ويدور حول ذاته في عملية تكيف مع نمط حياته ومستوى معيشته المفروضة ، ويحاول أن يتماشى مع أنظمة تسلطية لا ترغب حقيقة في احداث التغيير والتقدم والنمو ، فأمام هذا المشهد التمردي الذي عاشه ويعيشه المجتمع العربي ( والعالم من حوله يتقدم ويتطور ) ورغم انه شهد فترة هدوء واستقرار منذ بداية الستينات … إلا أننا نرى أن معدلات التضخم الفلكية في ازدياد والتراكم الكبير للثروة في بعض أقطاره وتمتع مواطنيها بالترف والبذخ ، ونرى الجانب الآخر المأساوي للمشهد والصورة ، فبقية أقطاره تعاني من عجز وفقر…ونرى إعلانات الأباء طالبين بيع أطفالهم أو بعض المواطنين طالبين فتاوى شرعية تسمح لهم بأكل الميتة ولحوم البشر ، خاصة خلال الحرب الأهلية اللبنانية عام 75-1982 وحصار المخيمات الفلسطينية من قبل حركة أمل الشيعية 1985…بالإضافة إلى تحجر القيم والتقاليد وانتشار الشعوذة والسحر والتمسك بالعصبية والقبلية اكثر من ذي قبل والعودة إلى السلفية والأصولية ... خاصة بعد خيبة الأمل التي عاشها ويعيشها الفرد العربي ..(المصدر السابق ، ص/ 339 ).

 

ورغم أن النظام والمجتمع العربي شهدا منذ سبعينات القرن الماضي .. عملية انفتاح قادتها واستفادت منها فئة محدودة من - النخبة الحاكمة وزبائنها وقلة من الناس -… حيث أنتجت آثارا تعدت إطار هذه الفئة في اكثر من واحد من المجالات إن –سواء- في تطلعات ومطامح وغايات قطاعات المجتمع الأخرى ، أو اكثر من تلك التي جنت منافع الأرباح والفوائد …أمام أعين الغالبية العظمى من فقراء العالم العربي .. (المصدر السابق ، ص/ 692 ) .

 

فجزرة الوعود المعسولة من الانفتاح والترويج له وما سيستطيع الناس شرائه ..قابلتها عصا التضخم …والمديونية، حيث بدأ سكان المدن يزاحون من تحت مظلة الإعانات الحكومية والأسعار الثابتة …( الدعم الحكومي للسلع الضرورية والأساسية وخاصة المواد الغذائية)…التي استظلوا بها خلال سنوات الراديكالية .. (غسان سلامة وآخرون ، 1989، ص/ 693 )… فشهدنا مظاهرات الخبز في القاهرة في عام 1978 وفي المغرب والجزائر والأردن ( أحداث المفرق ) عام 1989، بالإضافة إلى تململ قطاعات واسعة من الشعوب العربية التي تئن في ظل هذه السياسات الاقتصادية الارتجالية والفاشلة والمحدودة النفع ، وازدياد نسب الريع الحكومي  في ظل كساد الأسواق العالمية الذي بدأ يغزو العالم منذ منتصف الثمانينات ، وخاصة بعد هبوط أسعار النفط في الأسواق الدولية وانعكاساتها على الاقتصاد العربي كإفراز ( عقابي ) جراء تزاوج النفط مع السياسة ( حرب أكتوبر 1973) .

 

إن هذا التناقض والتراجع والفوضى نتجت عن تخلف المجتمع والفرد العربي وفي علاقات المجتمع والقوى المسيطرة عليه (نخب وأنظمة حاكمة ) ، والتي لم تحدث التغييرات الواجب إجرائها بعد نيل الاستقلال واستقرار نظم الحكم ، ولم تأخذ وضع وجهل وفقر مواطنها بالحسبان .. والذي جسد وما زال يجسد وضعا نفسيا معينا …إذ أن سلوكه نابع من ذاته وفعله ورد فعله عما يحيط به في بيئته -التي وصفناها سالفا-… فأتى الفرد والمجتمع منسجما لإرادة الطبقة الحاكمة التي شرّبته- Imbibition قيم وسلوكيات ( في مرحلة صناعة الدولة والمجتمع ) - التشديد من عندنا حيث الفوضى والحالة هذه تصبح قيمة ، وخاصة في مرحلة المد الوطني والقومي والتغيير والتحديث التي مرت وتمر بها المجتمعات العربية التقليدية..( شرابي ، 1991 ، ص/69)  بالإضافة إلى أن…الفوضى…تصبح قوة اجتماعية وحركة - خلاقّة - من اجل السيطرة على القوى الاجتماعية الفاعلة في المجتمع...تمهيدا لقمعها.

 

إن واقع حال وماضي المجتمع والنظام العربي قد صوره المنفلوطي في نظراته أن الإنسان العربي " الضعيف والمستسلم أن... ( لا )... يكون من المدنية الغربية إن داناها ، إلا كالغربال من دقيق الخبز يمسك خشاره (النخالة الخشنة )… وعندما أراد العربي أن يقلد الغربي في نشاطه وخفته … فإذا جد الجد وأراد أن يعمل عملا دب الملل في نفسه، وان قلّده في رفاهيته ونعمته فلا يفهم منهما إلا التأنث في الحركات والانزلاق إلى مواطن الفسق والفجور، وان أراد أن يقلّده في الوطنية فلا يأخذ منها إلا نعيقها وضجيجها وصفيرها … فإذا قيل له هذه المقدمات… فأين النتائج…؟ اسلم رجليه إلى الرياح … ويريد أن يقّلده في السياحة فيطير إلى مجامع اللهو والقمار… ويريد أن يقلده في العلم فلا يعرف إلا الكلمات يرددها ، ويريد أن يقلّده في تعليم المرأة وتربيتها فيجملها في مقالة أو خطبة ، فهو يأخذ صورا مشوهه ومعكوسة ، مثل جهلة المتدينين الذين يقلدّون السلف الصالح في تطهير الثياب وقلوبهم ملأى بالأقذار ويقلّدونهم في أداء العبادات ولا ينهون أنفسهم عن الفحشاء والمنكر ، إن في المصريين…(والعرب) – التشديد من عندنا -عيوبا جمة مذاهبهم وعاداتهم وطباعهم " (المنفلوطي، 1983، ص/ 132-136)… إن الأمر لا يقتصر على الفرد بل ويشمل النخب والنظام الحاكم ، هذه لمحة ووصف لما يكن أو سيكون عليه وضع الفرد العربي (حاكم ومحكوم ) لو أراد أن يقلّد الغرب ، وهذا الاستنتاج ورد على لسان الأديب (المنفلوطي ) قبل اكثر من 100 عاما ، فكيف سيكون الحال اليوم....؟ حتما سيكون اسوء .

 

إن مأساتنا كعرب أننا نقف في وجه العقل والعلم ، فالعقل يعاني من أزمة وأزمته هي القوى المضادة -الاجتماعية والسياسية والدينية والثقافية- ولكن لماذا العقل ...؟ لأننا أكدنا على ضرورة تغيير الذهنية والذهنية مرتبطة بالعقل والعلم وليس بالعاطفة ، مع أن العاطفة لا تتناقض مع العلم بل ..هما قوتان تجتمعان في كل إنسان وكل منها يجب أن تكون في مجالها … والمعوق الآخر هو السلطة…-طريقة ومنهج-… والاختلاف بين العقل والسلطة ليس نتيجة حتمية ، بل في طريقة التفكير ومنهجه ، ففي حالة اتباع السلطة يكون التفكير - العقل- خاضعا لمصدر يعلو عليه وتقبل أحكامه بلا نقاش ..( فؤاد زكريا، 1975 ، ص/ 14 -16 ).. ويؤدي ذلك إلى الجمود والتحجّر - Fixism وتنحصر السلطة في الأسرة والقبيلة والمجتمع والدين والنظام السياسي ، فالأسطورة لم تزل تتمثل في نظريات التحليل النفسي العربي .

 

فمن المعروف أن العقلية هي التي تحكم السلوك وتحدد النظرة إلى الكون … فالتخبط والفوضى والعشوائية وسوء التخطيط والارتجال تعد من ملامح التخلف ، فهناك خصائص ذهنية ..انفعالية وأخرى منهجية ، الأولى ترتبط باضطراب منهج التفكير ، والثانية تختص بتبيان تدخل العوامل الذاتية والعقلانية ، وهي أسيرة الانفعال الذاتي والغيبية … أما المنهجية فتتلخص بصعوبة السيطرة الذهنية على الواقع والحياة والطبيعة وصد القدرة عن الفهم ، وان حدث فيحدث دون خطة أو ذات مراحل منطقية… مما يزيد من حدة الفوضى ويظل الفرد يراوح  مكانه والاكتفاء بالموضة الحدسية -السطحية -.. لذلك فان الفرد العربي قطعي في أحكامه …لتجنب النقد … بالإضافة إلى ذلك فهناك قصور في التفكير الجدلي وعكسه ، وهو الانعزال والفصل وأحادية النظرة التعصبية ، بسبب العجز عن إدراك الصيرورة الزمنية وترابطها مع بعضها البعض… والذي يؤدي... إلى التصلب الذهني- العناد - والذي يؤدي إلى الهجاس -  Scrupulosity وسواس نفسي قهري- نتيجة التوتر والانفعال والعنف والحدة … وهذا نتيجة عوامل تخلف الذهنية السلبية مثل القصور التطوري والعرقي والقدرية والخرافة والهروب… وهذا إفراز للعلاقة بين البيئة الاجتماعية والذهنية التي تكون في هذه الحالة نتاج للبنية تخدم أغراضها … بالإضافة إلى عدم استخدام التكنولوجيا من اجل عقلنة الإنتاج ... ودليل ذلك -تذبذب الإنتاج الزراعي والصناعي وتراجعهما - وسياسة التعليم المرتبطة بارتقاء أو انحطاط الذهنية في المجتمع ، وكذلك هناك نوعية التعليم وتأثيره وان كان هناك تعليم فهناك تنشئة أسرية واجتماعية مشوهة ايضا تعمل على تشويه وافساد وتحريف التعليم عن هدفه ، الأمر الذي يحدث انفصاما وانشطارا –Scission  في الشخصية والذهنية والسلوك ، حيث يتمثل … ذلك في علاقات التسلط في المدرسة والدين والنظام السياسي … فالفرد العربي هو ملك للعشيرة وللأسرة أو القرية ، وليس ملكا للدولة من حيث الرعاية .. إذ يعاني… من الاستلاب..( حجازي ، 1998 ، ص/ 54 - 76) .. للحياة والجنس والذهن والمال والجسد ، والمرأة خير مثال على ذلك .

 

إن عيوب التعليم – التشريطي/ التلقيني- تعكس الأصول والقيم الاجتماعية السائدة وبالتالي تؤثر على الذهنية ويترجمها السلوك والقيمة والعادة مثل ..عدم تشجيع أبناء الريف على التعليم بسبب كونهم يشكلون مصدر دخل وقوة عمل وإنتاج لأسرهم … ولأن التعليم لم ولن يكون حسب ذهنية القروي كمشروع استثماري مجدي …أما التعليم الجامعي فهو يعكس احتقار العمل اليدوي أو المهني ، فالوظيفة افضل ... ولهذا فالتعليم الجامعي هدف لغاية وليس لذاته … ناهيك عن أساليب التربية ومناهج التدريس التي تكون على حساب المضمون … والذي يشجع على التلقين والإرغام والإجبار والنفاق .. (فؤاد زكريا ، 1975 ، ص/ 185-191 ) … حيث يلاحظه الطالب في مديره ومعلميه أثناء زيارة أحد المسؤولين للمدرسة ، إذ تبدأ حملة تنظيف وترتيب طيلة ذاك اليوم ، وباقي الأيام تظل المدرسة في الفوضى والوساخة واللامبالاة ، بالإضافة إلى تعلم الغش والكذب وخاصة في الامتحانات وإجراء الاختبارات .

 

ونظرا لطبيعة أنظمة الحكم السائدة في الوطن العربي فان .. التربية والتعليم تأتي نوعا من القوة الرجعية … وتشكل إحدى الوسائل والأدوات للتنشئة الاجتماعية والسياسية … ناهيك عن التعددية التربوية والمدرسية والمناهجية التي تكون بمثابة تشوش تربوي .. (غسان سلامة وآخرون ، ج2 ، 1989 ، ص/877-892 ) ... فبرامج التدريس الثانوي والجامعي خاصة ( في سوريا ) كمثال مبنية على .. المناهج الفرنسية القديمة بالإضافة إلى جميع البلدان العربية التي خضعت لنفس التأثيرات .. (صادق جلال العظم ، 1997 ، ص/ 152) … وكذلك ما ورثته السلطة الفلسطينية فيما يتعلق بالمناهج المدرسية التي وضعتها سلطات الاحتلال الإسرائيلية منذ عام 1967، والتي أفرغتها من محتواها الأكاديمي والعلمي المعاصر ، والتي هدفت من ورائه خلق – وقولبة- السكان بما يتماشى وسياستها التجهيلية ، الأمر الذي ينتج ذهنية متخلفة وفكر ضعيف ومشلول ، ومن يتمعن في مناهج الأحياء والفيزياء والكيمياء والتاريخ (الممسوخ) والمفرغة من حقائقها ، حيث يهدف تركيزها على مهارات ضحلة وقيم مشوهة مثل التركيز على الفترة العثمانية والتوسع بها ، الأمر الذي افرز أجيال عثمانية التفكير وعربية الذهن والسلوك وكأنها ما زالت تعيش في القرن 15م ، ولم تزل هذه المناهج تتبع في الجامعات والمعاهد ... وهذه سمة إضافية وأساسية من سمات المجتمع العربي المعاصر .  

 

وقد تأكد بعد البراهين القاطعة التي يشهدها التطور والتقدم التقني والعلمي والحضاري للعالم اليوم مدى واهمية ..الدور الخطير الذي يسهم به التعليم في أحوال التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية … حيث تحتل الدول الصناعية ( العالم الأول المتقدم ) المواقع الأولى من بين 185 دولة ، إذ يشير مؤشر التعليم ( 90,. 99,.) والحد الأقصى هو واحد صحيح ، لنأخذ كوريا الجنوبية ( قارة آسيا ) كمثل فمؤشرها ( 95,.) ، وأما الدول العربية فيتراوح مؤشرها بين (62,. 77, .) لذا فان حالة التعليم في الوطن العربي تبرز مدى التدني والتفاوت والتخلف والفوضى بين الإناث والذكور " (حامد عمار ، 2000، ص/ 52 ) … فما زالت نسب الأمية تتراوح بين " 55 % - 70% " ( حليم بركات ، 1996 ، ص/ 76) … فرغم التشدق باستمرار بان الدول العربية أو (بعضها) تتميز بنسب عالية من التعليم تكاد تكون 100% وخاصة في الكويت والبحرين ولبنان وفلسطين ، إلا أن هذا ليس صحيح بتاتا ، وذلك بسبب التخلف في الوعي وبقايا الأمية وجهل فطري مطبق .

 

إن نظام التعليم فشل في نقل روح العصرية وتقنياتها .. بسبب المقاومة العلنية لسلطة الدولة وتسامحها إزاء الفساد الإداري …والرشوة … لضمان ولاء المؤيدين لها وإهمالها تنمية الجوانب الاجتماعية والمادية لمجتمعاتها وشعوبها ، حتى أنها تشجع الصراعات القبلية والدينية والطائفية من ضمن جهودها...(غسان سلامة وآخرون ، ج1،1989، ص/ 175- 182 ) ... لإلهاء المجتمع عن صراعه معها .

 

لذا فالفوضى تكثر في السلطة السياسية وتقل في السلطة الاجتماعية بسبب امتلاك الأولى .. للنفوذ والقوة وإدارة العنف ووسائل القهر … والثانية لا تملك إلا الانصياع والإذعان والاستجابة –Compliance  … ومع ذلك فهناك .. فوضى وصراعات وانفجارات سلفية وعصبية وكل ذلك ارتد إلى داخل الدولة نفسها .. (عبوشي ، 1980 ، ص/ 140 149) … فمجرد إصدار القوانين والمراسيم من قبل التكنوقراطيين والأطر السياسية والنخب الحاكمة وراس الدولة  يكفي ..لإحداث تغيير جذري في التنظيم السياسي والاجتماعي.. (والاقتصادي) -التشديد من عندنا (غسان سلامة وآخرون، ج1 ،1989 ، ص/ 174 )… بالأضافة إلى ذلك فان عقلية النظام السياسي هي عقلية (اللهاث وراء الريع ) ، لنأخذ مثلا على ذلك وهي.. فترة حكم السادات… 70-1981 ...( وشبيهه حكم ياسر عرفات سابقا عام/2000) – التشديد من عندنا- ... فالسادات لدى اختياره للحكومة الجديدة لم يعتبر(يعتمد) مطلقا نتائج الانتخابات التشريعية سنه 1976… ولم تكن ذات معنى له ، وذلك لإبعاد الأعضاء المزعجين عن السياسة والحكومة وخاصة أحزاب السلطة الحاكمة أو المعارضة ، فانتماء الفرد العربي لأي حزب أو حركه سياسية تعني…الانتماء إلى خير جماعي مغلق ، رغم انه طوعي ومحّرم عليه ممارسة حياته الخاصة ..( فاضل الربيعي ، 1999، ص/.2) … من هنا فليس للسياسي قيمه كبرى في ذاته بل قيمته بمن حوله أو بمن يستزلم له … وهذا ما يفسر لنا لماذا يتمسك راس السلطة باللصوص والمختلسين وشذّاذ المجتمع من حوله ويعض عليهم بالنواجذ  ، حتى ان فقهاء الدين واصحاب العمائم .. جمعوا بين فقه الدين وسلطان الدنيا وحب المصلحة والنفوذ بسبب تسييسهم للدين والاستنفاع منه .. (حجازي ، 1997،ص/ 73)… فمن هنا يجب فصل الدين عن الدولة ضرورة ، منعا من استغلاله وامتطائه .

 

إن فوضى التغيير أيضا شملت قطاع القوى العاملة بعد منتصف السبعينات ونتيجة لارتفاع أسعار النفط وحاجة دول الخليج إلى العمالة ..الأمر الذي احدث اختلالات واختناقات لفئات مختارة من البشر ، واحدث ارتفاعا مفاجئا في الطلب على الأيدي العاملة المتخصصة …الذين فاقت أجورهم أضعافا مضاعفة لمرتبات أصحاب التعليم العالي …كما أسلفنا … مما أدى إلى حراك اجتماعي أعلى لهذه الفئات ، واحدث اختلالات اجتماعية ونفسية وخاصة بين أبناء الطبقة المتوسطة …(سعد الدين إبراهيم وآخرون ، 1996، ص/ 278-279) ... إنها فوضى ما بعدها فوضى …وكذلك ما أوضحه حليم بركات في موضوع الصراع الطبقي ومبرراته في كتابه ( المجتمع العربي المعاصر) في ظل نظام سياسي واقتصادي يشجع (ويغذّي) العصبية والأتكالية ، والتنافس وتنفيع طبقة الجهلة بالمشروعات التي يرسّيها عليهم النظام الحاكم ، أو بالسماح لهم بالعمل بدول الخليج ، أو بمنحهم رخص استيراد وتصدير ، اوفي قطاع المقاولات ، بالإضافة إلى فتح باب الاعتمادات والائتمانات المالية والبنكية لهم ، إذ يصبح هؤلاء ( قطط سمان وحديثي نعمة ) يذكرون الحاكم بالخير وطول العمر ، أما الطبقات الكادحة والمقهورة والمحرومة فتشتغل بتأمين معيشتها ، إما بالمكاسب المادية المحدودة أو بالفوضوية ، خاصة في ظل نمط استهلاكي – استفزازي من قبل القطط السمان وجهلة النظام الحاكم ، الامر الذي يولّد شعورا بالحرمان والحقد والغضب أمام الثراء والبذخ الفاحش للنخبة الجاهلة ، أو بتحسين وضعهم أو المطالبة بإجراء التعديلات أو الإصلاحات أو التغييرات ليتمكنوا من العيش ) – التشديد من عندنا - وأخيرا يأتي دور فقهاء النظام ...بتسويغ هذا الوضع  دينيا ، وكتبرير اجتماعي للحد من تبلور وعي طبقي …(بركات،1996، ص/ 164-170 ) .. فمثلا قام السادات بسن قانون العيب وأخلاق القرية … بطريقة عاطفية… لعلمه أن ذلك يحل الأزمة ، إلا أن ذلك تناقض مع سياسات الانفتاح .. وخصوصا ظاهرة البغاء… التي استفحلت…فجاء القانون منسجما مع الانفتاح .. (غسان سلامة وآخرون ، ج2،1989،ص / 866)...وهناك فوضى بالتنظيم البيروقراطي (تحدثنا عنه سابقا ) والتركيب الايكولوجي ( البيئي ) للمدينة العربية ووسطها والشريط السكني الذي يلفها ..والحزام …( حزام البؤس )… المشكّل من هامشيي المدن .. ناهيك عن ظاهرة استقلال وتكامل الأحياء اقتصاديا وإداريا وإنتاجيا وخدماتيا وتعليميا بشكل فوضوي ومختلط ...وبشكل خيمي وليس هرمي ، كمدن الضفة الغربية- ( الخليل رام الله نابلس أريحا وغزة ) التشديد من عندنا .. (الخوري ، 1993، ص / 109- 115) .

 

4:4 - فوضى المجتمع العربي … وتحديات العولمة – Globalization :-

 

لا تقتصر مفاهيم العولمة كنمط من أنماط سياسة العالم الجديد على إزالة مظاهر التخلف والفقر والجهل الفكري والتكنولوجي ، بل على إزالة الحواجز الثقافية والانفتاح على العالم وحضاراته المختلفة ، في بيئة تعمها الأمن والاستقرار والسلام الدولي ، فهذه هي الملامح والسمات الرئيسية لمعطيات العصر ، ونحن في بدايات الألفية الثالثة ، والتي تشهد مظاهر فوضى في تفسير الحرية والديمقراطية ، ونحن كعرب إن لم نحسن تفسيرها وتطبيقها في مختلف الميادين فسيظل التخلف قابعا ومترسخا في أعماقنا ، فليس امامنا الا ان نقوم بتغيير الذهنية ( العقلية العربية ) والبنى الاجتماعية وبث الدوافع للعمل وابراز ردود فعلنا تجاه السلطة السياسية ، وتعديل نظم التربية والتعليم وغيره لانها بمجموعها هي المؤثرة في سلوك كل شعب وحضارته.

 

 إن الفرق ظاهر بين العالم الثالث المتخلف والعالم المتقدم ... وكما قلنا فالعالم المتقدم صناعي النسق ، لذا فان العامل الاقتصادي .. هو أول من يدخل في حقل التطور والتنمية … وهناك العامل الثقافي وأسلوب الحياة … بالإضافة إلى العوامل السياسية والأيدلوجية ونظم الحكم ، لذا فالتقدم… و(التطور )…من متطلبات العولمة وهي ظاهرة كلية عامة ومعقدة … والاهم ، فان ذلك يتطلب تفكيك وإعادة تركيب المجتمع … ومؤسساته جميعها وتغيير وأساليب معيشته ووسائلها والخروج من جلده ، وهذا يعتمد على.. أربعة شروط تسمى عوامل الإنتاج وهي …الثروة الطبيعية ، وراس المال ، والمعرفة ، والعمل … واغلب الدول المتخلفة… ومنها العالم العربي … تنقصها المعرفة وراس المال ..( عبوشي ، 1980 ، ص/ 62) .

 

ورغم ما لنا من تحفظات على هذه الطروحات الموغلة في التفاؤل ، فان النمو والتقدم لا يتحققان بمراسيم … فقد أخفقت الصيغتان البارزتان …الرأسمالية والاشتراكية… في السيطرة على العالم أو في حل مشاكله أو بتقديم نموذج كامل يحتذى به … فحاول العالم أن يجد طريقا… ونموذجا … ثالثا... للتغلب على التخلف والفقر والفوضى ، يعتمد على.. إسداء النصح وتبادل الخبرات مصحوبا بتقديم المنح والقروض والمساعدات … إلا أن… ذلك استتبع قدرا من خيبات الأمل في العالم الثالث … حيث عادت - إن لم تكرّس - نظم الحكم الاستبدادي بقوة وانتشرت الحروب الأهلية والقبلية والإقليمية… حرب الخليج الأولى والثانية ، وقضية أفغانستان ونزاع الحدود بين الهند وباكستان ، وحرب أثيوبيا وإرتريا ، والصومال ومذابح لواندا ، وبوروندي وأزمة نظام الحكم في إندونيسيا والجزائر… واحتلال العراق وغيره مستقبلا الخ … ناهيك عن سيطرة واستيلاء طبقة أو شريحة من المجتمع على السلطة والثروة ، وتفشي الفساد ونهب المساعدات والهجرة من الريف إلى المدن المكتظة ، وتكدس السكان في الضواحي حيث الفقر والبؤس والمخدرات والجريمة .. ( محمد الرميحي ، 1998 ، ص/ 21 ) .

 

إن هامشيي المدن العربية لأكبر شاهد على ذلك ، وكذلك سكان المخيمات الفلسطينية سواء داخل المناطق الفلسطينية أو في الدول العربية المضيفة ، وكذلك سكان القبور في ضواحي القاهرة ومدن المغرب والجزائر والأردن والعراق واليمن والصومال وموريتانيا والسودان… كيف..؟ ..إن أيدلوجيا الفئات الهامشية في المدينة الشرقية شديدة التباين والتنوع … وبالغة التعقيد…حيث تتكون من فئات شتى من الموظفين والمستخدمين وذوي الأجور المنخفضة وعمال المياومة وبعض عناصر البرجوازية الصغيرة… كبائعي المفرق ..( الخفاجي ، 1999،ص /303)… فهذه الشرائح ماذا تجدي معها العولمة والحداثة والمعاصرة … وكيف سيتم حل مشاكلها … وما هي إمكانيات الأنظمة العربية حيال ذلك … وأخيرا كيف تفهم وتستوعب هذه الفئة أو الشريحة في المجتمع معنى ومفهوم العولمة.. وبماذا تفيدها ..وهي فئات المدينة الدنيا والمتفسخة... – وفي طور التشكّل- وضد العمل ، وهي صنف من مجتمع متعدد التركيب ذي اتجاهات تطورية مختلفة… إذ يضمون ما بين 1/3 –1/2سكان المدن في آسيا وأفريقيا ، ثم ازدادت النسبة فأصبحت تضم 40% من سكان دول العالم (800مليون ) حيث يقوى تأثيرهم على من يقفون ورائه أو…أمامه…في مسار التطور الاجتماعي .. (المصدر السابق ، ص/ 304 ) … إذن هذه الفئة أو الشريحة بملايينها كيف تفيد العولمة بحل مشاكلهم …؟ وهناك ايضا طبقات كادحة وفقيرة ، بمعنى أن النسبة المتخلفة  - إن كنا منصفين وبدون تعميم- .. تبلغ اكثر من 80% من سواد المجتمع العربي…الذي استعرضنا سماته وخصائصه وصفاته وسلوكه وتركيبته الاجتماعية وأنماط معيشته وعاداته وتقاليده ، انه ارث ثقيل يواجه العولمة ، فلقد شهد القرن العشرين كثيرا من التغييرات التي أثرت في كثير من الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية وشكلت… تعبيرا صريحا من الشك في معنى وفاعلية القيم الاجتماعية والثقافية المتوازنة ، والميل إلى رفضها دون أن يكون هناك بديل يحل محلها…( وهذه هي معضلتنا الرئيسية ) كمجتمع عربي ، وتوفير قدر اكبر من الحرية الشخصية والحق في إبداء الرأي والمشاركة في الحكم وترسيخ مبادئ المساواة والديمقراطية والانفتاح على الثقافات الأخرى … ومع هذا…( لربما)… تسود العالم العربي  قيم إيجابية فاعلة.. ( أحمد أبو زيد ، 2000، ص/ 66) .

 

وليس هذا بحسب وان كنا نستخدم (ربما ) فهناك أيضا فوضى تتسم بطابع دولي جديد سيكون من نتائجها تفاوت في الثروة والمداخيل وتقوية النظام الطائفي ، وكأن العالم لم يتعلم من التجربة اللبنانية ، وهذا ما أشرنا إليه في أحداث - رواندة وإندونيسيا والبوسنة والهرسك- والخلط بين المصالح الفردية وإدارة أجهزة الدولة وانهيار العمل السياسي وأسس المنافسة الحرة والتطبيق الخاطئ والمجحف لما يسمى (بالخصخصة - Specialization ) ..وسيكون هم الناس البحث عن لقمة العيش وتأمينها أمام الفقر والإفراط في الاستهلاك البذخي على حساب نظام القيم ..( محمد الأطرش وآخرون، 1999، ص 98 )… ومع هذا لسنا متشائمين ولكن لان .. شروط اندماج العرب في النظام العالمي الجديد كانت ولم تزل بأيدي… ولمصالح غيرهم … حيث تفجّرت سلسلة من التداعيات الاقتصادية والاجتماعية والهيكلية والقيمية في عقل المجتمع العربي وجسمه … كشؤون الإدارة الحكومية والمالية والضرائب والنقل والمواصلات وتطوير وسائل الري والزراعة الحديثة وتنظيم الملكية الفردية وزيادة فائض القيمة … وبرغم استفادة فئات معينة من أهالي البلاد ، إلا أن ثمن هذه التغيرات كان فادحا من ناحية معنوية وانتقائيا ، فتبلورت تكوينات … ونخب اجتماعية واقتصادية منتفعة … وكأن الذي حصل كان تطورا مشوها ومتعدد الوجوه .. (سعد الدين إبراهيم وآخرون ، 1996، ص/189- 234 ) وما دمنا في الحديث عن نمط الاستهلاك البذخي فقد ساعد على ذلك .. ظاهرة غلاء المعيشة ومدى ارتباطها بمعظم السلع مع الاستهلاك…لنرى ماذا سيحدث عند ارتفاع سعر إحدى السلع في زمن العولمة… ؟

 

إن غلاء ثمن إحدى السلع… يؤدي إلى ارتفاع أسعار باقي السلع والخدمات أو الحرف بدون مبرر ، بصورة يصعب معها تدارك المشكلة بالحل الفردي … نتيجة لارتفاع تكلفة المنتج المرتبطة بالأجور وتكاليف التسديد سواء بالإعلان أو بالدعاية أو بالعمولة ، بالإضافة إلى تكاليف المواد الأولية وتكاليف النقل ثم الضرائب ثم هامش الربح المركب ، حتى تصل السلعة إلى المستهلك … ثم هناك تغير سعر صرف العملة وزيادة الطلب وندرة العرض واحتكار السلعة …لأسباب اقتصادية .. أما الأسباب الاجتماعية فتتحدد في الزيادة في عدد السكان وتغيير نمط الاستهلاك الدائمي والموسمي وعادة المباهاة …( سعيد حارب وآخرون ، 1994 ، ص/93 -95) ... ان كل ذلك يحدث في غياب دور الدولة وتقلقل وضع العملة والعادات الاجتماعية ومنافسة السوق…(بسبب عولمتها وإزالة الحواجز حسب ما نصت عليه اتفاقية الجات ) – التشديد من عندنا – .

 

فماذا تجدي العولمة ولدينا فوضى اقتصادية واجتماعية نتيجة لطول فترة الفقر والحرمان ، ومعايشتنا لنمط حياة من نوعية جديدة ، وتوفر سلع مختلفة ومغرية في الأسواق وسهولة تسييل المنتج ، وهناك الفخ والنشاط الإعلامي والإعلاني/ الاستهلاكي لما هو جديد ، ولمّا كانت المرأة هي إحدى الفئات الفقيرة والبائسة والمحرومة ، فتراها تذهب إلى الأسواق بشكل مسعور تريد التهام السلع والمنتجات التهاما ، وقبل ذلك نراها تهتم بالإعلانات التي يبثها التلفزيون والفضائيات وتقرأ المجلات والصحف ذي الصبغة التجارية /الإعلانية ، من هنا فهي كثيرة التردد على الأسواق وتهوى التنزيلات ، ناهيك عن أنها كثيرة التوقف والمشاهدة وشراء السلعة بعد أن تخرج روح التاجر من حلقه عند ( المفاصلة)  ، أما الشريحة الأخرى من المرأة العربية هي الشريحة (البرجوازية الثرية) .. إذ تحيط سيدات هذه الشريحة نفسها بالخدم فيكتفين بالإشراف وينصرفن للتزين وتبادل الزيارات وإقامة المآدب ... والتنافس بشراء الثياب الفاخرة والمفروشات الثمينة والمجوهرات والحلي وأدوات الزينة … والنميمة… والسفر ويصطنعن الوجاهة والاستنفاخ والاستفزاز … انه تعويض وانعكاس لما يعانينه من النقص الثقافي والتعليمي الضحل الذي حصلن عليه .. ( بركات ، 1996 ، ص/ 87-101)… ناهيك عن الخواء الثقافي والاجتماعي ، بالإضافة إلى انتشار الفساد وإقامة علاقات عاطفية وجنسية موازية لحياتهن الزوجية ، بسبب انشغال أزواجهن بجمع الثروات وعقد الصفقات …!

 

وكيف يمكن للعولمة والحداثة أن تقضي على تقاليد وعادات مجتمع دستوره هذه الأمثال أو (بعضا منها) :

لا توخذ رأي المرة … ولا تتبع الحمار من ورة

ربي حية... ولا تربي بنية

الجار قبل الدار

الجيران... نيران

الحبس للرجال ... والصحيح أن الحبس للمجرمين والغوغاء وليس للرجال وان كان للرجال …أليس هناك حبس للنساء ...؟

خذ البيضة... ولو مجنونة

زوان بلادك... ولا قمح الغريب

خذ المجنونة بنت العاقلة … ولا توخذ العاقلة بنت المجنونة

خير لا تعمل … شر لا تلقى

سخاوة الكف... بتغطي كل عيب

شعرة من ] …… [ الخنزير بركة

يوم على الدنيا … ولا ألف تحتها

هم البنات... للممات

الناس مع الواقف... ولو كان بغل أو حمار

النوم في سنين المحل... فايدة

إذا ماتت وليتك... من صفا نيتك

أبويا باعني... وجوزي اشتراني

إذا جيت من سفر... اهدي ولو حجر

إذا بدك تفضح زلمة... سلّط عليه مرة

اسأل مجرب... ولا تسأل طبيب

اهجر الأرض... ولا تبيعها

اقتل أمير... واسرق حرير

اللي ببلاش... كثّر منه

اللي ما بغار... بكون حمار

إن فاتك اللحم... عليك بالمرق

البنت إما جبرها... وإما قبرها

البلد اللي ما بتعرف حدا فيها... شمر ]……. [ فيها

 

كيف يمكن للعولمة أن تقضي أو تعالج ظاهرة الولائم وذبح العجول في الأعراس وإقامة الحفلات كنمط ( تقليد) من أنماط المجتمع ( العربي ) المهجّن… وكيف نقنع أنفسنا من مغزى إقامة المآدب والولائم بهدف الظهور ولكسب النفوذ والجاه والأكل بشراهة ودون رحمة أو حكمة ،  وبهدف .. الانتقام اللاواعي … وكيف يمكن أن نتخلص من الأكل باليد وخاصة عند أكل ( الفت أو المنسف ) بشكل لصوصي واستلابي وسريع وبلقم كبيرة ( وكأننا ننهب )… وكيف نعالج التلصصية ( استراق النظر والبصبصة من نوافذ المنازل ليلا ) والشخصية واشتهاء زميلاتنا في الدراسة أو العمل … أو مع جاراتنا واشتهاء فتياتنا في الشوارع ، وكيف نتخلص من (الشهوانية -Eroticism ) والشبق الجنسي المترسّخ في عقولنا ، حتى تجاوزنا الحد وأقمنا الجنس مع البهائم ومع المحارم- Incest وبأساليب جانحة ، ناهيك عن التحرش الجنسي – Fortteurism واللواط والغلمانية …انه…التخلف والجهل … فهكذا مجتمع لا تفيد معه العولمة أو المعاصرة أو الحداثة ...انه مجتمع بدوي تحكمه الغريزة والعاطفة ، معبوده الجنس والمال والسلطة.....الخ ..( زيعور ، 1997، ص/104 - 115 ) .

 

إن هذه النظرة إلى المجتمع العربي وتشريح سلوكه وقيمه في زمن العولمة ، يدل على أننا لن نستطيع لا مجتمع ولا أنظمة حكم ، أن نواكب ونساير التحديث والمعاصرة والتقدم ، فهي لا تلائمنا ونحن بهذه الحال ، فقبل أن نقلّد العولمة علينا أولا تغيير ونسف الذهنية العربية وقلع الثقافة التقليدية والعادات والتقاليد والقيم المتحجّرة وكبح جماح العاطفة والبحث عن مكان وموقع ودور لعقولنا …ولا نجزم إن قلنا أن الأغلبية (من المجتمع العربي ) لا تعلم أين يقع العقل هل هو في مقدمة رأسه أم بمؤخرته ، حتما سيقولون انه يقع في المؤخرة ( Backside)  هذا إذا لم يقولوا انه يقع بين الفخدين ، فالمجتمع ..الذي يتسامح مع الانحراف ويشجّع الفوضى ويستهويها ويقدّس العادات الصنمية والتقاليد الوثنية البالية فستكون البداية لموته… وخاصة وان السلطة الحاكمة التي لا تمارس ردع الانحراف… فهي… ممثلة له .. (قباني ، 1997 ، ص/ 88- 89 ) .

 

 

ان تداخل الحداثة والتقليد ليس جديدا على المجتمع العربي .. فمنذ الاستقلال السياسي وبعض عناصر التكوينات الاجتماعية الحديثة لجأت في لحظات الجدل الاجتماعي والواعي إلى استثارة الولاءات التقليدية في معاركها ، ونتج عن ذلك تباطؤ في التطور ثم توقف ثم انتكاس .. (سعد الدين إبراهيم وآخرون ، 1996 ، ص /235) … خاصة عندما فكرت النظم السياسية في بلورة الهوية القومية ، حيث كان هدفها إيجاد دولة قومية لتصير .. الأمة دولة وتصل إلى أمة - دولة .. إلا أن مشكلتها هو عدم وجود الدولة القومية بسبب …فوضى نشوء الدولة التي سبقت الأمة كما اسلفنا ، وليس العكس … وهذه الدولة التي سبقت الأمة هي من صنع الاستعمار الأوروبي … وهذا هو سر الدولة القومية العربية حتى يومنا هذا … وحتى في المستقبل .. (عبوشي ، 1980 ، ص/192) .

 

إن المجتمع العربي يعاني مزيدا من التشتت والتنافر والعجز والتراجع وفقدان السيطرة وتفاقم الولاءات التقليدية المتناقضة ، وتبعية أنظمته التي تمارس القمع السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي ، واختراق سافر ومستمر للمجتمع المدني الذي تحول إلى مجتمع حكومي- دولاتي يعيش.. دوامة الخوف والرعب والرهاب الأمر الذي يخلق فجوة بين الواقع والحلم .. ( بركات ، 1996، ص/ 60-61)... وتزداد حينها صعوبة التمييز في كيفية الخروج من حالة التجزئة والتشتت والنزاع ... وتكون الفوضى إحدى نتاجات هذه الأوضاع .

 

إن هذه النظرة التشاؤمية والتي تطفو على السطح عند محاولتنا تسيير الاقتصاد والسياسة في المجتمع العربي ضمن قيمه وأخلاقه وسلوكه ،  للحاق بالعالم - القرية - سيؤدي إلى عواقب وخيمة ، بدون إحداث تغيير جذري في الذهنية والتعليم والثقافة والقيم والأخلاق (والإنسانية) والتنشئة الأسرية ، والتخلص من الفقر والجهل والمرض ( الجسدي والنفسي والذهني والسلوكي ) ، وتغيير أنظمة الحكم الحالية التي تشابهت فيها الملكية الاستبدادية- الغيبية بالجمهورية – الديكتاتورية ، فالعالم العربي ككل دول العالم الثالث المتخلف سيستورد .. ثقافته ويستهلكها نظرا لفقر إمكانياته في الإنتاج الأصيل … وهو مجبر على ذلك وغصبا عنه لانتفاء حدود المكان والزمان واستحالة الانغلاق ولتبعيته من جهة ، وأمام ضحالة الإنتاج المحلي وخدمته للسلطة وزيادة لهيمنتها من جهة أخرى ، فهنا تكمن المشكلة … فأيهما سيختار- التشديد من عندنا - ..فالأول يمكن تطويقه وهو تنميط كوني- استهلاكي ...إلا أن الثاني هو الأخطر من حيث آثاره المستقبلية ..لانه يعمل على تعزيز وترسيخ وديمومة التخلف والفوضى والمرض ...وكذلك الأول ، فهذه هي معضلة ومأساة المجتمع العربي فأيهما سيختار….؟..(حجازي ، 1998 ، ص/ 71 ) .

 

إن انعكاسات الفوضى العالمية ( العولمية ) على الوطن العربي ستنحصر في العيش ضمن أنماط من التفاهة والفراغ الحضاري والفكري والشعور بالإحباط واليأس والهم اليومي ، الأمر الذي يولّد المزيد من الانقسام والتشرذم .. في حالة تدخل النظام الحاكم والعقائد الدينية والاجتماعية في الصراعات الثقافية الجديدة ، ومواجهة مراكز القوى الإقليمية والدولية ومراكز النفوذ العالمي ، والتي أحكمت سيطرتها… عبر شركاتها العملاقة…على الأمور السياسية والاقتصادية والثقافية ، على افتراض أن هذه العوامل تضمن تحقيق التقدم نحو المستقبل كطريق افضل ..(محمد الأطرش وآخرون ، 1999، ص / 107 )..حسب تعليمات واوامر العم سام لنا بضرورة اجراء اصلاحات داخلية ، فماذا ستكون افرازاتها فيما بعد ...؟

 

خلاصة :- رغم محاولات من سبقنا من علماء وبحاثة ومتخصصين ، إلا أننا لسنا في موقع أيجاد وإصدار الأحكام والتعميمات والسبل الناجعة والشافية لعلاج أزمات وآفات المجتمع العربي، حيث جاءت نتائج أبحاثهم متضمنة الاستخدام الأمثل للموارد الطبيعية وتقوية النظم الاجتماعية والاقتصادية ، واللحاق بركب التقدم التكنولوجي وتحرير العقل العربي ووضع الخطط الشاملة ، وتطبيق سياسات تربوية والتمسك بالقيم وتقوية الحس القومي والتخلص من حالة الاغتراب والتجزئة واتباع أسلوب التطور التكيف البطيء ، وإنجاز الوحدة والقضاء على التبعية وتحقيق العدالة والحرية .. وذلك بالثورة الشاملة غير الحتمية …"ولكنها مصيرية ..(حليم بركات ، ص/447، 1996) … إن ذلك برأينا يعد استشرافا وأحلاما لا أكثر ولا أقل  مع احترامي الشديد لاستاذي حليم بركات .

يتبع

--------------------

هذه الدراسة تعبر عن رأي كاتبها

أعلى الصفحةالسابق

 

الرئيسة

اطبع الصفحة

اتصل بنا

ابحث في الموقع

أضف موقعنا لمفضلتك

ـ

ـ

من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ