ـ

ـ

ـ

مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وقولوا للناس حسنا

اتصل بنا

اطبع الصفحة

أضف موقعنا لمفضلتك ابحث في الموقع الرئيسة المدير المسؤول : زهير سالم

الثلاثاء 17/11/2009


أرسل بريدك الإلكتروني ليصل إليك جديدنا

 

أبحاث

 

التعريف

أرشيف الموقع حتى 31 - 05 - 2004

ابحث في الموقع

أرسل مشاركة


الإسلام والغرب.. صراع المشاريع

الحلقة التاسعة عشر

الحملة الصليبية الثانية.. نجدة في الوقت الضائع

د. علي محمد الصلابي

كان لسقوط الرها في أيدي المسلمين ردة فعل عنيفة في الغرب الأوروبي وباعثاً على السرعة في إرسال حملة صليبية جديدة، بعد أن أثار سقوطها الرعب في النفوس، لا بسبب المكانة الدينية التي تتمتع بها هذه المدينة في تاريخ النصرانية فحسب، بل لأنها كانت أيضاً، أول إمارة أسسها الصليبيون في الشرق الأدنى، فجاء سقوطها إيذانا بتزعز البناء الكبير الذي شيده الصليبيون في الحملة الصليبية الأولى في الشرق الأدنى.

وأدرك الغرب الأوروبي أنه إذا لم يسارع إلى ترميم ذلك البناء فإنه لن يلبث أن ينهار (1) وكانت نداءات الاستغاثة قد وصلت إلى البابا يوجنيوس الثالث من فرنج الشرق، فقد بعثت ملكة بيت المقدس بوفد رفيع المستوى إلى البابا لطلب النجدة بعد سقوط الرها (2) وأرسل البابا رسلاً إلى إمبراطور ألمانيا وملك فرنسا يحثهما على الإسراع لنجدة فرنج الشرق من خطر المسلمين، وفي الوقت ذاته كلف أحد رجال الدين المشهورين في فرنسا اسمه برنارد بالدعوة للحرب ضد المسلمين في الشرق، فقام هذا القس بالدور الذي قام به البابا أوربان الثاني عام 490ه/1095م أثناء الدعوة للحملة الفرنجية الأولى (3) ، ولبى الإمبراطور كونراد الثالث ولويس السابع ملك فرنسا، دعوة البابا، وخرجا كل بجيشه عبر أوروبا باتجاه القسطنطينية ومن هناك عبرا مضيق البوسفور إلى آسيا الصغرى (4).

- السلاجقة يقضون على الجيش الألماني:

كان الجيش الألماني يتقدم الجيش الفرنسي عدة أيام وعندما بلغ منطقة دوريليوم شرق مدينة نيقية نفس الموقع الذي انتصر فيه فرنج الحملة الأولى على السلاجقة بقيادة قلج أرسلان قبل خمسين عاماً، وقع الجيش الألماني في قبضة جيش السلطان مسعود أمير سلاجقة الروم في آسيا، فقد تراجع السلطان مسعود وفق خطة عسكرية ذكية حتى واصل الجيش الألماني تقدمه إلى قلب فريجيا، وكان السلطان مسعود قد نشر قواته على قمم الجبال المحيطة بهم.

ولما وصل الجنود الألمان إلى نهر باتيس قرب دوريليوم داهمهم الجيش السلجوقي، وكان قد استبد بهم التعب والظمأ فاختلت قيادتهم، وحاولوا الاحتماء في شعاب الجبال، لكن السلاجقة أحاطوا بهم وأمطروهم وابلاً من السهام، وفقد الجنود الألمان ميزة استعمال السهام لإبعاد الأتراك في حين افتقرت خيالتهم إلى العلف، عندئذ قَّرر كونراد الثالث الانسحاب والعودة من حيث أتى، لكن السلاجقة لم يتركوه وشأنه فهاجموا مؤخرة جيشه ومقدمته وقلبه، فدبَّت الفوضى في صفوفه وتعَّرض أفراده لأفدح الخسائر بين قتل وأسر.

والواقع أن القتال لم يكن سوى مذبحة مروعة، قتل فيها تسعة أعشار الجيش، وأصيب كونراد الثالث نفسه بجرحين أحدهما في رأسه (5) ، وقد حاول عبثاً جمع شتات جيشه إلا أنه ترك ساحة المعركة عند المساء ممعناً في الفرار مع من تبقَّى من رجاله، وقليل ما هم، عائدين إلى نيقية، في حين غنم السلاجقة كميات لا حصر لها من الغنائم (6)، فقد غنموا كل ما في معسكر الألمان من مواد وخيول وأسروا أعداداً كبيرة منهم، ظلت الغنائم تباع في أسواق المدن الإسلامية عدة شهور(7) وبهذه الهزيمة الساحقة يمكننا تأكيد أن الجيش الألماني فشل في تحقيق الغاية التي أتى من أجلها إلى الشرق، مما سيكون له أثرا سيئا على الحملة الصليبية الثانية (8).

- سلاجقة الروم يعرقلون تقدم الجيش الفرنسي:

خرج الجيش الفرنسي بقيادة الملك لويس السابع متأخراً عن الجيش الألماني وكانت القوات الفرنسية مساوية في العدد تقريباً للجيش الألماني لكنها كانت كان أكثر تنظيماً. واصطحب لويس السابع معه زوجته اليانور (9) وفي الوقت الذي كان يجري فيه القتال بين السلاجقة والقوات الألمانية، عبرت القوات الفرنسية البوسفور إلى آسيا الصغرى، ووصلت إلى نيقية، وعلم الملك الفرنسي بهزيمة الإمبراطور الألماني، فأسرع لمواساته ومساعدته (10).

وعلى الرغم من الاحتياطات التي اتخذها الملك الفرنسي فقد فأجاه السلطان السلجوقي مسعود في مدينة ديكيرفيوم قرب أنطاكية وراح يناور الصليبيين حتى بلغ الجسر المقام على النهر ونشبت في هذا المكان رحى معركة قاسية استطاع الصليبيون خلالها شق طريق لهم على الجسر عند ذلك تراجع مسعود إلى داخل أسوار المدينة، وتمكَّن الصليبيون بعدهما من متابعة طريقهم، ولم يغامر مسعود بالهبوط إلى السهل لمطاردتهم، إلا أن القبائل التركمانية البدوية الضاربة في المناطق الحدودية، تصَّدت لهم وأمطرتهم وابلاً من السهام، كما طاردتهم وتخطَّفت بالقتل جنود المؤخرة والشاردين والمرضى.

ولم يُنج الجيش الصليبي من الفناء الشامل سوى هبوط الظلام حيث انسحب التركمان (11) ولم يصل الجيش الفرنسي إلى أنطاكية إلا بعد أن تكبد خسائر هائلة، وبعد أن شفى الإمبراطور الألماني من مرضه أكمل رحلته إلى فلسطين بحراً على سفن الأسطول البيزنطي (12) ، والتقى الإمبراطور الألماني والملك الفرنسي في القدس مع الملك بلدوين الثالث ملك القدس وأمه مليزاند وكبار القادة ورجال الدين في مملكة القدس، وبحث الجميع موضوع الهدف الذي ستتوجه الحملة لاحتلاله وقرروا أن يكون هدفهم الأول دمشق (13).

- الهجوم الصليبي على دمشق:

توجهت الجيوش الفرنجية المتحالفة نحو دمشق التي كان يحكمها آنذاك معين الدين أنر أتابك الملك مجير الـدين أبـق بن محمد بن بوري، الذي كان أكثر الأمراء المسلمين قرباً من الفرنج وتعاوناً معهم (14) ، ولذلك لم يكن يتوقع أن يكون الضحية الأولى لهذه الجيوش الفرنجية الضخمة، لكنه لم علم بنوايا الفرنجة ومسيرهم نحو دمشق اتخذ جميع الإجراءات اللازمة للدفاع عن المدينة وأرسل يسأل المساعدة من نور الدين محمود وسيف الدين غازي (15)  ، وكان من عادة نور الدين محمود تحليل الأوضاع الدولية والإقليمية ومتابعة الأحداث الجارية بعمق ثم يخرج بالدروس والعبر التي تفيده في تقرير سياسته المستقبلية.

وقد شكلت الحملة الصليبية الثانية الحدث الأكبر في المنطقة والعالم كله عام 543ه/1148م وكانت بالنسبة لنور الدين محمود الحدث الأول من نوعه بعد توليه الحكم عام 541ه/1146م والذي يمارس عليه سياسته المذكورة، فقد كان نور الدين يتوقع أن تكون إمارته (حلب) الهدف الأول لهذه الحملة، لأنها تشكلت وتوجهت للشرق على خلفية سقوط مدينة الرها عاصمة إمارة الرها الفرنجية عام 539ه/1144م، على يد عماد الدين ولكن الذي حصل أن الحملة غيَّرت هدفها المتوقع وتوجهت إلى دمشق وحاصرتها محاولة احتلالها، وكان هذا التغيير مفاجأة كبيرة لنور الدين، ومفاجأة أكبر لمجير الدين آبق حاكم دمشق وأتابكه معين الدين أنر المدبر الحقيقي لشئون إمارة دمشق.

كانت مفاجأة نور الدين معروفة الأسباب أما مفاجأة حكام إمارة دمشق فلأنهم كانوا أصدقاء الفرنجة الوحيدين من المسلمين في المنطقة وجرى بين الطرفين تعاون وثيق ضد عماد الدين زنكي عندما كان يحاول الاستيلاء على دمشق، ولم يكن متوقعاً من الفرنجة مهاجمة أصدقائهم في دمشق وترك عدوهم الأول في حلب، ولكن نور الدين محمود استفاد من هذا التغيير المفاجئ في هدف الحملة الذي لم يحصل ارتجالا ولم يكن حماقة كما يذكر بعض المؤرخين (16) بل جاء بعد دراسة وتحليل للأوضاع في المنطقة قام بها قادة  الحملة في اجتماعات مكثفة اشترك فيها ملك بيت المقدس وقادته في مدينة عكا قبل الهجوم على دمشق (17).

لقد تأكد لنور الدين محمود المغزى الحقيقي لغزو الفرنجة السابق في الحملة الأولى والحالي في الحملة الثانية والذي لا يمت بصلة إلى استرجاع قبر المسيح عليه السلام من المسلمين وتأمين طريق الحج إلى القدس على طوال الساحل شمالاً إلى القسطنطينية، كما كان يزعم زعماء الدين المسيحي الذين خططوا لهذه الحروب كما أن الهدف الحقيقي للحملة الفرنجية الثانية أبعد ما يكون عن الانتقام لسقوط الرها لأن الحملة توجهت إلى دمشق حليف الفرنجة في المنطقة ولم تتوجه إلى حلب أو الرها حيث يوجد من يتوجب الانتقام منه.

فقد أدرك نور الدين محمود أن هدف الفرنجة الحقيقي هو احتلال المشرق الإسلامي والسيطرة عليه كما كانت الإمبراطورية الرومانية تسيطر عليه قبل الإسلام وأنهم لا يمَّيزون في عملهم لتحقيق هذا الهدف بين إمارات ودول المسلمين فالحليف المتعاون معهم سواء عندهم مع المقاوم لسيطرتهم وتوسعهم المجاهد لتحرير البلاد من احتلالهم، فهم يقصدون احتلال بلاد الجميع والسيطرة على الجميع، وعلى هذا الأساس فإنه من الأفضل لهم البدء بدمشق التي تعتبر قلب بلاد الشام وأكثر الإمارات الإسلامية مساحة وموارد ولكونها الأضعف عسكريا، ثم يتم بعد ذلك التحول إلى حلب والرها والموصل وغيرها.

فالأمر إذن حرب شاملة لن يسلم منها المراقب عن بعد ظناً منه أن الخطر بعيد عنه، فدوره قادم ولو بعد حين، وإذا كان الأمر كذلك فإن نور الدين بما اشتهر به من سياسة بعيدة النظر، لابد أن يخوض هذه الحرب من بدايتها فدمشق بالنسبة له، كحلب تماماً وهي في الوضع الراهن تشكل الخط الأول للدفاع عن حلب والموصل وباقي بلاد المسلمين ولذلك نراه يحشد جيشه إلى جانب جيش أخيه سيف الدين غازي أمير الموصل بالقرب من حمص وبعلبك لإجراء التنسيق اللازم مع حكام دمشق حول العمل المشترك لمواجهة الغزو الأجنبي، وكان لهذا الحشد الأثر الرئيسي في فشل الهجوم الصليبي على دمشق وقد خرج نور الدين محمود من هذا الحدث الكبير بدروس مهمة تؤكد قناعاته وتوجهاته السابقة. من هذه الدروس: الأهمية القصوى للوحدة بين الإمارات الإسلامية لمواجهة الخطر الفرنجي وتحرير البلاد من احتلالهم، ثم الأهمية الإستراتيجية لإمارة دمشق في المواجهة مع الفرنجة، وضرورة الاستيلاء عليها بأي ثمن، ومنها وضع التدخل الأوروبي في الصراع مع الإمارات الفرنجية في الاعتبار (18).

- موقف رجال الدين المسيحي من الحملة الصليبية الثانية:

أما عن موقف رجال الدين المسيحي من خروج الحملة الصليبية الثانية إلى الشرق، فإنه لم يكد نبأ سقوط الرها – في يد عماد الدين زنكي سنة 539ه/1144م يتردد في عواصم غرب أوروبا حتى أثار مخاوفاً وقلقاً شديدين، وأدرك الصليبيون أن ذلك يمثل بداية النهاية لبقية الإمارات الصليبية في الأراضي المقدسة، واستقر الرأي على إرسال وفد إلى البابا يوجنيوس الثالث 540ه - 548ه/1145 -1153م) ليدعو إلى حملة صليبية جديدة فقامت بالفعل في أوروبا حركة كبيرة تدعو بكل حماس إلى سرعة القيام بهذه الحملة لإعادة إمارة الرها إلى المسيحيين وبادر البابا يوجينيوس الثالث بدعوة لويس السابع ملك فرنسا، وكونراد الثالث إمبراطور ألمانيا ليتزعما تلك الحملة.

وقد رحب لويس السابع بطلب البابا، ودعا أتباعه للاجتماع به للنظر فيما يتخذ من الترتيبات ولما لم يبد هؤلاء أي حماس للاشتراك في هذه الحملة، قرر الملك لويس السابع تأجيل تنفيذ دعوة البابا لمدة ثلاثة شهور، ولجأ إلى أحد أعلام الدين المسيحي في مملكته، وهو القديس برنارد – رئيس دير كليرفو الذي كان يتمتع بشهرة كبيرة ويفوق الملك في السلطة على حد تعبير المؤرخ الإنجليزي رانسيمان، فقد كان له قدرة عظيمة على الإقناع والتأثير في الناس، ولم يكد الملك لويس السابع والبابا يوجينيوس يطلبان منه القيام بالدعوة للحملة الصليبية حتى أسرع القديس برنارد لتلبية هذا الطلب والعمل بكل قواه من أجل إنجاح هذا المسعى (19).

وكما وقف البابا أوربان الثاني في كليرمونت يدعو للحملة الصليبية الأولى قبل ذلك بخمسين سنة وقف القديس برنارد خارج كنيسة فيزيليه في شوال 540ه/مارس 1146م يدعو للحملة الصليبية الثانية، ونفذ ببلاغته إلى قلوب متعطشة للحرب والمغامرة فتشتعل ناراً، فلما استمع الناس لسحر بيانه وبلاغته وفصاحته، أخذوا يصيحون طالبين الصلبان، وعندئذ خلع القديس برنارد أرديته الخارجية فقطعت وحيكت صلبانا، وظل هذا القديس ومساعدوه يخيطون الصلبان لكل الذين تطوعوا للاشتراك في هذه الحملة (20).

وبعد عدة أيام كتب القديس برنارد رسالة إلى البابا يتضح منها مدى تأثير رجال الدين المسيحي في الناس ومدى طاعة الناس لهم في ذلك الوقت فيقول فيها: لقد أمرتهم، فأطعت، وما كان لمن أصدر الأمر من سلطة، جعلت طاعتي مثمرة، فلم أكد أفتح فمي وأتحدث حتى تكاثر الصليبيون، فلا حصر لعددهم، فالقرى والمدن هجرها سكانها، فلا تكاد تجد رجلاً واحداً لكل سبع نساء ويصادفك في كل مكان الأرامل اللائي لا زال أزواجهن أحياء (21).

وبعد ذلك أخذ الحماس يزداد عند القديس برنارد بعد النجاح الذي أحرزه في فرنسا، فأخذ يطوف أقاليم ألمانيا مؤملاً أن يجتذب الألمان للاشتراك في هذه الحملة ونجح إلى حد كبير في التأثير على كونراد الثالث ملك ألمانيا للانضمام إلى الحرب المقدسة.

واشترك رجال الدين المسيحي جنباً إلى جنب مع الجند في حصار دمشق فكان مع الملك الألماني كونراد قسيس عجوز يدعى إلياس، طويل اللحية، يعتقدون به، فلما حاصروا دمشق، ركب هذا القسيس حماره وعلق على عنقه صليبياً وحمل في يده صليبيا وجمع القساوسة بالصلبان وركب الملوك والفرسان بين يديه، ولم يتخلف من الصليبيين المشاركين في الحصار أحد إلا من تركوه لحفظ الخيام. ووقف هذا القسيس أمام الجميع وهو يتقدمهم قائلاً : لقد وعدني المسيح أن أفتح اليوم دمشق ولا يردني أحد. ولكن باءت نبؤته بالفشل إذ هاجمه أحد شباب المجاهدين فقتله وقتل حماره (22).

- انتصار دمشق على الحملة الصليبية الثانية: في ربيع الأول سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة نازلت الفرنج دمشق في عشرة آلاف فارس وستين ألف راجل، فخرج المسلمون في دمشق فكانوا مائة وثلاثين ألف رجل وعسكر البلد، فاستشهد نحو المائتين، ثم برزوا في اليوم الثاني فاستشهد جماعة، وقتل من الفرنج عدد كثير، فلما كان في اليوم الخامس وصل غازي بن أتابك، وأخوه نور الدين في عشرين ألفا إلى حماه، وكان أهل دمشق في الاستغاثة والتضّرع إلى الله تعالى، وأخرجوا المصحف العثماني إلى صحن الجامع، وضجَّ الناس والنساء والأطفال – مكشوفي الرؤوس، وصدقوا الافتقار إلى الله، فأغاثهم (23)  : "أمّن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء" (النمل).

وكان من أسباب الله التي جعل فيها النصر لأهل دمشق وصول جيوش الموصل وحلب في الوقت المناسب، فقد اتصل كل من سيف الدين غازي وأخوه نور الدين بمعين الدين أنر لتنسيق التعاون بينهم ضد الفرنجة ولم يكن معين الدين أنر حاكم دمشق يرغب بدخول سيف الدين ونور الدين دمشق وكان في الوقت نفسه يهدد الفرنجة بتسليم دمشق لسيف الدين أو لنور الدين إذا حاولوا اقتحامها وراسل حكام القدس ووعدهم بتسليم حصن بنياس لهم إذا أقنعوا الإمبراطور كونراد والملك لويس بالانسحاب عن دمشق.

وترافقت هذه الاتصالات مع حدوث خلاف بين الفرنجة أنفسهم حول من سيحكم دمشق بعد احتلالها(24) ، قبل حكام القدس عرض معين الدين أنر؛ وأقنعوا الإمبراطور كونراد والملك لويس بضرورة الانسحاب خوفاً من تسليمها لسيف الدين غازي "ملك الشرق" (25)  ، الذي إن تسلمها طمع باحتلال القدس وباقي الإمارات الفرنجية فيما بعد فيزول الوجود المسيحي كله من الشرق.

انسحبت جيوش الفرنجة إلى فلسطين ومنها غادر الإمبراطور كونراد عن طريق البحر إلى القسطنطينية في طريق عودته لألمانيا، بينما تأخر الملك لويس عدة أشهر ثم غادر بطريق البحر إلى فرنسا (26). وهكذا انتهت أكبر حملة فرنجية إلى الفشل الذريع بسبب تضامن الإمارات الإسلامية، كالموصل وحلب مع دمشق وسلاجقة الروم في وجه العدوان، وبسب توفر إرادة المقاومة والقتال في نفوس القادة، بعكس الوضع الذي حصل خلال الحملة الفرنجية الأولى التي حققت أهدافها باحتلال معظم بلاد الشام بسبب اختلاف هذه الإمارات وعدم توفر إرادة القتال وضعف روح المقاومة في نفوس الحكام.

وكان نور الدين محمود المستفيد الرئيسي من فشل الحملة الفرنجية الثانية، بعد حاكم دمشق، فقد برزت أهمية الدور الذي قام به وأخوه سيف الدين غازي في إرغام الفرنجة على الانسحاب عن دمشق خائبين، وظهرت بالتالي أهمية التعاون والتضامن بين الإمارات الإسلامية في حمايتها من أطماع الفرنجة وهذا ما كان نور الدين محمود يسعى لتحقيقه باعتباره الخطوة الأولى على طريق الوحدة التي كانت تمثل الهدف الاستراتيجي له في سبيل تحرير البلاد من الاحتلال الفرنجي، كما أدرك نور الدين محمود بعد فشل الحملة الفرنجية الثانية الأهمية الكبيرة لدمشق في مواجهة الفرنجة سواء من حيث موقعها الجغرافي المواجه لأكبر وأقوى الإمارات الفرنجة (مملكة القدس) أم من حيث إمكانياتها وكثرة مواردها وقوتها البشرية، فترسخت فكرة الاستيلاء عليها في نفسه وأخذ يسعى لتحقيق ذلك معتمداً الوسائل السلمية ومستفيداً من تجربة والده في هذا المجال (27).

- مشاركة فقهاء المغاربة للدفاع عن دمشق: لم يقتصر المشاركة الفعلية للفقهاء في القتال على فقهاء مدن بلاد الشام وحدهم، إذ تشير بعض الروايات إلى مشاركة أولئك الفقهاء المغاربة والأندلسيين الذين كانوا يقيمون ببلاد الشام في تلك المعارك، فعندما تعرضت مدينة دمشق عام 543ه/1147م للغزو الصليبي شارك أولئك الفقهاء جيوش مدينة دمشق في مواجهة ذلك الغزو؛ وكان منهم الفقيه المغربي حجة الإسلام أبو الحجاج يوسف بن دوناس الفندلاوي المالكي، والشيخ عبدالرحمن الحلحـوني (28)  وكـان الشيخ الفنـدلاوي كبيراً زاهداً عابداً – خرج راحلاً، فراه معين الدين – حاكم دمشق – فقصده وسلَّم عليه وقال له: يا شيخ، أنت معذور، ونحن نكفيك، وليس بك قَّوة على القتال، فقال قد بعت واشترى، فلا نُقيلهُ ولا نستقيله يعني قول الله تعالى: "إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة" (التوبة : 111) وتقّدم فقاتل الفرنج حتى قتل رحمه الله شهيداً (29) . واستشهد الشيخ الحلحوني بعد قتال واستبسال (30) ورؤي الشيخ الفندلاوي في المنام بعد استشهاده فقيل له: أين أنت ؟ قال في جنات عدن على سُرر متقابلين (31).

____________________

(1) تاريخ الزنكيين في الموصل وبلاد الشام ص 171.

(2) دور نور الدين في نهضة الأمة ص 94.

(3) المصدر نفسه ص 94.

(4) المصدر نفسه ص 94.

(5) تاريخ سلاجقة الروم في آسيا الصغرى ص 146.

(6) المصدر نفسه ص 146.

(7) ذيل تاريخ دمشق ص 197.

(8) تاريخ سلاجقة الروم في آسيا الصغرى ص 146.

(9) المصدر نفسه ص 147.

(10) المصدر نفسه ص 147.

(11) تاريخ سلاجقة الروم في آسيا الصغرى ص 147.

(12) دور نور الدين في نهضة الأمة ص 95.

(13) المصدر نفسه ص 95.

(14) المصدر نفسه ص 96.

(15) المصدر نفسه ص 96.

(16) تاريخ الحروب الصليبية رنسيمان ص 523.

(17) نور الدين محمود سيرة مجاهد صادق ص 212 - 213.

(18) دور نور الدين في نهضة الأمة ص 151.

(19) تاريخ الحروب الصليبية رنسيمان (2/407 – 409).

(20) دور الفقهاء والعلماء المسلمين في الشرق الأدنى ص 254.

(21) المصدر نفسه ص 255.

(22) المصدر نفسه ص 255.

(23) شذرات الذهب (6/219).

(24) تاريخ الحروب الصليبية (2/255).

(25) الباهر ص 89 دور نور الدين في نهضة الأمة ص 96.

(26) نور الدين محمود، حسين مؤنس ص 96.

(27) دور نور الدين في نهضة الأمة ص 97.

(28) موقف فقهاء الشام وقضاتها من الغزو الصليبي ص 125.

(29) أخبار الروضتين (1/190).

(30) دور الفقهاء والعلماء المسلمين في الشرق الأدنى ص 117.

(31) أخبار الروضتين (1/191).

يتبع بإذن الله ..

--------------------

هذه الدراسة تعبر عن رأي كاتبها

 

أعلى الصفحةالسابق

 

الرئيسة

اطبع الصفحة

اتصل بنا

ابحث في الموقع

أضف موقعنا لمفضلتك

ـ

ـ

من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ