ـ

ـ

ـ

مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وقولوا للناس حسنا

اتصل بنا

اطبع الصفحة

أضف موقعنا لمفضلتك ابحث في الموقع الرئيسة المدير المسؤول : زهير سالم

الاثنين 10/10/2011


أرسل بريدك الإلكتروني ليصل إليك جديدنا

 

أبحاث

 

التعريف

أرشيف الموقع حتى 31 - 05 - 2004

ابحث في الموقع

أرسل مشاركة

سُنَّة التدافع أم هو صراع الحضارات ؟

د. محمد عبد الرحمن المرسي

عضو مكتب الإرشاد بجماعة الإخوان المسلمين

تعريف الحضارة :

لغوياً: الإقامة فى الحضر مقابل البداوة (وهى سكنى البادية) .

وفى اصطلاح العلماء : تطلق على مظاهر الرقى الإنسانى فى كافة نواحيه: العقلية والروحية والأخلاقية والأدبية والمادية (أى الدينية والدنيوية) .

وهى تشمل عندما تطلق تسميتها – الحضارات الإنسانية – التراث الإنسان كله وعلاقته بالكون وما وصل إليه من علم وعمل وإنتاج فى جميع الميادين وعندما نخصصها بأمة من الأمم، فانها تعنى تراث هذه الأمة وما يميزها عن غيرها من الأمم كالرومانية والأغريقية والفرعونية..الخ.

أمام التقدم العلمى المجرد وما ينتج عنه من منافع فليس بمفرده يمثل حضارة وإنما هو استفادة من القوانين التى خلقها وأودعها الله هذا الكون.

وبالتالى نستطيع أن نعرّف الحضارة أنها التفاعل الناتج لثلاث محاور أساسية هى:

1. مقدار ما تحوزه من قيم ومبادئ أساسية، وكلما زاد مقدار هذه القيم واتساعها وشمولها كلما كانت الحضارة قوية مزدهرة تحمل عوامل الاستقرار .

2. مقدار التطبيق العملى لهذه القيم التى تحوزها، وتمسك أهلها بذلك جيلاً بعد جيل.

3. مدى استخدام التعمير الكونى الذى وصل إليه الجهد البشرى، لفائدة الإنسان وسعادته.

وبالتالى تكون هناك حضارات فاسدة تستغل القوة المادية فى السيطرة والظلم،فقيرة فى القيم والمبادئ،لا تلبث أن تنهار .. مثل حضارة قوم عاد وثمود، حيث تفتقر إلى باقى العناصر الأساسية لمفهوم الحضارة وهذا الجهد البشرى فى تعمير الأرض واكتشاف ما أودعه الله فيها من قوانين وإمكانيات مسخرة للإنسان ، يختلف من عصر إلى آخر حسب التطور العلمى والرصيد الإنسانى فى هذا المجال.

فإذا كان توجيهه لصالح البشرية وسعادة الإنسان، فإنه يعتبر تعميراً إيجابياً ومؤشراً من مؤشرات استقرار الحضارة وازدهارها.

وإذا تم توجيهه لغير ذلك من انحراف فى السلوك الإنسانى أو التعدى على باقى البشر كان تعميراً سلبياً يؤدى إلى الشقاء.

فقد يوجد التقدم المادى ويوجد معه التخلف الحضارى الروحى والإنسانى، و يصبح الإنسان متأخراً رغم ما يمتلكه من مظاهر التقدم العلمى، بل قد يكون هذا التقدم الفائق سبباً فى غروره وارتكاسه وانهيار تقدمه المادى كله، وهذا ما نشاهده فى الحضارة الغربية الآن.

الحضارة الإسلامية:

هى الحضارة التى قامت وفق المنهج الإسلامى ومبادئه وقادها ووجهها الأنبياء والرسل، عبر التاريخ البشرى.

وقد يقصد بها فى الحديث أحد أمرين:

1. إما مجموعة القيم والمبادئ التى تقوم عليها وتوجه البشرية للأخذ بها، وبالتالى فإنه فى هذا التحديد ، تمثل قيم الإسلام ومنهجه الذى أنزله رب العالمين قمة الحضارة وكمال الإنسانية وذروة الرقى الذى تنشده البشرية، لا يماثلها فيه أىّ منهج أو يشترك معها فيه أىّ دعوة أرضية أخرى، وما كان من بعض القيم فى الدعوات والحضارات الأرضية الأخرى، فهو من تأثير الحضارة الإسلامية وقيمها عبر التاريخ البشرى... فهى – أى الحضارة الإسلامية – هى الحضارة الحقة لا يشاركها فى هذا الأمر شيء آخر.

2. أو نقصد بها المعنى التطبيقى البشرى للحضارة، أى نتاج التطبيق العملى لأمة الإسلام لهذا المنهج الربانى، ومدى تنفيذها وتمثلها له.

وبمقدار تطبيقها والتزامها فهماً وعملاً ودعوة وحركة، يكون اقترابها من هذا النموذج الحضارى الكامل.

ولهذا يمثل تاريخ الحضارة الإسلامية عبر عصوره المختلفة الجهد البشرى الذى تم فى هذا الميدان، ومدى تفاوته بين الضعف والقوة وبين الاستقامة والانحراف ، كما يمثل النموذج العملى للتطبيق فى عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة الكرام، النموذج البشرى القدوة فى هذا الأمر، وبالتالى نستطيع بهذا الميزان أن نقيّم هذا التطبيق وأن نطور فيه وأن نراجع جوانب القصور والضعف.

وقد قدر الله عز وجل عوامل يقوم عليها ثبات واستقرار او انهيار وتراجع تلك الحضارات البشرية، وهذه القواعد مجردة لا تجامل أحداً حتى لو انتسب إلى الإسلام.

من سمات الحضارة الإسلامية ومقوماتها:

أنها ذات صبغة ربانية، إنسانية، عالمية، فمرجعيتها ومبادئها تستمدها من المنهج والدين الذى أنزله رب العالمين، وليس من طائفة من البشر، يعتريها القصور والتحيز البشرى، وكذلك من سماتها هذا البعد الإنسانى الذى يعتمد على الجهد البشرى، والقواعد التى تنظمه والاحتياجات المتوازنة التى يتطلبها ، والبعد العالمى فهى حضارة ليست خاصة بجنس دون آخر أو بمكان أو زمن محدود بل هى ممتدة شاملة عالمية الانتشار والاتساع، وهى تقوم بذلك على الاتساق الفطرى داخل الإنسان ومتطلباته وكذلك الاتساق بين الإنسان والكون، وتعتمد فى التطبيق أساساً على الإيمان بالله ومراقبته وتزكية النفس البشرية بجانب القوانين والقواعد الأخرى.

ومن مقوماتها:

1. الإيمان بالله واللجوء والمرجعية إليه وإلى منهجه القويم.

2. العلم وتعمير الكون وتوظيفه الإيجابى.

3. العمل الصالح والتعاون عليه.

4. إقامة العدل وثبات الموازين.

5. الحرية المنضبطة بالحقوق والواجبات.

6. التأكيد على التعاون والتعارف الإنسانى.

7. تلبية الضرورات الإنسانية من حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال، والارتقاء بها وتحسينها وتكميلها بما يناسب كل عصر.

والحضارة الإسلامية مع أنها عالمية وشاملة، إلا أنها لا تلغى خصوصية كل أمة داخلة تحت لوائها واعتزازها بتاريخها وإنجازاتها ، لكن كل هذا يصب فى الإطار العام لوحدة الأمة الإسلامية وحملها لرسالتها العالمية وللقيم ا لإسلامية العامة.

الفرق بين الأخلاق والقيم الإسلامية والأخلاق الإنسانية العامة:

من آثار قيام الحضارة الإسلامية منذ فجر التاريخ، كانت هذه القيم التى تعرف عليها الإنسان، ورغم ابتعاده عن الحضارة الإسلامية، أو غياب النموذج التطبيقى لها فى فترات من التاريخ، إلا أنه أصبح هناك قيم إنسانية مشتركة تتفق مع الفطرة السوية مثل العدل – المساواة – الشجاعة – الوفاء – الصدق .. الخ.

وكان هذا من إيجابيات وتأثير التطبيق البشرى فى الحضارة الإسلامية ومع أن القيم الإنسانية المشتركة هذه واحدة فى أصلها، إلا أن الأخذ البشرى لها فى المنظور الإسلامى يختلف عن الأخذ الإنسانى العادى لها، فى بعض الجوانب الهامة:

1. ففى منظومة الأخلاق الإسلامية، يجعل لها مرجعية ثابتة لا تتغير بتغير الأحوال والظروف والمصالح، وهذه التقوى والمراقبة لرب العالمين لها أثرها على الضمير وتذكية النفس.

2. أنه يتسع فى معناها ومجالها ولا يأخذ بجانب واحد من مظهرها ويترك الجوانب الأخرى ، فنجد مثلاُ الجندى شجاعا فى الحرب لكنه ضعيف أمام المتغيرات وهوى النفس، فى المناهج الأخرى .

3. أنه يعمق من أبعادها فى النفس فلا تتأثر أو تهتز بالمؤثرات والضغوط الخارجية.

4. أنه لا يخص فى ممارستها جنساً دون آخر، ولكنها أخلاق ثابتة مع الجميع وفى كل الأحوال.

5. أنها تتوازن مع باقى الأخلاقيات ، ومع باقى الجوانب والمتطلبات البشرية ا لأخرى لأنها صادرة عن منهج متكامل من وضع رب العالمين وهو سبحانه العليم الخبير.

ولذا فإن أصحاب الرصيد من الأخلاق الإنسانية العامة هم أقرب الناس للتمثل بأخلاق الإسلام والإيمان برسالته يقول صلى الله عليه وسلم : "خياركم فى الجاهلية خياركم فى الإسلام إذا فقهوا" لأن معدنه وجوهره الصالح هذا يزداد صلاحاً وقوة ونفعاً فى ظل الإسلام وعقيدته.

وكما ذكرنا فإن اجتهاد الإنسان وسعيه فى الأرض والكون، تحكمه موازين عامة لا تختص بفئة دون فئة أو منهج دون منهج، ومن أخذ بها وصل لنتيجتها وثمرتها لكن هذه النتيجة تكون على أصل القيم والمبادئ السائدة لهذه الفئة وهى تصبغها بروحها وفلسفتها.

وبالتالى فإن قيم وأخلاقيات الإسلام تعالج الآثار السلبية وتهذب من طبيعة الإنسان التى تميل للسيطرة والاستغلال والأنانية.

وبالتالى هناك فرق كبير بين النموذج البشرى لإقامة الحضارة الإسلامية وبين النماذج البشرية الأخرى التى لا تؤمن بهذه الرسالة.

فرق فى المنطلق والصبغة والأهداف فرق فى الاستمرارية،فرق فى تلبية جميع حوائج الإنسان وتحقيق التوازن النفسى والروحى والمادى فلا يطغى جانب على جانب،فالمنهج الإسلامى يسمو بها ويحقق التوازن ويوسع من دائرتها فى النفس ويربطها بأصلها ويوظفها فى التطبيق لتكون فى كل الأحوال فهم قد يعدلون مع أشخاصهم لكن يظلمون الشعوب الأخرى، وتجعل من الضمير البشرى حارساً عليها، قبل القانون لأنه يستمد ذلك من تقوى الله ومراقبته.

 

أسباب انهيار الحضارات:

وهى قواعد وأسس مجردة، لا تجامل أحداً أو تحابى حضارة على أخرى، ويكون الوزن النسبى لاستمرارها وقوتها بمقدار ما لديها من قيم وأخلاق إنسانية متمسكة بها وكذلك من إقامة ميزان العدل والمساواة، ورسوخ القيم الإيجابية ومبدأ التناصح ووحدة المجتمع وتكافله فى هذا وقد كان أحد أسباب هلاك بنى إسرائيل أنهم كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه،ويقول الإمام ابن القيم "إن الله ينصر الدولة العادلة ولو كانت كافرة على الدولة الظالمة ولو كانت مسلمة" ويقول "والصبر منصور أبدا فإن كان صاحبه محقا كانت له العاقبة وإن كان غير ذلك فبحسب ما معه من الحق"( ) .

وبالتالى نستطيع أن نشير إلى أهم هذه الأسباب:

1. غياب ميزان العدل والقسط " إنما أهلك من كان قبلكم إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق الضعيف أقاموا عليه الحد" ﴿ وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ ﴾ [ الأنبياء: 11] .

2. غياب صوت الإصلاح المؤثر فى المجتمع فى مواجهة الفساد والانحراف ﴿ وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَىٰ بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ ﴾ [ هود : 117]

3. ترف شريحة النخبة وفسادها وفسقها ﴿ وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا﴾ [ الإسراء : 16] ، ﴿ وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا ﴾ [ القصص: 85]

4. انحدار رصيد الأخلاق الحميدة بين أفراد المجتمع ، أو ضعف الرصيد الأخلاقى عن تلك الحضارة وظهور الصراع الداخلى بين أفرادها .

5. غلبة مساحة الظلم والإفساد فى الأرض على مساحة الإصلاح.

بالإضافة إلى موقف الكافرين من الأنبياء والرسل وما جاءوا به { وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ } [ سبأ : 34] {وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلا لَهَا مُنذِرُونَ }[ الشعراء: 208] فكان هذا سببا لهلاكهم وقد صاحب موقفهم وتكذيبهم للرسل، صوراً مختلفة للظلم والتعدى والإفساد فى الأرض.

واقع الحضارة الإسلامية:

تكلمنا سابقاً عن الحضارة الإسلامية كقيم ومبادئ، ونشير هنا إلى الحضارة الإسلامية كواقع فى التطبيق ومدى تحقيق النموذج المتكامل، فبمقدار تطبيق المجتمعات الإسلامية مبادئ وقيم ورسالة الإسلام، وبمقدار أخذهم والتزامهم بهذه السنن والموازين التى قدرها الله فى الأرض، بمقدار تحقيقهم للمستوى الحضارى المطلوب، وكان هذا هو واقع تاريخ الأمة الإسلامية من ازدهار وتراجع لحضارتها عندما خالفت هذه الأسس.

وعوامل التراجع هذه فى تاريخ الأمة، كان سببها الرئيسى التفريط فى السنن والعوامل الداخلية وعدم الالتزام بالمنهج والرسالة فى المجتمعات الإسلامية، أما العامل الخارجى من الأعداء والضغوط المختلفة فلم يكن هو العامل الحاسم لهذا التراجع والانهيار، وإنما كان عاملاً مساعداً كشف عن جوانب الخلل، وساعد على هذا التراجع الشديد ..

نوجز الأسباب الرئيسية للتراجع الحضارى للأمة الإسلامية فى الآتى:

1. ترك رسالتها العالمية والجهاد فى سبيلها،

2. وعدم إقامة منهج الإسلام وشريعته الإقامة الصحيحة .

3. التنازع فيما بينها وتمزق وحدتها واجتماع كلمتها .

4. الركون إلى الدنيا والترف بما يحمله من آثار ضارة و(حب الدنيا وكراهية الموت).

5. التأخر العملى فى الأخذ بكل أسباب القوة والتخلف التكنولوجى وعدم امتلاك أسباب القوة فى كل مجالاتها (غثاء كغثاء السيل ) .

هذا بالإضافة إلى سريان سنن وقوانين الله فى تقدم وانهيار الحضارة عليها.

ومع هذا الواقع نجد أن مرحلة النهوض واليقظة قد بدأت بما تحتاجه من إحياء تلك المبادئ والتطور والتجديد بما يحافظ على الأصالة والهوية وبما يناسب أسلوب ولغة العصر الحديث وبما يغطى متطلبات تلك النهضة الحضارية ويكافئ تحدياتها.

ولهذا الأمر الهام وضع الإمام الشهيد حسن البنا، أسس النهضة والمشروع الحضارى للأمة الإسلامية كلها وفق أهداف وخطوات ومراحل ثابتة ومتدرجة ليأتى من بعده، فيعمل فى التفاصيل ويترجم المنهج – والذى استمده الإمام من رسالة الإسلام و هدى رسول الله صلى الله عليه وسلم - إلى خطوات عملية تسير بها إلى نهاية الشوط.

وبالتالى هو المشروع الإسلامى الشامل الوسطى الذى يحوز اتفاق الأمة، التى ليس لها أن تتشتت ويظهر لها كل فترة مشروعاً آخر يتناول جزئية من الجزئيات أو يبدأ معها من الصفر أو يعمل منفرداً أو متباعداً أو متعارضاً مع هذا المشروع الكامل المستمر بقوة ويتقدم بثبات رغم كل المعوقات،وهو فى مبادئه وأصوله وأهدافه لا يرتبط بشخص الإمام بل يرتبط أساساً بمنهج الإسلام الذى وضحه وبلوره وأيقظ القلوب حوله ووضع الخطوات العملية لتطبيقه.

وقد طرحه الإمام الشهيد على الأمة لمناقشته والتوافق عليه والمساهمة فيه، وبين فيه أسس اكتماله ومدى ارتكازه على هدى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومراعاته لسنن التمكين ومكافأته للواقع، والقدرة على تحويله إلى واقع عملى.

يقول الإمام البنا " إن ميدان القول غير ميدان الخيال، وميدان العمل غير ميدان القول، وميدان الجهاد غير ميدان العمل، وميدان الجهاد غير ميدان الجهاد الخاطئ، يسهل على كثيرين أن يتخيلوا، ولكن ليس كل خيال يدور بالبال، يستطاع تصويره أقوالاً باللسان، وإن كثيرين يستطيعون أن يقولوا ولكن قليلاً من هذا الكثير يثبت عند العمل، وكثير من هذا القليل يستطيع أن يعمل، ولكن قليلاً منهم يقدر على حمل أعباء الجهاد الشاق والعمل المضنى، وهؤلاء المجاهدون وهم الصفوة القلائل من الأنصار قد يخطئون الطريق ولا يصيبون الهدف إن لم تتداركهم عناية الله "( ) .

والواقع الذى تواجهه الأمة الإسلامية اليوم هو حرب حضارة من المشروع الغربى يستهدف منع أو إعاقة عودة الأمة الإسلامية لحضارتها ومكانتها العالمية لعلمهم اليقينى بانهيار حضارتهم وآثارها السيئة والتى فشلت فى إسعاد البشرية وعدم صمودها أمام التطبيق الصحيح للحضارة الإسلامية.

ويدفعهم كذلك لهذه الرغبة، الهيمنة على مصادر القوة المتوافرة فى محيط الأمة الإسلامية، وكذلك لفرض واقعهم الحضارى حتى تصبح هذه المجتمعات الإسلامية تابعة لهم خاضعة لهويتهم وأفكارهم وسلوكياتهم وسياستهم.

رؤية الإمام البنا لواقع الحضارة الإسلامية والنهوض بها:

يوجز الإمام الشهيد رؤيته فى هذا المسار التاريخى، بما نشير إليه فى تلك النقاط السريعة:

1. الحضارة الإسلامية هى الحضارة الحقيقية الشاملة للمادة والروح معاً والتى تتسق وتنسجم مع ناموس الكون وفطرة الإنسان وترتقى به الرقى الحقيقى فى كل جوانبه.

2. وتقوم تلك الحضارة على منهج ربانى هو الإسلام يؤهلها لقيادة الإنسانية وأستاذية الأمم والعالم كله..وهذه الخيرية لأمة الإسلام { كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ... } [آل عمران : 110] مشروطة باتباع منهج الله وأداء رسالة الإسلام، فهى خيرية دعوة ومنهج وليست خيرية جنس أو قوم أو عصبية .

يقول الإمام الشهيد :" قرر الإسلام سيادة الأمة الإسلامية وأستاذيتها للأمم فى آيات كثيرة من القرآن .. ثم أوجب على الأمة المحافظة على هذه السيادة وأمرها بإعداد العدة واستكمال القوة حتى يسير الحق محفوفاً بجلال السلطة كما هو مشرق بأنوار الهداية {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ} [ الأنفال: 60] "( ).

هذه هى الرسالة والمهمة التى صارت إليها أمة الإسلام، بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وسادت بحضارتها الإسلامية الدنيا كلها .

3. ويحذر الإمام من الانحراف فى أداء هذه الأستاذية: " ولم يغفل التحذير من سورة النصر، ونشوة الاغترار، وما تجلبه من مجانبة للعدالة وهضم للحقوق فحذر المسلمين من العدوان على أية حال "( ) .

4. ثم يوضح الإمام أنه نتيجة : للبعد عن الدين وجوهره، وعدم الأخذ بأسباب القوة تسللت عوامل الضعف والتحلل فى كيان الأمة الإسلامية: " 1- من انتشار الخلافات السياسية والعصبية، 2- وتنازع الرياسة والجاه، 3- والخلافات المذهبية والدينية، 4-والانصراف عن الدين كعقائد وروح وحياة، 5- وكذلك الانغماس فى الترف والنعيم والشهوات، 6- وغرور الحكام واستبدادهم، 7- الانخداع بوسائل الخصوم والمنافقين، 8- وإهمال العلوم العملية والمعارف الكونية. "( ) .

5. ثم جاءت – وحال الأمة هكذا – محاولات الأعداء للقضاء على الأمة الإسلامية، ويوضح الإمام أيضاً جذور هذا العداء وتلك الحرب على أمة الإسلام. " .. أخذت هذه العوامل تعمل فى كيان الدولة الإسلامية، والأمة الإسلامية عملها، وظنت الأمم الموتورة أنه قد سنحت الفرصة، لتأخذ بثأرها وتقضى على هذه الدولة الإسلامية التى فتحت بلادها من قبل وغيرت معالم أوضاعها فى كل شئون الحياة" ( ) .

ويقول أيضاً " .. وإنهم إن تفرقوا فى مطامعهم واختلفوا فى منازعهم، فهناك سبيل واحد اتفقوا عليه وأقسموا ليُنفذنَّه، هو القضاء على الإسلام والمسلمين، وهى إحن صليبية وسياسة رجعية تدفعهم إلى أعمال هى إلى الوحشية والجنون أقرب .. لا تخدعوا أنفسكم أيها المسلمون وحسبكم غفلة وحسن ظن بالأيام، فقد وصف الله لكم القوم فى كتابه فقال تعالى : { وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىٰ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا } [ البقرة 217] .

وقال نبيه صلى الله عليه وسلم ما هو أصرح من ذلك وهم لا يرضيهم منكم إلا الردة وإلا الاستعباد، وبعد كل هذا لهم معكم حقد قديم ينتقمون منكم به " ( ) .

6. ونجحت الأمم الأوروبية فى هذه المرحلة، ونشرت حضارتها المادية . يقول الإمام : " وقد عمل الأوروبيون جاهدين على أن تغمر موجة هذه الحياة المادية بمظاهرها الفاسدة وجراثيمها الفتاكة، جميع البلاد الإسلامية التى امتدت إليها أيديهم .. مع حرصهم الشديد على أن يحتجزون دون هذه الأمم عناصر الصلاح والقوة من العلوم والمعارف الصناعية والنظم النافعة وقد أحكموا خطة هذا الغزو الاجتماعى إحكاماً شديداً، واستعانوا بدهائهم السياسى، وسلطانهم العسكرى، حتى تم لهم ما أرادوا وتمكنوا بعد ذلك من أن يغيروا قواعد الحكم والقضاء والتعليم، وأن يصبغوا النظم السياسية والتشريعية .. والثقافية بصبغتهم الخاصة فى أقوى بلاد الإسلام" ( ) .

ويقول رحمه الله أيضاً : " ولكن هذه الحضارة الغربية قد غزتنا غزواً قوياً عنيفاً ب: العلم، والمال، وبالسياسة، والترف، والمتعة، واللهو، وضروب الحياة الناعمة العابثة المغرية .. واندفعنا نغير أوضاعنا الحيوية ونصبغ معظمها بالصبغة الأوروبية، وحصرنا سلطان الإسلام فى حياتنا على القلوب والمحاريب، وفصلنا عنه شؤون الحياة العملية .. وهذه الحياة الغربية بما تحتويه من مباهج ومفاتن، وبما لها من مظاهر القوة المادية تحاول أن تسيطر وتهيمن على ما بقى لنا من شئوننا الحيوية" ( ) .

7. ونتيجة تلك الحرب يتراءى للراصد مدى التفوق والسيطرة المادية والثقافية والاجتماعية والسياسية والعسكرية مما يعتقد معه أن المعركة انتهت لصالحهم، لكن هناك أمر أساسى وهام لم تُحسم حوله المعركة هو الشخصية الإسلامية ومدى صلاحيتها واستعدادها لأن تنهض من جديد وأن تمتلئ بالإسلام وتعيد مجده وحضارته وإن مظاهر هذا البعث بما تشمله من حركات وطنية وإسلامية قد بدأت.

لهذا تدور المعركة بقوة حالياً لتدمير هذه الشخصية الإسلامية وإفراغها من مضمونها وصنع نموذج خاضع لهم مشوه فى رؤيته وأفكاره وفى همته وإيمانه برسالته فيذوب فى شخصيتهم وحضارتهم الغربية، وكلهم أمل فى أن ينجحوا مثلما نجحوا مع الهنود الحمر ومع اليابانيين وغيرهم وبالتالى ندرك أهمية هذه المعركة الفاصلة التى تدور حول الأجيال الحالية والقادمة لأمة الإسلام وكيفية تربيتها وصياغتها الصبغة الإسلامية المتكاملة.

يقول الإمام البنا: "ونستطيع بعد ذلك أن نقول: إن الحضارة الغربية بمبادئها المادية قد انتصرت فى هذا الصراع الاجتماعى على الحضارة الإسلامية بمبادئها القويمة الجامعة للروح والمادة معاً" فى أرض الإسلام نفسه وفى حرب ضروس ميدانها نفوس المسلمين وأرواحهم و عقائدهم وعقولهم، كما انتصرت فى الميدان السياسي والعسكرى، ولا عجب فى هذا، فإن مظاهر الحياة لا تتجزأ والقوة قوة فيها جميعاً، والضعف ضعف فيها جميعاً كذلك { وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [ آل عمران: 140] "( ).

ورغم شدة الهجمة، فإن مبادئ الإسلام ما زالت قائمة : " وإن كانت مبادئ الإسلام وتعاليمه ظلت قوية فى ذاتها، فياضة بالخصب والحياة جذابة أخاذة بروعتها وجمالها، وستظل كذلك، لأنها الحق، ولن تقوم الحياة الإنسانية كاملة فاضلة بغيرها، ولأنها من صنع الله وفى حياطته {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [ الحجر: 9]، { وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ } [ التوبة : 32] ( ).

8. وأصبح واجباً علينا استرداد دورنا، وإقامة نهضتنا وحضارتنا، يقول الإمام : "وهكذا أيها الإخوان أراد الله أن نرث هذه التركة المثقلة بالتبعات، وان يشرق نور دعوتكم فى ثنايا هذا الظلام وأن يهيئكم الله لإعلاء كلمته، وإظهار شريعته وإقامة دولته من جديد {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ } [ الحج: 40] ( ).

ويقول أيضاً : " وشاءت لنا الظروف كذلك أن نواجه أغاليط الماضى ونتجرع مرارتها، وأن يكون علينا رأب الصدع، وجبر الكسر وإنقاذ أنفسنا وأبنائنا، واسترداد عزتنا ومجدنا وإحياء حضارتنا وتعاليم ديننا"( ).

9. " لهذا يدعو الإخوان المسلمون إلى أن يكون الأساس الذى تعتمد عليه نهضتنا : توحيد مظاهر الحياة العملية فى الأمة على أساس الإسلام وقواعده" .

وأن علي الأمة طريقاً طويلاً من الجهاد لتحقيق هذه الغاية: " وإنما عليها أن تعد نفسها لكفاح طويل عنيف، وصراع قوى شديد بين الحق والباطل، بين النافع والضار، وبين صاحب الحق وغاصبه، وسالك الطريق وناكبه، وبين المخلصين الغيورين والأدعياء المزيفين، وأن عليها أن تعلم أن الجهاد من الجهد، والجهد هو التعب والعناء، وليس للأمة عدة فى هذه السبيل الموحشة إلا النفس المؤمنة، والعزيمة القوية الصادقة والسخاء بالتضحيات، والإقدام عند الملمات، وبغير ذلك تغلب على أمرها ويكون الفشل حليف أبنائها"( ).

ويقول أيضاً : " إن تكوين الأمم وتربية الشعوب يحتاج من الأمة إلى قوة نفسية عظيمة تتمثل فى عدة أمور :

-  إرادة قوية لا يتطرق إليها ضعف.

-  ووفاء ثابت لا يعدو عليه تلون ولا غدر.

-  وتضحية عزيزة لا يحول دونها طمع ولا بخل.

-  ومعرفة بالمبدأ وإيمان به وتقدير له يعصمه من الخطأ فيه والانحراف عنه والمساومة عليه والخديعة بغيره.

وكل شعب فقد هذه الصفات الأربع، أو على الأقل فقدها قواده ودعاة الإصلاح فيه، فهو شعب عابث مسكين لا يصل إلى خير ولا يحقق أملاً "( ).

ويقول: " بهذه المشاعر الثلاثة: الإيمان بعظمة الرسالة، والاعتزاز باعتناقها، والأمل فى تأييد الله إياها، أحياها الراعى الأول صلى الله عليه وسلم فى قلوب المؤمنين من صحابته بإذن الله"( ).

10.       " ثم بين الله تبارك وتعالى أن المؤمن فى سبيل هذه الغاية قد باع لله نفسه وماله، فليس له فيها شيء، وإنما هى وقف على نجاح هذه الدعوة وإيصالها إلى قلوب الناس: { إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ } [ التوبة: 111]، ومن ذلك نرى أن المسلم يجعل دنياه وقفاً على دعوته، ليكسب آخرته جزاء تضحيته، ومن هنا كان الفاتح المسلم أستاذاّ يتصف بكل ما يجب أن يتحلى به الأستاذ من: نور وهداية ورحمة ورأفة، وكان الفتح الإسلامى فتح تدين وتحضير وإرشاد وتعليم، وأين هذا مما يقوم به الاستعمار الغربى الآن ؟! "( ).

 

سنة التدافع:

المنهج الإسلامى وما ينبنى عليه من حضارة إسلامية، لا يحمل فى مبادئه الاعتداء على الآخرين أو الغلبة والقهر لأحد، أو سيطرة جنس على آخر أو إشعال الصراع والحرب، وإنما الأصل أن الأمة الإسلامية صاحبة رسالة تشرحها وتوضحها دعوة وتطبيقاً لكل العالم، وهى دعوة إيجابية تواجه كل صور الظلم والاستبداد لتزيله من حياة البشر أياً كان، وكذلك تواجه المعوقات التى تمنع وصول دعوتها للعالمين وتزيلها حتى لو لزم الأمر استخدام القوة.

أما الصور والنماذج الأخرى من الدول والإمبراطوريات أو الأشكال المختلفة من الحضارات الإنسانية الخارجة عن نطاق رسالة الإسلام فكان منهجها قائم على السيطرة والصراع وعصبية الجنس والحروب وكان منهجها تجاه حضارة الإسلام أو من يمثلها هو الحرب والإقصاء ومحاولة القضاء عليها.

وهذا الأمر حقيقة تاريخية وواقع تحدثت عنه آيات القرآنية ورأينها فى قوم عاد وثمود وفرعون وغيرهم عندما جاءتهم دعوة الإسلام، ولهذا كان على أمة الإسلام أن تدفع هذا العدوان وتدفع هذا الظلم، وأن يكون لها موقفاً فاصلاً حاسماً مع الباطل، تراعى فى ذلك مبادئ وقيم رسالتها، وتحذر كل صور الظلم وتجتهد فى إقامة الحق والعدل. {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا } [الحج:40]، { الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ } [ الحج : 41] لهذا كانت هناك " سنة التدافع" التى قررها الله فى الأرض وأصبحت تكليفاً لكل المؤمنين جهاداً خالصاً فى سبيله أن يدفعوا عدوان الباطل ويتصدوا له مهما كانت إمكانياتهم وأن الله على نصرهم لقدير.

وهذا العدوان من الباطل ليس خيالاً أو توهماً وإنما هو أمر واقع وسلوك ضمنى ينبع من الطبيعة البشرية، ومن المنهج الذى تدين به ومن الاعتراض على دعوة الإٍسلام، وبدون هذا التدافع البشرى المؤيد بالرعاية الربانية، لكان حال الأرض إلى الفساد والهلاك وغلبة الباطل عليها.

وهذا التدافع والجهاد له سنن وقوانين يجب على أهل الحق التزامها والتمسك بها وقد وضحتها كذلك سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ويُعرف هذا بسنن التمكين فى الأرض.

ونظرة الإسلام فى تعامل دولته وأمته مع الدول والأمم الأخرى تقوم أساساً على :

1) الدعوة وإبلاغ رسالة الإسلام للجميع.

2) تشجيع التعاون والتعارف فيما فيه خير الإنسانية وفق قيم العدل والمعانى السامية،وبما يحقق سعادة وسلام الإنسانية.

3) المعاملة بالمثل،فمن اعتدى عليها واجهته وردت عدوانه، ومن سالمها سالمته، بما يحفظ لأمتها العزة والكرامة.

والحضارة الإسلامية يتسع صدرها لكل شعوب العالم وحضاراته وقيمه الخاصة به، وحقه فى أن يعتز كل منها بقوميته دون اعتداء على الآخرين. وهى تزن رصيد وتراث وحضارات هذه الأمم بميزان الإسلام وقيمه، فما وافق منها مبادئ الإسلام أقرته، وما خالفها أوضحت رأيها فيه، وهى تأخذ بالنافع المفيد مما فيه عمران الأرض والكون وتستفيد من خبرات الآخرين، وتصبغه بالصبغة الإسلامية، وتوجهه التوجيه النافع الصالح لها وللبشرية.

وأمة الإسلام تدرك سُنّة التدافع فى الكون، وأنه لابد للحق من دعاة يحملونه وأمة تتبناه وتقر مبادئه، وتؤمن له الحرية والحماية وتدفع الاعتداء والظلم فى الأرض.

 

صراع الحضارات، والمقصود من الحوار:

نحدد أولا ما المقصود بهذا الصراع، وما هى أبعاده؟

فهناك مثلاً صراع المبادئ والقيم، وإذا كان هذا أمر وارد بين اجتهادات البشر فالأصل فيه هو الحوار والجدال ولكن بعض الدول تتبنى منطق السيف والقهر لإظهار وسيطرة مبادئها وإرغام الناس عليها.

وإذا نقلنا الحديث عن الإسلام بقيمه ومبادئه وعن النماذج البشرية الأخرى بقيمها المنحرفة عنه، فالأصل عند الإسلام هو {ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ } [النحل:16] وما كان الجهاد والسيف إلا لدفع الاعتداء، أو لإزالة الظلم والمعوقات التى تحول بين الإنسان ووصول دعوة الإسلام إليه، ولتأييد وحماية حركة الدعوة ثم بعد ذلك من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر.

لكن الواقع التاريخى أن الباطل وقيمه المنحرفة عن قيم الإسلام،لا يحتمل هذه المواجهة الفكرية ولا يصمد أمامها فكان يلجأ للعنف والتعذيب والقتل والنفى لمواجهة هذه الدعوة .

إن الحضارة والفلسفة الغربية ما زالت تقوم على فكرة صراع الحضارات واستهدافها، إخضاع وقهر الدول والحضارات الأخرى وسيطرة الجنس الغربى على العالم كله، بل ومع طبيعتها تلك يوجد صراعات أخرى داخلية فيما بينها لا تكف عنها حيث هناك من يستفيد من آلة الحرب، ويستغل هذه الفلسفة، وقد يأخذ الصراع صوراً أقل حدة من الحرب المباشرة إلى صراع المشروعات وتقاطع المصالح.

والإسلام يرحب بأى دعوة للحوار لعرض مبادئه وقيمه وإظهار سموها،فهى من عند رب العالمين، وكذلك يرحب أن نتعاون فى إطار القيم المشتركة المتفق عليها وما فيه من صالح العدل ورقى البشرية وقد عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم الاستجابة لمبادئ حلف الفضول الذى فيه نصرة للضعيف ومنع للظلم.

لكن أن يكون معنى الحوار وهدفه أن يتنازل الإسلام قليلاً عن بعض مبادئه لنلتقى فى منتصف الطريق ، فهذا خروج على الحق وخروج على رسالة الإسلام وليس بحوار وتعاون، أو أن تكون الدعوة إلى الحوار وإشاعة الودّ فى ناحية، ومن ناحية أخرى يقوم بالظلم والاضطهاد والاغتصاب لحقوق المسلمين وبلادهم ولا يحرك ساكناً تجاه ذلك، فهذه دعوة للتخاذل والتسليم، وازدواجية فى المقاييس والمواقف، ولعب بالعقول واستهزاء بالحقوق.

إن الحوار لابد أن يقوم على أسس واضحة من الحق والعدل الذى لا يتجزأ ومن الموقف الواضح العملى من أى ظلم واعتداء.

وهناك صورة من الصراع ليس من أجل القيم والمبادئ ولكن من أجل المصالح والسلطان وامتلاك القوة، وهذا نراه كثيراً بين الدول وبعضها البعض، وإذا كان فى حق أمة الإسلام فقد جمع الأمر بين النموذجين صراع الباطل ضد القيم والحضارة الإسلامية، وصراع دولة للهيمنة والسيطرة على بلاد المسلمين ومقدراتهم.

فكيف يكون الحوار بين أمة الإسلام وهذه الدول المعتدية عليها، إنه لابد أولاً من أن توقف عدوانها أو تمتنع عن مساندة هذا العدوان، وأن ترد كل ما أخذته وتعوض عما اقترفته ثم يأتى بعد ذلك الحوار والتفاهم لإقرار العلاقات وصور التعاون، أما حوار السيطرة والقهر والظلم فهذا مرفوض فى كل منطق ويأباه كل حر.

فهذه الحرب من ناحيتهم هى صراع وعدوان ومن ناحية الأمة الإسلامية هو دفع ورد للعدوان فموقف الأمة الإسلامية من صراع الحضارات أنه صراع مصطنع من حملة الباطل وقوى الظلم والاستبداد، وهى تدعو إلى استبداله بالاتفاق على القيم والمثل الإنسانية وأن تكون حضارة الإنسان منطلقها الإيمان والأخلاق وألا نعبد إلا الله، وأن تقوم حضارة الإسلام التى تحمل نموذج الهداية المستمد من الشريعة الربانية بدورها فى الدعوة والوصول بالإنسانية إلى الرقى الحضارى الإيمانى.

 

خاتمة :

والقوى التى تواجه الأمة الإسلامية فى هذا الصراع أو ذلك التدافع فصّل لنا القرآن وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم طبيعتها ومراحله، وأنه محاولة لمواجهة نور الحق، ومنهج الإسلام ومن يحمله، وأنه لا محالة سيكون الباطل مهزوماً بوعد الله وقدره لكن علينا أن نأخذ نحن بأسباب الثبات والنصر التى قدرها الله إذا أردنا أن نكون من أهل الحق بصدق { وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا } [ الإسراء:81] لكن هذا الصراع العنيف لا يجعل أمة الإسلام تشتط أو تتجاوز أو تظلم وتعتدى { وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ } [ المائدة : 8] .

ويأتى هذا التدافع فيميز الله به الخبيث من الطيب، ومن خلاله تترسخ قيم الحق والعدل فى مواجهة قيم الباطل فى الأرض.. يبدأ الصراع وأهل الحق قلة مستضعفة قليلة فى الوسائل والإمكانيات ، وتتحمل الكثير من الجهد والتضحيات، ويجرى عليهم اختبار الزمن وتمر عليهم أنواع الفتن والابتلاءات،لكى يتم تمحيص الإيمان وتحقيق الصدق والتجرد الكامل لله، ومع استفراغ الجهد البشرى تتأخر عنهم النتيجة { حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ } [البقرة:214] { حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا } [ يوسف: من الآية110] فيكون عليهم الثبات والصبر ، متعلقة قلوبهم بالله وليس بالنتيجة أو بمدة معينة فيأتيهم نصر الله بالأسباب التى يقدرها وفى التوقيت والصورة التى تقتضيها حكمته فلا يظن أحد منهم أنه حقق النصر بفضل مجهوده البشرى أو نتيجة لخطته المحكمة ، وعلى الجانب الآخر تجد أمامها أهل الباطل كثرة متفوقة فى كل الوسائل المادية، ويبذلون أقصى الجهد عندهم، ورغم هذا لا ينجحون فى القضاء على الحق أو ينتصرون فى النهاية ليدركوا أن هزيمتهم لم تكن للتقصير فى الجهد الذى بذلوه وإنما لأنهم باطل فى ذاته وأن ترك الله لهم إلى حين هو إمهال لهم ليريهم قدرة الله ومشيئته المطلقة وتدبيره المحكم .

{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَىٰ جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [ الأنفال: 36] .

--------------------

هذه الدراسة تعبر عن رأي كاتبها

 

   

أعلى الصفحةالسابق

 

الرئيسة

اطبع الصفحة

اتصل بنا

ابحث في الموقع

أضف موقعنا لمفضلتك

ـ

ـ

من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ