ـ

ـ

ـ

مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وقولوا للناس حسنا

اتصل بنا

اطبع الصفحة

أضف موقعنا لمفضلتك ابحث في الموقع الرئيسة المدير المسؤول : زهير سالم

الأحد 10/08/2008


أرسل بريدك الإلكتروني ليصل إليك جديدنا

 

أبحاث

 

التعريف

أرشيف الموقع حتى 31 - 05 - 2004

ابحث في الموقع

أرسل مشاركة


الإسلام وثقافة تحرير العقل والفكر

بقلم : يسري عبد الغني عبد الله

مدخل :

عندما نتحدث عن الإسلام وثقافة تحرير العقل والفكر ، أو بمعنى آخر : منهج الإسلام في تحرير العقل والفكر ، يجب أن نضع في الاعتبار أن الإسلام حرر الإنسان من أغلال الحجر العقلي ، ورباه على حرية الفكر واستقلال الإرادة ، كما حرره من أصفاد الجهل وظلمته ، لأن الجهل يقتل مواهب الفكر والنظر ، ويميت عناصر الحياة والقوة في الأفراد والأمم ، كما أنه دعاه إلى عدم طاعة الأهواء ، والانقياد الأعمى .

وعبر هذه السطور سنحاول أن نوضح كيف واجه الإسلام الحجر العقلي :-

 

في مواجهة الحجر العقلي:

لقد حرر الإسلام الإنسان من أغلال الحجر العقلي ، وسيطرة التبعية العمياء المقيتة ، ورباه على حرية الفكر ، واستقلال الإرادة ، ليكمل بذلك عقله ، ويستقيم تفكيره ، وتكتمل له شخصيته وإنسانيته ، فإن كمال العقل ، واستقامة التفكير ، واستقلال الإرادة ، هي أسس صحة العقائد ، واستقامة التدين ، ورقي الأخلاق ، ومعرفة الحق الذي يجب أن يتبع ، ومعرفة الباطل الذي يجب أن يجتنب ، وقد أشار إلى ذلك رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حينما قال : (( ما اكتسب رجل مثل فضل عقل ، يهدي صاحبه إلى هدى ، ويرده عن ضلال . )) [ متفق عليه ] .

فالإيمان لا يتم عند الإنسان ، وكذلك الدين لا يستقيم ، حتى يكمل العقل ، وقد عني الإسلام ببناء هذه الدعامة عناية كبرى ، وذلك من عدة زوايا :

أولاً : البرهان أساس الإيمان :

لقد جعل الإسلام البرهان أساساً للإيمان الصادق ، والعقيدة الصحيحة ، وبين أن كل اعتقاد ، أو عمل لا يقوم على دلائل الحق فهو مردود على صاحبه ، كما أنذر بشدة الذين يجادلون في الله ، وفي آياته بغير علم، ولا هدى ، ولا كتاب منير .

يقول سبحانه وتعالى : { ومن يدع مع الله إلهاً آخر لا برهان له ، فإنما حسابه عند ربه ، أنه لا يفلح الكافرون . } [ المؤمنون : 17 ] .

وقال تعالى : { ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ، ولا كتاب منير ، ثاني عطفه ، ليضل عن سبيل الله ، له في الدنيا خزي ، ونذيقه يوم القيامة عذاب الحريق . } [ الحج : 8 - 9] .

هذا ، وقد وردت كلمة ( برهانكم ) في القرآن الكريم أربع مرات .

ثانياً : ضلال القادة :

وكشف الإسلام عن ضلال القادة الدينين ، الذين انحرفوا عن العهود والمواثيق المأخوذة عليهم ، وافتروا على الله الكذب ، وتاجروا بالدين والعقيدة ، وانتحلوا لأنفسهم حق التشريع والتحليل والتحريم إرضاءً لأهوائهم ، وتحقيقاً لمصالحهم الدنيوية ، وإشباعاً لشهواتهم ، وتلبيساً على الناس في دينهم .

قال الله تعالى : { وإذا أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لنبينه للناس ، ولا تكتمونه ، فنبذوه وراء ظهورهم ، واشتروا به ثمناً قليلاً ، فبئس ما يشترون . } [ آل عمران : 187 ] .

وقال عز وجل : { فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ، ثم يقولون : هذا من عند الله ، ليشتروا به ثمناً قليلاً ، فويل لهم مما كتبت أيديهم ، وويل لهم مما يكسبون . } [ البقرة : 79]

ويقول جل شأنه : { ولا تقولوا لما تصفوا ألسنتكم الكذب هذا حلال ، وهذا حرام ، لتفتروا على الله الكذب ، إن الذين يفترون على الله الكذب ، لا يفلحون . } [ النحل : 116 ] .

وقال تعالى : { ولا تلبسوا الحق بالباطل ، وتكتموا الحق ، وأنتم تعلمون . } [ البقرة : 42 ].

ثالثاً : الدعوة إلى الحق :

كما دعا الإسلام البشر جميعاً إلى كلمة الحق ، التي هي جوهر الخيرية ، والذي يستجيب لها كل ذي قلب سليم ، وعقل رشيد ، والتي لم يختلف فيها نبي مرسل ، ولا كتاب منزل .

قال الله تعالى : { قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء ، بيننا وبينكم ، ألا نعبد إلا الله ، و لا نشرك به شيئاً ، ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله ، فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون } . [ آل عمران : 64 ] .

رابعاً : النظر في عوالم السماوات والأرض :

لقد طلب الإسلام من كل ذي عقل ، أن ينظر ويتأمل في عوالم السماوات والأرض ، وما فيها من الدلائل الواضحة على وحدانية الله سبحانه وتعالى في ألوهيته ، وربوبيته .

فعلى الإنسان أن ينظر إلى السماء التي فوقه ، كيف بنيت ، وكيف زينت ، وإلى الأرض كيف مدت ، وكيف ألقيت فيها الرواسي ، وكيف أنبت فيها من كل زوج بهيج ، وما هذا الخلق العظيم إلا تذكرة لكل قلب يشعر ويعي ، ولكل عقل يدرك ويفهم.

يقول تعالى : { أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت ، وإلى السماء كيف رفعت ، وإلى الجبال كيف نصبت ، وإلى الأرض كيف سطحت . } [ الغاشية : 17 ]

وعلينا أن نعي جيداً أن في خلق السماوات والأرض ، واختلاف الليل والنهار ، والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس ، وما أنزل الله تعالى من السماء من ماء ، فأحيا به الأرض بعد موتها ، وبث فيها من كل دابة ، وكذلك تصريف الرياح ، والسحاب المسخر بين السماء والأرض ، كل ذلك آيات لأهل العقل والرشاد ، الذين يمشون في طريق النور والمعرفة .

إن الإنسان إذا نظر إلى نفسه ، وعرف مما خلق ، وأنه خلق من ماء دافق ، يخرج من بين الصلب والترائب .

وإذا نظر الإنسان إلى الأرض التي هي مصدر الحياة ، ونظر إلى طعامه ، يجد أن الله تعالى بقدرته صب الماء صباً من السحب ، ثم شق الأرض شقاً ، فأنبت فيها حباً ، وعنباً ، ورطباً ، وزيتوناً ونخلاً ، وحدائق وافرة الثمر ،وفاكهة ومرعى، كل هذا متاعاً لنا ولإنعامنا ، وبهذا التأمل المقترن بالتدبر والنظر العقلي ،يزداد الإنسان علماً ومعرفة ، ومن ازداد علماً ازداد إيماناً ، ومن ازداد إيماناً ازداد رقياً وأخلاقاً وتحضراً .

لقد دعانا الله سبحانه وتعالى أن نمعن الفكر في هذا الكون الفسيح ، ونمعن النظر فيما حوى من موارد عديدة ، وطلب منا أن نسعى لمعرفة أسراره الكثيرة ، وأسباب الحياة فيه .

قال تعالى : { قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق}[ العنكبوت : 20 ] .

ويجدر بالذكر هنا أن قوله تعالى : { سيروا في الأرض } ذكر في القرآن الكريم أربع مرات.

وقال تعالى : { وفي الأرض آيات للموقنين ، وفي أنفسكم أفلا تنظرون . [ الذاريات : 20 ]

خامساً : الدعوة إلى استنهاض العقول :

استنهض الإسلام العقول ، ووجه الأفهام ، وأيقظ الحواس ، ونبه المشاعر ، وذلك بالتعقيب على بيان الآيات الكونية والتشريعية ، وذلك بمثل قوله تعالى: { إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون } [الروم : 24 ] ، وقال تعالى : { إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون.}

[ الرعد : 3 ] ، وقال : { إن في ذلك لآيات لأولي النهى } [ طه : 54 ] ، ونفس تعبير ( أولي النهى ) ورد في الآية ( 128) من سورة طه أيضاً .

ويقول تعالى : { إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون . } [ يونس : 67 ] ، وقال : { ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون } [ البقرة : 221 ] ، وقال : { إنما يتذكر أولوا الألباب } [ الرعد : 19 ] ، و ( أولوا الألباب ) هم أصحاب العقول الراجحة ، الفاهمة ، الواعية ، المدركة ، وقد ورد ذكرهم في القرآن الكريم ( 16 ) مرة .

سادساً: نظرة الناقد البصير :

لقد دعا الإسلام البشر جميعاً إلى أن ينظروا إلى ما يستمعون من أقوال نظرة الناقد الواعي البصير ، الذي يستطيع أن يقيم الأمور تقييماً عقلياً سديداً ، فيتبعون منها ما يدل على الحق ويهدي إلى الخيرية ، وإلى الرشد ، هؤلاء هم الذين يستمعون إلى القول ،فيسيرون على طريق الهدى ، ولما لا ؟ ، وقد هداهم الله ، لأنهم أصحاب العقول الراجحة .

قال تعالى : { فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، أولئك الذين هداهم الله ، وأولئك هم أولوا الألباب } [ الزمر : 18 ] .

سابعاً :الذم للغافلين :

لقد ذم الإسلام الغافلين المتبلدين ، ونعى عليهم غفلتهم ، وإعراضهم عن دلائل الآيات الكونية التي يشاهدونها ، ويرونها رؤية العيان ، في كل لحظة ، وهم عنها غافلون ، معرضون ، هذه الآيات الكونية المعجزة تطالعهم بدلائلها في كل الآونة ، وهم كما يقال : لا حياة لمن تنادي ! ، وهم معرضون عن كل آيات الله ، ألم يسيروا في الأرض الممتدة ،ليروا نعم الله التي لا تحصى ، فتكون لهم قلوب يعقلون بها ، أو أذان يسمعون بها ؟ ، حقاً وصدقاً : إن الأبصار لا تعمى ، ولكن القلوب التي في الصدور ، التي هي أساس المشاعر والأحاسيس ، هي التي تعمى .

هؤلاء الذين في غفلة وإعراض عن دلائل الله الكونية لهم قلوب لا يفقهون بها ، ولهم أعين لا يبصرون بها ، ولهم أذان صماء لا يسمعون بها ، حقاً أنهم كالأنعام ، بل هم في غفلتهم أضل منها.

قال تعالى : { وكأ ين من آية في السماوات والأرض ، يمرون عليها ، وهم عنها معرضون . } [ يوسف : 105 ] .

ثامناً : في مواجهة أسرى التقليد :-

لقد عاب الإسلام على أسري التقليد إعراضهم عن الحق الذي جاء به أنبياء الله ، ورسله ، وجمودهم على إتباع ما وجدوا عليه آباءهم ، وأجدادهم ، وهم إذ يرتكبون الفواحش باسم الدين ، فهم يفعلون ذلك تعصباً للجمود والتبعية العمياء المخالفة للعقل والمنطق السليم .

قال تعالى : { وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله ، وإلى الرسول ، قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا أو لو كان آباؤهم لا يعلمون شيئاً ولا يهتدون . } ( المائدة : 104 ) .

وهؤلاء النفر من الناس إذا قيل لهم اتبعوا منهج ما أنزل الله ، منهج الهدي والرشاد ، ردوا قائلين : بل نتبع ما الفينا عليه آباءنا ، حتى لو كان هؤلاء الآباء لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون .

وإذا فعلوا فاحشة ، كرروا القول : بأن الآباء والأجداد كانوا يفعلون ذلك ، وكانوا يأمرونهم بها . وعليهم أن يدركوا جيداً أن الله تعالى لا يأمر بالفحشاء، إنهم يقولون على الله مالا يعلمون !! ، والله سبحانه وتعالى يوضح لنا عاقبة التبعية العمياء ومدى جنايتها على الناس.

يقول تعالى : { يوم نقلب وجوههم في النار يقولون : يا ليتنا أطعنا الله ، وأطعنا الرسولا . وقالوا : ربنا آنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا . ربنا آتهم ضعفين من العذاب ، والعنهم لعناً كبيراً .} [ الأحزاب : 66 - 68 ]

 

تحليلنا لظاهرة التقليد الأعمى :-

إن التقليد الأعمى أكبر شر يبتلى به الأفراد والجماعات ، لأنه يميت مواهب الفكر والإبداع والابتكار ، ويقف حجر عثرة في طريق النظر الواعي ، والتفكير السليم ، فهو يجمد قدرات الإنسان الفكرية ، وطاقاته الإبداعية ، ويجعلها راكدة ، آسنة غير متحركة أو متطورة .

إن التقليد الأعمى يجعل الإنسان لا يميز بين الحق والباطل ، ولا بين الصواب والخطأ ، ولا يفرق بين التقليد في الخير والتقليد في الشر ، ويحمل أهله على الإعراض عن الحق ، ومعاداة أهله .

إنه يدعوهم إلى الوقوف في طريق الإصلاح والمصلحين ، ويدعوهم إلى الجمود على العقائد ، والمذاهب الموروثة ، أضف إلى ذلك التعصب الجماعي لحمايتها ، وذلك لأن قيام العقائد على أساس الوراثة ، وتقليد الآباء والأجداد دون وعي وإدراك ، يضفي عليها قداسة تستحوذ على عواطف الوارثين لها ، وتصرفهم عن التفكير السليم في صحتها ، أو بطلانها .

إن التقليد الأعمى يدفعهم دفعاً إلي التعصب الجماعي لحماية المذاهب والأفكار الموروثة ، والإبقاء عليها ، ومعارضة كل إصلاح جديد يخالفها أو ينتقص من قداستها ، حتى لو كان هذا الإصلاح أساسي وجوهري لخير الناس وصالحهم .

وقد أشار القرآن الكريم إلي هذه الحقائق في آيات كثيرة كقوله تعالي في شأن معاداة الأمم الماضية لدعوة رسلهم :-

{ وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير ، إلا قال مترفوها : إنا وجدنا آباءنا على أمة ، وإنا على آثارها مقتدون . قال : أو لو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم ؟ ، قالوا : إنا بما أرسلتم به كافرون } [ الزخرف : 23 - 24 ]

وكان نفس الأمر في شأن معاداة قريش للدعوة المحمدية ، فقد كان عجبهم أن جاءهم منذر منهم ، فما كان منهم إلا أن اتهموا محمد ( صلى الله عليه وسلم ) بالكذب والسحر وسخروا منه أشد السخرية ، مدافعين عن آلهتهم التي لا تضر ولا تنفع ، رافضين طريق الهدى والرشاد .

 

ما يترتب على التقليد الأعمى :-

 وهكذا - كما أوضحنا في الجزئية السابقة - يفعل التقليد الأعمى الضار للأفراد والجماعات ، والذي تقدس فيه المعتقدات القائمة على الوراثة ، لقد كان أهل قريش يعرفون الرسول الكريم محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) معرفةً جيدة ، بل يعرفونه حق المعرفة ، ويعلمون صدقه ، وأمانته حق العلم ، أضف إلي ذلك درايتهم الكاملة بحسن أخلاقه ، وطيب معشره ، ولكن التعصب الجماعي القائم على التقليد الأعمى وتقديس ما وجدوا عليه الآباء والأجداد ، حملهم حملاً على أن يتعجبوا من دعوته ، ويتنكروا لها ، ويسخروا منه .

وهذه الحقيقة التي ذكرناها، مقررين إياها ، وهي : أن قيام المذاهب والعقائد على أساس الوراثة والتقليد الأعمى ، دون درس أو تمحيص ، يضفي عليها هالة من التقديس الزائف ، فالذي ينجم عن استحواذها على عواطف الوارثين ، انصرافهم عن التفكير الواعي السليم في فسادها وبطلانها ، وبالتالي يأتي تعصبهم الأعمى الجماعي من أجل حمايتها من كل دعوة تخالفها ، أو تنتقص من قداستها .

وقد علمنا الإسلام التسامح ، وعدم التعصب ، وقبول الأخر لأن الجميع في حق الحياة سواء ، كما علمنا احترام الرأي والرأي الأخر ، والحوار بالتي هي أحسن .

كما أن الإسلام يؤمن بالتعددية الفكرية ، ويرفض أحادية الرأي ، في نفس الوقت الذي ينادي فيه بالأخذ والعطاء ، والحوار المفيد بين الثقافات ، فقد خلقنا الله تعالى لنتعارف ونتفاهم ، من أجل واقع أفضل للبشرية جمعاء ، ويكون ذلك عن طريق تبادل الأفكار والآراء ، والمنافع والخبرات ، وليس عن طريق الصدام والخلاف .

إن الأمم والطوائف والجماعات التي تتمسك بالعقائد والمذاهب الموروثة، رغم أنها لا تستند إلى نظر صحيح ، ورؤية سليمة واعية ، هؤلاء يكون مصيرهم الجمود والتخلف والتأخر ، لأن ما يتمسكون به لا يقوم على أساس من الحق ، وقصارى ما يعتمدون عليه هو التقليد القائم على التبعية العمياء ، وتقديس مواريث الآباء والأجداد ، دون أدنى إعمال للعقل والفكر.

 

القضاء على سلطة المتألهين :

وبهذه الدعامة المهمة التي منطلقها تحرير الإنسان من الحجر العقلي ، وسيطرة التبعية العمياء ، وتربيته على حرية الفكر ، وعلى الإرادة الحرة ، قضى الإسلام الحنيف على سلطة المتألهين من أصحاب القيادات الضالة المضللة ، وخلع عنهم رداء القداسة التي انتحلوها لأنفسهم ، وموهوا على الناس بأنها رفعتهم فوق النقد أو الجرح والتعديل ، وأجرى عليهم من أحكام المسؤولية والجزاء ما أجراه على سائر الأفراد .

هذا ، وقد بين الإسلام أن ربوبية العبادة والتشريع إنما هي حق خالص لله تعالى وحده ، وأهاب بأسرى التقليد والتبعية العمياء ، أن يحرروا أنفسهم من هذه الأغلال الجاثمة على عقولهم وأفهامهم ، وتلك الأكنة المعقودة على أسماعهم وأبصارهم .

وقرر الإسلام بوضوح وجلاء : حق الإنسان في حرية الفكر والاعتقاد ، وحرية الرأي ، واستقلال الإرادة ، كما فتح للإنسان في كل زمان ومكان طريق التحرر الفكري ، والاستقلال الإرادي ، وبوأه المنزلة اللائقة بإنسانيته وكرامته .

كما عرف الله سبحانه وتعالى الإنسان بأنه لم يخلقه عبداً يقاد ، كما تقاد بهيمة الأنعام ،و في نفس الآن لم يجعل لمخلوق مهما كان ، حق السيطرة على عقله وفكره وإرادته ، وإنما خلقه حراً مالكاً لقياد نفسه ، وعبداً لربه الواحد الأحد فقط ، جعله يفكر بعقله ، ويسترشد بمواهبه وقدراته التي منحها إياه ، ويعمل باختياره وإرادته ، ويهتدي بنور العلم في مسيرته الحياتية ، وفي اتخاذ قراراته المصيرية ، وفي أداء أعماله .

عرف الله الإنسان وعلمه أن لا يظهر بمظهر العبودية إلا لخالقه الأعظم ، ولا يدين في عقائده وسلوكه إلا بدين الحجة والبرهان .

ولا يفوتني في نهاية حديثي عن هذه الدعامة الأولى من دعائم المنهج الإسلامي في تحرير العقل والفكر ، أن أوضح حقيقتين مهمتين ، قد يقع الخلط من البعض في فهمهما :-

الحقيقة الأولى : التقليد الذي نقصده :

إن التقليد الذي نقصده ، هو ذلك التقليد الذي ذمه الإسلام ، وشدد النكير على أهله ، والذي أوضحنا مفاسده ، وآثاره السيئة في الأفراد والجماعات ، عبر سطورنا الفائتة ، هذا التقليد هو : التقليد الأعمى الذي ينطلق من الجمود ، والثبات على القديم الموروث دون إعمال الفكر فيه ، مع التبعية العمياء ، ومحاربة كل جديد يخالفه ، ولو كان هذا الجديد فيه صالح الناس وخيرهم ، أو هو أقوم طريقة وأهدى سبيلاً .

التقليد الذي نعنيه هو الذي لا يميز بين التقليد في الخير ، والتقليد في الشر ، وعليه فهو لا يفرق بين إتباع الحق من الأئمة الراشدين ، والعلماء الصالحين ، والمفكرين الهادين ، والقادة المصلحين ، وإتباع أهل الباطل من أصحاب القيادات الضالة المضللة ، والأهواء الجامحة ، وأصحاب النزعات التي يسيطر عليها الأنانية والمصالح الخاصة .

هذا هو التقليد ، الذي ذمه الإسلام وشدد النكير على أصحابه ، أما تقليد أهل الخير والصلاح ، والحق والفلاح ، من الأئمة الراشدين ، والعلماء العقلاء المعتدلين ، الراسخين في العلم والمعرفة ، والمتميزين بالأخلاق الصالحة ، هؤلاء الذين استمدوا أفكارهم ، وعلومهم ، ومذاهبهم من هدى كتاب الله المجيد ، والسنة النبوية المطهرة ، واستقاموا على الطريقة المثلى ، والمحجة البيضاء ، وتقليد هؤلاء ليس من قبيل التبعية العمياء التي لا تنظر ، ولا تفكر فيما تقلد ، وإنما إتباع هؤلاء من قبيل القدوة الواعية المستبصرة ، فمن واجبنا أن نتبع أهل العلم والمعرفة إن كنا لا نعلم أو لا نعرف .

يقول تعالى : { فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون . } [ النحل : 43 ] - ويجدر بالقول هنا أن تعبير ( أهل الذكر ) ورد في القرآن الكريم مرتين ، أما كلمة ( الذكر ) فقد وردت ( 19 ) مرة .

ونحن نعرف قول الرسول ( صلى اله عليه وسلم ) الذي جاء في حديث العرياض بن سارية : (( فإنه من يعش منكم بعدي ، فسيرى اختلافاً كثيراً ، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين )) . ( متفق عليه )

نقول :إن طريق العصمة من ضلال الرأي ، وطغيان الهوى والنجاة من شرور التفرق ، والاختلاف ، والتمزق ، والخروج من ظلمة الجهل وضلاله ، هو الاعتصام بكتاب الله ، وسنة رسوله الكريم ( صلى الله عليه وسلم ) ، وسؤال أهل العلم والمعرفة الذين عرفوا بالرسوخ ، والأمانة في العلم ، والاعتدال في القصد والتفكير .

الحقيقة الثانية : الحرية التي نقصدها :

إن حرية الفكر التي جعلها الإسلام رائداً للتفكير السليم ، ونبراساً للعقول والأفهام في الاهتداء إلى معالم الحق والخيرية ، هي الحرية التي تطلق عقولنا وأفكارنا من أغلال الحجر العقلي ، والكبت الفكري ، وتحررها من سيطرة التقليد والتبعية العمياء ، وتجلي لها معالم الحقائق التي كانت محجوبة عنها .

الحرية التي نقصدها ، والتي دعا إليها الإسلام ، أن الإنسان حر دائما وأبداً ما لم يضر الآخرين ، مع مراعاة أن قيادة التوجيه والإرشاد يجب أن تكون قيادة بناء وإصلاح وتربية وتعليم ، لا قيادة هدم وإفساد وتضليل ،قيادة تستمد مقوماتها العلمية من هدي الإسلام ، وتعاليمه ، من نضوج العقل واستقامة التفكير ، من الاعتماد على قضايا الحق والمنطق ، وتحكيم الحجة والبرهان ، مع التحري الواعي في فهم نصوص كتاب الله المجيد والسنة النبوية المطهرة ، والاستدلال بهما على قوانين النظر والفكر .

وعلى من يتصدى للرأي والحل والعقد أن يفهم القرآن والسنة جيداً انطلاقاً من فهمه ووعيه بدلائل وخصائص وأوضاع اللغة العربية ، والثقافة الإسلامية بوجه عام ، لأنه إذا وكل الأمر إلى الناس يفهمون ويستنبطون كما يريدون ويشتهون ، لاختلت موازين الصواب والخطأ ، في الفهم والاستنباط ، وغابت الحقائق عن الأفهام في غمرة الأهواء ، لأن العقول والأفهام متفاوتة ، والأهواء والنوازع متحكمة ، و الكملة أو الذين يشتاقون إلى الكمال أو يتطلعون إليه في كل زمان ومكان قليلون.

هذه هي حرية الفكر التي نادى بها الإسلام ، وجعلها نبراساً للعقل ورائداً للفكر ، فهل آن لنا أن نعيها ونتدبرها ؟!

--------------------

*باحث ومحاضر في الدراسات العربية والإسلامية

ayusri_a@hotmail.com

--------------------

هذه الدراسة تعبر عن رأي كاتبها

أعلى الصفحةالسابق

 

الرئيسة

اطبع الصفحة

اتصل بنا

ابحث في الموقع

أضف موقعنا لمفضلتك

ـ

ـ

من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ