ـ

ـ

ـ

مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وقولوا للناس حسنا

اتصل بنا

اطبع الصفحة

أضف موقعنا لمفضلتك ابحث في الموقع الرئيسة المدير المسؤول : زهير سالم

الأربعاء 06/05/2009


أرسل بريدك الإلكتروني ليصل إليك جديدنا

 

أبحاث

 

التعريف

أرشيف الموقع حتى 31 - 05 - 2004

ابحث في الموقع

أرسل مشاركة


حتى لا تكون كتابة التاريخ

لكل من هب ودب

بقلم : يسري عبد الغني عبد الله*

تمهيد :

كتابة التاريخ هي نتيجة تطور طويل المدى بدأ منذ أن أخذ الإنسان يلتفت إلى ماضيه مسجلا حوادثه ، وهذا ما يعرف في الغرب الأوربي بميثولوجيا التاريخ ، وقد دعاها أستاذنا الدكتور المرحوم / أسد رستم (مصطلح التاريخ) ، جريًا على التسمية التي أطلقها العلماء المسلمين على علم (مصطلح الحديث) ، ذلك العلم الذي عملوا فيه إلى نقد أحاديث الرسول محمد (صلى الله عليه وسلم) ، واستخلاص قواعد هذا النقد .

ومن المعروف لنا أن هذا النقد تسرب أثره من الحديث النبوي المطهر إلى علم التاريخ ، واستفاد المؤرخون المسلمون الأوائل من علم الحديث في نقد روايات التاريخ ، ونرى أنه من الأهمية بمكان أن يشير أي باحث عندما يجلس تاريخ التأريخ أو تطور الكتابة التاريخية عند المؤرخين المسلمين إلى هذه المسألة.

ويتكون الأسلوب الذي تنطوي عليه الكتابة التاريخية من سلسلة من الجهود تبدأ من اكتشاف الأثر أو الوثيقة التي خلفها الماضي وتنتهي بالتأليف التاريخي القائم على قواعد وأصول المنهج العلمي ، وتفرض الكتابة التاريخية على من يتصدى لها مطالب كثيرة ، فهي تقتضي معارف واسعة عميقة خاصة بحيث أن من يسير في هذا الطريق إلى نهايته يحتاج إلى ذخيرة غزيرة من المعارف ، وإلى الإلمام بعلوم وآداب ها اتصالها المتزايد بالتاريخ ، والمؤرخ يكون دائمًا في حاجة ماسة إلى سعة الأفق النابعة من النظرة الكلية للأمور والقدرة على الإحاطة والربط لكي يستخرج معنى الحوادث ويحسن تحليلها .

وعليه فإن التاريخ ليس ألعوبة في يد كل من هب ودب على وجه الأرض ، التاريخ ليس مهنة من لا مهنة له ، وليس في إمكان كل من أمسك قلمًا أو تأدب بنوع من الأدب أن يكتب التاريخ أو يتكلم فيه ، فكما أن كلا من الكيميائي وعالم الطبيعة لا يستطيع أن يمارس علمه دون أم يتدرب ويفني السنين الطوال في دراسة العلم الذي تخصص فيه ، فهكذا يجب أن يكون الباحث في التاريخ ، خاصة أن التاريخ ـ كما قال أساتذتنا ـ من أصعب العلوم ، لأن مادته أصعب من مادة الكيمياء والفيزياء ، وأشد تعقيدا .

وهكذا تتطلب الكتابة التاريخية معارف واسعة عميقة بشتى العلوم والآداب والفنون ، كما أنها تحتاج إلى أسلوب سليم في التحقيق والتدقيق والتمحيص والعرض والتعليل ، وهذا الأسلوب يزيد في دقته وصعوبته تعقد الموضوع وسعته واضطراب الوسائل أو المصادر التي يعتمد عليها الكاتب وهو الأسلوب الذي عرف بالأسلوب العلمي .

المزايا المطلوبة والفضائل المكتسبة للبحث التاريخي

1 ـ الجد والمثابرة :

الباحث في التاريخ يجب أن يروض نفسه على الجد والجلد ، وعلى الصبر والمثابرة ، وعلى العمل الشاق المستديم ، وعلى الابتعاد عن الجلبة والضوضاء ، وكذلك البعد عن الصراعات الفارغة التافهة ، وعن سفاسف الأمور التي تعوق مسيرة بحثه وعلمه ، والبعد عن الشهرة الزائلة في وسائل الإعلام المختلفة ، وقد فعل شيوخنا الأجلاء ذلك والتزموا به ولولا ذلك لما كانت لنا تلك المجموعات من المصادر التاريخية التي تفخر بها المكتبات الغربية والعربية ، ولا تلك المجلدات الضخمة في فهرسة هذه المجموعات ووصفها ، ولا تلك النصوص المنشورة التي اقتضى تحقيقها ونشرها عناءً وافرًا .

ما أجدرنا أن نعود إلى علماء الحضارة العربية والإسلامية من أسلافنا لنستمد منهم الفضائل التي جعلتهم يكتبون ويألفون هذا التراث الضخم العظيم ، واضعين في الاعتبار أن الزبد يذهب جفاء ويبقى في الأرض ما ينفع وما يفيد الناس على مر الأعوام ، وأنه لا يصح إلا الصحيح .

2 ـ الشك المنهجي والنقد العلمي :

يمكن القول بأن التاريخ بدأ يأخذ صفة علمية منذ أن أخذ رجاله يشكون في الروايات التي نقلت إليهم بالسماع أو بالكتابة ، ومنذ أن عمدوا إلى نقد صفات رواتها .

ومن المعروف أن النقد العلمي البناء أو الشك المنهجي ركن من أركان أي جهد علمي ، مع مراعاة أن هذا النقد أو ذلك الشك له قدره وخطورته فيما يتعلق بدراسة التاريخ ، لعدة أسباب نذكر لك منها : ـ

أ ـ إن علم التاريخ لا يتسع فيه مجال الاختيار كما هو الحال في العلوم الأخرى ، ولذلك فالميل الطبيعي فيه هو الاكتفاء بالنقل والرواية ، كما أن وسائل النقد فيه أقل دقة وأعسر تحقيقًا مما هو الحال في العلوم الطبيعية .

ب ـ إن التاريخ يتأثر بالأجواء الفردية والنزعات الاجتماعية ، ومن هنا تتضاعف الحاجة فيه إلى النقد العلمي المنهجي في كل مرحلة من مراحل الكتابة التاريخية .

ج ـ إن بعض الوثائق الماضية تكتسب على مضي الزمن حرمة وقداسة تبعدانها عن ميدان النظر العقلي .

ويهمنا هنا أن نقول : إن مهمة المؤرخ شبيهة بمهمة المحقق المدرب الخبير ، الذي يستطيع أن يستنطق الشهود ، ثم يجمع شهاداتهم وينقدها في سبيل استجلاء ما حدث ومعرفة حقيقته ، ومهمة الباحث التاريخي شبيهة بمهمة القاضي العادل من حيث أنه يحاول بمقارنة الشهادات ومقابلتها وسماع الشهود أن يستخرج الواقع قبل الحكم عليه .

وليس بمقدور المحقق (وكيل النيابة) أو القاضي أن يؤدي مهمته على وجهها الصحيح ، إذا لم يأخذ روايات الشهود بالشك المتحفظ وأن يغربلها غربلة دقيقة ، بهدف فصل فاسدها عن صحيحها .

نقول ذلك ونحن نعي جيدًا أن الأصول القضائية أرحم من الأصول التاريخية ، فمن أصول القضاء التي نعرفها براءة الذمة ، وأن المتهم برئ إلى أن تثبت إدانته ، أما في التاريخ فالاتهام أصل ومبدأ ، فكل نص من المصادر التاريخية مشكوك فيه دائمًا وأبدًا إلى أن تثبت صحته بالأدلة والبراهين الواضحة الساطعة ، وكل رواية تاريخية متهمة إلى أن يقوم الدليل اليقيني الظاهر على براءتها .

ولذا كان لا بد للمؤرخ أن يتصف بالشك الناقد المتزن القائم على أساس علمي ، وعليه أن ينمي في نفسه الحس النقدي الواعي بشكل دائم ، وهذا لا يتأتى إلا بالقراءة العميقة ، والثقافة الموسوعية الشاملة ، والمتابعة لكل المستجدات العلمية والأدبية والاجتماعية والفنية والسياسية والاقتصادية ، أضف إلى ذلك الدربة فعليه أن يدرب نفسه على التعامل مع النصوص التاريخية بمنهج علمي سليم ، وبنقد متزن بناء .

غير أنه ثمة تطرفًا في الشك ومغالاة في النقد قد يقع فيها بعض الكتاب ، هنا يجب اتخاذ الحذر منها ، ويجب على كاتب التاريخ أو الباحث فيه أن يتصف بالعقلانية والهدوء والاتزان خاصة أن كاتب التاريخ من أشد العلماء تعرضًا للأهواء والميول والنزعات ، وبكل أسف هناك أمثلة كثيرة نعرفها في مسيرة الكتابة التاريخية في القديم والحديث ، ومن هنا توجب على كاتب التاريخ أن يقي نفسه كل الوقاية من السقوط في هذه الهاوية .

3 ـ الدقة والأمانة :

الكتابة التاريخية علم له أصوله وأسسه ومناهجه ، أي أنه هناك فرق بل بون شاسع بين الكتابة التاريخية وبين الثرثرة عن التاريخ والشخصيات التاريخية التي نتكلم بها في مجالسنا الخاصة أو على المقاهي أو في الفضائيات العربية ، لأن هذه الثرثرة لا علاقة لها من قريب أو بعيد بالتاريخ كعلم يجب أن يحترم ويجب ألا يتعامل معه علميًا إلا أهل الاختصاص فيه .

والدقة العلمية من أهم مطالب الكتابة التاريخية ، ونعني بالدقة هنا الدقة والأمانة في النقل ، والدقة في التفكير ، والدقة في التعبير ، والدقة شرط أساسي صريح من شروط أي بحث علمي ، وهي في صميم تقاليد العلم والبحث ، وهي من أهم العوامل التي تساعد على رقي وتقدم العلوم المختلفة والنهوض بها .

وكلمة الدقة هي أكثر ما يجب أن يردده أهل الرأي والفكر والتربية ، ويجب عليهم محاولة غرسه في نفوس وعقول الناس في كل مكان وزمان ، وفي مجال التاريخ تعتبر الدقة من أهم الأمور التي يجب أن يتف بها الكاتب التاريخي ، لأن مجال الإبهام والتعميم والذلل فيه أوسع وأيسر مما هو في الدراسات العلمية الأخرى .

ومن الجدير بالإشارة هنا أن كل خطوة من خطوات الكتابة التاريخية تستدعي منا الدقة بأقصى معانيها وأضيق حدودها ، فالبحث عن المصادر التاريخية يقتضي عدم الاكتفاء بما نعثر عليه بأيسر جهد ، بل يتطلب التفتيش في كل ركن وزاوية أملا في أن ينكشف شيء جديد .

وإثبات النص يتطلب معرفة تامة بالمؤلف ، متى ولد وأين ؟ ، أين نشأ وعاش ؟ ، أين درس وعلى يد من تلقى العلم ؟ ، ما هي رحلاته أو تنقلاته ؟ ، ما هي مؤلفاته ؟ ، ما هي مسيرة حياته كاملة ؟ ... إلى آخر هذه الأمور التي تساعدنا على تقييم النص أو الوثيقة ومقارنتها ، واستخراج الحقائق من النصوص التاريخية يتطلب الشروط التي أسلفناها ، ثم علينا بعد ذلك الحقائق المستخلصة في أسلوب دقيق ، وفي تعبير واضح مفهوم بعيدًا عن الغموض والاضطراب .

وهكذا نرى أن كتابة التاريخ تكاد أن تكون تجسيمًا لمزية الدقة وتطبيقًا لها تطبيقًا شاملا ، فلا غنى لمن تصدى كتابة التاريخ ، وأراد أن ينظر إلى ماضيه نظرًا صحيحًا سليمًا ، من أن يجد ويجتهد لاكتساب مزية الدقة والانطباع بها .

4 ـ التجرد :

الكتابة التاريخية يجب أن تمتاز بالموضوعية والحيدة ، ومن المزايا المطلوبة فيها أيضًا التجرد التام والكامل ، ومسألة التجرد كثر فيها النقاش والجدل ، بل أن البعض زعم أن التجرد أمر محال في الكتابة التاريخية .

وفي رأينا المتواضع أن التجرد ومعه الحيدة أمران مطلوبان ومفروضان في كل باحث مهما كان موضوع بحثه ، والتجرد أمر يسير في العلوم الطبيعة ، أما في العلوم الاجتماعية وخاصة التاريخ فهو أمر عسير بعض الشيء ، فالإنسان يستطيع أن يتجرد من ميوله وأهوائه وهو يحل مسألة رياضية أو يحلل مادة كيميائية ، أما في التاريخ فمن العسير التجرد من الميول والأهواء عندما ينظر الإنسان في ماضي أمته ونصيبها من الحضارة .

هنا نتذكر المؤرخ الألماني الشهير (موشن) الذي يقول : إن الذين خبروا أحداثًا تاريخية كما خبرت لا بد لهم من أن يروا أن التاريخ لا يكتب ، بل أن التاريخ لا يصنع بدون حب أو حقد .

وفي الواقع أننا عندما نطالب بالتجرد التام والكامل في الكتابة التاريخية ليس معنى ذلك أننا نطالب بالتخلص من كل شعور أو فكر أو معتقد ، فنحن في النهاية بشر على دراية كاملة بأن الكمال المطلق مسألة لا نصيب لنا فيها على الإطلاق ، فما من شخص يستطيع ذلك عمليًا ، وإنما التجرد في دراسة وكتابة التاريخ معناه أن يتمكن من يكتب أو يبحث بما له من دقة شعور وحدة بصيرة من أن ينفذ إلى أعماق الأفراد والجماعات في الماضي ، فيعرف أحاسيسهم ، ويخبر ميولهم ورغباتهم وآمالهم وأمانيهم ، ويحيط علمًا بالظروف التي يعيشون فيها ، ومدى تأثرهم بها وتأثيرهم فيها ، والمؤرخ يجد في ذلك كله ما يحب وما يكره ، وما يقر وما ينكر ، وما يثير في نفسه من الرضا والإعجاب وما يبعث الأسى والازدراء ، وواجبه في كل الأحوال أن يسعى دائمًا إلى إثبات هذا ، وذلك دون أن يجعل لحبه أو كرهه أثرًا في هذا الإثبات .

5 ـ محبة الحقيقة :

ولعل كلامنا السابق يقودنا رأسًا لعل كلامنا السابق يقودنا رأسًا إلى الفضيلة التي تنبعث منها الكتابة التاريخية والتي تكمن وراء الفضائل الأخرى ، و نعني بها محبة الحقيقة ، ومنطلق محبة الحقيقة : الدقة التامة ، والتعمق الواعي ، والتجرد التام .

وإذا كان التاريخ هو السعي الدائم إلى إدراك الماضي البشري وإحيائه ، فيجب أن نشير هنا إلى أن جوهر هذا السعي ، والدافع الأول له هو محبة الحقيقة ، والرغبة الكاملة في توضيحها وجلائها ونشرها بين الناس لتفعل فعلها في العقول والنفوس ، ولولا هذه المحبة للحقيقة لخرج التاريخ من دائرة العلوم .

وهناك فريقان يسارعان بإنكار مسألة القول بأن محبة الحقيقة جوهر دراسة التاريخ ، الفريق الأول : ينكر إمكان تحقيق هذه الغاية في التاريخ بسبب ارتباطه بجذور حياة الإنسان وأهوائه وميوله ورغباته وآماله وأمانيه ، ويعتقد هذا الفريق أن كل جهد تاريخي مصبغ بهذه الأهواء والرغبات ، وأن التجريد فيه أمر من رابع المستحيلات .

وأما الفريق الثاني فيعتقد أن التاريخ هو في نهاية الأمر وسيلة لا غاية ، وبالطبع نحن نحترم ما ذهب إليه أصحاب إنكار محبة الحقيقة كأساس لدراسة التاريخ ، ولكننا لا ننكر أن التاريخ قد استخدم في الماضي ولا يزال يستخدم في الحاضر لأغراض عديدة ، وبالطبع التاريخ يجبر على ذلك فهو بعقله وحكمته لا يعرف لوي الحقائق أو الكذب أو حتى التجمل والادعاء .

لقد كتب بعض المؤرخين للترفيه عن القارئ أو تسليته أو إثارة خياله كما نرى في بعض الأعمال الدرامية الهابطة التي تذيعها علينا قنوات التلفاز العربية .

والبعض الآخر يكتب التاريخ من أجل الدفاع عن سلطة سياسية أو عقيدة دينية أو رأي فلسفي معين بعيدًا عن الحيدة ، وعن المنهج العلمي السليم .

ومنهم من رغب في أن يستخرج من التاريخ العظات والعبر ، ويستخلص القواعد العامة التي يجب أن تتبع في السلوك الفردي ، أو في السياسة والحكم .

ونرى كذلك من أراد أن يكتب التاريخ بغرض قومي ، أي محاولة إظهار الأمجاد الغالية والتركيز على إظهار أصول الأمة ، وإثارة العزائم والهمم من أجل بناء النهضة القومية .

وعلى كل حال فإننا يجب أن نذكر ملاحظتين مهمتين في هذا السياق : -

الملاحظة الأولى :

لقد كان للتاريخ ، عندما أحسن استعماله ، أثره الكبير في بعث الروح القومية عند مختلف الشعوب في العصر الحديث ، كما كان له دوره البارز في تكوين الأمم ودفعها إلى ما تنشد من نهضة وعزة ومجد ، ودليلنا على ذلك تلك المؤلفات التاريخية التي وضعها المؤرخون في عهود الإفاقة القومية في فرنسا وإنجلترا وألمانيا وإيطاليا وروسيا .

ومن الطبيعي أن يلعب التاريخ دوره في حياة العرب وهم يعملون على إنشاء كيان قومي ثابت ، فلا ضير من أن يعمد بعض المفكرين إلى الأمجاد العربية الماضية ويستمد منها ما يشبع في نفوس الشباب والناشئة شعور العزة والكرامة والإقدام ، ويجب أن يستفيد أهل الفكر والحل والعقد و الرأي في البلاد العربية من تاريخ العرب من أجل تقرير الوحدة القومية التي يصبوا إليها العرب ويتمنون من أعماقهم تحقيقها .

وفي هذا الصدد ندعو إلى ضرورة الاهتمام بالتاريخ وتدريسه وجعله مادة إجبارية في جميع مراحل التعليم قبل الجامعي ، كما نطالب بتدريس التاريخ في المعاهد العليا والمتوسطة والجامعات دون أي استثناء ، واضعين في الاعتبار تطوير مناهج دراسة التاريخ كي تتناسب مع مستجدات عصرنا الحديث .

الملاحظة الثانية :

كان للتاريخ بجانب أثره الإيجابي البناء أثر سلبي عندما استخدم كأداة لإثارة الأحقاد والفتن والإحن سواء بين فئات الشعب الواحد ، أو الشعوب المختلفة ، وما أكثر ما غذى التاريخ (نقصد بالطبع كُتاب التاريخ ) ضغائن وشرور وفتن ، أدت إلى حروب ومجازر بشرية ، ونستنتج من ذلك أن استخدام التاريخ في سبيل غاية قومية يتوقف نفعه أو ضرره على مدى أصالة فهم ووعي الموجهين والباحثين لهذه الغاية .

والمعنى الذي نريده أن التاريخ يصبح أداة ووسيلة ، وقيمته وأثره ومبلغ نفعه أو ضرره تغدو متوقفة على صحة الغاية ونبلها أو خللها وفسادها .

وما دام العرب ما زالوا في دور التكوين القومي ـ حتى الآن بكل أسف ـ فلا بد من أن يعمل أصحاب الرأي والفكر منهم إلى الاستفادة من التاريخ بهدف تحقيق الأغراض القومية نظرًا لما يمكن استمداده من عون وقوة ، ولما له من أثر كبير في النفوس والعقول ، مع ضرورة الالتزام الكامل والتام بالمنهج العلمي المحايد ، والبعد عن المبالغة والتهويل والعنتريات الفارغة التي أثبتت فشلها على مدى العقود الماضية .

6 ـ الشعور بالمسئولية :

الكاتب أو المبدع إذا لم يشعر بالمسئولية تجاه أقواله وأفعاله ، وتجاه الناس والمجتمع الذي يعيش فيه ، فإن كل إنتاجه عبث لا جدوى منه ، عبث تذروه الرياح .

ومن هنا فإن أبرز الصفات التي تبدو عند النابهين من المؤرخين هذا الشعور الصادق الذي يملأ نفوسهم بنبل عملهم وبعظمة وشرف مسئولياتهم ، والذي يدفعهم إلى أن يطالبوا أنفسهم أشد مطالبة ويقهروها على أداء شروط السعي كي تأتي أحكامهم ونتائجهم جادة عادلة خالصة مفيدة للناس جميعًا .

إن كل نوع من أنواع السعي المجدي يتطلب الشعور التام بالمسئولية ، وطبيعي أن الحاجة إلى إدراك المسئولية تعظم عندما يكون السعي ـ كما هو الحال في دراسة التاريخ ـ وعر المسلك ، باهظ التكاليف ، وعندما يأتي أثره في النفس بارزًا ونتيجته نافذة فعالة ، يشعر الباحث أنه حقق الخير الذي سعى إليه ، وقهر الشر الذي يظل متربصًا به وبعمله لعله يقهر الخير ذات يوم .

خاتمة :

لاحظنا فيما سبق أن المزايا العقلية التي يفرغها التاريخ هي في جوهرها فضائل خلقية لا خلاف عليها ، فالرغبة الصادقة في الوصول إلى الحقيقة التاريخية والصبر والمثابرة والجد وتحمل التعب في جمع الأسانيد والمصادر والمراجع و الأدلة و البراهين ، بالإضافة إلى الوثائق وإثبات صحتها ، واستخراج الأحكام منها تتطلب مجاهدة النفس مجاهدة عنيفة مستمرة ، وكذلك ترويضها على سلوك الطريق الضيق وأداء الثمن الباهظ .

والدقة العلمية في الكتابة قد تبدو صفة عقلية فحسب ، ولكنها في الواقع قائمة أساسًا على أمانة التعامل مع المصدر والمرجع ، وأمانة الفكر ، وأمانة التعبير ، وكذلك القول في الشك والنقد المنهجي البناء ، وفي التجريح والتعديل ، كل ذلك لا يقصد به إلا إظهار الحق ونفي الباطل .

أما التجرد عن الهوى والتواضع تجاه خطورة المهمة التي يقوم بها الباحث التاريخي ، فلا جدال في أصولها الخلقية ، وجذورها الأدبية ، ولا يستطيع أي عالم من العلماء مهما كان أن يرتفع بعلمه فوق منزلته من حيث هو إنسان .

والتاريخ الذي يتعرض أكثر مما يتعرض غيره من العلوم للأهواء أو الميول أو النزعات أو الرغبات أو التوجهات أو الكذب أو التزييف أو التحريف ، خليق بأن يخضع لهذه القاعدة نقصد التجرد التام والكامل ، وهذا يتطلب من الذي يتصدى للكتابة التاريخية أن يحقق في ذاته القيم والفضائل الإنسانية أفضل تحقيق .

==========

المراجع

. أحمد سيد محمد ، الدليل إلى منهج البحث العلمي ، دار المعارف ، القاهرة ، 1985 م .

. أحمد شلبي ، كيف تكتب بحثًا أو رسالة ؟ ، مكتبة النهضة المصرية ، 1976م.

. حسن عثمان ، منهج البحث التاريخي ، الطبعة الرابعة ، دار المعارف ، القاهرة ، 1976م.

. زكي نجيب محمود ، أسس التفكير العلمي ، دار المعارف ، القاهرة ، 1977م .

. عبد الرحمن بدوي ، لنقد التاريخي ، مكتبة النهضة العربية ، القاهرة ، 1963م.

. فؤاد زكريا ، التفكير العلمي ، سلسلة عالم المعرفة ، رقم 3 ، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب ، الكويت ، 1978 م .

ـــــــــ

*باحث ومحاضر في الدراسات العربية والإسلامية

Ayusri_a@hotmail.com

--------------------

هذه الدراسة تعبر عن رأي كاتبها

 

أعلى الصفحةالسابق

 

الرئيسة

اطبع الصفحة

اتصل بنا

ابحث في الموقع

أضف موقعنا لمفضلتك

ـ

ـ

من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ