ـ

ـ

ـ

مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وقولوا للناس حسنا

اتصل بنا

اطبع الصفحة

أضف موقعنا لمفضلتك ابحث في الموقع الرئيسة المدير المسؤول : زهير سالم

الأربعاء 07/10/2009


أرسل بريدك الإلكتروني ليصل إليك جديدنا

 

واحة اللقاء

 

التعريف

أرشيف الموقع حتى 31 - 05 - 2004

ابحث في الموقع

أرسل مشاركة


بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

مذكرات سجين : أوامر التعذيب والاغتصاب أمريكية

هل تمهد الإعدامات السرية طريق السلطة الديمقراطية في العراق؟

د. مثنى عبدالله*

هل يعقل ان يعم الحب في زمن الكوليرا والطاعون؟ أو ان تبرعم أزهار الديمقراطية في عتمة الخوف القابع فوق الجفون؟ وهل يمكن ان يستمر الزيف والتزوير الى مالانهاية في افواه حكام القتل واللصوصية ومليشيات الموت وهم يدعون ليلا ونهارا بأنهم جاؤوا لتخليص البلاد من الدكتاتورية؟ هذه الاسئلة وغيرها أثارتها فينا الصحافة البريطانية في تحقيقها عن غرف الموت السرية في سجن الكاظمية في بغداد، لكن الحقيقة سوف تبقى ناقصة في ظل غياب شهود الإثبات، وفي لجة الدعاية الامريكية للنموذج الديمقراطي العراقي - العربي المدفوع ثمنه المعلن ب 300 مليون دولار لقنوات فضائية عربية مشبوهة، وأشباه مفكرين ومحللين سياسيين اتخذوا من الدعارة السياسية وسيلة للإرتزاق في زمن مطلوب فيه شرعنة الإحتلال وتجميل الوجوه العميلة القبيحة، والتغاظي عن قتل مئات الآلاف من الأابرياء بدم بارد في كافة انحاء العراق.

 

لم يبزغ الفجر بعد ومازال حظر التجوال ساريا، عندما اقتحمت دارنا مجموعة مؤلفة من اثني عشر شخصا، بعد ثمانية ايام من اطلاق سراحي من سجن المطار التابع للقوات الامريكية حيث امضيت فيه سنتين وثلاثة اشهر، متهما بمقاومة قوات الاحتلال الامريكية. كان بعضهم يرتدي ملابس مايسمى الحرس الوطني الحكومي، والآخرين ملابس مدنية، يستقلون سيارات حكومية واخرى مدنية، وفي وسط الصراخ والشتائم التي توالت علينا منهم عرفنا انهم يبحثون عني، حيث تم اقتيادي من داخل البيت بملابس النوم، وتقدموا بي نحو شخص معمم كان يجلس داخل أحدى السيارات، فاخرج من حقيبته صورة لي طابقها مع وجهي فقال نعم هو، لم يتم كلمته حتى انهالت علي الضربات من كل جانب، وتم عصب عيني وتقيد يدي ورجلي، والقي بي في الصندوق الخلفي للسيارة، وماكادت السيارة تتحرك حتى سمعت وابلا من الرصاص، لم استطع سوى التكهن بأنه وسيلة لإرهاب المواطنين الذين تجمعوا في باب دورهم صباح ذاك اليوم لمشاهدة الحدث، كي لايتجرأ أحد لاخذ رقم أحدى السيارات او التعرف على وجوه المقتحمين.

 

لم تمض سوى ثلاثة ارباع الساعة تقريبا حتى توقفت السيارة التي تقلني وفتح الصندوق الخلفي لتمتد لي عدد من الايدي فتحملني الى حيث لاادري، حينها شعرت بلطمة قوية على وجهي اسقطتني ارضا، ثم امتدت الي مرة اخرى لتنزع عن عيني قطعة القماش التي عصبوا بها عيني، عندها تلاقت عيني بعينيه، فصاح بي مستهزئا أهلا وسهلا بالمناضلين، اين ستذهب اليوم مني، لقد اشتريناك منهم، فاذا كنت آمنا لديهم في السجن سنتين، فانت اليوم في الشعبة الخامسة، الا تعرف الشعبة الخامسة في استخبارات صدام، نعم انت اليوم ضيفها، ثم صاح بأعلى صوته (سيدنا هذا جاهز). لم تمض سوى لحظات حتى تقدم مني شخصان كانت بيد احدهما هراوة غليظة والاخر كان يحمل كيبل كهربائي، واقتادوني الى غرفة كانت آثار الطلقات لم تزل على جدرانها، وبقع دماء تكومت فوقها اكوام من الذباب، كانت نافذتها الخارجية تطل على نهر دجلة، وكان يتدلى من السقف حبل غليظ، وفي وسطها طاولة اشبه بطاولة المنضدة عليها مساند لتثبيت اليدين والقدمين، يلتصق بسطحها السفلي جهاز كهربائي تم ربطه بالكهرباء، وفي ركن الغرفة كانت منضدة صغيرة رتبت فوقها العديد من الأشياء المختلفة الاستخدام ؛ مكواة كهربائية، مثقاب كهربائي، مطرقة، ومفك يدوي. اتجه احدهم لغلق الباب بينما أنهال الآخر بالضرب علي بالكيبل في جميع الاتجاهات، عندها سقطت ارضا فهجم الإثنان علي فخلعوا ملابسي عني، وانهالوا علي ضربا بكل شيء، فتفجرت الدماء من جميع انحاء جسدي، حتى شعرت بان الغرفة دارت امام عيني وانقلبت فوقي ولم اعد اشعر بشيء بعد ذلك. لا أدري كم هو الوقت الذي استغرقته وانا فاقد الوعي، لكن الماء الذي القي في وجهي اعاد الحياة لي مرة اخرى، فوجدت نفسي ملقى على المنضدة الوسطية وقد كبلت يداي وقدماي على سطحها. وبعد مضي لحظات شعرت بأن الماكنة الكهربائية المربوطة بالمنضدة قد بدأت العمل، ولكون المنضدة كانت من جزئين فقد بدأ كل جزء يسير بالاتجاه المعاكس للاخر، مما أدى الى سحب الاطراف السفلى الى الاسفل والأطراف العليا الى الأعلى، حتى بدأت اشعر وكأني سوف اقسم الى نصفين من وسطي، لم اتمالك نفسي أمام الألم الرهيب حتى صرخت صرخة من شارف على الموت، تم ايقاف الكهرباء فعاد نصفي المنضدة الى بعضهما البعض، فتقدم مني احدهم قائلا، اذا كنت مستعدا للاعتراف فلن ترى هذه الماكنة مرة اخرى، اما اذا كنت غير مستعد لذلك فاقسم جسدك الى نصفين. تم اقتيادي الى غرفة اخرى، وجلست امام منضدة كانت مفروشة بالاوراق بغير انتظام و يجلس على طرفها الآخر شخص كث اللحية يتحدث العربية بصعوبة تشير بأنه ليس عراقي الأصل. باغتني فورا، هل ستعترف؟ قلت بم؟ قال من هم الذين عملت معهم؟ ما أسماءهم وعناوينهم؟ من الذي كان يمول أعمالكم؟ وعشرات الاسئلة على هذه الشاكلة، ثم ترك ورقة بيضاء امامي وقال اكتب. قلت ياسيدي سنتان يحقق معي الامريكان ولم يجدوا دليلا ضدي، لم يدعني اكمل حتى قال سأنزع اليوم جلدك عن عظمك، فأعادوني الى نفس الغرفة مرة اخرى، التي اصبحت احد ضيوفها الدائميين على مدى ثلاثة اشهر قضيتها في هذا السجن.

 

لم يكن قد مضى على وجودي في المكان سوى ثلاثة ايام، عندما فتحت باب الزنزانة، ودخل السجان وهو يدعونا باستهزاء لحضور حفل الليلة، لم افقه ماقال، لكنه قيدني مع زميلي الآخر وقادنا الى غرفة اخرى. دخلت اليها فوجدت الكثير من السجناء يجلسون أرضا بينهم الشيخ والشاب والحدث، بينما كان رجل في الثلاثين من العمر، ينتصب واقفا أمام الجميع وقد قيدت يداه. تم جلب بقية السجناء حتى امتلات الغرفة ثم اغلقت الباب، فتقدم احدهم وهو يحمل بيده هراوة غليظة بدأ يلوح بها أمامنا وهو يتحدث شاتما لاعنا ليشرح لنا كيف ان هذا الرجل الواقف أمامنا الان هو من الطائفة ال(......)، ولم يستطع الأمريكان الحصول على اعتراف منه بانه عمل مع المقاومة العراقية لكنهم حصلوا على اعترافه بذلك، وهو سيلقى جزاءه اليوم امامنا. تم وضع الحبل المتدلي من السقف حول عنق الرجل، وأوقفوه على صفيحة دهن فارغة لايتجاوز ارتفاعها اربعين سنتمترا، ثم دحرج احدهم الصفيحة من تحت رجليه، ولكون الحبل طويلا ولاتوجد مسافة بعيدة تحت قدمية فقد سقط على الارض متدليا بالحبل لكنه لم يمت وراح يصرخ صراخا مدويا، ويرفس بقدميه كما الذبيحة، لكنهم انهالوا عليه ضربا بالهراوات حتى تضرج بدمه وفارق الحياة، عندها طلبوا منا جميعا ان نبصق على وجهه جميعا، وقبل ان نغادر الغرفة تم اختيار خمسة افراد منا كنت احدهم، كي نحمل الجثة الى خارج القاعة، حيث تبين ان هناك خندقا طويلا على الساحل الغربي لنهر دجلة المحاذي للسجن، عمله الجيش العراقي السابق للتموضع فيه بغية التصدي للعدوان الامريكي ايام الغزو، ثم طلب منا رمي الجثة في الخندق والقاء التراب عليه.

 

عدنا الى الزنزانات المخصصة لنا ونحن نمشي على غير هدى، بينما كان السجانون يكيلون لنا الشتائم ويتوعدونا بنفس المصير غدا او بعد غد، لكنني لم اكن اصدق اطلاقا بان هذه الجريمة ستكرر يوميا عندما سمعت ذلك من زميلي الذي يشاطرني نفس الزنزانة وهو يصف لي التفنن اليومي بالقتل، حتى تيقنت في الليلة التالية من صدق كلامه عندما دعينا مرة اخرى الى نفس الغرفة التي كانوا يطلقون عليها أسم ’ملهى الطاحونة الحمراء‘. كانت الضحية هذة المرة رجلا تجاوز الخمسين من العمر، عمل ضابطا في الجيش العراقي السابق وكان آمرا لإحدى الوحدات العسكرية وقد افرجت عنه القوات الامريكية بعد اعتقال دام ثلاثة سنين وهذا ماسمعناه منه. كان على الضحية ان يقدم نفسه قبل الإعدام، وبعد ان انهى كلامه برز احد السجانين اليه وقام بوضع حذاءه على كتفه قائلا له باستهزاء "هذه نجمة اخرى لك مني فقد رفعنا رتبتك اليوم الى رتبة أعلى ياسيدي و تكريما لبطولتك وشجاعتك" وتقدم الآخر منه وهو يخيره بين الموت شنقا او رميا بالرصاص باعتباره عسكري لكن ثالثهم أقترح عليه القتل بالكهرباء على الطريقة الامريكية وفورا تم جلب جهاز اشبه بجهاز شحن بطارية السيارة وتم ربط يده في طرف وقدمه بالطلرف الاخر، وربط الجهاز بالكهرباء، وماهي الا لحظات حتى أخذ الرجل يتدحرج على الأرض في كل الاتجاهات، ويشخر شخيرا عاليا ويزبد فمه وانفه حتى فارق الحياة بعد ان أسودت يداه وقدماه، ثم طلب منا كالعادة أن نبصق في وجهه قبل االمغادرة.

 

كنت في شك تام من ان القوات الأمريكية على علم بما يجري هنا عندما حدثني زميلي السجين من انهم يترددون بين الحين والآخر على هذا الموقع، لكن نداء السجان علينا للخروج لتنظيف ارضيات السجن بمناسبة قدوم الامريكان جعل الحقيقة واضحة امام عيني، كما انه نبهنا الى عدم التحدث معهم باي شيء، والذي سيتحدث معهم بالانكليزية سيتم قطع لسانه ثم استدرك قائلا عموما هم لن يأتوا اليكم ليروكم بل سيذهبوا الى قاعة السجينات كي يقضوا احلى الأوقات مع رفيقاتكم في النضال ثم ينصرفوا. كان صراخ السجينات وعويلهن ودعوات كبيرات السن منهن على الجنود الامريكيين التي سمعناها في تلك الليلة دليلا على ان القوات الأمريكية شريكة فعلية في الجريمة التي ترتكب في هذا السجن بعيدا عن الانظار.

 

كان يوم الرابع عشر من كانون الاول عام 2007 شاهدا على ابشع جريمة في هذا السجن، وهي وصمة عار في جبين الإحتلال وأعوانه وكل من سار في ركبهم وأعانهم بلسانه او بيده حيث دخلنا غرفة الإعدامات فوجدنا اربعة عشر شخصا مقيدي الايدي مكممي الافواه يصطفون على حائط الغرفة، وعندما جلسنا على الارض نهض احد السجانين واقفا امامنا قائلا بانهم خلية مقاومة يريدون ارجاع العراق الى الدكتاتورية وسنقبرهم اليوم مع الدكتاتورية. فانهال بالضرب عليهم بالهراوات والكيبلات، ثم بدوا بتعليقهم بالحبل المتدلي من السقف واحدا بعد الاخر، كانت أرجلهم تمس الارض وهم متدلين بالحبل من رقابهم عندما يدفعون الصفيحة من تحت ارجلهم ويبقون يرفسون وهم مختنقين دون ان يموتوا. ثم ينهون حياتهم بطلقة في الرأس او بضربة هراوة على الاعضاء التناسلية. لكن أبشع مارأيناه عندما صعد أطول من فيهم وهو شاب في مقتبل العمر، قوي البنية، عندما تم دفع الصفيحة من تحت قدمية انتصب واقفا على الارض لكن رقبته معلقة بالحبل ولازالت الروح فيه وجسده يقاوم الموت، عندئذ قفز اثنان من السجانين على كتفيه كي يزيدوا من ثقل جسده الى الأسفل فتوتر الحبل وضغط بقوة على رقبته حتى فارق الحياة وعلى أثره تقيء الجميع وفقد البعض الاخر وعيه ونحن ننظر الى الأجساد المتكومة بعضها فوق البعض. لكنهم لم يوعزوا لنا بالانصراف هذه المرة بل قال احدهم "لديكم عمل شعبي اليوم، عليكم ان تنقلوا هذه الجثث الى الخندق على ضفة النهر فورا". وفي خلال ساعة من الوقت أضحت الجثث متكدسة في الخندق، ثم طلبوا منا أن نجمع بعض الأخشاب والأعشاب الملقاة هنا وهناك ونرميها فوقهم، ثم تقدم أحدهم بصفيحة نفط ونثرها عليهم، فأوقد النار في كومة الأجساد والأخشاب وأمر السجانين بصرفنا الى الزنزانات المخصصة لنا.

 

في وطني الحبيب العراق ذاك السجن العائم فوق بحيرات الخير والثروات، بلاد الرافدين وبابل وحمورابي وسرغون الأكدي المحاط الآن بهالة الديمقراطية الزائفة وصفقات العهر بين المحتل الأمريكي وأعوانه، بينما تكتب قصص ألف ليلة وليلة من التعذيب الوحشي بين سجين وسجان في أكثر من 600 سجن سري مزروع في أرضه الطاهرة حتى فاقت أعداد أضرحة الأنبياء والأولياء الصالحين الراقدين في أرضه على كثرة عددهم والتي يفاخر بهم أبناءه، قادني سجاني معصوب العينين من زنزانتي التي لا أكاد أستطيع أن أمد فيها أطرافي السفلى لضيقها والتي لاشيء فيها يطل على الحياة سوى كوة صغيرة في بابها تمتد لي من خلالها يد تحمل صحن (حساء) بسيط ثلاث مرات يوميا، كنت لا أقوى على المشي بعد تعرضي الى تعذيب جسدي مركز دام ثلاثة ايام متواصلة تضمن ضربا مبرحا مقصودا على منطقة المفاصل في أطرافي السفلى بالعصا الكهربائية والعادية كي امون مهيئا لأول جلسة تحقيق تفصيلي، فما كان من سجاني الا أن طرحني ارضا وسحبني من ياقة البجامة التي كنت ارتديها حتى أدخلني غرفة التحقيق ثم حملني من تحت ذراعي ليجلسني على كرسي خمنت بان أمامه منضدة ثم بصق في وجهي بهدوء وخرج بعد أن أغلق الباب خلفه. قطع سكون الغرفة ذات الرائحة النتنه دخول شخص قوي الخطوات جلس أمامي عندما تزحزحت المنضدة التي بيني وبينه وتبعته خطوات أخرى لأشخاص آخرين دخلوا الغرفة واحسست بانهم جلسوا خلفي تماما.

 

انهالت الأسئلة علي لبيان معلوماتي الشخصية ثم أسئلة أخرى لبيان مواقفي وآراءي ومعتقداتي السياسية والفكرية وذلك لعدم وجود فعل جرمي بل هي عملية اجتثاث فكري بحت. ماهو موقفك من المرجع الفلاني؟ وايران؟ والأمريكان؟ والاحزاب الموجودة الآن؟ ولماذا تقول في محاضراتك على الطلاب في الجامعة بان الامريكان محتلون؟ لماذا لاتؤمن بانه تحرير؟ لماذا انت من الطائفة ال(....)؟ هل لديك الاستعداد لتبديل طائفتك والإنتماء الى الطائفة ال(..)؟ ماذا كان عملك في السفارة العراقية عندما كنت تعمل دبلوماسيا؟ لماذا تركت الوظيفة عندما حصل التحرير؟ من هم الذين كانوا في السفارة تابعين للمخابرات العراقية؟ هل لديك علاقة بحزب البعث؟ من تعرف من الإرهابيين (المقاومة)؟ وعشرات الأسئلة الأخرى التي توالت علي كتوالي الصفعات والركلات التي كنت أتلقاها على رأسي ووجهي والتي كانت تسقطني ارضا في كل مرة لتوفر عنصر المفاجاة حيث ان عصب عيني أفقدني القدرة على ايجاد رد فعل نفسي وجسدي أواجه به هذه الصفعات وأتمالك توازني. بعد مايقارب الثلاث ساعات من التحقيق غادر الشخص الذي حقق معي ورفعت العصبة عن عيني لأجد ثلاثة شباب تتراوح أعمارهم بين 18-25 سنة تقريبا، فتحت الباب ليتقدم أحد الاشخاص فيقدم لهم وجبة طعام متنوعة بينما وضع أمامي صحن الحساء المعتاد الذي تركته على حاله حتى دخل أحدهم مسرعا وابلغ الثلاثة بان السيد قد وصل ثم وضع العصبة على عيني على عجل وغادر. سمعت حركة نهوضهم المستعجلة وطويهم الصحف التي كانوا قد أفترشوها لتناول الطعام عليها ثم تقدم أحدهم مني وتأكد من وضع العصبة على عيني بصورة جيدة وهو يكيل لي مختلف انواع الشتائم والسباب ويصفعني بصورة متكررة على مؤخرة راسي ثم استقر خلفي تماما حتى لامس جسده ظهري.

 

لم يكد يمضي وقت طويل حتى فتحت الباب وكانت الضجة تشير الى دخول عدد من الأشخاص وليس شخصا واحدا، أقترب الجميع مني، كان المتحدث يتحدث بلغة غير عربية لكن شخصا اخرا كان يقوم بالترجمة عنه. كم مجرما لديكم اليوم؟ خمسة سيدنا. كلهم تكفيريون؟ نعم سيدي وصداميون. هل هذا واحد منهم؟ هذا سيدنا صاير مناضل يحرض الطلاب بالجامعة أثناء المحاضرة ويقول بأن العراق محتل وليس محررا والجماعة سجلوا صوته بالمحاضرة وكان مسجون عند الأمريكان قبل ما نلقي القبض عليه. لم يكد ينهي كلامه حتى انهالت علي الضربات والركلات من كل جانب حتى سقطت أرضا فتكاثرت علي ضربات العصي والكابلات الكهربائية حتى شعرت بأن الدماء قد سالت على صدري من فمي وأنفي، عندها بدأت الأسئلة المعتادة التي سمعتها من المحقق السابق تتكرر علي مرة اخرى، وتتوقف بين حين وآخر كي يتم تعريضي لنوبة جديدة من التعذيب المتكرر وذلك بأن يمسكني مجموعة منهم ثم يتم ادخال أنبوبة مطاطية (صوندة) في فمي ثم الى المريء حتى اكاد أختنق من كثرة الغثيان، ثم يتم ايقافي بشكل مقلوب ويبدأ الضرب المبرح على راحتي قدماي بالفلقة، أو تعريض اذني الى أصوات عالية جدا لا أعرف مصدرها بعد ان يضعوا شيئا ما في أذني، حتى قطع أسئلته قائلا لافائدة منه الان ضعوه في التابوت حتى الصباح وهو يتادب ويعرف كيف يتكلم ويعترف ثم نراه غدا. تم إخراجي من الغرفة بسرعة سحبا على البلاط واتجهوا بي الى مكان اخر حيث تم رفع العصبة عن عيني فوجدت نفسي في غرفة كبيرة ملقاة على ارضها العديد من الاشياء حبال وسلاسل حديدية وهراوات متعددة وبقع دماء صغيرة وكبيرة يتجمع عليها الذباب وتوابيت مرصوفة بصورة شاقولية جنب احد الجدران، فاجأني السجان وهو يقول لي هذا قبرك هذه الليلة يابن(...) ثم أدخلني في أحداها واوقفوني فيها ثم أعاد الغطاء وتعاون مع أثنين أخرين كي يربطوا الغطاء على التابوت الواقف بحبل غليظ ثم أغلقت الباب، كانت أطرافي لاتقوى على حمل جسدي الهزيل وكانت رائحة الموت وبقع الدماء في التابوت تخترق رئتي كسكاكين وتهيج معدتي الخاوية على الغثيان بدون جدوى. كان من المستحيل علي التململ ولو بقياس مللمتر واحد ولهواء الداخل لي من الثقوب الصغيرة في التابوت لايكاد يملء حجيرة واحدة من حجيرات رئتي والدماء المنسابة على صدري من التعذيب قد تجمدت وبدأت رائحتها تمزق انفي.

 

كنت أسمع توسلات السجناء الآخرين في التوابيت المرصوفة قربي وطرق ايديهم عليها، كان بعضهم يبكي بصوت عال والآخر يدعوا الله بصوت جهوري، وصوت امرأة تصرخ وتقسم بالله بانها لاتعرف مكان (خالد) ولامع من يعمل، ولا من مجيب فلا يوجد أحد في الغرفة لكن الصمت قاتل بالنسبة للسجين فيضطر للكلام مع ربه أو نفسه، خاصة عندما يتعلق بين الموت والحياة ويصبح الفرق بين العقل والجنون والموت والحياة مجرد خيط رفيع. كانت أقدامي لاتحملني على الوقوف ونعشي لايسمح لي حتى بالتململ حتى اصبحت أحس بأن جسدي قد أصبح بثقل الجبل، كنت أتمنى أن يسرق ألمي هذا نوم عميق أو فقدان وعي فالأمر سيان عندي في هذه اللحظة فكلاهما رحمة من الله لكن أنين أحدهم كان ناقوسا يقرع داخل جمجمتي، كان يتسا ءل بحرقة لماذا هو الآن هنا؟ مالذي فعله؟ لماذا افنى حياته دفاعا عن الوطن في ايام المحن في الحرب لمدة ثمان سنوات؟ لماذا هو تعب وشقى ثم تتم مجازاته بهذه الطريقة؟ لماذا تتحكم هذه القاذورات وأشباه الرجال بالرجال الذين افنوا حياتهم من اجل الوطن؟ كان صوته وتساؤلاته مطارق تدق في رأسي وتحفز بقايا خلايا دماغي على التفكير ايضا بنفس الطريقة!! ثم أجهش بالبكاء المر. ماأصعب الشعور بالغبن والظلم عندما يجري انتزاعك من عرشك المعنوي ثم تلقى على قارعة الطريق ويصبح مصيرك مرهونا بيد أراذل القوم، كان يتوسل قائلا : " أرجوكم أنا اللواء الركن (......) بيتي في منطقة اليرموك محلة(....) زقاق(....) دار رقم (....) إن كان سوف يكتب الله لأحدكم الفرج والخروج من هذا القبر فاستحلفكم بالله أن تبلغوا أهلي بأني هنا في سجن الكاظمية منذ تسعة أشهر وليحاولوا التوسط لي هنا وهناك، وابلغوهم بأنهم قطعوا ثلاثة من أصابع يدي وقلعوا جميع اظافري ويهددوني الآن بقلع عيني ولاذنب لي سوى انني قاتلت في الحرب العراقية الايرانية ويتهموني بأني أرهابي". كان الألم قد مزق قدماي حتى باتت السيطرة على عدم خروج فضلات جسدي من المحال وبدأت اشعر بأن قدماي قد انتفختا وان ضغط الدماء فيهما يكاد يتفجر.

 

أعادت الحياة لي رشقة ماء بارد فوجدت نفسي مطروحا على الأرض وأربعة وجوه كثة اللحى تحدق في وجهي، وغطاء تابوتي مفتوح وجملة أسمعها من بعيد على الرغم من أن المتحدث قريب جدا مني وهو يقول : " لازال حيا.. ". كنت قد فقدت الإحساس تماما بقدماي حتى ظننت بأنهما قد قطعتا. حملني هؤلاء من يدي وقدمي الى غرفة صغيرة فتطلع الجالس فيها في وجهي ثم قال خذوه الى المستوصف بعد أن سمع صراخي من الألم، فالقوا بي في سيارة مظللة الزجاج وغادرت المكان. لم يمض وقت طويل حتى توقفت السيارة وفتحت الباب فاذا هو بيت بسيط فحملني آخرين الى داخل البيت وأدخلوني الى غرفة كبيرة نسبيا كان فيها اكثر من سبعة اشخاص مطروحين أرضا بينما كان شاب في الثامنة عشرة من العمر تقريبا يصرخ بأعلى صوته من الألم والدماء تسيل على أطرافه السفلى من مؤخرته، بينما كان إثنان يتجادلان في كيفية نقله الى المستشفى لأن الطبيب الذي يعتمدون عليه في المستشفى غير موجود الآن لأنه كان خفرا ليلة أمس ولايمكن الإعتماد على غيره، ثم اتجه احدهم الى الشاب محاولا اسكاته بالقوة بينما كان الشاب يصرخ بأنهم اغتصبوه وادخلوا قنينة في مؤخرته، وهو ويقول " والله لاأعلم اين أبي ولاأعرف عنه شيئا، أرجوكم اقتلوني وخلصوني". تم إخراجه من الغرفة بسرعة بينما أخذ الآخر يهددنا بنفس المصير إن لم نعترف في التحقيق، وانهم سوف يجلبون عوائلنا كي يفعلوا بهم مافعلوه بالشاب المصاب. نظر الي المدعو أبو حسنين وتفحص قدمي عن بعد ثم قال ليس في حالته خطورة ثم مال على أذن سجاني فوشوش له ببعض الكلمات ثم أنتقل لمعاينة الآخرين وتبين أنه ليس طبيبا بل ممرضا يمارس زرق الأبر وتضميد الجراح.

 

تمت إعادتي الى السجن، لكن هذه المرة الى زنزانه أكبر كان فيها اكثر من عشرين شخصا تقريبا، فهمت بعدها بأن وضعي فيها كان بمشورة من ابو حسنين الذي ابلغهم بان من الضروري اعطائي مكانا اكبر، كي استطيع ان أمد قدمي علهما يعودا الى سابق عهدهما بعد ان تعذر علي المشي بسبب الالتهاب الحاد. كان أبشع مافي هذه الزنزانة هي الحرب النفسية التي مورست ضدنا فيها. كان السجانون يأتون الينا وياخذون أرقام هواتف ذوي السجناء وعوائلهم كي يتصلوا بهم موهمين إياهم بأن ابناءهم سوف يخرجون من السجن بأقرب وقت ان تم دفع المال، بل أن بعضهم كان يقوم بتسجيل احاديث السجناء وسلامهم الى اهاليهم كي يسمع الاهل ويسرعوا في دفع الأموال. كانت المبالغ المطالب بها كبيرة جدا في ذلك الوقت و تصل الى آلاف الدولارات وبعد أن يتم دفع المال من قبل أهالي السجناء يجري إعدامهم وإلقاء جثثهم في اماكن بعيدة ثم يتصلون بأهالي الضحايا مرة اخرى كي يرشدوهم الى أماكن جثث ابناءهم مقابل دفع مبالغ مالية ايضا. ولكثرة عددنا في هذه الغرفة صار السجانون يستصعبون فتح باب الزنزانة بين فترة وأخرى لقضاء حوائجنا، مما جعلهم يطبقون علينا أسوء نظام لم يعرفه سجن في التاريخ على مر العصور وفي مختلف الأزمان حيث طلب منا ان نتغوط ونتبول في نفس الصحون التي نتناول بها طعامنا وفي نفس الغرفة التي كنا نحتجز فيها مما حدى بنا الى ان نمتنع عن تناول الطعام لأسباب نفسية. بعدها مباشرة جاءت الأوامر بمعاقبة السجان المسؤول عن توزيع الطعام للسجناء الذين لايوجد في صحونهم غائط عندما يحين موعد توزيع الطعام، ثم يأتي الضابط ليشرف على تناولنا الطعام مع الغائط. لكن الليل كان أبشع شيء في هذه الزنزانة. كان السجانون يأتون ليلا كي يختاروا بعض من صغار السن ويجبرونهم على ارتداء الملابس الداخلية النسائية أمامنا جميعا مع وضع مساحيق التجميل لهم والطلب منهم الرقص والغناء حتى يأتي المدعو (نقيب حيدر) ضابط خفر السجن ثملا يكاد لا يستطيع المشي من كثرة ماتناول من المشروب، ويجلس على كرسيه المخصص في وسط الغرفة ليختار أحد هولاء الشباب قائلا له "أريد أن أزني باختك هذه الليلة ولكونها غير موجودة فاريدك ان تتقمص شخصية أختك كي أزني بك، فقل لي الآن ما أسمها كي أسميك باسمها، وكيف هو شكل صدرها وشعرها و.......... " ثم يبدأ بتقبيله ويلامس المناطق الحساسة بجسده ثم يطلب من الحراس بعد ان ينتهي هذا الفصل البائس بنقله الى غرفته حيث يتم أغتصابه من قبل الضابط وحراسه معا وبالتناوب وقد أستمرت هذه العملية القذرة مع احد الشباب لعدة ليالي حتى صحونا فجر أحدى الأيام على صراخ صديقه (طارق) الذي كان بنفس عمره تقريبا والذي تم اعتقاله معه، وهو يطلب منا أن نصحو لنرى (علي) جثة هامدة وقد تهشم رأسه والدماء تسيل بغزارة منه حيث ضرب رأسه منتحرا بجدار الغرفة وبقوة شديدة بعد دقائق من انتهاء الفصل الماجن معه في غرفة الضابط حيدر وإرجاعه الى السجن.

 

تم إرجاعي الى الزنزانة الإنفرادية بعد ان تحسنت حالة اطرافي السفلى بعض الشيء، حيث تبين بان الزنزانة الكبيرة التي كنت فيها ماهي الا فترة نقاهة للسجناء الذين يتعرضون الى تعذيب شديد يتسبب في اعاقة مؤقته لأعضائهم الجسدية. بدأت جلسات التحقيق معي مرة اخرى بحضور ذلك الرجل الذي لايجيد اي شيء من العربية ومرافقه المترجم العراقي وشلة الحرس الخاص به والذين يجيدون إجادة تامة كل وسائل التعذيب الجسدي والنفسي. كان البرنامج التحقيقي حافلا بالفعاليات التعذيبية التي مررت بها في المعتقلات الأمريكية ونظيرتها العراقية حيث عمليات الصعق الكهربائي وصب الزيت الحار على بعض الأماكن الحساسة في الجسد الى المثقاب الكهربائي (الدريل) وشعلة الأوكسجين التي تستخدم في لحيم الحديد لكن اقسى ماتعرضت له هو عملية الحقن بفيتامين (سي) تحت الجلد والذي يؤدي الى الشعور بالحكة الشديدة في الجسم حتى تصل الى درجة البكاء. استمر التحقيق معي لأيام عديدة وكان هدفه الإعتراف على لاشيء، أو الاعتراف بأوهام يريدونها أن تكون حقيقة، حتى وصل بي الحال أمام كل ذلك الضغط النفسي والجسدي ان اطلب منهم كتابة مايريدون وساقوم بالتوقيع عليه كاعتراف مني، أو يملوا علي مايريدون كتابته، لكن محققي نهض من مقعده وتحث بلغته التي ترجمها لي مترجمه الشخصي قائلا لمن بمعيته من العراقيين لافائدة من هذا الكافر انه لايريد الإعتراف وعليه فان قرار الاعدام بحقه هو الحل. إذن لم يبق بيني وبين التخلص من هذا الذل والعذاب الجسدي والنفسي سوى أيام معدودة. إنه الحلم الذي يتمناه كل من هم حولي في هذا المكان. مع مجيء الموت ينشغل تفكير الإنسان بمصير أهله وأخوته وأولاده خاصة عندما يعلم بقدومه اليه بعد دقائق او ساعات، ومعه يشعر بوطأة الألم الفادح عندما يتذكر بأن احلامه وسعيه وجهاده من أجل أن يحيا حياة عزيزة قد ذهبت أدراج الرياح في لحظة، لكنه عندما يوازن كل ذلك بما يتعرض له الآن فانه يفضل أن يخسر كل مابناه لأن الخسارة لتي يعيشها الآن هي خسارة معنوية لايمكن تعويضها، إنها خسارة في الكرامة الشخصية والإعتبار الانساني. أعادني سجاني الى زنزانتي الإنفرادية لكن صورة أبناءي ووالدتي المسنة كانت هي التي تطغي على ذهني في تلك اللحظة. نظر الي سجاني من خلف القضبان وهو يقول لي سوف يحضر لك السيد هذه الليلة كي تستغفر ربك على يديه وتتوب وتلاقي ربك طاهرا ثم غادر بعد ان اقفل باب الزنزانة.

 

مضى يومان على حضور السيد لي كي يعلمني التوبة من حب الوطن وإن الاحتلال تحرير، وإن الطائفة (...) هي الإسلام الحقيقي الذي يجب ان أتبعه، لكن قرار الإعدام لم ينفذ بي لحد الآن. إنتصف الليل فسمعت أصوات السجانين تثير الضجيج داخل السجن وهم يوقضون السجناء فتصورت بان لحطة إعدامي قد حانت حيث جرت العادة بان يكون الإعدام أمام السجناء الاخرين خاصة عندما يتم التنفيذ بطريقة مبتكرة كالتي رأيناها سابقا، لكن سبب الضجيج كان أمرا آخرا حيث تم إخراجنا للقيام بتنظيف السجن إستعدادا للزيارة الدورية التي تقوم بها القوات الامريكية، والذين حضروا عند الفجر تقريبا. إقترب الضابط الخفر حيدر من زنزانتي برفقة عنصر أمريكي ومترجم، حيث كان الضابط حيدر يتحدث مع الأمريكي عني قائلا بأنني إرهابي أحرض طلابي في الجامعة ضد القوات الامريكية. بصق الأمريكي في وجهي وطلب من الضابط حيدر إخراجي من الزنزانة ثم طلب مني ان أمثل دور الحمار ثم ركب على ظهري كي اجول به في ممرات السجن، وأعود به الى باب الزنزانة ثم تبول على ظهري قبل ان يغادر وهو غارق في الضحك مع الضابط والمترجم.

 

مضت الأيام ببطء قاتل حتى أبلغني سجاني ذات ليلة بأن تنفيذ الإعدام بي سيتم يوم غد صباحا، مر الليل سريعا سمعت فتح اقفال ابواب عدد من الزنازين وصوت سجان ينادي على بعض السجناء، فتيقنت بأني لست الوحيد الذي سيلاقي مصيره اليوم. فتح علي باب زنزانتي وقادني بضعة خطوات الى نهاية الممر فوجدت ستة رجال وأمراة واحدة، حيث تم تقسيمنا الى مجموعتين كل مجموعة من أربعة أشخاص، وربطت أيدينا مع بعض. كانت الوجوه صفراء قاحلة من اي حياة، والشفاه متدلية بيضاء، كانت تعلو الجباه رهبة الموت. هبطت المرأة بقامتها فجأة الى الأرض لعدم قدرتها على الوقوف، فهبطنا معها كون ايدينا مربوطة بيدها، فهرع الينا احد الحراس شاتما لنا وهو يحاول استنهاض المراة من الأرض. تم فتح باب السيارة ذات الزجاج المظلل، وقبل سوقنا الى داخلها تم عصب أعيننا واحدا بعد الاخر. إنطلقت السيارة بنا مسرعة الى المجهول تحمل أجسادنا الميتة سريريا ويجلس معنا أثنان من الحراس المسلحين بالبنادق الرشاشة بينما كانت تطلق صفيرها كي يتم فسح المجال لهم للمرور. كان الطريق طويلا بعض الشيء حيث أستمر المسير بما يقارب الساعة ثم انحدرت الى طريق ترابي عندما احسست بان السيارة تسير على طريق غير مستو. توقفت وفتحت الباب الخلفية لها ثم تم انزالنا منها وتم نزع العصبة عن أعيننا، وفتحت أقفال معاصم أيدينا فوجدت بأن سيارة اخرى كانت قد رافقتنا حيث نزل منها ستة أشخاص مدججين بالأسلحة. كانت رائحة نتنة قد أخترقت رئتي حتى جعلتني راغبا في الاستفراغ لولا فراغ معدتي من الأكل. جلت ببصري فوجدت حائط بستان نخل قديم تهدم بعضه ومجموعة كلاب تنبح حول بعض الاشياء. تم اقتيادنا الى قرب حائط البستان فوجدنا بقايا هيكل عظمي لإنسان، وعظام أخرى مرمية هنا وهناك، وجثة تبدو حديثة القتل حيث لازال الشعر يغطي بعض اطراف الجمجمة وفردة حذاء باحدى القدمين بينما كانت الكلاب متجمعة على منطقة البطن مما يؤكد بان هذه المنطقة هي المذبحة التي يتم تغييب الكثير من السجناء فيها. تم أيقافنا وظهورنا تجاه الحائط وكان الفرق بين كل واحد والآخر بحدود ثلاثة امتار بينما جثت المرأة السجينة على ركبتيها، لعدم قدرتها على الوقوف واتجه الرماة واقفين أمامنا وهم يصوبون اسلحتهم تجاهننا. لحظات ولعلع صوت الرصاص وفجأة توقف لكن الروح لم تزل في جسدي بينما السجين المجاور لي راح يتلوى قرب قدمي والدماء تسيل منه لكنني مازلت واقفا على الرغم من انني شعرت ببعض الدماء تتناثر على وجهي. لم أعرف مالذي جرى هل الرامي اخطأ تصويبي؟ ام أنني اصبت اصابات غير قاتلة؟ ومامصدر الدماء التي تناثرت على وجهي؟ ترى هل هي دماءي أم دماء الشخص الذي قتل بجانبي؟ هل أنا في الوعي أم اللاوعي؟ تلفت قليلا فوجدت ثلاثة سجناء آخرين مازالو على قيد الحياة مثلي. قطع أسئلتي التي كنت اسائل بها نفسي صوت أحدهم وهو يتجه نحوي ويقول لي هيا يا ابن(......) اصعد الى السيارة بعد ان أمسك بي من كتفي بينما تركت الجثث على حالها قرب الحائط. غادرت بنا السيارة مسرعة بعد ان ربطت أيدينا نحن الأربعة الباقين ببعض وعصبت أعيننا. أدخلني سجاني الى الزنزانة وانا لااعرف ما الأمر لكنه قبل ان يغادر قال لي اليوم رأيت الموت بعينك لكنك سوف تذوقه غدا فاعترف هذا اقصر طريق لك وغادر. لكنني لم افهم لماذا تم قتل أولاءك وتركنا نحن؟ هل هو جزء من الإرهاب النفسي للضغط علينا كي نعترف؟ وهل الذين تم قتلهم اليوم لم يعد لهم اي مبرر للوجود بالنسبة لهولاء القتلة؟ بقيت تلك الصورة في ذهني وأمام عيني عندما كان السجان يقلب السجناء الذين تم قتلهم صباح اليوم بحذائه كي يتاكد من موتهم، بل انه تمادى في ذلك عندما كان يضغط بحذاءه بقوة على صدورهم ثم يرمي اطلاقة من مسدسه على راس كل واحد منهم. لاادري لماذا تمنيت ان تكون تلك السيدة السجينة هي الأخرى لم تقتل وتعود معنا لعل أمرا ما يبقيها على قيد الحياة وتعود الى اولادها وبيتها في يوم ما لكن الامر انتهى وهي الآن وجبة اخرى الى تلك الكلاب الضالة مع القتلى الاخرين.

 

لم يمر سوى يومين حتى جلست مرة اخرى أمام محقق آخر حيث بدأ كلامه متوعدا لي ومهددا إياي بأن الإعتراف أسهل وسيلة للنجاة من التعذيب عارضا علي مؤهلاته في التحقيق مع الأسرى العراقيين في ايران وكيف انه حصل على اعترافاتهم بأقصر الأوقات وكيف هشم جماجم بعضهم وقلع عيون اخرين منهم ثم سالني هل ستعترف قلت نعم قال عن ماذا قلت عن كل ماتريد ياسيدي. رفع عن عيني العصابة وابتسم ابتسامة المنتصر ووضع أمامي بضعة اوراق وقال اجب عن هذه الاسئلة. من الذي يمولكم؟ من هم المجموعة التي تعمل معها؟ اين قادة البعث الكافر؟ من هو المسؤول عن بغداد من القاعدة؟ اين تلتقي بهم؟ اين هي اوكارهم؟ اين..... اين..... من هو.... من هو....؟؟؟ فقلت له ياسيدي انا استاذ محاضر بعقد مؤقت مع الجامعة ولا أعرف أيا من هؤلاء لكني على استعداد كي اكتب ماتريد، فاشتاط غضبا وبصق بوجهي ثم نادى على السجان وقال له اصلخ جلده أمامي، فتكالب علي ثلاثة اشخاص لم أع ِ بعدها شيئا سوى أنني مرمي على الأرض والدماء تسيل من كل مكان في جسدي، وعندما فتحت عيني قال لي سوف أجلب كل أهلك اليوم وأعمل بهم كل الذي تعرفه ثم صرفني الى الزنزانة مع سجاني. حمدت الله لأنني قلت لزوجتي وأولادي بأن يغادروا البيت فورا عندما تم اقتحام بيتي لأنني كنت اتوقع بأن يساومونني على زوجتي او اولادي لكن صدمتي كانت كبيرة جدا عندما أستدعيت للتحقيق في اليوم التالي فوجدت والدتي تلك المرأة االسبعينية من العمر وقد تم اعتقالها بعد ان عجزوا عن العثور على زوجتي واولادي، فنظرت في وجهي وتطافرت الدموع من عينيها ولم تستطع النطق بحرف واحد عندما دفعها السجان الى خارج غرفة التحقيق. ابتسم المحقق وهو يقول ألم اقل لك بأني قادر على جلب كل أهلك ان لم تعترف. اليوم جلبت أمك وغدا زوجتك واختك، قلت انا مستعد للإعتراف بما تريدون. استمرت جلسات التحقيق معي وكانت كل فصول التعذيب بحضور والدتي التي كان يغمى عليها كلما شرعوا في استخدام أساليبهم التعذيبية معي. ها قد مر اسبوعان والتحقيق مستمر معي ووالدتي في السجن وهي التي لاتعرف حتى كيف تخرج من بيتها على مر سنين طوال فقد زهدت الدنيا منذ أمد بعيد ولم يعد لها فيها سوى مسبحة تستغفر بها الله وسجادة تتعبد عليها. نعم كان وجود والدتي نهاية اكبر ضغط نفسي مارسوه ضدي، وبداية انهيار تام لمعنوياتي حيث قررت ان اطلق العنان لخيالي واكتب لهم كل مايريدون من افعال لم افعلها وجرائم لم أرتكبها كي ينهوا حياتي لعل فيها نهاية لمأساة والدتي في هذا السجن الحقير وان تعود الى بيتها لكن يبدو أن مكانتها عند الناس كبيرة وعند الله اكبر فلقد تشبث بعض جيرانها من الطائفة الأخرى وليس من طائفتها، ببعض المتنفذين من رجال دين السلطة الذين يحكمون عراق اليوم لإطلاق سراحها. قادني سجاني الى غرفة لم أرها سابقا لاحظت شخصا كث اللحية يتحدث العربية بصعوبة مع آخر ضخم الهامة ذا لحية طويلة وتعلو رأسه عمامة كبيرة يجلس أمامه، علمت فيما بعد بأنه شخصية دينية معروفة في بغداد. التفت الرجل المعمم الي بينما نادى الآخر السجان كي يجلب والدتي. لحظات وكانت والدتي معي في نفس الغرفة. نهض الرجل المعمم مرحبا بوالدتي ومعتذرا عما حصل لها وأخبرها بأن جيرانها قد اتصلوا به متوسلين توسطه في اطلاق سراحها وانه جاء كي يأخذها بنفسه الى بيتها، بينما مال علي جانبا مخبرا إياي بأني سوف اخرج ايضا بعد انتهاء بعض الاجراءات.

 

غادر الرجل برفقة والدتي بينما بقيت أنا رهينة في السجن كي يبدأ فصل جديد من المساومات معي. "إن كنت ترغب في الخروج من السجن فعليك دفع مبلغ مقداره خمسون ألف دولار أمريكي، " هكذا قال لي الضابط حيدر الذي زارني في زنزانتي عصر ذلك اليوم، وان سرعة خروجك تعتمد على سرعة دفع المبلغ. إذن فالموضوع ليس أكثر من مساومات مادية مقابل حياة آلاف من الأبرياء الذين تأكل أجسادهم الكلاب قرب جدار البستان الآن، وليس أكثر من حقد وضغينة طغت على الأبصار والبصائر، وإن العراق كبلد ووجود وهوية لاعلاقة له بكل مايجري بل أنه أبعد مايكون في اجندات هؤلاء القوم ولكي تتم الصفقة كاملة قبل ان أخرج ولعدم مقدرتي على دفع المبلغ المطلوب لعدم توفره لدي، فقد أجبرت على كتابة وكالة عامة مطلقة تم بموجبها تحويل ملكية داري السكنية الى شخص لا أعرفه حيث وضع إسمه من قبلهم في الوكالة العامة، وتم خروجي من السجن بعد ان تمت جميع إجراءات تحويل الملكية.

ـــــــــــــ

*أكاديمي وباحث سياسي عراقي

المصدر : شبكة البصرة 5/8/2009

------------------------

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها

 

أعلى الصفحةالسابق

 

الرئيسة

اطبع الصفحة

اتصل بنا

ابحث في الموقع

أضف موقعنا لمفضلتك

ـ

ـ

من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ