ـ

ـ

ـ

مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وقولوا للناس حسنا

اتصل بنا

اطبع الصفحة

أضف موقعنا لمفضلتك ابحث في الموقع الرئيسة المدير المسؤول : زهير سالم

السبت  14/03/2009


أرسل بريدك الإلكتروني ليصل إليك جديدنا

 

واحة اللقاء

 

التعريف

أرشيف الموقع حتى 31 - 05 - 2004

ابحث في الموقع

أرسل مشاركة


"نريد السلام"*

نوال السباعي

"نريد السلام" هذه هي العبارة الأكثر ترداداً في الكتاب الذي يحمل هذا الاسم ، و يتألف من مجموعة مختارة من أصل 1000 بطاقة خضراء وزعها "تجمع الشباب المسلم في مدريد" بعد ثلاثة أيام من تفجيرات القطارات في 11/3/2004 على أطفال وفتيان مدريد ليتركوا في تلك البطاقات مشاعرهم وآراءهم حول ماكان يجري في تلك الأيام العصيبة ، فهو لايمثل ماقاله ومارسمه وخطه أولئك الأطفال فحسب ، بل يمثل ما أرادت أن تقوله ألف أسرة مسلمة – تقريبا- تعيش في مدريد حول تلك القضية ، وألف أسرة تشكل وبكل المقاييس الأكاديمية والعلمية شريحة كاملة عن جالية تعدادها يفوق المليون والنصف مسلم في إسبانية .

لقد اتهمنا كثيرمن أفراد الشعب الاسباني في حينه - ومازال الاتهام ساري المفعول عبر جميع وسائل الإعلام  وفي الشارع -  بأن المسلمين لايتظاهرون ولا يخرجون للاعتراض إلا عندما تمسّ حقوقهم ، وتضرب مصالحهم ! ، وأنهم لايكترثون لآلام الآخرين وعذاباتهم ، وأن ماحدث في مدريد كان مدعاة للغبطة لدى كثير منهم!، وعلى الجانب الآخر فقد اتهمنا بعض المسلمين وكثير من القوميين منهم – على وجه التخصيص- أننا نحاول طلب الرضى من الشعب الاسباني خوف انتقامه مما كان قد حدث في محطة "أتوتشا" المدريدية ! ، فجاء هذا الكتاب ليبرهن من خلال مايقوله أطفال مايقرب من ألف عائلة مسلمة في مدريد على أن الغالبية العظمى لمسلمي إسبانية كانت تقف وبشكل أكثر من واضح ضدّ تلك التفجيرات ، وأن الجالية بشكل عام كانت ترفض أن يعتبر هذا الفعل الإجرامي رداً على تورط الحكومة الاسبانية في حينه في الغزو غير الأخلاقي وغير القانوني للعراق ، وأما الاتهام بالجبن والخوف فيدحضه خروج أولئك الشباب إلى مكان التفجيرات وبعد أيام قليلة منها ، ليضعوا أكاليل التعزية ولافتة كتبوا عليها "الارهاب لادين له ولاوطن ولاقومية ، الاسلام يرفض الاعتداء على الأبرياء" .

إن قتل الأبرياء ليس هو الوسيلة المناسبة ولا المقبولة  لرد الغزو والعدوان والطغيان، وإن الشعوب التي تنتمي إلى حضارة كحضارة الاسلام لايمكن بحال من الأحوال أن تكون ردود أفعالها على البربرية التي عاملها ويعاملها بها الغرب خلال قرن ونيف من الزمان ببربرية مماثلة من حيث الهمجية في الاعتداء على الآخرين ، وإن لم تصح المقارنة بينهما أصلا لامن حيث حجم الاعتداء ولاعدد الضحايا ولا وحشية التنكيل ، فالكل يعلم أن الغرب سبّاق في هذا المضمار بحيث لم يعد يجاريه في جرائمه أحد اليوم.

لقد خرج أولئك الشباب من المجموعة التي اتخذت فيم بعد اسم "تجمع الشباب المسلم في مدريد"  باسم جالية كاملة ، ليس خوفا على أنفسهم ، فالخائف يختبئ  ويختفي عن الأنظار أوان المحن ، ولكن لرفع كلمة الاسلام الحق الذي يأبى أن يؤخذ المدنيون العزل يجريرة حكوماتهم ، خرجوا نصرة لدين الله الذي لم يؤت من قبل وبهذا الزخم الإعلامي العالمي ،  كما أوتي في أوربة من حيث استعداء الرأي العام إعلاميا عليه باعتباره دين القتل والارهاب وشهوة الانتقام وسفك الدماء !، وقد تنادى أولئك الشباب في ذلك اليوم واجتمعوا لعمل شيء يذبّ عن الاسلام وأهله ، فَهماً منهم وإدراكاً بأن حقيقة الجهاد هي : اتخاذ كل وسيلة مشروعة شرعية ممكنة لإحقاق الحق فيم فيه خير الإنسان حسب الزمان والمكان والإنسان الذي يحمل هذه الرسالة  وذلك الآخر الذي تؤدى إليه هذه الرسالة.

 

 أفتح صفحات هذا الكتاب ، وأفتح  معها في ذاكرتي صور تفجير القطارات ومن قتل في داخلها عدواناً ،و تلك الصالة الكبيرة في "أرض المعارض" وقد سُجيت فيها جثامين أولئك الذين كانوا قد خرجوا ذلك الفجر إلى أعمالهم ومدارسهم وجامعاتهم ، ليجدوا الموت الظالم بانتظارهم ، في محافظ تُركت هناك تحت مقاعد القطارات دون رحمة ولا إنسانية ولا أي فهم لحقيقة الإسلام ولا لتعاليم الإسلام.

أُقلب صفحات هذا الكتاب لتنفجر في ذهني باقات من الأصوات ، الآهات ، والبكاء ، وطلب العون والنجدة في تلك القاطرات ، صفارات الإنذار في سيارات الشرطة والاسعاف تجوب مدريد ، أصوات المذيعين والمذيعات في كافة وسائل الاعلام وهي تنقل تنامي عدد الضحايا ، رنين الهواتف المحمولة في الأكياس الصفراء والسوداء التي كانت تضم الأجساد الممزقة ودون مجيب، وآلاف الجرحى والمعذبين من الطبقة الكادحة الشبه معدمة ، ممن كانوا قد خرجوا قبل أسابيع فقط من تلك التفجيرات  وبالملايين لرفض غزو العراق ، والتنديد بمقايضة البترول بالدم.

أقلب ماخطته ورسمته أنامل الأطفال والفتيان ، لأرى فيها القهر الذي عاشته مدريد ، والأحزان ، وقد خيّم  الصمت الرهيب على المدينة ، ولاشيء غير الصمت ، فأمام كل هذا الحجم من الآلام والعذابات البشرية لايبقي لدى الانسان الذي يحترم نفسه إلا الصمت! ، لاأحد يريد أن ينظر في عيني أحد ، وصارت المدينة الزاخرة بأكثر من سبعة ملايين إنسان وكأنها مدينة أشباح! .

 

أفتح الصفحات ، وأفتح معها سجلات آلام سكان مدريد ، كل سكان مدريد ، النصراني منهم واليهودي والمسلم والبوذي ، المدريدي منهم والاسباني والغرباء المهاجرون من كل لون وجنس وانتماء وقومية وبلد ، الكبار والصغار ، النساء والرجال .. بدا لي أن الألم قد صهر  الجميع في  أتونه، إلا أن مسلمي مدريد عاشوا في تلك الأيام ساعات حالكة ، الألم مضاعف ، والمحنة كبيرة ، وكل أصابع الاتهام موجهة إليهم جميعا ودون استثناء ، كانت سيدة تصلي في أحد المساجد وهي تنتحب بصوت سمعه الجميع : "يارب أرجوك ..لايكونن من فعل هذا مسلما "ً!!، لكنه وللأسف البالغ كان –كما يقول الجميع - مسلماً !! ، انفتحت هوة مرعبة من ألم فاغر فاه لابتلاع آخر إشراقة من أمل في طريق تعايش لم يكن قط سهلاً بين أهالي مدريد وبين المسلمين المقيمين فيها.. لم يكن الخوف ماحرك هذه المشاعر ، ولكنه الخوف من انقطاع حبل التعايش الأخير بين الجالية وبين أهل البلد!، انقطاع حبل الوجود الاسلامي الحديث بعد ثلاثين عاماً من العمل المضني الذي بذله الأفراد والجمعيات والهيآت الرسمية والشعبية الاسلامية والعربية والاسبانية لتوطين المسلمين ودمج وجودهم في هذه البلاد ليكونوا جزءاً من نسيجها الإنساني .. ثلاثون عاماً من الجهد المستمر الدؤوب لتصحيح نظرة خاطئة عن الاسلام ، لتبليغ كلمة مغرضة ، لتصويب فكرة ، ثلاثون عاماً من الجهود المضنية المبذولة لبناء مسجد هنا ، وتأسيس مدرسة هناك ، كانت مهددة كلها بالضياع بسبب حمق الذين قاموا بهذه الجريمة  باسم الدين والدين منها براء.

أتصفح هذه البطاقات ، فتقفز إلى ذاكرتي مشاهد أولئك الشباب والشابات الذين تداعوا لعمل شيء ..أي شيء في وجه الغول المرعب الذي كان يجوب الأفياء والمسالك والقلوب والنفوس : " فمدريد هي مدينتهم التي يعيشون فيها وقد ولدت الغالبية العظمى منهم فيها  ، والجرح في نفوسهم جرحين ، جرح لأنهم مدريديون وجرح لأنهم عرب ومسلمون" ، والإرهاب مرض عضال متوحش لاعلاقة له بدين ولابوطن ولابقومية ، وكل من يقترفه مجرم سواء كان نصرانيا أم يهوديا أم مسلما ، وسواء قامت به دولة أو مجموعة أو أفراد ، فالإرهاب هو الارهاب هو الاعتداء على الأبرياء وقتل الأطفال والنساء والرجال العزل غير المحاربين ، قتلا فرديا أو جماعيا ً إجرامياً وحشياً ، يحصد الأخضر واليابس ، ولايراعي حرمة الإنسان ولاالأمكنة ولا الأزمنة.

اجتمعوا وقرروا عمل شيء يواسي أهل مدريد ، ويرسل إليهم رسالة تؤكد لهم أن "الاسلام" كمعظم الأديان بريء من مثل هذه الأعمال البربرية الوحشية ، ويرفض رفضا قاطعا أن ينسبها "القتلة " إليه .

لايمكن لشريف  أن يرتكب إرهابا وحشيا وجرائم حرب ويبرر قتله البشر وحصده أرواحهم بأنه "دفاع عن النفس" أمام إرهاب من نوع آخر ، لايمكن لمنصف أن ينتقم من الأبرياء بجريمة ارتكبتها جيوش تنتمي إلى مجتمعات هؤلاء الأبرياء ، كل عمل من هذا الصنف سواء قامت به دول أو جماعات أو أفراد ، وارتُكِب َ ضد أفراد أو مجموعات أو مجتمعات يُصنف ضمن "جرائم الحرب" التي ينبغي البحث عن مرتكبيها وفضحهم وتقديمهم إلى العدالة.

أتصفح هذا الكتاب ، وأرى مئات الأيدي الصغيرة والفتية ، وهي تخط عبارات المواساة والتضامن مع مدينتها التي امتحنت في 11/3 ، وترفض الارهاب وكل أشكال الاعتداء على الإنسان ، وتغني بأناملها للسلام والأمن والحرية ، للزهور والأطفال والحب والقلوب الكثيرة والشموس الساطعة ، وتبكي وبدموع من دم القطارات المنفجرة – كما جاء في رسوم معظم البطاقات- ، وتنادي بغد آخر ويوم آخر يمكنه أن يشرق على البشر في سعادة وتعايش.

أرى فيه شباب مدريد وأطفالها من المسلمين ، وفيهم من  كان يعمل في إعداده عشرين ساعة في بعض الأيام ، عاما كاملا ، بتبرعاتهم الضئيلة ، وبأيديهم وأدواتهم البسيطة ، وإمكانياتهم المحدودة ، يجمعون البطاقات ، يزورون المدارس العربية والاسلامية في مختلف أرجاء مدريد ، يشرحون للتلاميذ والأساتذة وأولياء الأمور هذا المشروع ، يصنفون وينتقون ، يقصون ويلصقون ، ويهرولون عبر المطبعات وآلات النسخ والتصوير ومراكز الخدمات التصميمية الالكترونية ، يبحثون عمن يساعدهم ، يرسلون عشية الذكرى الأولى مائة وإحدى عشرة رسالة بصدده إلى أبرز وسائل الإعلام الإسبانية ، يجتمعون وينفضون ، ويرفضون أي مساعدة مادية مشروطة .

إنه رسالة إلى كل إنسان في مدريد بأن شعلة الأمل لاينبغي أن تنطفيء أبدا ، وإن إيمانكم بالإنسان يجب أن يكون أكبر من أفعال وتصرفات مجرمي السياسة ، ومؤججي فتن الحروب ، وأولئك النافخين عبر وسائل الإعلام في أبواق البغضاء والعداوة والتعصب والرفض للآخرين.

أرى أولئك الشباب والشابات من مسلمي مدريد ، وهم يعملون حتى ساعات الفجر الأولى بدأب في إخراج هذا الكتاب الذي أهدوا بعض نسخه الأولى الستة الضخمة ( 75x95)  إلى جمعيات أهالي ضحايا التفجيرات الذين ضربوا أبلغ الأمثال عن التسامح والعفو والتجاوز والصبر .

لقد كسر بعض أطفال مدريد من المسلمين حصالات نقودهم ليتبرعوا بستة أوروس لهذا الكتاب ، آخرون دفعوا مصروفهم الشهري ، وبعض الآباء تبرع بألف أورو ، الأمهات سهرن ليال وهن يعملن في القص واللصق والإعداد اليدوي المضن لستتة كتب بهذا الحجم غير المسبوق ، إحدى السيدات المسلمات قدمت خاتم زواجها ليكون ثمنه في صندوق هذا الكتاب الذي لم يرغب أحد من الذين أعدوه في ذكر اسمه فيه ، لأنه عمل قدمته جالية إلى مدينة  تعيش فيها مع أهلها ، يسرهم مايسر أهلها ويؤلمهم مايؤلم أهلها ، وذلك على الرغم من بعض أهلها الذين لايفكرون بنفس هذا المنطق ، ويجعلون وجود المسلمين بينهم مؤلما!! ، وعلى الرغم من أن بعض المسلمين والعرب في هذه المدينة لم يستطيعوا قط أن يفهموا ولاأن يستوعبوا الرسالة التي يقدمها هذا الكتاب إلى الشعب الاسباني!.

 

أنظر من خلال السنوات الخمس التي مرت منذ قدمنا هذا الكتاب هدية إلى محافظ مدينة مدريد ، وتركنا في المكتبة القومية الاسبانية النسخة الأصلية الضخمة التي تضم خمسمئة بطاقة خضراء بلون السلام والحب إلى أهل مدريد ، وطبعنا عشرين نسخة منه بحجم متوسط ( 43x30) خاص بالمراكز الاسلامية والجامعات ، ووزعنا منه أكثر من ثلاثة آلاف نسخة الكترونية ، وعرفته مختلف جامعات إسبانيا وكثير من مراكزها الثقافية ، أقلب هذا الكتاب بين يدي اليوم بعد مرور خمسة أعوام  وأرى من خلاله وعلى الرغم من كل الصعوبات التي تحيط  بنا ، طريقا وحيدة للتعايش في أمن ، أرى من خلاله أجيالا تريد أن تعمل من أجل الحياة ، ومن أجل الإنسان ، ومن أجل كل من قضى شهيدا مظلوما على يدّ  آلات الحقد والبطش ، وأعلم أن الإنسان لايملك إلا أن يحب أخيه الإنسان ، وأن يعيش ويتعايش معه في احترام متبادل ، وأن الدين – كل دين- بريء ودوما مما ينسبه إليه القتلة من مرجعيات تبرر جرائمهم .

 

أقلبه بين يدي ، وقد وفقنا الله تعالى  بعد خمسة أعوام لترجمته إلى الاسبانية والعربية والانكليزية والفرنسية والألمانية ، وطباعته بالحجم العادي طبعة ثانية جديدة  بمساعدة مؤسسة ثقافية إسبانية رفيعة المستوى تعمل على مدّ جسور الحوار بين الحضارات ، ليكون في متناول يدّ كل مواطن مدريدي ، وكل إسباني ، وكل أوربي إن أمكن، ليعرف الجميع أن أطفالنا ليس لديهم إلا رسالة واحدة يريدون أن يحملوها للعالم: إننا نريد السلام في مدريد وفلسطين والعراق وكل مكان على سطح هذه الأرض، إننا نحب السلام ، ككل أطفال العالم الأبرياء ، براعم الآمال لمستقبل عادل على الرغم من الصورة الأليمة التي يرسمها في واقعنا المعاصرالظلم والغزو والاستكبار والعدوان ، كما يساعد في رسمها وفي الآن ذاته الحقد وسوء التصرف وعدم فهم روح الدين ونبضات الشريعة وتعاليم الإسلام العظيم.

ــــــــــــــــــ

خاص بالرائد ألمانيا

مدريد / ‏08‏/03‏/2009

ــــــــــ

*"هذا المقال  يتضمن أجزاء هامة من المقدمة التي كتبتها بالاسبانية للكتاب الذي يحمل نفس الاسم  ، وتمت ترجمتها إلى العربية والانكليزية والفرنسية والألمانية ، وهي معدة لمخاطبة الشعب الاسباني والأوربي ، وسوف يتم تقديم هذا الكتاب ان شاء الله تعالى بمناسبة الذكرى الخامسة لتلك التفجيرات في حفل جامعي يوم 14/3/2009."

------------------------

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها

أعلى الصفحةالسابق

 

الرئيسة

اطبع الصفحة

اتصل بنا

ابحث في الموقع

أضف موقعنا لمفضلتك

ـ

ـ

من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ