ـ

ـ

ـ

مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وقولوا للناس حسنا

اتصل بنا

اطبع الصفحة

أضف موقعنا لمفضلتك ابحث في الموقع الرئيسة المدير المسؤول : زهير سالم

الخميس  05/03/2009


أرسل بريدك الإلكتروني ليصل إليك جديدنا

 

واحة اللقاء

 

التعريف

أرشيف الموقع حتى 31 - 05 - 2004

ابحث في الموقع

أرسل مشاركة


في الحوار المتمدن

زهير سالم - مدير مركز الشرق العربي

أول مرة طرق نظري وليس سمعي عبارة (الحوار المتمدن) كعنوان لموقع الكتروني جديد، شعرت بالغبطة. وجدت فعلاً أننا بعد قرون من الانغلاق وانسداد الأفق بحاجة إلى منهج ، أو بحاجة إلى العودة إلى منهج قديم شاركنا ، كأبناء أمة ، في تأسيسه أو في تطويره ، وأن خير ما يمكن أن يطلق على هذا المنهج عنوان (الحوار المتمدن).

لستُ من الذين يرتعدون عندما ينسب فضل إلى آخر، ولذلك فأول ما يذكر الحوار المتمدن لا بد أن نذكر محاورات (سقراط)، ومحاولاته الأخذ بيد مخالفيه إلى الحقائق العقلية عن طريق التثبت والاستيضاح والاستفسار وبالتالي إظهار موطن الشبهة العقلية حتى يتنبه صاحب الرأي موطن الخطأ في بنية رأيه.

كان أول درس تعلمته من سقراط أو أفلاطون المتحدث باسمه أنه لا يواجه (محاوره) ، ولا أريد أن أستعمل مخالفه أو خصمه، بعبارة (أخطأت). استمع إليه دائماً يقول أحسنت ثم يردف أنت تقول.. ويعيد صياغة كلام المخالف مستوضحاً، ثم يتساءل مفنداً وهكذا يقود صاحبه برفق ولين وحزم في الوقت نفسه إلى ما يعتقد أنه الصواب، بغض النظر عن كونه موفقاً في ذلك أو غير موفق.

أدركت مجموعة من أساتذتي في المسجد والمدرسة ، يوم كان الأستاذة يعلمون أكثر مما يلقنون ، يعلمون المنهج فيتبعون مع طلابهم نفس الأسلوب ، لم يكونوا يردون أجوبة المخطئ بأخطأت ، بل كانوا يردون على الجواب الخاطئ بسؤال منبه، منبه إلى موطن الخطأ، فإذا لم يتنبه المخطئ أمعنوا في توضيح السؤال أو إبراز موطن الخلل، بأسئلة أكثر تبسيطا.

ينقلنا الحديث عن التجربة اليونانية التي يؤكد الكثيرون من الدارسين لتاريخ الأفكار أن روادها كانوا تلاميذ في مدرسة الاسكندرية كما في بلاد الرافدين وعلى الشواطئ الشرقية للمتوسط. راجع إذا شئت (أثينة السوداء) بمجلداته (لمارتن برتال)، أو راجع (تاريخ العرب) للفرنسي (بيير روسي) الذي يقرر فيه: (قد يقول قائل إنه لولا العرب لما عرفنا أرسطو وأفلاطون والحقيقة أنه لولا العرب لما كان أرسطو وأفلاطون). ينقلنا الحديث إلى قواعد أو طرق الحوار في تجربتنا الإسلامية الخاصة. هذه التجربة التي لم تقرأ حتى الآن، كما أزعم، القراءة التي تستحق.

في التجربة القرآنية لقواعد الحوار سأجد، أو ستجد إذا شئت، أن القرآن الكريم والشريعة الإسلامية يجعل (العقل) ابتداء مناط التكليف. فالعقل شرط عند الأصوليين في أصل التكليف ، وهو معقد من معاقده الأساسية . ومن العقل ينتقل القرآن الكريم إلى (التفكير) بآفاقه كطريق أولي للمعرفة والإدراك ، ومن ثم الإيمان . يقرر المتكلمون المسلمون أن الإيمان لا يتم بتقليد، وأنه لا بد للمسلم من حد أدنى من النظر (التفكير) حتى يصح إيمانه ، ويستشهدون لذلك بامتحان الرسول الكريم إدراك الفتاة البكماء بسؤاله (أين الله؟!)

وبين هذا أو ذاك، بين تقرير العقل كمناط للتكليف والتفكير كمدخل أولي للمعرفة والإيمان ، يمضي الحوار في القرآن الكريم على قواعده وأصوله. حوار يديره في بعض صوره (رب العزة) تتلمسه في كثير من المواقع والمواقف . ربما يحتاج لتلمس أبعاده إلى دراسة مفردة . تابع إذا شئت المشهد الحواري الأول في قصة خلق آدم في مطلع سورة البقرة. تابع الحوار بين رب العزة من جهة وملائكته المقربين من جهة أخرى، وهم يتساءلون (أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ..) سوف تشعر أن التساؤل يتضمن شكلاً من أشكال الاعتراض الضمني. وتابع كيف يتم الإضراب عن الجواب (إني أعلم ما لا تعلمون). ثم الدرس العملي للملائكة المقربين بإظهار فضل الإنسان المتهم بالفساد وسفك الدماء بالقدرة على المعرفة وقيل على الكلام بتسمية الأشياء.

ثم الحوار مع (إبليس) الرجيم (المطرود من الرحمة) بما يحمل في بعض الأحيان من ظاهرة الاعتراف بالمعارض أو المخالف. حتى والرجيم يقسم بعزة صاحب العزة (قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) لن يتسع المقام هنا لتتبع آفاق هذا الحوار بين (الخالق) جل وعلا ومخلوقاته (يا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ) (اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ) (وأوحى ربك إلى النحل) (يا أيها الإنسان ما غركَ بربك الكريم) ولكنه يبقى بحثاً جاداً جديراً بالتوقف عنده.

في تلمس جسور الحوار هذا، الحوار بين الخالق والمخلوق، نجد جسر (قُل) الذي يُخاطب به النبي أو الأنبياء، كمرتكز لأداء الرسالة، والقيام بحق البلاغ، وبالتالي نستطيع أن نتوقف عند مقول القول دائماً على أنه بعض صور الحوار الرباني الذي يمكن لدارس أن يتتبع آفاقه وقواعده أيضاً لإدراك قواعد الحوار المتمدن في القرآن الكريم منوهين أن هذا الجسر القرآني (قُل) قد تكرر في القرآن الكريم قرابة ثلاث مائة واثنتين وثلاثين مرة.

في أفق ثالث لقواعد الحوار المتمدن في القرآن الكريم نشهد حواراً آخر يديره الرسل الكرام عليهم صلوات الله وسلامه مع أقوامهم المؤمنين والمعرضين . يمكن لأي دارسة أن تتتوقف عند طرائق خطاب كل رسول بملامحه ومفاصله. لنلحظ ما تميز به إبراهيم عليه السلام وهو يدير حواراً نفسياً داخلياً (منولوج) خاصا وهو يتابع حركة الكواكب في السماء ، بحثاً عن الله ، أو وهو يقلب الطاولة على خصمه أو عدوه النمرود، عندما يضرب عن اللجاجة معه وهو يزعم كما يزعم الكثيرون اليوم بقوله (أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ) !! فيقول له إبراهيم (فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ) ، أو وهو يسبق أفلاطون إلى طريقته بإحداث صدمة في عقول قومه بعد تكسير الأصنام (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ).

أو طريقته في حوار والده وهو يكرر (يا أبتِ.. يا أبتِ) دون أن يمنع هذا سيدنا إبراهيم وهو الأواه الحليم أن يقول لقومه (أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ). فيستغيث بالعقل لتسفيه حالة الارتكاس الإنساني التي يعيشون .

سنلحظ في طرائق حوار الرسل والأنبياء مع أقوامهم دائماً التمسك بقاعدة الانتماء أو الالتصاق (يا قومِ ...) يكررها كل رسول كمدخل للحوار، وإظهار الاهتمام والإشفاق والحرص على قومه والخوف على مستقبلهم وفتح أبواب الأمل أمامهم وتحذيرهم من سوء المصير.

في أفق رابع نجد القرآن الكريم يضع قواعد أساسية للحوار المتمدن.. الحوار الذي يعتمد المسلمات العقلية الأولية، ولا يلزم الخصم ما لا يلزمه كقاعدة للحوار ، كما يفعل بعض الناس اليوم إذ يستشهدون على الإنسان بما لا يؤمن به.

نلحظ القرآن الكريم يخاطب في صيغة من صيغ الخطاب الناس (يا أيها الناس ...) خطاب يتكرر في القرآن الكريم قرابة عشرين مرة، ويا أيها الناس خطاب مفتوح للإنسانية أجمع مجردة من كل هوية غير الماهية الإنسانية التي تتمثل في العقل الأولي والإدراك المعرفي.

كما نلحظه ينادي بالمقابل في خصوصية أخرى الذين آمنوا (يا أيها الذين آمنوا ..) خطاب يتكرر هو الآخر في القرآن الكريم قريبا من تسعين مرة وهو خطاب في أفق آخر ومقتضى آخر.

بينما سنجد خطاباً ثالثاً يوجه للذين (كفروا) بخصوصية الكفر التي تلزمهم مرات محدودة في القرآن الكريم تسبقها مرة ( يا ) النداء وأخرى جسر الحوار القرآني ( قُل..)

في قواعد الخطاب القرآني للحوار المتمدن نلحظ حرصاً على الخطاب بالتي هي أحسن، وتقديم الجوامع والمشتركات.الحوار القرآني المتمدن الذي يؤثر أن يكون ليناً حتى مع الطغاة والجبارين (فَقُولا لَهُ قَوْلا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى) لا يغفل أن يشير إلى ضرورة استعمال لغة الحزم والحسم مع المجاهرين بالعدواة من الكفار أو المتدسسين بها من المنافقين (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ). سنستمع إلى القرآن يوصي (وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ - إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ - وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ) إنها الطريقة الأكثر عملية لاختصار المسافات وتضييق مسالك الاختلاف وعزلها لينصب الحوار عليها ، أو وضع القواعد لاحتوائها .

في إطار هذا الحوار المتمدن سنجد القرآن الكريم يقبل أن يقف ممثلوه، ممثلو الحقيقة الإيمانية المطلقة عند أصحابها ، موقف الندية مع خصومهم أو مخالفيهم في إطار الجدل العقلي فتسمع في هذا القرآن (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ). وفي موطن آخر (قُل لّا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ) (قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَاْ بَرِيءٌ مِّمَّا تُجْرِمُونَ). أو في قول سيدنا شعيب وقد هدده قومه بالإخراج من أرضه (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ).

أعتقد أن كل ما سبق كان مقدمة للحقيقة التي نحاول أن نخلص إليها وهو أن القرآن الكريم قد وضع أسس التحدي (الفكري) أو التحدي (العقلي) وأسس (الندية الحوارية). وأعلن قبوله بنتائجه من موقع علوي لا يدخله ضعف بشري من حرص على إيمان من سبقت عليه الكلمة (إِن تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي مَن يُضِلُّ) (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ). الموقف الرباني المتعالي (فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ). ويتمم هذا (هؤلاء للجنة ولا أبالي وهؤلاء للنار ولا أبالي) وهو نص لا يعني للجاحد شيئاً ويعني للمؤمن الكثير.

في تاريخ الإسلام الطويل كثيراً ما أشكل النص المطلق على العقل المحدود على الأقل بحدود (الزمكان). كثيرون استوعبوا تلك الإشكالات، وتعاملوا معها، وتعلموا كيف يعبرون عنها . ومنذ قرن خلا أصبح نقد المقدس الإسلامي شغل من لا شغل له . وأصبح الذين يرتعدون عندما يذكر مدير مركز أمني في حيهم ( يتطاوسون ) في الاجتراء على عقائد مجتمعاتهم !! ولكن صخرة الإسلام أعيت على مر التاريخ كل ذي قرنين . لم يكن ابن الرواندي واحدا في التاريخ . وصنعته اليوم باب من أبواب الشهرة يطرقه كل من قل وذل ، وأعجزه النظر والتأمل والتفكير .

جاء شاب متصعلك إلى الفيلسوف والشاعر الفرنسي العظيم فولتير ، وكان مشهورا بإلحاده وهجومه الحاد على رجال الدين ومؤسستهم الكهنوتية ، يصرخ الشاب مناديا على الشاعر الشكاك : سيدي .. سيدي .. أنا موقن الآن أنه ليس هناك إله . يجيبه فولتير الشاعر العظيم : ولكنني أيها الشاب البائس أشك !!!

المؤمن بالحوار صاحب قضية. وصاحب القضية يحب الكسب لقضيته. القرآن علمنا أن أساس اللقاء البحث عن المشترك، ومهادنة الآخر للوصول إليه (وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّواْ اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ). وحضارة السب والشتم والقدح والاستهزاء لا تصنع حوارا ولا يقاربها أصلا أحرار الرجال . وصنعة الدجل اللفظي ، والقفز على الحقائق تشبه كثيرا صنعة تمويه الذهب أو القفز على الجدران .

وتبقى رغم كل ذلك ومع كل ذلك للعقل معضلاته وللفكر الإنساني متاهاته ويبقى حسب المعطى القرآني ، شاهد الإيمان عند قوم شاهدا للكفران عند آخرين (إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ)

في مدارات المعطى العقلي هذا هناك حوار متمدن كان يدور في محاريب المساجد ومجالس الخلفاء والأمراء والعلماء ؛ حوار بين مؤمن وكافر أو عبثي أو دهري، وحوار بين مسلم ونصراني أو يهودي أو زرادشتي أو بوذي أو هندوسي..ثمة حوار وثمة عناوين للإثارة والتنفير والتهويش والادعاء . وموقفنا الحضاري دائماً إنما ينتمي إلى حوارنا المتمدن الذي نحرص على أن نبقى فيه.

ـــــــــــ

المصدر : الحوار المتمدن - العدد: 2458 - 2008 / 11 / 7

أعلى الصفحةالسابق

 

الرئيسة

اطبع الصفحة

اتصل بنا

ابحث في الموقع

أضف موقعنا لمفضلتك

ـ

ـ

من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ