ـ

ـ

ـ

مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وقولوا للناس حسنا

اتصل بنا

اطبع الصفحة

أضف موقعنا لمفضلتك ابحث في الموقع الرئيسة المدير المسؤول : زهير سالم

الخميس  12/02/2009


أرسل بريدك الإلكتروني ليصل إليك جديدنا

 

واحة اللقاء

 

التعريف

أرشيف الموقع حتى 31 - 05 - 2004

ابحث في الموقع

أرسل مشاركة


وَحيدُون

محمد بنيس

وحيدون. هؤلاء الفلسطينيون كانوا يختبرون، مرةً أخرى، وأخرى، أيام القتل. أقصد فلسطينيي غزة الذين كانوا من قبلُ جيرانَ الصحراء والقمر والبحر. كانوا دائماً قريبين من حكايات الصيادين والمسافرين. أرضٌ على طريق الأساطير القديمة. سفنٌ وبواخرُ تقترب من مراكب في الشاطئ. قوافل مسافرين في البر تحافظ على طرق التجّار والحُجّاج.

هؤلاء يحملون الأثواب والزيوت والتوابل والفخاريات؛ وأولئك يتبركون بالقدس في ذهابهم أو إيابهم من مكة أو في طريقهم إلى بيت لحم. أبناء غزة يختلطون بأبناء الأراضي البعيدة والقريبة لأنهم هكذا يعيشون. يبحثون في السفر عما يزيّنُ الحياة. ومع المسافرين إليهم يتبادلون سلعاً أو يقدمون خدمات. كذلك كانوا قبل أن يأتي الاحتلال الصهيوني لينزع منهم السهر قرب البحر والقمر، والاستماع إلى حكايات الصيادين والمسافرين، ترويها أجيال لأجيال.

وحيدون. في أرض كانت منذ شهور مطوقة بالحصار الإسرائيلي. حرب على شعب بدون سلاح. ولك أيها الجندي أن تستعمل الأسلحة التي تملك من أجل هدف مضبوط هو الإبادة المُتقنَة لشعب يزعج وجودنا، ما دام يجلس في المساء يتلذذ بالاستماع إلى حكايات الصيادين والمسافرين، ما دام يتعلم كيف يفرح بالسمك في أوانه، وبكل نوع من أنواع الخضار والفواكه في أوانه أيضاً. ادخلْ آلتَكَ واتْركهَا تتوجّهُ بكَ إلى حيث برمجْنَا خط طريقها. كل الأوقات مناسبةٌ وكل الأعمار. إنك آمنٌ، آمنٌ. فاجلسْ منشرحَ الصدر، ضاحكاً ممّا تراه. حشراتٌ أو معتوهونَ أو مدمنونَ على الحشيش والكيف. لا تطرحْ أيها الجندي سؤالا قبل أن تقتل الفلسطيني. انسَ الوصايا العشر. لا تقتلْ. فأنتَ مُجيدٌ بقدر ما أنت تقتل. وأنت مخلص لعلمك الوطنيّ ما دمت تقتل. كن الجندي - المواطن الأصلح للبقاء واقتل أطفال الفلسطينيين ونساءهم. اجعل كل فلسطيني ينُوح على قتلاه بدون أمل في الشفاء من النواح. واحشُ آلتك بالحقد قبل حشوها بالرصاص وبالمواد الحارقة.

وهم وحيدون. فلسطينيو غزة يتضامنون مع أبنائهم من المقاومين. كذلك كلامهم كان يصل خلف الصورة. دعاءٌ أو صمت. وتحس كأن تحت الأرض أرضاً أخرى لا تنام. أرضاً لها النهار يتوالدُ. مقاومون تتناقل قلة من وسائل الإعلام بعضاً مما يفعلون. بسلاحهم البدائي. أو بسلاحهم الخفيف في جميع الأحوال. يقاومون قتلة يطمئنون إلى عملهم كلما ارتفع عدد القتلى وازداد الدمار.

لا شيء كان يدل على أن فلسطينيي غزة يشبهون سواهم في العالم. مطوقون من الجهات الأربعة. أعداؤهم يتنافسون في مضاعفة حصارهم. وأصدقاؤهم عاجزون عن الوصول إليهم. وحيدون. في المقاومة من أجل أطفال لم يتعلموا بعدُ جغرافية المكان الذين هم فيه، لم يتناولوا حليب الرضاعة بانتظام. أطفال شرعوا في الذهاب إلى المدرسة ويحلمون بالحلوى وبالألعاب والأناشيد. من أجل هؤلاء يقاومون لأن الأطفال مستقبل الأرض. وهم امتداد الحلم على الأرض.

وحيدون. منافذ موصدة تجعل منهم شبه معتقلين في مكان مسوّر بالمنع. كيف يمكن لوحيدين، مثل فلسطينيي غزة، أن يستمروا في مقاومة جيش مجهز للقتل الموجه السريع؟ ظللت أسأل نفسي. ليست المسألة أن تثق أو لا تثق في خطابات. هناك أوضاع ميدانية لها حسابها. ما تشاهد يشاهده غيرك. من قناة تلفزية إلى أخرى. أو في غياب الصورة من قناة تلفزية غربية إلى أخرى. كيف يمكنهم أن يستمروا؟ خبراء في الميدان. آخرون في القانون الدولي. آخرون في الاستراتيجيات الجهوية والعالمية. كلهم كانوا يؤكدون ما لا تفهمه بالمعلومات المتداولة. يصعب على إسرائيل دحر المقاومة في غزة. لا يوحد حل عسكري في غزة. وتستغرب لهؤلاء الوحيدين الذين يرغمون الأعداء قبل الأصدقاء على التصريح تلو التصريح بما لم نعهده في حروب سابقة أو ما ليس معقولاً في مربع مطوق بحصار من نار وحديد.

أسبوع يطل على أسبوع ثان وثالث ورابع لهؤلاء الوحيدين. ليلات. كيف لجميع هذه الليلات ألاّ تكون الأنفاق فيها هدمت على هياكل أصحابها؟ كيف لها ألا تكون عجلت من رفع خرقة بيضاء في مكان ما من غزة؟ من نافذة مثلا؟ من تحت أنقاض؟ أو في طريق صحراوية؟ أسئلة عليها كان يحرضك عارفون يحاكمون المقاومة. علناً. ويتأكد، عكس ذلك، أن المقاومين وأهل المدينة كانوا ملتحمين ببعضهم بعضاً. لا نفورَ من المقاومين. لا غضبَ على المقاومين. لا خذلانَ للمقاومين. لا تبرؤَ من المقاومين. أهلُ غزة عائلة تتقاسم الموت والمقاومة. عالم بكامله تعلّم كيف يقاوم من أجل الحياة. ومن أجل حرية لا تعترضها دبابة إسرائيلية أو منع كلام.

وحيدون. معابر مغلقة. أرض ملقاة في تخوم لا أحد يفلت إلى داخل حدودها. ومتضامنون مع أهل غزة في حرب إسرائيل عليهم. متضامنون من بلاد وشعوب وثقافات ولغات وأديان. صوت كوني هو الصرخة الصافية السابقة على الأعراق والعقائد. صرخة الإنسان لأجل الإنسان، في غزة التي ظل فيها الإسرائيليون يقتلون. ويحرقون. ويدمرون. لأجل فلسطينيي غزة هذه الصرخةُ بألوان الكون. لأجل هؤلاء الذين كانوا يفتقدون حتى نافذة يطلون منها على العالم. سماؤهم معامل متحركة للنيران، بحرهم فحيح، وأرضهم تزداد ضيقاً بين خان يونس وغزة أو بين خان يونس ورفح. والآلة العسكرية تحرق وتقتل بقوة الإبادة.

قل هذا هو الجحيم، ولا تقتربْ من رؤية سماء تسقط بنيرانها. واقع الجحيم على الأرض أفظع من الكلمات. ووحيدون كانوا يدركون أنهم ليسوا وحيدين. صرخات وأغاني الحشود لفضح العدو. صوتُ المتضامنين الكوني يعيد المعنى إلى كلمات المقاومة، العدالة، الحرية. صوتُ الأصدقاء بألوان الكون. صوتُ كل واحد حرّ على هذه الأرض.

ــــــــــــ

المصدر :  مجلة مغرب اليوم

------------------------

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها

أعلى الصفحةالسابق

 

الرئيسة

اطبع الصفحة

اتصل بنا

ابحث في الموقع

أضف موقعنا لمفضلتك

ـ

ـ

من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ