ـ

ـ

ـ

مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وقولوا للناس حسنا

اتصل بنا

اطبع الصفحة

أضف موقعنا لمفضلتك ابحث في الموقع الرئيسة المدير المسؤول : زهير سالم

الأربعاء 27/08/2008


أرسل بريدك الإلكتروني ليصل إليك جديدنا

 

واحة اللقاء

 

التعريف

أرشيف الموقع حتى 31 - 05 - 2004

ابحث في الموقع

أرسل مشاركة


القطيعة مع العلمانية شرط النهوض

الكاتب المغربي محمد طلابي*

عبدلاوي لخلافة**

يكتسي الحديث حول العلمانية مع الأستاذ محمد طلابي ميزة خاصة؛ فالرجل خصص حيزا هاما من كتاباته ومحاضراته لبحث العلمانية والحداثة، ودعا إلى حوار مع فضلاء العلمانيين الوطنيين لتحقيق بعثة التجديد الحضاري.

وتزداد خصوصية محاورة الرجل أنه ينطلق في تقديم أفكاره من معايشة غير يسيرة لأفكار ومقولات العلمانية في عش الاشتراكية قبل أن يرى أن الحل هو في الإسلام والعمل في دائرة مبادئه.

وفي هذا الحوار مع مدير مجلة الفرقان المغربية، وممثل منتدى الوسطية بالمغرب، يفرق القارئ بين عناصر التباين حول مفهوم العلمانية في البيئة الغربية والبيئة الإسلامية، مؤكدا أن تجريبها في البلاد الإسلامية لمدة قرنين من الزمن لم يجلب على الأمة إلا استبدادا وفقرا، ولذا فهو يرى أن استيراد العلمانية من الغرب كان خطأ قاتلا على أمتنا؛ لأنها أجهزت على ما تبقى من العمران الإسلامي، ولذا فالتخلي عنها سيكون مدخلا للنهضة في العالم الإسلامي.

ويقدر طلابي أن الواجب على علمانيينا دراسة التاريخ الإسلامي، الذي حقق العدل والرحمة للبشرية، بعد أن أنتجت العلمانية حروبا طاحنة أودت بحياة أكثر من 100 مليون ضحية خلال القرن العشرين.

ويوضح طلابي أن الغرب نفسه سيكون مدعوا لمراجعة العلمانية في بلاده الأصلية مع تنامي الصحوة الدينية، مؤكدا على ضرورة تبني الديمقراطية، باعتبارها نتيجة للفكر الليبرالي، وليس العلمانية، كآلية إستراتيجية للتداول السلمي دون القبول ببعدها الفلسفي؛ "لأنها حل للمعضلات السياسية بالعالم الإسلامي".

وفي الحوار نظرات خاصة حول العلمانية بين التصور الإسلامي والغربي، ورد على مجموعة من المقولات التي تحاول تأصيلها باعتبارها إشكالية إسلامية – إسلامية، وليست إشكالية غربية، مشددا على بعدها عن العقلانية.

 

خلاف إستراتيجي

* انتقل الحوار حول العلمانية من القول بأنها تجربة غربية إلى محاولة اعتبارها إشكالية إسلامية يجب التفكير في استجلابها أسلوبا ناجعا في إدارة شئون الحياة الفردية والجماعية، بداية ما هي نقاط الخلاف الإستراتيجية بين الإسلام والعلمانية؟

- الحديث عن كون العلمانية إشكالية إسلامية – إسلامية، وليست إشكالية غربية حديث غير صحيح؛ لأن العلمانية موجودة في النص المسيحي نفسه، فمقولة: "دع ما لله لله، وما لقيصر لقيصر" تمثل الجذر الديني للعلمانية.

 فالمسيحية أهملت الشأن الدنيوي، واهتمت بالشأن الديني؛ ولذا جاءت الحداثة في العالم الغربي لإعادة الاعتبار للشأن الدنيوي، غير أنها أفرطت في الدنيوي وفرطت في الديني.

 أما في تجربة الإسلام، فليس هناك تمييز بين الديني والدنيوي، والقول بأن حديث تأبير النخل دليل على الفصل هو جهل بتاريخ الإسلام وأصوله، فالإسلام اهتم بالشأن الدنيوي، الذي أولته العلمانية أفضلية، وزاد عليها باهتمامه بالشأن الدنيوي.

فالإسلام عقيدة وشريعة، فهو عقيدة غايتها بناء الإنسان المؤمن، وهو شريعة غايتها بناء العمران، وشخصيا أعتبر القول بأن العلمانية إشكالية إسلامية مجرد وهم، وهرطقة فكرية لا أقل ولا أكثر.

* من خلال تجربتكم السابقة من مناضل يساري اشتراكي إلى مفكر إسلامي، ما هي أسباب فشل التجربة العلمانية في قيادة مسيرة تحرير الأمة؟

- جل العلمانيين في بلاد الإسلام يتغنون بالحداثة والعلمانية، ويعتبرونهما الخط الأوحد للارتقاء الحضاري للأمة العربية والإسلامية، وفي تقديري الخاص أن جلهم لا يدرك المضمون التاريخي للحداثة كما تنزلت في البيئة الغربية منذ القرن الثامن عشر على أقل تقدير، وهذا الجهل بمضمونها الحقيقي ابتلي به كبار مفكري العلمانية في بلاد المسلمين، حتى وإن التهموا مئات المؤلفات حول الموضوع.

فالعلمانية في الغرب أصيلة؛ لأن تجربة المسيحية في أوروبا دفعت الحداثيين إلى تبني العلمانية، فالكنيسة عندما تحالفت مع الإقطاع الغربي منذ القرن الخامس الميلادي إلى الثامن عشر، أي إلى الثورة الفرنسية، ساهمت في تدمير ما يسمى بأدوات الإنتاج الحضاري الكبرى، التي هي الدولة، والأمة، والوطن، واللسان.

وهذه الأدوات، التي أنتجتها البشرية عبر تاريخها الطويل، هي أدوات ضرورية لأي ارتقاء حضاري، ولأية أمة كانت، سواء كانت تعبد الله تعالى أو تعبد غيره.

وكان حصيلة تحالف أهل السيف من الفرسان، وأهل القلم من الرهبان سقوط الإمبراطورية الرومانية في القرن الخامس الميلادي، وميلاد النظام الإقطاعي في أوروبا خلال العصر الوسيط.

ومن أهم خصائص هذا النظام الجديد تقطيع أرض الوطن الواحد ما بين الأسياد في شكل إقطاعيات، حيث منع مرور المال والرجال والأفكار إلا بأمر من السيد، وهو ما أدى إلى تقطيع الشعب الواحد إلى عشرات المجموعات السكانية التي تستوطن تلك الأقاليم، وتم تدمير السلطة المركزية مع سقوط الدولة الرومانية، وتدمير اللسان اللاتيني لتحل محله اللهجات مثل الفرنسية والألمانية، وغيرها قبل أن تتحول إلى لسان وطني مع عصر الحداثة.

وكانت النتيجة المرعبة أيضا لتفكك السلطة المركزية، وتفكك الوطن الواحد وتفكك الأمة أو الشعب الواحد وتفكك اللسان، هو توقف الإنتاج الحضاري في أوروبا خلال العصر الوسيط الأوروبي، وعاشت أوروبا فعلا عصر ظلمات؛ حيث اعتبرت الكنيسة العلم والعقل معاديين للدين، و"أفتت" بكفر من يؤمن بهما، فشحت منابع العلم، وتوقف نشاط العقل البشري.

وبعدها جاءت الحداثة لتلغي كل الأفكار والأنظمة السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي أدت إلى هذا الهبوط الحضاري المرعب للغرب، وعلى رأس هذه الأنظمة الفاسدة كان النظام الكنسي المسيحي، والنظام الإقطاعي.

ولذا كان هدف الثورة العلمانية من هذا الإلغاء هو إعادة بناء أدوات الإنتاج الحضاري العملاقة وهي: الدولة، والأمة، والوطن، واللسان، عن طريق ما سمي بالقوميات في القرن الثامن عشر والتاسع عشر، مثل القومية الفرنسية، والإيطالية، والاتحاد الألماني، إلى غير ذلك.

فالكنيسة في معتقدها وتجربتها التاريخية بأوروبا ألغت الشأن الدنيوي، ولم تهتم بالدولة أو بالعلم وبالعمران المادي، وفي معتقداتها الدينية تزعم زورا أن عيسى عليه السلام قال: (دع ما لقيصر لقيصر، وما لله لله) لتقول: إن جوهر المسيحية علماني.

فجاءت الحداثة واهتمت بالشأن الدنيوي، وفرطت في الشأن الديني، وهو ما نتج عنه مسمى العلمانية، فالعلمانية في الغرب لها أصول، وهي جاءت كرد فعل تاريخي ضد فعل تاريخي قامت به الكنيسة والإقطاع.

 

هل العلمانية إسلامية؟

* لكن بعض المثقفين والمفكرين العلمانيين في البلاد العربية يقولون إن الإسلام نفسه مبني على  الثنائية بين الدنيا والآخرة، والدولة والدين، والنبوة والملك، والقرآن الكريم يفرق بين الرسول الموحى إليه والرسول الإنسان المعرض للخطأ والذي يمكن تصحيح خطئه، وهذا مسوغ لتبوء العلمانية داخل الفكر الإسلامي بعيدا عن الفكر الغربي؟

- في عقيدة الإسلام نتحدث عن مبدأ الزوجية في العلاقات، وليس عن الثنائية، التي تعني الاستقلال التام بين الأطراف، أي أن الديني مستقل عن الدنيوي.

فمفهوم الزوجية الإسلامي يدل على وجود تبعية متبادلة بين الدين والدنيا، والدنيا والآخرة، ومبدأ التبعية تنفي العلمانية، فالدنيوي في الإسلام يتضمن الديني، والديني يتضمن الدنيوي، وبالتالي يستحيل الفصل في الإسلام، بينما العلمانية هي فصل للدين عن السياسة.

 وأقول أكثر من هذا، إن استيراد العلمانية من الغرب كان خطأ قاتلا على أمتنا؛ لأنها أجهزت على ما تبقى من العمران الإسلامي، ولذا فالتخلي عنها سيكون مدخلا للنهضة في العالم الإسلامي.

والغرب اليوم يشهد عودة قوية للدين، وهذه الصحوة الدينية بتعبير آخر هي رفض للعلمانية ولإبعاد الدين عن الشأن العام، وفي اعتقادي أن الغرب نفسه سيكون مضطرا لإعادة النظر في العلمانية في بلاده على المدى البعيد.

* لكن هل بالإمكان استنساخ تجربة العلمانية في الغرب واستنباتها في البيئة الإسلامية؟

- هذا يقودنا إلى التساؤل: هل تجربة الدين الإسلامي التاريخية هي التجربة التاريخية للدين المسيحي حتى نستنسخ تجربة الحداثة الغربية في بلاد المسلمين؟!

وبمعنى آخر: هل اهتم الإسلام بالشأن الديني وفرط في الشأن الدنيوي؟ وهل اعتبر الإيمان بالعلم والعقل كفرًا به؟ وهل تسببت تجربة الإسلام في تفكيك أدوات الإنتاج الحضاري الكبرى في البلاد التي انتشر فيها؟

إن وقائع التاريخ الإسلامي تؤكد أن استنساخ العلمانية الغربية في البلاد الإسلامية هو مجرد طرح فكري وسياسي في غاية المراهقة الفكرية والسياسية؛ لأن الإسلام لم يدمر دولة كانت قائمة، ولم يفكك وطنا، ولا مزق أمة أو شعبا، ولا دمر لسانا للإنتاج كان قائما، بل العكس هو الصحيح، فمع مجيء الإسلام، وفي عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، وبعد هجرته إلى المدينة المنورة تشكلت النواة الصلبة للسلطة المركزية؛ بحيث كان النبي صلى الله عليه وسلم رسولا ورئيس دولة.

وفي عهده صلى الله عليه وسلم تشكلت النواة الصلبة للوطن؛ وهي المدينة وما يحيط بها، وتشكلت النواة الصلبة للأمة؛ وهي سكان المدينة وما يحيط بها، وكان اللسان العربي المبين هو اللسان الرسمي.

ثم قامت الخلافة الراشدة وسارت على نهج العهد النبوي، وتبعتها الخلافة التابعة، سواء الأموية، أو العباسية، أو العثمانية وإن بشكل أخف.

وهكذا أسس الدين الإسلامي، بعكس الدين المسيحي، سلطة مركزية قوية اصطلح على تسميتها بـ"الخلافة الإسلامية"، وأسس وطنا عابرا للأقاليم اصطلح على تسميته بـ"دار الإسلام"، وأمة عابرة للشعوب اصطلح على تسميتها بـ"الأمة الإسلامية".

بمعنى آخر، فإن الإسلام بنى ما جاءت العلمانية لتبنيه في العصر الحديث؛ ألا وهو إعادة بناء أدوات الإنتاج الحضاري الأربعة، وإعادة الاعتبار للشأن الدنيوي بالمحافظة على العمران والعلم والعقل، وكل هذا من صميم الإسلام عقيدة وشريعة وتجربة تاريخية، ولهذا شواهد عقلية ونقلية؛ حيث نجد الإسلام يكرم العقل، ويعتبر العلم فريضة بدل تكفير المؤمن به، كما بنى حضارة وعمرانا ماديا وروحيا مشهودا له في التاريخ.

ولذا كان العصر الوسيط الإسلامي عصر نور بامتياز، وليس عصر ظلمات أبدا، ولا يمكن نعته بـ"الظلامية" إلا من حاقد أو جاهل أو مغرر به ثقافيا، كما هو شأن علمانيينا؛ بل إن الإسلام بنى حتى عصر ما بعد الحداثة، والذي من علاماته البارزة بناء التكتلات الكبرى مثل الاتحاد الأوروبي وغيره، وعودة المجتمعات إلى الدين لتحقيق الأشواق الروحية بعد الجوع المروع الذي ساد عصر الحضارة المادية الحديثة.

ودار الإسلام في العصر الوسيط الإسلامي هي الاتحاد الأوروبي اليوم بمعنى آخر، وهي وطن عابر للأقاليم، وأمة عابرة للشعوب بسلطة مركزية عابرة للكيانات السياسية الإقليمية، وهو ما يبنيه الاتحاد الأوروبي على سبيل المثال في عصر ما بعد الحداثة.

ولو كان العلمانيون العرب ماديين جدليين لقالوا إن الحداثة في بلاد المسلمين اليوم هي الوصل مع الماضي الإسلامي المنير، والقطع مع حاضرنا العلماني المتخلف، وهي في بلاد الغرب المسيحي تعني فعلا القطع مع الماضي المسيحي المظلم.

 

العلمانية والطائفية

العلمانية ضرورية لحماية الطوائف

* يرى دعاة العلمانية أن العلمانية ليست ثمرة تقطف، وإنما هي بذرة ترعى، وهي الأسلوب الكفيل بتحقيق التقدم، وتجنب الاقتتال الطائفي بين شيعة وسنة، وبين عرب وأمازيغ وهكذا؟

- القائلون بهذا الرأي لا يعرفون تاريخ الإسلام، وهو التاريخ الذي عرف أزهى فترات التعايش بين الطوائف من أهل الكتاب، ومن غير أهل الكتاب، ولم يشتك اليهود ولا النصارى أن الإسلام ضيع حقوقهم المدنية والشخصية، بل نجد أن الإسلام حمى أهل الكتاب واليهود بالضبط.

والقول بأن العلمانية ضرورية لحماية الطوائف يؤكد مرة أخرى جهل بعض علمانيينا بتاريخ الإسلام، القائم على عقيدة {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}، فعند الفتح الإسلامي لم يفرض الفاتحون الدين بالسيف، بل فرضوا على شعوب البلاد التي دخلوها فاتحين ضرائب لحماية حقوقهم مثل: الخراج والجزية، وتركوهم على دينهم، وعندما اقتنعت هذه الشعوب بالإسلام اعتنقت الدين الإسلامي؛ لأنها رأت أنه دين عدل ورحمة، وهل العلمانية أكثر رحمة من الإسلام؟

* إذن العلمانيون ليسوا مؤهلين لقيادة مسيرة التحرير والنهضة في نظرك؟

- قبل أن أجيبك عن هذا السؤال يجب أن نتساءل: لماذا تعمقت الهزيمة فينا مع مجيء العلمانية؟

وأجيب بالقول: إن السبب هو كون العلمانية التي جاءت لتبني الدولة والأمة والوطن واللسان في الغرب، طرأت على بلاد المسلمين كأسلوب استعماري ومدمر للدولة والأمة والوطن واللسان، فكانت لنا سلطة مركزية اسمها الخلافة العثمانية فأسقطوها سنة 1924، وكانت عندنا أمة فككوها إلى أقطار، بل إلى 22 دولة عربية، ثم إلى 56 دولة إسلامية، أي أعادوا بناء النظام الإقطاعي في العالم الإسلامي بطريقة أخرى.

وبالفعل أصبحت الحدود مغلقة، كما كانت الحدود مغلقة بين إقليم وإقليم داخل فرنسا أو ألمانيا، وفككوا اللسان العربي كأداة للتواصل والإنتاج في بلاد العروبة، وسيطرت الألسن الغربية على وظائف اللسان العليا في الإدارة والاقتصاد، والبحث العلمي، ونسبيا الإعلام.

ومعنى هذا أن العلمانية التي سيطرت على العالم الإسلامي منذ قرنين من الزمان إلى الآن انتهت بظهور نظام يشبه نظام الإقطاع الغربي: أقاليم لها حدود مغلقة، وأمة مفككة إلى مجموعات بشرية تفتقد إلى سلطة مركزية، ولم يعد اللسان العربي هو اللسان القائد للحضارة والإنتاج.

فالعلمانية الطارئة عمقت سقوطنا الحضاري بتفكيكها لما تبقى من أدوات الإنتاج الحضاري الكبرى وهي: الدولة، والأمة، والوطن، واللسان، ورغم وجود عوامل أخرى داخلية فقد ساهمت بدورها في هذا السقوط، وهو ابتعادنا عن عقيدة التوحيد ومبدأ الحاكمية وغيرها.

لكن عندما جاء الاستعمار بشعار "العلمانية" زاد من تخلفنا وتقهقرنا، وتفكيك ما تبقى من أدوات الإنتاج الحضاري الكبرى، وهذا ما لم يدركه العلمانيون في دار الإسلام.

* هناك من يرى أن تحصيل النهضة العلمية والحضارية يربط العلمانية رهينة بالقطع مع الماضي، ورجم الماضي بالتخلف والرجعية، كيف ترون هذا الرأي؟

- الغربيون أنفسهم نجدهم قد قطعوا مع ماضي الوسيط المسيحي، وأعادوا الوصل مع تراث أثينا في الإغريق وروما، فأخذوا القانون الروماني من روما، وأخذوا الديمقراطية والعقل من أثينا؛ أي أنهم "أصوليون" بعودتهم إلى تراث أثينا وروما، لكن علمانيينا يرفضون أن نعود إلى مكة والمدينة، وهذا برأيي من المغالطات التاريخية الكبرى للتيار الحداثي والعلماني في بلاد المسلمين.

* هناك سعي حثيث لجعل العلمانية والحداثة أمرا مقدسا؛ إذ أصبحنا أمام "علمانية سلفية"، تريد إخضاع الجميع لها، من اتبعها فهو العقلاني المتنور، ومن لم يخضع لها فهو المتخلف، كيف ترون هذا السعي؟

- لنتساءل: كيف نقدس فكرة أو نظاما ليس له القدرة على حماية كرامة الإنسان؟ وكيف نقدس فكرة كانت المسئولة عن ويلات العالم في القرن 19 و20؛ إذ فقد العالم أكثر من 100 مليون من البشر خلال القرن الـ 20؟ وكيف نقدسها وهي تسعى لنشر الإلحاد، وتخريب المقدس الديني في بلاد الإسلام؟

إن العلمانية في العصر الشيوعي أهدرت كرامة الإنسان، وأجهزت على حقوقه الطبيعية، ومنها: حقه في الديمقراطية، وهي في البلدان الليبرالية أنتجت استعمارا ونهبا لخيرات الشعوب.

 وفي هذا السياق يجب أن نميز بين العلمانية والديمقراطية باعتبارها نتيجة ومكونا من مكونات الفكر الليبرالي، فالأولى مرفوضة، والثانية مطلوبة؛ لأن أصل الديمقراطية هو الفكر الليبرالي، وليس العلمانية، فأنا مع القيم الكونية الموجودة في الفكر الليبرالي مثل: قيمة الديمقراطية، وقيمة العلم، وقيمة العمل، وقيمة العقل، وقيمة الحرية؛ ولكن بضوابط شرعنا.

لكن -وللأسف- الليبرالية القائدة اليوم في الغرب والعالم ليست ليبرالية القرن القرن الـ 19، وإنما ليبرالية الاستعمار.

أما فيما يخص ربط العلمانية بالعقلانية، فهذا يجعلنا نتساءل: هل اتباع العلمانية عقلانية؟ ومن يتبعها فهو مقلد و"سني" بالمفهوم العلماني، ومن لم يتبعها ليس عقلانيا كما يزعم هؤلاء؟

وأقول: إن العقلانية تفرض اعتبار الأمور معقولة، فهل غرز العلمانية لأكثر من قرنين من الزمن انتهى إلى نهضة في بلاد المسلمين؟

وأجيب: أبدا، وهو أمر غير معقول، وبالتالي فالعلمانية غير عقلانية، ومن يتبعها فهو غير عقلاني.

* ولكن هناك آراء تقول إن الديمقراطية هي ثمرة للعلمانية، فكيف يتم استيراد الديمقراطية دون العلمانية؟

- إن الحديث الجاد والهام بالنسبة لبلداننا الإسلامية يجب أن ينصب حول الديمقراطية وليس عن العلمانية؛ لأن هذه الأخيرة جربت في بلداننا فأعطتنا استبدادا وفقرا لا غير، لكن بناء المؤسسات الديمقراطية يبقى أمرا مطلوبا؛ لأنه الطريق الديمقراطي لممارسة السلطة سلميا، وبعد بناء المؤسسات تتبارى كل التيارات بالأسلوب المدني السلمي من أجل تنفيذ برامجها السياسية، سواء كانت بمرجعية علمانية مثل الاشتراكية أو الليبرالية أو بمرجعية إسلامية، وهذا هو لب وجوهر الديمقراطية.

وما يلاحظ من رفض للتيارات والبرامج ذات المرجعية الدينية هو في حقيقة الأمر طعن في الديمقراطية، وطعن في جوهر الليبرالية السياسية.

وما أخافه حقيقة هو أن علمانيينا لم يعودوا اشتراكيين ولا ليبراليين ولا إسلاميين، وهذا ما يمثل خطرا على التدافع الجاد والمثمر بين المكونات السياسية داخل العالم العربي.

 

العلمانية والاستقلالية

* وهل يمكن فعلا بلورة علمانية تؤكد استقلالية المؤسسات بدل استقلالية التصورات والمرجعية؟

- فصل المؤسسة الدينية عن المؤسسة المدنية أمر غير وارد، وغير مقبول في البنية الإسلامية، والدعوة إلى هذا الفصل جربت، وجل الحكومات في العالم الإسلامي مضمونها علماني، ومع ذلك لم تتحقق النهضة بهذه العلمانية.

والحل اليوم أن يتم الاحتكام إلى صوت الأمة، وهي أمة مسلمة مع تطبيق مبدأ {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ }، فإن هي تبنت منهجا علمانيا فليكن، وإن هي اختارت العودة إلى دينها من أجل النهضة، فعلى العلماني احترام إرادتها -وليس كل علماني ديمقراطي- وما يظهر من عدم احترام هذه الإرادة هو نتاج لعلمانية استئصالية معارضة لروح الليبرالية التي انطلقت منها.

وأريد أن أذكر العلمانيين بضرورة دراسة التاريخ الغربي والإسلامي جيدا، وإن حصل ذلك فسيتأكد لهم أن العلمانية في البيئة الغربية أصيلة باعتبارها ردة فعل على المسيحية المظلمة، وهي في البيئة الإسلامية لقيطة.

كما أن تجربة الدين الإسلامي تتعارض تماما مع تجربة الدين المسيحي؛ فالإسلام بنى العمران ولم يخربه، وبالتالي فنشدان الحداثة في البيئة الإسلامية هو القطع مع العلمانية، والوصل مع الديمقراطية.

ولو تأمل علمانيونا تجربة الإسلام لوجدوا أن الإسلام بنى الدولة العابرة للقوميات من حدود الصين إلى حدود الأندلس، وبنى الوطن والسوق الاقتصادية الحرة من حدود الصين إلى حدود الأندلس، وبنى السلطة المركزية وهي الخلافة الإسلامية، ولم يكن هناك جواز سفر أو تأشيرة مرور ما بين أقاليم العالم الإسلامي؛ إذ نجد مثلا أن ابن بطوطة، الرحالة المغربي الكبير، زار العالم الإسلامي طيلة 28 سنة، ولم يطلب منه أحد تأشيرة مرور أو جواز سفر وهو يجول البلاد الإسلامية، حتى عندما تعددت الخلافات السياسية كانت موحدة بدستور واحد، وهو الحكم وفق الشريعة الإسلامية في كل السلطنات.

* ولكن، ألا يعني هذا تقديسا للديمقراطية بكونها المخرج، وتفريطا في مبدأ الشورى؟

- الديمقراطية هي آلية إستراتيجية للتداول السلمي على السلطة، وهي لا تتعارض مع الشورى إلا في البعد الفلسفي، وهذا البعد ليس إشكالا ما دمنا قبلنا بها كمسلمين لحل المعضلات السياسية في بلادنا، والقبول بهذه الآلية في الوقت الحاضر أعتبره من قبيل الرشد السياسي.

* في وجه مقابل، وداخل التصور الإسلامي الواحد، نجد كثيرا من المسلمين ينتقدون العلمانية، ولكن أدبياتها تطبق في حياتهم، وتحكم سلوكهم وتصوراتهم بوجه من الوجوه؟

- هذا صحيح، فكثير من المسلمين تجدهم ملتزمين بشعائر الدين الإسلامي، لكن المشكلة عندهم هو اعتبار ذلك كله من الدين، وعندما تنصحه بالعمل والمشاركة في إدارة الشأن العام للأمة يرفض ذلك قائلا إن ذلك يدخل في باب السياسة، وكأن العمل السياسي ليس من الدين الإسلامي، وهذه علمانية مستترة تسربت لنا من ثقافة الحداثة ومن عقيدة المسيحية التي تفصل بين ما لقيصر وما لله.

ولذا علينا تنبيه المسلمين العاميين وغير العاميين إلى خطورة هذا السلوك العلماني على الدعوة الإسلامية، وعلى إعداد الأسباب المادية للتمكين للمشروع الإسلامي، فالإسلام بدون شأن دنيوي هو نصف الدين، وقوة الإسلام في اهتمامه بالشأنين معا: الديني والدنيوي.

وقد نجد أيضا بعض تأثيرات الحداثة والعلمانية في سلوك النخبة أو الصفوة في الحركة الإسلامية، فتجدهم يمارسون الميكافيلية" بدون وعي منهم؛ حيث تجد البعض يستعمل كل الوسائل من أجل الوصول إلى الهدف، وهذا يتنافي تماما مع العقل السياسي الإسلامي.

فالمبدأ المنظم للعقل السياسي العلماني أن الغاية تبرر الوسيلة، وأن السياسة لا تخضع للأخلاق، والمنظر الكبير لهذه الفكرة هو"ميكافيلي"، ولكن عندنا الواجب في الممارسة السياسية الإسلامية أن تخضع السياسة لأخلاق الإسلام، وأن تكون الغاية والوسيلة نبيلتين.

ــــــــــــــ

*مدير تحرير مجلة الفرقان المغربية

**صحفي مغربي.

المصدر : إسلام أون لاين 18/8/2008

-------------------------

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها

أعلى الصفحةالسابق

 

الرئيسة

اطبع الصفحة

اتصل بنا

ابحث في الموقع

أضف موقعنا لمفضلتك

ـ

ـ

من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ