ـ

ـ

ـ

مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وقولوا للناس حسنا

اتصل بنا

اطبع الصفحة

أضف موقعنا لمفضلتك ابحث في الموقع الرئيسة المدير المسؤول : زهير سالم

الأحد 26/06/2005


أرسل بريدك الإلكتروني ليصل إليك جديدنا

 

واحة اللقاء

 

إصدارات

 

 

    ـ أبحاث

 

 

    ـ كتب

 

 

    ـ رجال الشرق

 

 

المستشرقون الجدد

 

 

جســور

 

 

التعريف

أرشيف الموقع حتى 31 - 05 - 2004

ابحث في الموقع

أرسل مشاركة


سورية أمام تحديات واستحقاقات

التغيّرات الجيو – استراتيجية ...

الدكتور عبد الله تركماني*

احتلت سورية طوال العقود الثلاثة الماضية، بسبب موقعها الجغرافي ودورها السياسي، موقعا إقليميا متميّزا يفوق قدراتها الاقتصادية والبشرية، وهي في ذلك تعاملت باقتدار مع الكثير من الملفات الإقليمية التي تعاطت معها لتعزيز مكانتها الإقليمية والدولية . ولكنّ مشكلتها أنّ تغيّر المعطيات الدولية والإقليمية حوّل هذه الأوراق من ذخر استراتيجي إلى عبء ثقيل عليها، وربما إلى تهديد لها، الأمر الذي بات من الضروري إدراكه قبل فوات الأوان، ومعرفة كيفية التعامل معه، لا سيما أنّ الزمن الدولي الجديد لم يعد يسمح أو يقبل لدولة بحجم سورية أن يكون لها دور سياسي أو أمني فاعل خارج حدودها، أو خارج إطار منظومة إقليمية فاعلة .

أهم خطايا السياسات السورية

تعاني السياسة الخارجية السورية من قصور محدداتها وجمود آلياتها، مما حوّل هذه السياسة، التي أساسها المرونة في التعاطي مع المتغيّرات، إلى حالة ثابتة تسيطر عليها ثقافة الشعار، وليس الفعل . ولعل ما كشفته الرعاية السورية لعملية التمديد للرئيس اللبناني إميل لحود من أبرز تجليات هذا القصور في قراءة المشهد الإقليمي والدولي والتعاطي معه دون اعتداد بميزان القوى، أساس كل عملية سياسية، وبالقدرة السورية على تلافي الضغوط الخارجية واحتواء الأخطار .

لقد فوتت القوى المحافظة، التي تدير السياسة الخارجية السورية، فرصا عدة لإجراء قراءة واقعية للمتغيّرات الإقليمية والدولية، حين لم تعمل جديا على إعادة ترتيب العلاقات . وحين أمعنت في الرهان على بدائل خاسرة لتفادي مواجهة ما ترتبه المتغيّرات الإقليمية والدولية على مجمل التوجهات الأساسية لهذه السياسة، وعلى الأخص في شأن العلاقة مع لبنان استنادا إلى اطمئنان زائف بأنّ هذه العلاقة في منأى عن تلك المتغيّرات .  وتجلت الرهانات الخاسرة أيضا في الملف الضاغط الآخر وهو العراق، والتي أوصلت السياسة السورية اليوم إلى مأزق حقيقي مع الولايات المتحدة الأمريكية ومع القوى الحاكمة الجديدة في العراق .

وخلاصة القول، إنّ السياسة السورية لا تزال تمارس أسلوب الممانعة و " مكاسرة الإرادات " حتى آخر لحظة تهربا من تقديم تنازلات تعتقد أنّ في الإمكان تجنبها، وهو أسلوب يقوم على الترقب وانتظار أن يقع الخصم في أخطاء أو ينشغل في أمور أخرى، وصولا إلى لحظة يكون ممكنا فيها إجراء مقايضة أو مساومة ما تلبي مصالح كلا الطرفين . وهذه السياسة قد تحمل بعض الفوائد في ظروف معينة لكنها تحمل، في الوقت نفسه، مخاطر شديدة إذا ما جرى خطأ في الحسابات .

وقد برزت هذه المخاطر حين تم تجاهل التغيير النوعي في السياسة الخارجية الأمريكية، الذي حصل على خلفية جريمة 11 سبتمبر/أيلول وإعلان استراتيجية الأمن القومي الأمريكي التي تقوم على مرتكزين أساسيين، إضافة إلى المرتكزين الثابتين المعروفين ( البترول وأمن ومستقبل إسرائيل )، هما : محاربة الإرهاب ونشر الحرية في العالم، وخاصة في العالمين العربي والإسلامي، إذ انتقلت الولايات المتحدة من سياسة الحفاظ على استقرار الحكومات العربية إلى إصلاحها وإذا اقتضى الأمر تغييرها، بدعوى نشر الحرية والديموقراطية والازدهار في المنطقة .

التغيّرات الدولية واستحقاقاتها

مع وصول إدارة الرئيس بوش في أوائل العام‏2000‏ ورحيل الرئيس حافظ الأسد في يونيو/حزيران‏‏ واندلاع الحرب الأمريكية ضد الإرهاب بعد جريمة ‏11‏ سبتمبر/أيلول ‏2001‏ وأخيرا الاحتلال الأمريكي للعراق في أبريل/نيسان ‏2003‏ دخلت سورية، دورا ومكانة، في دائرة الاستهداف الأمريكية‏ .‏ وقد بدأت أولى خطوات استهداف سورية - عمليا - بإصدار الكونغرس الأمريكي قانون محاسبة سورية وسيادة لبنان في نوفمبر/تشرين الثاني ‏2003 .‏ ورغم أنّ العراق كان الدافع وراء إصدار هذا القانون علي خلفية الاتهامات الأمريكية لسورية بدعم المقاومة العراقية وإيواء بعض عناصر النظام السابق‏‏ وتهريب النفط العراقي، إلا أنّ لبنان كان هو السبب الرئيسي وراء المصادقة على هذا القرار ‏.‏ وهو ما أكدته السياسة الأمريكية لاحقا من خلال إصدار قرار مجلس الأمن رقم‏1559‏ في سبتمبر/أيلول‏2004‏ الذي يدعو إلى انسحاب جميع القوات الأجنبية وعدم التدخل في الشؤون الداخلية وحماية سيادة لبنان وتفكيك الميليشيات فيه‏ .‏

وإذا كانت ضغوط الإدارة الأمريكية سابقا على الحكم في سورية قد ارتبطت بحاجتها لتحوير دوره الإقليمي في خدمة مخططاتها، بما في ذلك مقايضة صمتها عن سياساته الداخلية وانتهاكاته الصارخة لحقوق الإنسان وهيمنته على لبنان، بتنازلات يقدمها في صيغ تعاون صريح وملموس لضمان مصالحها . فإنها الآن تبدو أكثر تحررا من بعض أعبائها ومن حاجتها للمقايضة والتفاهم، خاصة بعد الانتخابات العراقية وتوجهات القيادة الفلسطينية الجديدة، والنجاح في طي ملف الخلافات الأمريكية - الأوروبية حول العراق ووحدة موقفيهما من تطبيق القرار 1559 ومن تشكيل لجنة تحقيق دولية للكشف عن منفذي اغتيال الحريري، وأيضا ما نجم عن هذه الجريمة من إعادة رسم مشهد جديد من المواقف العربية ومن وحدة الصف اللبناني المعارض وتقدم دوره سياسيا وشعبيا، مما يشير إلى بداية مرحلة جديدة في العلاقات السورية - الأمريكية عنوانها المواجهة .

عطفا على ما تقدم، فإنّ سياسة المقايضة السياسية، التي كانت معتمدة سابقا، لإبقاء سورية خارج معادلات الاستهداف لم تعد مقبولة من الإدارة الأميركية، التي باتت تعتقد أنّ على الحكومة السورية القيام بما هو مطلوب منها من دون مقابل . ولا شك في أنّ هذا الأمر شكل قلقا كبيرا للسياسة السورية، وخلق وضعا جديدا لها لم تستطع التكيّف معه بعد .

التغيّرات الإقليمية واستحقاقاتها

كانت سورية في الخمسينيات والستينيات مسرحا تتصارع عليه وحوله الأدوار من قبل أطراف عربية ودولية، ولكن منذ مطلع السبعينيات نجحت القيادة السورية في بناء دور إقليمي بارز ارتكز على ظروف مواتية ‏.‏ وتمثلت مهارة الرئيس الراحل حافظ الأسد في ملء فراغ القوة الناشئ في المشرق العربي عقب غياب مصر بعد توقيع اتفاقية السلام مع إسرائيل وتورط العراق في الحرب مع إيران‏ .

ولم تؤثر نهاية الحرب الباردة مباشرة على الدور السوري بل على العكس‏،‏ فحاجة إدارة الرئيس بوش الأب إلى مشاركة سورية في تحالفها ضد العراق في حرب الخليج الثانية، من أجل تأمين شرعية عربية للحرب، جعلها تتغاضى عن توسيع الدور السوري في لبنان . وطوال التسعينيات نجحت سوريا في أن تصبح أحد أضلاع مثلث القيادة في النظام العربي إلى جانب مصر والسعودية، واستمرت في تحالفها مع إيران في الوقت الذي حافظت فيه على شعرة معاوية مع الولايات المتحدة الأمريكية في ظل إدارة الرئيس كلينتون الديمقراطية .

ولكن، منذ خريف العام 1998 بدأ النظام السوري يفقد بعض أوراقه الإقليمية، حين خسر ورقة أكراد تركيا من دون الحصول على أي مقابل في ظرف أزمة كادت تنذر بحرب بين البلدين، فيما لم تستطع سورية في عام 2003 أن تلعب دورا في الأزمة العراقية وحربها شبيها بما لعبته في الأزمة الكويتية وحربها بل خرجت خاسرة من اللعبة لتصبح محاصرة من الشرق بجنود القطب الواحد للعالم الذي أصبح حاضرا إقليميا، وهو ما أدى إلى تغيير كامل اللوحة الشرق أوسطية، خاصة مع اتجاه الولايات المتحدة الأمريكية، بعد حضورها المباشر إلى المنطقة، لإعادة النظر بالأدوار الإقليمية لدول المنطقة، الشيء الذي استطاعت إيران حرفه عبر سياساتها العراقية الإرضائية للأمريكيين، فيما وقعت القيادة السورية في المطب عبر التمديد للرئيس اللبناني .

لقد كان للانسحاب السوري من لبنان تأثير سلبي على الدور الإقليمي لسورية أكثر عمقا من الموضوع العراقي، ذلك أنّ تأثير سورية ووجودها في لبنان كانا أكثر ثقلا بفعل ما بين البلدين من علاقات تاريخية، تضاف إلى الوجود السوري العسكري والأمني هناك والمرتبط بعاملين مشتركين ومتناغمين : أولهما، طول مدة الوجود السوري هناك . وثانيهما، تأثيره على كل جوانب الحياة اللبنانية والسورية في السياسة والاقتصاد والمجتمع .

واليوم يبدو الدخول السوري إلى لبنان في العام 1976، الذي كان مدخلا لدور سوري شمل بلاد الشام والرافدين والأناضول والخليج، فإن الخروج من لبنان يعني عدم القدرة على اللعب بالأوراق السورية الباقية، في العراق وفلسطين، وأيضا في لبنان . هذا يعني أنّ سورية قد انكفأت إلى حدود دورها بالخمسينيات، هذا إذا لم يُشر إلى ما يعنيه فقدان الورقة اللبنانية من إضعاف للمفاوض السوري في أية مفاوضات إسرائيلية – سورية قادمة .

وفي العراق، مازالت انعكاسات التغيير تلقي ظلالها على الوضع في سورية، ولعل الأبرز في هذه الظلال ما فرضته الأوضاع العراقية من انحسار لدور سورية الإقليمي، إذ كانت سورية ذات وزن وتأثير في الواقع العراقي من خلال علاقة مزدوجة : العلاقة مع المعارضة العراقية لنظام الرئيس السابق صدام حسين منذ أواسط السبعينات، وعلاقات مع النظام نفسه تطورت في الجانبين السياسي والاقتصادي منذ العام 1998 . إذ خسرت سورية علاقاتها مع النظام عند سقوطه نتيجة الحرب على العراق في العام 2003، ثم خسرت معظم علاقاتها مع المعارضة العراقية التي انتقلت إلى السلطة أو قريبا منها بعد الاحتلال الأمريكي وما تلاه من تطورات في الخريطة السياسية للعراق .

وبالنسبة إلى إيران، يبدو أنّ المعضلة السورية الحالية تعتبر ثانوية أمام لعبة القوة الإقليمية الكبرى في العراق والخليج العربي، وتسوية ملفها النووي مع المجتمع الدولي .

أما تركيا، فيبدو أنّ القيادة السورية تعتقد أنّ الصلات المهمة التي تربط تركيا بالولايات المتحدة الأمريكية وحلف شمال الأطلسي ستساعدها في تفادي مواجهة حاسمة مع الغرب . وفي الواقع تلتقي تركيا وسورية بسبب مخاوفهما المشتركة بشأن السياسة الأمريكية في المنطقة، لكن ليس أكيدا بعد إن كان هذا التودد سيتحول تحالفا أكثر استمرارية، فتركيا لا تزال حليفة رسمية للولايات المتحدة وانطلقت في رحلة تاريخية لدخول الاتحاد الأوروبي . ويبدو أنّ الأمر يتوقف على المنحى الذي ستسلكه المسألة الكردية في المنطقة .

وبالنسبة للتسوية الإسرائيلية – السورية، تتقدم الحكومة السورية خطوة إلى الأمام وتتراجع خطوة إلى الوراء، فهي تقول الشيء وعكسه معا، وتحاول اللجوء إلى ما يسمى " الغموض البناء "، بحيث يكون هناك تفسيران للمواقف والتصريحات، واحد موجه للإدارة الأمريكية ويستجيب لمطالبها المعلنة والآخر موجه للاستهلاك المحلي ويتحفظ على هذه الاستجابة، إضافة إلى أنّ الحكومة الإسرائيلية بقيادة شارون ليست في وارد فتح ملف الجولان بينما تستعد للانسحاب من غزة .

وهكذا، يبدو أنّ القيادة السورية لم تدرك بعد أنّ قصة الشرق الأوسط السياسية في المدى المتوسط ستتلخص، طبقا لتوصيف الفيلسوف الألماني كانت لحالة السلام الدائم، في مفهومين أساسيين : أولهما، هو مفهوم السلام كحزام أمن للوضع الإقليمي بين الدول . وثانيهما، هو التحول المؤسسي القائم على مجموعة قيم عالمية مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان والشفافية والحكم الصالح . وإذا كان المفهوم الأول سيحكم علاقات الدول بعضها ببعض، وخصوصا حالة العرب وإسرائيل، فإنّ المفهوم الثاني يركز على علاقات الدول بمجتمعاتها حيث تدفع التيارات العالمية الحكومات إلى الانتقال من شخصنة السياسة، أي ربط مصير الأمة بشخص ما، إلى مأسستها، وربط مصير الدول والمجتمعات وعلاقتها بمدى حيوية المؤسسات وتكيّفها للتعاطي مع المؤسسات العالمية المماثلة .

وهكذا، بانسحابها من لبنان تبلغ سورية نقطة مفصلية حاسمة، يرجح أن لا يبقى شيء بعدها كما كان قبلها . فهل تعي القيادة السورية ذلك قبل فوات الأوان، وتتجاوز استجاباتها البطيئة للأحداث، بعد أن حملت في الآونة الأخيرة طابع ردود فعل مترددة وجزئية، أم تنتقل إلى نهج جديد يقوم على المبادرة، يقطع الطريق على الأخطار بإزالة ركائزها الذاتية، عوض انتظار وقوعها في ظرف دولي وموازين قوى تحول دون التعاطي معها بفعالية ؟ .

النتيجة أنّ سورية باتت في وضع يتطلب منها إدخال تغييرات جوهرية في سياستها الخارجية، وبداية في سياستها الداخلية، ولا سيما في سياستها إزاء الولايات المتحدة، بعد أن تغيّرت المعادلات التي كانت تعمل على أساسها، لا من أجل تلافي المخاطر الناجمة عن السياسة الأمريكية فحسب، وإنما من أجل سورية نفسها، أي من أجل أن تواكب متطلبات التطور وحقائق السياسة وموازين القوى في عالم اليوم .

وبديهي أنّ هذا الأمر لا يعني تخلي سورية عن حقوقها الوطنية، ولكنه يعني أنه بدلا من التعويل على الأوراق الإقليمية، يمكن لسورية أن تعزز ورقتها الداخلية، عبر التوجه نحو بناء الدولة السورية الحديثة، دولة الحق والقانون لكل مواطنيها دون تمييز حزبي أو قومي أو طائفي أو جنسي .

سورية مقبلة على تحديات واستحقاقات صعبة

فمع أنها تستطيع لغرض الاستهلاك المحلي والإقليمي أن تغطي هيبتها المجروحة بالتصريح بأنها امتثلت لأحكام اتفاقية الطائف، إلا أنّ خروج جيشها واسخباراتها من لبنان سيسجل - عمليا - على أنه هزيمة للسياسة الإقليمية للنظام السوري، ولتعيش من بعد مرحلة الهيمنة على لبنان حال انكشاف استراتيجي أكبر أمام إسرائيل، يتزامن معها ازدياد التوجه الأمريكي للتخلص من بنية الاستبداد والإرهاب في العالم العربي .

ولما كان الخطاب السياسي خطابا في الممكنات، أي في جدلية الواقع والممكنات، فإنّ مفهوم الأولوية في مرحلة تاريخية معينة يغدو ذا أهمية بالغة . فإذا أضفنا عمق التحوّلات في العلاقات الدولية، والتغيّرات الجيو - سياسية في العراق ولبنان وفلسطين، فإنّ الوضعية لم تعد تحتمل تأجيل إعادة بناء الدولة الوطنية السورية الحديثة، تحت أي شعار، إذا ما أريد لتيار التغيير الديمقراطي أن يأخذ مداه . 

لقد ورثت سورية، عهد جديد ونخب ثقافية وسياسية، تركة ثقيلة : دولة متأخرة، ونفوذ جماعات تتسلط على مصالح البلاد والعباد، وحزب ومنظمات شعبية وأحزاب مشاركة مترهلة تبحث قياداتها عن مصالحها الذاتية، وإدارة اقتصادية غير حكيمة في إدارة الموارد الاقتصادية والبشرية بشكل عقلاني لإنتاج عناصر تطوير وتعظيم لها، وسجل حافل بانتهاكات حقوق الإنسان ... الخ .

لقد حوّل نظام حزب البعث سورية إلى دولة فئوية تقودها نخبة من أصحاب الامتيازات الذين يرفضون المساواة بين السوريين، فمجتمع الحزب الواحد أشاع حالة من السلبية والعزوف عن العمل السياسي، وغابت لدى غالبية الأفراد والجماعات المبادرة الذاتية والتفكير المستقل، وباتوا يعتمدون على الدولة في كل شيء، وحصلت حالة من القطيعة بين عموم أفراد المجتمع والنخبة السياسية، في السلطة والمعارضة معا، بعدما بطشت السلطة بكل ما أوتيت من قوة بقوى المعارضة وأنهت أي تعبير عن حياة سياسية طبيعية، من دون أن يعفي هذا أحزاب المعارضة من مسؤولياتها وأخطائها . وأفضت حالة الانفصال والقطيعة إلى إنتاج التكلس والتخشب ومراكمته في مفاصل المجتمع والسياسة، وإيجاد بنية مجتمعية راكدة فارغة من أي حافز للاجتهاد والإبداع، وأعادت إحياء روابطها البدائية، ما قبل الوطنية، من عشائرية وطائفية وغيرها .

لقد اعتادت السلطة، منذ عقود، مصادرة المجتمع وإخضاعه كليا، وأقامت في سبيل ذلك منظماتها الشعبية كامتداد لسلطتها، بحيث لم يعد من الممكن الحديث عن دولة ومجتمع بالمعنى الحديث . ومردُّ كل ذلك هو النظام الشمولي الذي حكم البلاد والعباد، والذي تميّز بالتماهي بين الدولة والسلطة والمجتمع والحزب، واندمجت كلها في شخصية الحاكم، بعيدا عن أية مؤسسات رقابية حقيقية، بل بوجود مراتبية تلعب فيها الأجهزة الأمنية الدور الأهم في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، تقرّب أهل الولاء وتنفّر أهل الكفاءة . وفي مثل هذا النظام كان من الطبيعي أن تغيب دولة الحق والقانون، خاصة عندما أصبحت حالة الطوارئ والأحكام العرفية، التي تكون مؤقتة في العادة، حالة دائمة منذ العام 1963 . وقد أدى كل ذلك إلى تعطيل الحياة السياسية السليمة، وحد من إمكانية الإدارة العقلانية للموارد الاقتصادية والبشرية، كما أدى إلى تهميش قطاعات اجتماعية وثقافية عديدة .

إن حال الحصار وتعاظم حجم الضغوط الأمريكية التي تتعرض لها سورية يتطلبان اتخاذ قرار تاريخي وجريء بنقل مركز الثقل وبؤرة الاهتمام السياسيين صوب الداخل، والسير قدما نحو التغيير الديمقراطي والانفتاح على المجتمع وقواه الحية، بما يعيد صياغة الشرعية السياسية على أسس جديدة . وإذا كانت الظروف والتطورات، الدولية والإقليمية والداخلية، تدفع إلى تغييرات أكيدة في سورية، فمن المهم محاولة رؤية محتوى ومضامين ومستويات هذه التغييرات .

إن التوصيف السابق يقتضي الشروع في مصالحة وطنية طال انتظارها وكثرت المطالبات بها، وإصلاح النظام بجدية وعمق، وإعادة تحديد المشكلات التي يجب أن تعالجها سورية بجهود أبنائها، في الموالاة والمعارضة، والذين لن يتمكنوا من مواجهة الخطر بغير تحول نظامهم من نظام أمني إلى نظام سياسي، يعترف بحقهم في الحرية، وبحق أحزابهم ومنظمات مجتمعهم المدني في الشرعية والعلنية، ويقوم على نمط من الإدارة والتنظيم يستند على مشاركة المواطن في الشأن العام، دون قيود تبطل حريته أو تتعارض معها، ويسمح بمراجعة سياساته الداخلية والخارجية، وبتحويل الدولة من دولة حزب إلى دولة حق وقانون تخص كل واحد من مواطنيها .

ولا شك في أنّ التغيير المنشود لابد أن يكون ديمقراطيا في أدواته ووسائله، سياسيا وسلميا ومتدرجا، يُبنى على التوافق القائم على مبادئ الحوار والاعتراف المتبادل . ويقوم على نبذ العنف في ممارسة العمل السياسي والعمل على منعه وتجنبه بأي شكل ومن أي طرف كان .

إن التغيير في سورية اليوم مهمة إنقاذية لا تقبل التردد ولا التأجيل، وأي محاولة إلى إفراغه من محتواه الحقيقي، أو محاولة تقزيمه إلى إصلاح جزئي، أو تغيير أشخاص بآخرين، أو تلميع صور عتيقة، لن تفعل إلا أن تفاقم في سوء الأوضاع، وتضع البلاد على حافة المجهول .

لقد أنتج النظام في السبعينات داخله في ضوء علاقاته مع الخارج، وعليه اليوم أن يفعل العكس : إنتاج علاقاته الخارجية، التي يجب أن تكون من نمط مغاير للنمط الذي أخذ به خلال نيف وثلاثة عقود، انطلاقا من الداخل وحده .

وفي هذا السياق، لا يخفى عنّا الدور الهام الذي تلعبه مؤسسة الرئاسة في الجمهوريات الرئاسية عامة، وفي الحياة السياسية السورية منذ سنة 1970 خاصة، حيث كان الرئيس محور قوة السلطة، وحيث جرى احتكار العمل السياسي من قبل سلطة الدولة . وعليه، وبالرغم من كل الحيوية التي تتمتع بها النخب الوطنية السورية، بات التغيير صعب ومكـلف ( ينطوي على مخاطر تمزيق الوحدة الوطنية وتسهيل التدخل الخارجي )، من خارج إطار السلطة، ذلك لأنّ المجتمع  بات شبه عاجز عن المبادرة إلى إطلاق سيرورة تغيير ديمقراطي حقيقي، فهو مغيّب عن الحضور الفعلي في الدولة، فلا وجود لمنظمات مجتمعية مستقلة فاعلة، ولا وجود لأحزاب معارضة علنية فاعلة، ولا وجود لصحافة حرة مستقلة، ولا انتخابات تعددية نزيهة .

وهكذا، يبدو أنّ قدر الدولة السورية، ذات البنيان المركزي الشمولي، أن تأتي مبادرة إعادة بنائها من المؤسسة الرئاسية . فما هي المعوّقات التي يمكن أن تعترض أي تغيير من داخل السلطة بمبادرة رئاسية ؟ .

يبدو أنّ مصير أي مشروع للتغيير الديمقراطي، من داخل السلطة القائمة، مرتبـــط بـ " أزمة التطبيق "، إذ أنّ كل القوانين والإجراءات والتدابير التحررية تواجه المقاومة والتأجيل والإعاقة عند التنفيذ، أو تنفّذ على نحو بيروقراطي وبطيء وخالٍ من حيوية التغيير، لا بل يترافق تنفيذها أحيانا مع نية إبطال مفعولها . فثمة أمثلة عديدة عن دور الانتهازيين والمنافقين والمتملقين في تخريب تجارب بدأت مفعمة بأمل التغيير، فجرفها هؤلاء نحو عكس رهاناتها .

وعليه، فإنّ توافقا بين السلطة القائمة والتيارات السياسية المعارضة قد يساهم بتطوير آليات حراك سياسي ومجتمعي فاعل، بما يساعد على توسيع رقعة الحريات العامة، وتحريك وعي الجماهير، ودفع شرائح واسعة منها إلى الانغماس في خضم العمل السياسي العام . مما يحيل أفراد المجتمع السوري من مجرد رعايا تابعين، غير مبالين، إلى مواطنين نشطاء فاعلين يمكنهم التأثير في ديناميات اتخاذ القرار السياسي والإسهام في تغيير بنية التمثيل السياسي، فضلا عن مشاركتهم في تحديد الأهداف الكبرى، وصياغة السياسات العامة .

إنّ نجاح مشروع التغيير الديمقراطي يتطلب الحوار المفتوح بين كل التيارات الفكرية والسياسية السورية من خلال مؤتمر وطني عام، بهدف الكشف عن الممكنات في الواقع السوري، وبناء أولوياتها وتوازناتها عبر منهج عقلاني هادئ، يقوم على التدرج وقبول الحوار مع الرأي الآخر ونبذ العنف والتطرف وعقد الماضي .

ومما لاشك فيه أنّ تجسيد مثل هذا الحوار، بأهدافه وموضوعاته، منوط بالسلطة أولا، ويعكس مدى جديتها في التغيير الديمقراطي . إذ من المفترض أن تبادر إلى الدعوة الشاملة إلى الحوار المفتوح والمجدي والعملي مع القوى الأساسية، مما يرفع من شأنها في أعين المجتمع ويفتح في المجال لتجسيد قيم الإصلاح وحاجاته في الواقع .

وهكذا، يخطئ من يظن أنّ المجتمع الدولي الذي فتح للقيادة السورية بوابة الخروج من لبنان ردا على اغتيال الرئيس رفيق الحريري، قد أقفل باب الحوار نهائيا مع سورية بل هو يحرص على أن لا يغرق في تجربة جديدة شبيهة بالحالة العراقية . والخطر الوحيد في هذه اللحظات هو التشوّش الذي يبدو في القيادة السورية والذي يمكن أن يسفر عن سوء تقدير أو عن خطأ في الحساب يمكن أن يجعل سورية بالفعل الهدف التالي للحرب، وليس فقط الهدف التالي للإصلاح وإعادة التأهيل .

إنّ سورية تواجه فرصة تاريخية تمكّن من إجراء التغيير الديمقراطي المنشود، بالاعتماد على تضافر جهود جميع النخب الفكرية والسياسية دون استثناء، فلا يجوز تفويت هذه الفرصة، بل الحرص على الانتقال الديمقراطي الهادئ والممأسس، الذي يفتح الآفاق أمام إعادة صياغة مستقبلها على أسس جديدة .

ولا شك في أنّ سورية القوية داخليا، بديموقراطيتها واقتصادها واستقرارها السياسي والاجتماعي، وبنخبها الفكرية والسياسية والاقتصادية، والمتصالحة مع حقائق العصر، يمكن أن تقدم نموذجا وأن تكون أكثر نفوذا في مجالها الإقليمي، وأكثر قدرة على مواجهة التحديات والإملاءات الخارجية .

نحن أمام تحديات حقيقية تستوجب تفعيل الخيارات الممكنة، من خلال إرادة سياسية ناضجة، وإدارة عقلانية لكل إمكانياتنا المتوفرة، بهدف التعامل مع الوقائع القائمة كما هي لا كما تتخيلها رؤى أيديولوجية مبسطة . فليس من الواقعية والعقلانية أن نغمض أعيننا عن مختلف الخيارات والقدرات التي يمتلكها شعبنا، وذلك من خلال إعادة صياغة كل أسس قوتنا، بترتيب أوضاعنا الوطنية، وإعادة ترتيب العلاقات مع دول الإقليم والعالم والموازين الدولية . 

ويبقى السؤال : ماذا سيتمخض عن مؤتمر حزب البعث ؟

يرتبط الرد على هذا السؤال بنمط خيارات مؤسسات النظام الفاعلة في الرئاسة والأمن والجيش . وفي كل الأحوال، لن نستغرب، خاصة بعد حملة الاعتقالات التي طالت أعضاء مجلس إدارة منتدى جمال الأتاسي للحوار الوطني والأستاذ محمد رعدون رئيس المنظمة العربية لحقوق الإنسان والعديد من المنفيين الذين عادوا إلى سورية مؤخرا، إن بقيت السلطة تراوح مكانها في سياساتها التي أكل عليها الدهر وشرب، فبنيتها الاستبدادية تبدو عصية على الانفتاح وفهم دقائق ومتغيّرات ومستجدات العصر، إذ أنّ مراكز القوى فيها لا زالت أسيرة عقلية الحرب الباردة ومفرداتها المتحجرة وصفقاتها التي أضحت من مخلفات الماضي .

تونس في 27/5/2005

*كاتب وباحث سوري مقيم في تونس

 (*) – في الأصل محاضرة قُدمت في " منتدى الجاحظ " ( جمعية تونسية غير حكومية شعارها " من أجل تنوير عربي إسلامي " ) في 28 أيار/مايو 2005 .

مركز دمشق للدراسات النظرية والحقوق المدنية 03 – 06 – 2005

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها

أعلى الصفحةالسابق

 

الرئيسة

اطبع الصفحة

اتصل بنا

ابحث في الموقع

أضف موقعنا لمفضلتك

ـ

ـ

من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ