ـ

ـ

ـ

مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وقولوا للناس حسنا

اتصل بنا

اطبع الصفحة

أضف موقعنا لمفضلتك ابحث في الموقع الرئيسة المدير المسؤول : زهير سالم

الثلاثاء 15/01/2008


أرسل بريدك الإلكتروني ليصل إليك جديدنا

 

واحة اللقاء

 

التعريف

أرشيف الموقع حتى 31 - 05 - 2004

ابحث في الموقع

أرسل مشاركة


عودة الموتورة بنظير بوتو: للحكم أم للتقسيم؟

أمير سعيد

لا خصومة فيما يتبدى بين الأيديولوجية والتاريخ والسياسة، من خلال الإطلالة على العلاقة الغربية/الإيرانية أو الغربية/الشيعية؛ فما تنثره الأنباء يصدِّقه التاريخ والعقائد، وكلما شذ تصـريح أو إجراء عن جادة المألوف كذّبه التراجـع أو التفريغ الجوهري من رهق الألفاظ والتجاذبات، فإذا الحلقات تأتيك مفرغةً والحاصل صفراً في معادلة التغير بين الماضي والحاضر.

بل بوسعنا أن نقول: إن العلاقة ماضية في التوثق بوصفها خياراً إستراتيجياً لم يأبه لخيار نووي ارتآه الإيرانيون لازماً لإكمال الدور الإقليمي باعتباره باباً لا بد لهم من ولوجه لإبرام صفقاتهم مع الجانب الغربي (بأقسامه الأمريكي والصهيوني والأوروبي).

وللدقة أكثر في قضية التوثق هذه، نعود إلى سنوات ماضيات، وتحديداً عام 1978م عندما اقتيد رئيس الوزراء الباكستاني الأسبق ذو الفقار علي بوتو إلى المحاكمة بتهمة قتل أحد المعارضين لنظام حكمه، ومن ثم حُكِم عليه بالإعدام؛ واستبد بالعالم الغربي الغضب، وتعددت الوساطات للإفراج عنه، فقد كان للراحل علاقات قوية بالغرب، بيد أن أشد تلك الوساطات بل الضغوط، جاءت من العاصمة طهران التي كانت تحبو فيها الثورة الخمينية في أيامها الأولى؛ حيث جاءت المطالبات قوية من أعلى مرجع ديني شيعي في العالم حينها (آية الله) الخميني مرشد الثورة الإيرانية، على الرغم من إيغال (بوتو) في العلمانية والاقتراب مع مخططات الغرب إلى الحد الذي جعل مجيب الرحمن زعيم بنجلاديش يعتبره «محطم باكستان وهادمها»، وقد كانت الحيثية الأساسية التي استند إليها الخميني في رفضه إعدام بوتو على يد الرئيس الباكستاني الراحل ضياء الحق، هو أن «ذا الفقار» علي بوتو شيعي المذهب، هو وأسرته.

ظاهرياً لم يكن مفهوماً أن يُقدِم مرشد ثورة تقول إنها جاءت لتحرر المسلمين من ربقة العلمانية والديكتاتورية، على مناشدة سلطات بدأت في خطوات نحو أسلمة باكستان وقوانينها عبر سلسلة من الإجراءات الهادفة ـ وفقاً لضياء الحق وقتـها ـ إلى تطبيق الشـريعة الإسلامية، لقد دعا الخميني إلى وقـف قتـل رئيـس الوزراء السابق ليس لسـبب إنسـاني أو بروتوكولي؛ وإنما لأن المقتول يقدَّر أنه ينحدر من أسرة شيعية، وإن لم يبدُ متحمساً لإظهار ذلك.

غير أن الوساطات يومئذٍ لم تفلح في وقف تنفيذ حكم الإعدام بحق بوتو، وانتهى الأمر بغياب بوتو عن العالم في إبريل 1979م وسط استياء عالمي شديد..

تـرك ذو الفـقار علي بـوتـو أولاداً، لم يـبـرز منـهم عالمياً إلا ابنـته بنـظير لزوجـته الإيرانية نصرت أصفهاني. وكوالدها اتجهـت بوتـو الابنة غرباً؛ ثقـافة وتعليماً، وهناك صيغـت شخصـيتها على نحوٍ تتـجلى قسماته في جوانب رئيسية:

• امرأة حكمت دولة مسلمة:

كانت بنظير بوتو أول امرأة تحكم دولة مسلمة كبيرة ومؤثرة في العصر الحديث، وقد كان هذا أمراً مذهلاً للشرق والغرب على السواء، وقد منحها ذلك دعماً ومساندة قوية جداً من الغرب، لم تقابله ممانعة قوية من الداخل الباكستاني. والغرب عموماً مولَع بدعم أي امرأة تتطلع لمنصب سياسي في أي دولة مسلمة، أو اتخاذ أي فعل يكسر سياجاً حول خصوصية المرأة في العالم الإسلامي، ويمنع ـ هذا السياج ـ انسياقها خلف أفكار خارجية تضر بقيمة المرأة ولا تعليها.

وقد تكون بوتو نجحت في أن تحيِّد هذه النقطة الآن؛ إذ هي تقدِّم نفسها اليوم للشعب الباكستاني رئيسة وزراء سابقة تجاوزت هذه المسألة من قديم، بدليل اعتلائها منصب رئاسة الحكومة لمرتين غير متتاليتين، بيد أنها في الحقيقة وإن ظلت تلعب بهذه الورقة خارجياً، غير أنها ربما احتاجت هذه المرة لـ (إعادة تأهيل) الشعب الباكستاني لقبولها من جديد على هذه الخلفية أيضاً؛ بسبب تنامي الصوت الإسلامي هذه المرة خلافاً للمرات السابقات، وهو ما دعاها لأن تبدي قدراً عالياً من الانزعاج من الإسلاميين الذين يتحفظون على رئاستها بالأساس لكونها امرأة، بغض النظر عن أيديولوجيتها وثقافتها الغربية؛ استناداً إلى قناعات دينية، وهذا الانزعاج عبرت عنه بوتو على نحو يوحي بما يمكن اعتباره أزمة ترتسم أمام عينها، من خلال كلمات لها تقول فيها: «خلال تاريخ باكستان على مدى الـ60 عاماً الماضية، وفي ظل التقلبات بين دكتاتورية وديمقراطية، ومن انتخابات حرة إلى انتخابات مزورة إلى عدم وجود انتخابات، لم يشكل الأصوليون مطلقاً جزءاً مهماً من الوعي السياسي في باكستان. ورثنا دولة وسطية ومعتدلة.

ومن الناحية التاريخية لم تحصل الأحزاب الدينية على أكثر من 11 بالمائة من الأصوات في الانتخابات العامة. الحزب الأكبر حجماً هو حزبي؛ حزب الشعب الباكستاني. تأثر المسرح السياسي الباكستاني بصورة رئيسية بحزب الشعب الباكستاني المعتدل، الذي يحظى بتأييد قوي ومتواصل من جانب جماهير الريف ونخب المدن.

يشكل التطرف خطراً، لكن سيتم احتواؤه كما حدث في السابق إذا جرت تعبئة الوسط المعتدل للوقوف في وجه الهوس.. سأعود لأقود هذه المعركة». [الشرق الأوسط 211/9/2007م].

• اغتراب النشأة وتغريب الهوية:

لا تكاد تخفي بوتو ولَعَها بالغرب بما يتسلل ما بين شفتيها، وتكاد لا تجد مناسبة إلا زجّت فيها بكلمات تصدق هذا المفهوم عنها. وفي أحدث دلائل ذلك، زاد رد فعل بوتو عن المألوف وطنياً عندما طالبت بتحقيق دولي مباشر في محاولة قتلها التي استقبلتها حين وضعت قدمها في أرض باكستان منتصف شهر أكتوبر الماضي، والتحقيق الذي رفضته الحكومة الباكستانية على الفور ساقت إليه بوتو ذريعة؛ بوجود كفاءات على مستوى رفيع في كل من الولايات المتحدة وبريطانيا يتمتعون بمهارة عالية في مثل هذه التحقيقات! وهو ما يلقي بظلال داكنة حول رغبة بوتو في الوصول إلى الحكم بأي وسيلة كانت، ولو أمست هذه في خانة الخيانة بنظر كثير من الباكستانيين المتدينين، ولو مرت عبر تدويل قضايا لا تستأهل التدويل؛ إذ ما الذي تجنيه بوتو من تصوير رفضها الداخلي لحد محاولة القتل على أنه أمر يجيء بفعل قوى رسمية تحتاج لتدخل دولي للَجْمها؟! في الواقع النظام الرسمي الموالي للغرب هو الذي أتاح لبوتو حظاً في العودة وإسقاط أحكامٍ قضائية صدرت بحقها، بعدما فاحت رائحة الفساد من حكومتها ومن أنشطة زوجها (آصف زارداري) الاقتصادية، لم يحظ بمثله رئيس الوزراء المخلوع نوّاز شريف الذي أهين لدى دخوله البلاد ومن ثم أعيد من حيث أتى وحرم من حقه الطبيعي في الوجود داخل وطنه.. في الحقيقة لم يبلغ الرسميون في باكستان حداً يجعلهم معنيين بقتل بوتو بعدما عقدوا صفقتهم معها ضد الخيار الشعبي.

بوتو القادمة هذه المرة بوجه غربي بالغ الوضوح عن ذي قبل، لا تستند إلى قاعدة شعبية بقدر ما تستند إلى موازنات دولية ودعم غربي واضح، جعل من الولايات المتحدة عَرَّاباً لعودتها وفارضاً على (الحليف) مشرّف القبولَ باقتسامها السلطة معه، أو إلى هذا يرنون فيما يبدو.

ومن الطبيعي أن تلقى مزايدتها على (تحالف) مشرّف مع الولايات المتحدة صدى لدى الأخيرة، المأخوذة بذهول نحو هزيمتها الواضحة في أفغانستان البلد الجبلي الفقير؛ فبوتو سعتْ لأنْ تكون بديلاً أكثر (تبذلاً) في نشر (القيم) الغربية إن صح التعبير، أو تحقيق أهدافها إن أردنا المباشرة؛ فقد سبقت بنظير بوتو عودتها إلى باكستان بلقاء مع جوزيف بيدين النائب الديمقراطي، رئيس لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ، وعدد آخر من النواب، كاشفةً لهم عن أن «شراكة الإدارة الأمريكية مع رئيس باكستان، برويز مشرف، في الحرب على الإرهاب كانت خاطئة من الناحية الإستراتيجية»، مضيفة وفق (الجارديان) البريطانية: «مشرّف حاول إقناع العالم أنه الوحيد القادر على الوقوف في وجه وصول المتطرفين لقيادة الجيش الذي يمتلك السلاح النووي.. من وجهة نظري، إن دكتاتور الجيش (مشرّف) ساهم في زيادة حدة التطرف»، ثم دغدغت مشاعر الغرب المكلوم بالهزيمة التي مُنِي بها في أفغانستان بالقول: «إن المتطرفين لم يتمكنوا خلال فترة حكمها من الحصول على موضع قدم داخل باكستان». (المفارقة أن هؤلاء «المتطرفين» لم يتملّكوا موضع قدم إبّان حكمها في النصف الأول من تسعينيات القرن الماضي بباكستان، بل استحوذوا على معظم أراضي أفغانستان المجاورة بدعم قوي من أجهزة استخبارات دولتها؛ التي لم تكن حينئذٍ رئيسةُ الوزراء بوتو أكثر من قشرة علمانية يابسة للحاء دولة ما يزال لها تقاطع مع المقاتلين الأفغان في الجبال لأسباب دينية وإستراتيجية عديدة).

(الشرعية) التي تقدمها بوتو للوصول لسُدَّة الحكم مجدداً هي أنها تعادي النمط الديني المغذي لما بات هاجساً مفزعاً للغرب؛ من ممانعة داخل أفغانستان وباكستان وخارجهما لمخططات هيمنته على المنطقة والعالم. ولذا ففي معرض تسويقها لهذه (الشرعية)، أنكرت بوتو التوسع الذي كان سائداً قبل مجيء الرئيس الحالي برويز مشرف في إنشاء المدارس الدينية واعتبرتها محاضن تساعد على انتشار (الإرهاب).

(ابنة القدر) حسبما خلعت على نفسها لقباً، هو عنوان مذكراتها التي نشرتها في العام 1989م، يفي لبوتو بحجم هائل من التماهي مع نزعتها التغريبية التي غذّتها إقامتُها الطويلة في الغرب ودراستها للعلوم السياسية والاقتصاد في جامعتي هارفارد وأكسفورد، وحياتها الخاصة والعامة المرتبطة عضوياً بالغرب و (قِيَمِه) وأفكاره، ويجعلها قريبة جداً من أسلوبه البراجماتي المسترسل في عقيدتها نحو الميكيافيلية في أظهر صورها؛ فهي الجالسة تقرأ الفاتحة على أرواح القتلى من أنصارها بقرية باكستانية في أعقاب محاولة اغتيالها، وهي الداعية للديمقراطية وحقوق الإنسان ودعم منظمات (المجتمع المدني) في الوقت ذاته الذي تضبط فيه نغمةَ خطابها مع موجة قمعية يغذّيها النظام العسكري الذي تحالفت معه بوتو، والذي جاء على ظهر دبابة متنكرة لكل المبادئ الديمقراطية التي تنادي بها، ومتماهية مع خطها الذي عرفته بها باكستان في تعاملها مع العسكر التي لم تصطدم بهم يوماً. بوتو وإن تحاشت العودة قبل الانتخابات الرئاسية لكي تنفض يدها من نتائجها، غير أنها ستظل موصو مة بعقد صفقة تمر فوق جسد الديمقراطية الباكستانية الهشة، وهي بذلك لا تخالف السياق الغربي في تعاطيه مع النظام العسكري في إسلام أباد، والذي سرعان ما غفر لمشرّف انقلابه على (الشرعية) الدستورية وخلعه رئيس الوزراء السابق نواز شريف في مقابل تسليم الولايات المتحدة الأمريكية ما تريد في باكستان، سواء من خلال الإطاحة بالحـكم الطـالـباني في كـابـول، أو فتح ملفـات عبد القدير خان أمام الغرب وتمكينه من التحقيق فيها. 

• الشيعية العائدة في لحظة دولية مختلفة:

لعل العالم الإسلامي كان في لحظةٍ مّا غائبة عنه بعض المعاني الدينية التي كان كثيرون يتجاوزون فيها المسألة الطائفية تحت لافتة (رفض الطائفية)، وتلك اللافتة مرّ من تحتها ألوان من القيادات التي وجدتْ (تسامحاً) من جموع الشعوب الإسلامية في تسيُّدِها مراكز الحكم والقرار برغم تمثيلها لأقليات محدودة. وآلُ بوتو من هذه الألوان التي غمرت الساحة السياسية والإعلامية في غفلة من رقابة شعبية تفرض على ممثليها أن يجسدوا التعبير القيمي والتطلعات الأممية لهم، والتي تتسق مع حضارة عريقة استوعبت الجميع لكنها لم تُستَوْعَب مِِن قِبَل بعض الأطراف وبعض المنتمين للأقليات (وقد لا يكونون يمثلونها هي أيضاً)، ولذلك ظلت مجسِّدة لروح التسامح من دون أن تفرِّط في حق ممثليها الحقيقيين في ريادة نهضتها.

على أية حال، لنعد للماضي بغية الاقتراب من أسرة بوتو؛ فذو الفقار علي بوتو الأب ذاع صيته إبّان حكم الرئيس الباكستاني إسكندر علي ميرزا، حين تولى منصب وزير التجارة، وهو أول منصب يشغله؛ مدفوعاً بعناية من ميرزا الذي ينتمي للطائفة الإسماعيلية الشيعية التي ينحدر منها بوتو أيضاً.

ميرزا وبوتو كلاهما متزوج من إيرانية؛ فميرزا اقترن بزوجته ناهد؛ وهي الزوجة السابقة للمندوب السامي الإيراني في باكستان (عندما مات ميرزا نقل جثمانه إلى طهران!)، وبوتو تزوج من نصرت أصفهاني الإيرانية التي أنجبت فيما بعد بنظير بوتو.

دخل (الشاب) بوتو الأب حياته السياسية وهو مشدود إلى شخصية شيعية كاريزمية أثرت فيه وتأثر بها وأَشرَبَ فكرها من بعدُ إلى ابنته بوتو، وهو محمد علي جناح الذي أسس دولة باكستان وترأسها بين العامين 1947 و1948م، (وترأس حكومته الشيعي لياقت علي خان بين العامين 1947و1951م)، وعمل على فصلها عن الهند في خطوة ما يزال الجدل يدور إلى اليوم حول جدواها على المسلمين وتأثيرهم في شبه القارة الهندية، (على الرغم من أن فكرة انفصال باكستان ذاتها منسوبة إلى الشاعر السني محمد إقبال..، للإنصاف).

وكان ميرزا قد دعم علي بوتو ـ كما تقدم ـ في تولي الوزارة، وقد تأثر به الأخـير حـتى في أسلوب قمعه للمسلمين في البنجاب فـي العـامـين (1958م للأول، و1977م للـثـانـي)، وكـلاهـما ـ للمفارقة ـ قد غادر منصبه بانقلاب عسكري لمنع مزيد من تدهور الأوضاع والاضطرابات وأعمال القتل التي تنفذ باسم الدولة. على أن الشخصية التي قدمت دعماً أعلى في تولي شؤون الحكم في باكستان لبوتو كان الجنرال الشيعي (يحيى خان) الذي ترأس حكم باكستان بين العامين 1969م و1971م، والذي اشتهر بتسليم باكستان الشرقية إلى الهند ومن ثم استقلالها عن باكستان فيما بعد باسم (بنجلاديش)، في ما عده كثير من الخبراء والباحثين المسلمين في شبه القارة الهندية (خيانة) لباكستان وشعبها المسلم (منهم على سبيل المثال الباحث البارز إحسان إلهي ظهير في كتابه «الشيعة والسنة»، الذي اغتيل على يد شيعة باكستانيين فيما بعد).

(خان) من جهته بذل الدعم لبوتو الأب، وقلده منصب نائب رئيس الوزراء ووزير الخارجية في عهده وهو، ما مهد له فيما بعد تبوُّؤَ منصب رئاسة الدولة ثم الحكومة من العام 1971م إلى 1973م رئيساً ، ثم 1973م وحتى إعدامه في العام 1977م رئيساً للوزراء على يد الجنرال القوي ضياء الحق.

وحيث لقي بوتو الأب حتفه، كانت باكستان على موعد مع ابنته السياسية الواعدة التي أفسحت لها عملية اغتيال الرئيس الباكستاني السني ضياء الحق، بتفجير طائرته في أغسطس من العام 1988م، الطريقَ نحو الحكم.

لم يُمَط اللثام حتى الآن عمن قتل ضياء الحق، غير أن أصابع الاتهام كادت تنحصر باتجاهين: الأول: هو الولايات المتحدة الأمريكية التي كانت قد أزعجها التوجه المستقل والديني لضياء الحق، بعد أن فرغت من القضية الأفغانية إلى حدٍ مّا إثرَ نجاح المجاهدين الأفغان في قصم ظهر السوفييت، اتساقاً مع الرغبة الأمريكية في ذلك الوقت، وقد شكك بعضهم حينها بضلوع الولايات المتحدة الأمريكية في الحادث؛ نظراً لأن الطائرة قد نُسِفَت بضياء الحق بمعيّة السفير الأمريكي في باكستان (أرنولد رافيل) والجنرال الأمريكي (هربرت واسوم)، ولو ظل الاحتمال قائماً مع ذلك في تورطها. أما الاتجاه الثاني فانحصر باتجاه إيران وأتباعها في الداخل الباكستاني؛ حيث لم يكن قد مضى سوى شهرين على خطابه الأشهر حول تطبيق الشريعة الإسلامية في باكستان، وهو الخطاب الذي ألقاه وهو يبكي ويمسح دموعه، ويقول فيه: «إنني أخاف الله وأخشاه، وأعلم أنه سوف يسألني غداً: لماذا لم تحكم بالشريعة الإسلامية؟ والشعب سوف يسألني: لماذا لم تأخذ على يد الظالم؟»، ثم تبع ذلك عدة إجراءات نحو (أسلمة) الدولة الباكستانية؛ فتغيرت وسائل الإعلام، وتشكلت لجان لـ (أسلمة) النظام الاقتصادي والقضاء الجنائي، وأُعلنت الشريعة المصدر (الأعلى) للقوانين، وهو ما أثار الشيعة في باكستان على وجه الخصوص ورفضوا علناً التحاكم إلى القوانين الجديدة، وبدأ حزب الشعب الذي تزعمته بنظير بوتو في إطلاق حملة محمومة داخلياً وخارجياً لإلغاء هذه القوانين وحرفِ هذا التوجه النامي لضياء الحق عن مساره، وارتفعت حدة الاحتجاجات الإيرانية إبان حكم المرشد الإيراني علي الخميني لدى باكستان؛ كيلا تفرض القوانين «السنية» على الأقلية الشيعية التي لم تكن إذ ذاك تمثل سوى 8 ملايين باكستاني!

كان الخميني حينئذٍ متهماً من قِبَلِ قوى سنية في باكستان بتحريض الأقلية الشيعية في الشمال على التمرد بغرض الانفصال عن باكستان، وكان هو منزعجاً من تلكؤ ضياء الحق في العام الأخير من حكمه في وقف بعض الاضطرابات الطائفية في ولاية ديامر وإقليم كوهستان  وسوات وملاكند، مما أدى لمقتل نحو 1400 شيعي فيها مقابل 14 سنياً (100: 1) حسب معطيات صحفية في ذلك العام، والتي كانت قد اندلعت في أعقاب تجاوزات دينية كبيرة من الجانب الشيعي تمثّل في كتابة شعارات معادية للسنة وللصحابة على الجدران، والاعتداء على المساجد للتعبير عن رفض الشريعة الإسلامية والتحاكم إليها من خلال المحكمة العليا في إسلام أباد، والسعيِ نحو استقلال إقليم (جلجت) الذي يشكل الشيعة أقلية كبيرة فيه، واحتج الخميني بشدة على إعدام (ذي الفقار علي بوتو) الزعيم الشيعي الذي حارب (بلوش) باكستان لحساب إيران؛ التي كانت تعاني من النزعة الانفصالية لـ (بلوش) إيران خلال تلك الفترة من سبعينيات القرن الماضي، وتقليص النفوذ الشيعي في باكستان، وجعل باكستان قاعدة ينطلق منها المقاتلون ضد السوفيـيت (الحليـف الدولي الأبرز لإيران) في أفغانستان، و (أسلمة) القوانين أو (تسنينها) ـ إن جاز التعبير ـ والشروع بتصنيع القنبلة النووية الباكستانية.

وقد يكون ذلك مبرراً كافياً لتوجيه الاتهام إلى إيران (الخميني) باغتيال ضياء الحق وتمهيد الطريق من ثم إلى عودة آل بوتو من جديد لرئاسة الوزراء، بيد أن أصابع الاتهام توجهت أيضاً لآخرين؛ كالجيش الباكستاني ذاته، والسوفييت، والهند، فضلاً عما تقدم من الولايات المتحدة الأمريكية التي لا تقل انزعاجاً عن إيران من التغير الحادث في شخص الرئيس الباكستاني.

إذن قد مُدّ الحبل دولياً لبنظير بوتو لتولي رئاسة الحكومة الباكستانية في غفلة من القوى السياسية الأصيلة في باكستان؛ فتولّت رئاسة الحكومة لفترتين منقوصتين هما 1988 ـ 1993م، 1990 ـ 1996م، وفي كلتيهما اتُّهِمت بتهم من العيار الثقيل فيما يخص الفساد، منها تورُّطها هي وزوجها في قتل شقيقها مرتضى بوتو الذي أوشك أن ينافسها بقوة في زعامة حزب (الشعب)، وهو ما ألمح إليه حليفها السابق ورئيس باكستان الأسبق فاروق ليجاري إضافة لبعض أفراد أسرة مرتضى. على أن أثقل التهم في حس المخلصين من أبناء باكستان وغيرها هو ما يتعلق بعلاقتها الوثيقة بالغرب، واستعدادها لدفع أي ثمن سياسي من أجل وصولها لسدة الحكم، وهو ما لا تنفيه بوتو في أدبياتها العديدة سواء من خلال كتابها أو تصريحاتها على مدى عمرها السياسي.

غير أن الأخطر في وصول بوتو هذه الأيام لسدة الحكم ـ إذا حدث ـ يفوق المخاطر السابقة بكثير؛ فبوتو الآن قادمة وفي جعبتها أجندة خفية ـ ربما ـ تمس حلقة أخرى جديدة من حلقات تقسيم وتفتيت أراضي المسلمين في شبه القارة الهندية؛ فمن استقلال باكستان ذاتها الذي صار دونه جدل قد يكون مقبولاً بعض الشيء، إلى فصل بنجلاديش عن باكستان على يد يحيى خان الذي لا يمكن أن يكون في صالح وحدة المسلمين هناك، وقد تلوح في الأفق قضية فصل أكثر من إقليم باكستاني متوتر عن الدولة الأم باكستان.

كما أن المثير للظنون كثيراً في هذا الظرف الإقليمي والدولي الخطير، هو دعم الولايات المتحدة الأمريكية لتولية بوتو رئاسة حكومةٍ تحمل وداً لإيران؛ في وقتٍ تدّعي فيه أنها تسعى لفرض طوق على إيران لدفعها نحو التنازل في مسألة المشروع النووي الإيراني.

لا نود مع كل هذا أن يطغى معنا التفسير الطائفي للأحداث على نحو يخاصم قواعد الإستراتيجيات والمصالح إلى حد ما.. لكن: أليس في ما تقدم من معلومات مدعاة لأن ننظر للواقع الباكستاني بقدر أعلى من العقائدية؛ ليتسنى لنا فهم الإستراتيجيات والمصالح في مظانها الصحيحة؟!  

ـــــــــــــــــــــــ

والمجلة ماثلة للطبع أعلن الرئيس الباكستاني (مشرف) الطوارئ وعلق الدستور وأقال كبير القضاة (افتخار شودري)، ولعل ذلك جاء خوفاً من إلغاء ترشيحه للرئاسة. والباكستان تمر بمرحلة حرجة، وتحتاج أحوالها لدراسة وتحليل حول الموضوع و أبعاده، نرجو أن نتطرق لها بتوسع في العدد القادم بإذن الله.

مجلة البيان

 http://www.albayan-magazine.com/bayan-243/bayan-11.htm

-------------------------

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها

أعلى الصفحةالسابق

 

الرئيسة

اطبع الصفحة

اتصل بنا

ابحث في الموقع

أضف موقعنا لمفضلتك

ـ

ـ

من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ