ـ

ـ

ـ

مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وقولوا للناس حسنا

اتصل بنا

اطبع الصفحة

أضف موقعنا لمفضلتك ابحث في الموقع الرئيسة المدير المسؤول : زهير سالم

الاثنين 08/10/2012


أرسل بريدك الإلكتروني ليصل إليك جديدنا

 

واحة اللقاء

 

التعريف

أرشيف الموقع حتى 31 - 05 - 2004

ابحث في الموقع

أرسل مشاركة

رأي الراية .. مقاربة جديدة للأزمة السورية

الرايه

7-10-2012

التصعيد الجديد الذي شهدته الحدود السورية التركية والمتمثل بالقصف المدفعي التركي لأهداف سورية رداً على سقوط قذيفة سورية في الأراضي التركية وهو الحادث الثاني من نوعه في أقل من أسبوع يؤكد تفاقم الأزمة السورية ويهدد بانتقالها إلى دول الجوار وإمكانية تحولها إلى حرب إقليمية لا أحد يستطيع التكهن بمسارها ونهايتها.

إن تصاعد التوتر على الحدود السورية التركية وسقوط ضحايا مدنيين أتراك دفع البرلمان التركي لمنح حكومة بلاده تفويضاً بشن عمليات عسكرية داخل سوريا، وهو ما يؤشر إلى المدى الذي يمكن أن تذهب فيه الأزمة بين البلدين رغم أن رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان سارع إلى التأكيد أن بلاده لا تنوي شن حرب على سوريا لكنه حذر سوريا من تكرار استهداف الأراضي التركية، قائلاً "لا تغامروا باختبار صبر تركيا".

تطورات الأزمة السورية تستدعي من المجتمع الدولي ومن مجلس الأمن الدولي تحديداً مقاربة جديدة في التعامل معها تختلف عن السابق وتنهي الانقسام في المواقف الذي شل قدرة المجلس على اتخاذ قرارات تدين النظام السوري وتمنعه من قصف المدن والبلدات السورية بالطائرات والأسلحة الثقيلة وهو ما تسبب في خسائر كبيرة في الأرواح وفي تدمير المدن والبلدات ولجوء عشرات الآلاف من المواطنين إلى خارج بلادهم.

إن إدانة مجلس الأمن الدولي للقصف السوري على الأراضي التركية، ودعوات ضبط النفس للبلدين لمنع تحول القصف المدفعي المتبادل إلى حرب مفتوحة ليست هي الطريقة التي تمنع تفاقم الأوضاع بما يهدد الأمن والسلم في المنطقة.

تكرار القصف السوري للمناطق الحدودية في سوريا والرد التركي عليها يستدعي من مجلس الأمن الدولي سرعة التوافق للخروج بقرار لإقامة مناطق آمنة في عمق الأراضي السورية تخضع لحظر الطيران وتوفر الحماية الكاملة للمدنيين السوريين الهاربين من جحيم العنف والقتل في بلادهم وتمنع امتداد الحرب إلى المدن والبلدات التركية المحاذية للحدود السورية.

إن فشل المجتمع الدولي في التحرك لسرعة إطفاء النيران التي هي تحت الرماد بين سوريا وتركيا من خلال خطوات ملموسة على الأرض تضمن حماية المدنيين في كلا البلدين يعني أن مجلس الأمن الدولي سيكون خلال أسابيع إن لم يكن خلال أيام قليلة أمام أزمة مركبة ومشتعلة بين البلدين خاصة إذا تواصل القصف المدفعي على حدودهما.

إن اشتعال الحدود بين سوريا وتركيا يجب أن يشكل حافزاً إضافياً للمجتمع الدولي للضغط لوقف العنف والقتل الذي يمارسه النظام السوري ضد شعبه وللتدخل وبقوة لصالح حماية المدنيين في سوريا الذين يتعرضون للقتل بشكل يومي لإنهاء هذه المأساة الإنسانية التي أقل ما يمكن أن يقال بشأنها أن استمرارها بهذه الصورة يشكل عاراً على المجتمع الدولي.

=================

واشنطن مع رؤية «الهبوط السلس»

الأزمة السورية... خلافات أميركية تركية

تاريخ النشر: الأحد 07 أكتوبر 2012

سونر كاجابتاي

واشنطن

الاتحاد

وفرت العلاقة الوثيقة التي أقامها أوباما، مع أردوغان حليفاً إسلامياً قوياً لواشنطن في الشرق الأوسط، وهو ما مكن الدولتين من التعاون بشكل وثيق من أجل تحقيق استقرار العراق.

ولكن على رغم ذلك، هناك عاصفة تنتظرهما في سوريا، خصوصاً بعد أعلنت تركيا الخميس أن البرلمان التركي قد خول الحكومة القيام بعمليات عسكرية في سوريا عقب قيام الأخيرة بقصف مناطق تركية عبر الحدود هذا الأسبوع.

وعندما اشتدت الأزمة السورية، بدا البيت الأبيض وكأنه على استعداد للانتظار حتى يرى نهاية نظام الأسد، في حين كانت الأزمة قد باتت مسألة طارئة شديدة الأهمية بالنسبة لأنقرة.

وعندما تفاقمت الاضطرابات في سوريا على مدى الثمانية عشر شهراً الماضية، افترضت أنقرة أن الولايات المتحدة متفقة معها بشأن ضرورة تغيير النظام؛ غير أن الحاصل الآن هو أن الخلافات بينهما في هذا الشأن قد بدأت في الظهور، بشكل متواتر.

وتبدي الولايات المتحدة تردداً في موقفها تجاه سوريا لأسباب عدة: منها إحجامها عن القيام بأي عمل قبل الانتخابات الرئاسية في نوفمبر، وحالة الإرهاق وإعياء الحرب السائدة بين الأميركيين عموماً. غير أن أردوغان يرى أن الأسباب التي تسوقها الولايات المتحدة ليست سوى غطاء تغطي به لا مبالاتها تجاه ما تمثله سوريا من مشكلات متفاقمة بالنسبة إلى تركيا. وهناك علامات تدل على المشاعر التركية الحقيقية تجاه الولايات المتحدة في هذا الخصوص، منها ما ظهر خلال مقابلة أجــراها رئيـس الوزراء التركـي مع محطـة "سي. إن.إن" الأميركية وانتقد خلالها أوباما لافتقاره إلى روح المبادرة بشأن سوريا -وهو توبيخ نادر من رجل كان يعتبر صديقاً وثيقاً للأميركيين فيما عدا ذلك من حالات.

وهذا التصريح يمكن أن يعتبر نذيراً بما سيأتي. فأردوغان لديه ميل طبيعي للتعامل مع زعماء الدول الأجنبية على أنهم أصدقاء، وميل أيضاً لفقدان أعصابه، عندما يظن أن هؤلاء الأصدقاء قد تخلوا عنه. وهكذا فكلما استمرت واشنطن في تجاهل الموضوع السوري، كلما ازداد احتمال غضب أردوغان بشأن ما يعتبره عدم استعداد من جانب أوباما لدعم سياسته.

وكانت الأزمة السورية قد بدأت كأزمة قابلة للتدبير في نظر واشنطن، غير أن ما حدث عندما اشتدت وتيرة الصراع هو أن البعض هناك قد أصبح أكثر قلقاً بشأن احتمال تغير الأزمة راديكالياً، كما حدث في البوسنة في تسعينيات القرن الماضي. فعندما لم يتدخل العالم لإيقاف المذابح التي طالت المسلمين في ذلك البلد البلقاني، تدفق "الجهاديون" عليه من كل صوب وحدب للانضمام إلى القتال، وإقناع سكان البوسنة العلمانيين في معظمهم بأن العالم قد تخلى عنهم، وأنهم سيكونون أفضل مع الأصوليين "الجهاديين".

والسياسة التي تتبعها الولايات المتحدة تجاه الأزمة السورية تقوم على فكرة مؤداها أن الهبوط السلس قد يكون أمراً ممكناً في سوريا. وتبنى هذه الفكرة على أمل أن تتعاون جماعات المعارضة مع بعضها بعضاً من أجل إسقاط نظام الأسد دونما حاجة إلى تدخل خارجي متعجل -وهو خيار ترى واشنطن أنه قد يسبب حالة من الفوضى العارمة.

ولكن أنقرة تريد تسريع هذا الهبوط السلس. وقد جاء قصف الأراضي التركية من الجانب السوري هذا الأسبوع ليجعلها تشعر بحرارة الأزمة المندلعة في الجوار، وليزيد من اقتناعها بهذا الخيار بعد أن أدرك أردوغان أن الوقت ليس في مصلحته.

والطبيعة الطائفية للصراع المندلع في سوريا تتسرب تدريجياً إلى تركيا نفسها، وخصوصاً أن ما يقرب من 100 ألف لاجئ سوري عربي سني قد التمسوا الملاذ هناك فراراً من تنكيل نظام الأسد ومليشياته العلوية. والعلويون العرب الذين يعيشون في المناطق الجنوبية من تركيا، يرفضون وجود اللاجئين السنة في مناطقهم، وهو ما يظهر بشكل جلي طبيعة الانقسام السني- العلوي في سوريا، ويحوله إلى مشكلة لأنقرة قد تتفاقم إذا ما تطور الصراع في سوريا إلى حرب طائفية كاملة المواصفات.

وتخشى تركيا كذلك من تزايد نشاط حزب العمال الكردستاني المعارض وخصوصاً بعد أن سمحت السلطات السورية لمقاتليه بالعمل داخل الأراضي السورية القريبة من الحدود مع تركيا كوسيلة للانتقام من الموقف التركي من الأزمة، وهو ما يمكن أن يزيد من الثمن السياسي الذي يتعين على أردوغان أن يدفعه بسبب الاضطرابات في سوريا.

وكل تلك المشكلات التي يواجهها أردوغان لا تنبئ بخير عموماً بالنسبة لآماله في أن يصبح أول رئيس منتخب شعبياً لتركيا عام 2014 (حتى فترة قريبة كان الرئيس التركي ينتخب من قبل البرلمان). فعلى رغم أن حزب العدالة والتنمية الذي يقوده أردوغان قد حصل على 49,5 في المئة من الأصوات في انتخابات العام الماضي، إلا أن إقدام حزب العمال الكردستاني على شن المزيد من الهجمات على القوات التركية يمكن أن يخدش صورة الزعيم القوي الصارم -المفضلة كثيراً- والتي عُرف بها أردوغان.

وكان أردوغان يفوز بكافة الانتخابات التي أجريت منذ صعود الحزب إلى سدة السلطة في البلاد عام 2002 من خلال تحقيق معدلات قياسية في النمو الاقتصادي لبلاده، وهو ما كان ممكناً تحقيقه بفضل الصورة المتداولة عن تركيا باعتبارها دولة مستقرة وآمنة بالنسبة للمشروعات وفي عيون الناخبين. وهكذا فإنه كلما طال أمد الأزمة في سوريا كلما تعرضت هذه الصورة للاهتزاز، ما قد يلحق أضراراً فادحة بمكون رئيسي من مكونات نجاحها الاقتصادي، ويغذي الإدراك العام بشأن كون أردوغان لم يعد قادراً على الإنجاز.

ويعني هذا كله أنه لم يعد بمقدور أردوغان أن يقف مكتوف الأيدي، وهو يشاهد سوريا تجر بلاده إلى حالة من الفوضى العارمة.

ولذلك، من المتوقع أن تقوم أنقرة خلال الأيام القادمة بالضغط على واشنطن من أجل القيام بعمل أكثر حسماً ضد نظام الأسد بما في ذلك إقامة ملاذات محمية من قبل الولايات المتحدة للاجئين في سوريا، واتخاذ إجراءات من شأنها التسريع بإسقاط نظام الأسد في النهاية.

ومن المحتمل أن تكون استجابة واشنطن لهذا الضغط هي الاستمرار في التمسك باستراتيجية الهبوط السلس مع العمل في الآن ذاته على إبطاء وتيرة مقاربة أردوغان.

وعلى رغم خطورة تلك الخلافات، إلا أنه ليس متوقعاً لها أن تمزق علاقة أوباما- أردوغان وهو ما يرجع إلى اعتماد تركيا على الولايات المتحدة في العديد من المجالات إلى الدرجة التي لا تسمح لها بالتفكير في التضحية بعلاقاتها معها بسهولة.

بيد أننا إذا ما أخذنا في الحسبان طبيعة الاختلاف بين سياستي الرجلين بشأن الأزمة السورية، فإننا سندرك أن حدوث عاصفة بينهما أمر يبدو غير ممكن تجنبه- تقريباً.

ينشر بترتيب خاص مع خدمة "واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس"

=================

حلب التي تُقصف لا يمكن أن تُهزم

عمر كوش

المستقبل - الاحد 7 تشرين الأول 2012 - العدد 4482 - نوافذ - صفحة 11

لا يمكن أن تُهزم حلب، مهما تغوّل النظام الحاكم في دمويته، وتمادى في قصفها بالطائرات والدبابات والرشاشات، لأن ناسها وحواريها وأحجارها أقوى من كل الطغاة والقتلة والمستبدين. يشهد على ذلك تاريخ هذه المدينة العظيمة الموغلة في التاريخ والمولدة للحضارة، بناسها وأحجارها.

ولا شك في أن من يقصف حلب، وسواها من المدن والمناطق السورية، ويدمر أحياءها ويقتل بشرها، لا يحب المدينة ولا قيمها، ولا يعير اهتماماً لحياة ناسها، وميراثها الحضاري. يسكنه هاجس الانتقام. ويسير عقله ذلك الجزء من ثقافة ريفية رافضة للمدينة وتقاليدها وثقافتها. فرض نفسه حاكماً على البلد بالقوة العمياء. وراح يتصرّف وكأن له ثأر من ناس المدينة وتراثها وحجارتها. وعلى مدى عقود عديدة، حكمها بالنار والحديد، كما يقال، ونشر ثقافة الخوف والعنف والقتل والدمار. هو كاره للمدينة وناسها، كاره للحضارة والتاريخ.

إنها حلب التي نشأت فيها وترعرعت وتثقفت وعشت. ولعل في حكاية حلب ما يعطي دروساً لكل الطغاة والغزاة، بأن المدينة لن تهزم، ليس بفضل الثائرين فيها فقط، بل لأن حكايتها تعود إلى عصور سحيقة، ممتدة في القدم، فيما هو طارئ، مصيره الزوال والنسيان.

وتبدأ حكاية حلب، حين اختارت جماعة من البشر موقعاً من الأرض سكنى لهم، على مقربة من ضفة نهر، كان يضج بالحيوية والعطاء.

وقتئذ بدأت الحياة تدّب في هذا الموقع، فزرعت الأرض، ونحت أفراد تلك الجماعة من البشر مساكن لهم في الصخور، دُعيت فيما بعد "المغاير". سكنوها طويلاً، وحمتهم من سطوة الغزاة والغزوات، وغادرها بعضهم مع ازدياد عدد الساكنين إلى التلة المجاورة (تلة السودا)، حيث اقتربوا أكثر من النهر القديم (نهر قويق). ثم انتقلوا إلى أمكنة أخرى قريبة من ضفاف النهر. ومع الزمن شكلت جملة مواقعهم مدينة صمدت طويلاً بوجه عواهل الدهر، ودعيت هذه المدينة "حلب". ولا تزال بقايا تلك الكهوف المنحوتة في الصخور الكلسية، تشهد على آثار الاستيطان الأول في المدينة الحالية.

وحين نترك مدخل المدينة الرئيسي، الواصل بينها وبين حماة وحمص ودمشق، ونتجه نحو الشرق، نصل قسمها القديم، كي نتجول في حواري المدينة القديمة وأزقتها وأسواقها، حيث التاريخ والقصص والحكايات. وعلينا أن نمعن النظر في أحجار المباني الأثرية، التي تشكل جزءاً أساسياً من تاريخ طويل وحضارة عريقة، تمتد آلاف السنوات. فحلب من المدن القديمة جداً في العالم، إذ كانت عاصمة العموريين في الفترة ما بين الألف الثالث والألف الأولى قبل الميلاد، وتناوبت عليها، تاريخياً، موجات الغزو العديدة، بدءاً من الحيثيين إلى الميتانيين، ثم الآشوريين والبابليين والفرس واليونانيين والرومان وسواهم.

دخلها المسلمون بقيادة أبي عبيدة عامر بن الجراح عام 636 ميلادي. وخرّبت غزوات الفرس مدينة حلب مرتين في القرن السادس الميلادي. أما اليوم فتقسم المدينة إلى شطرين: المدينة القديمة، والمدينة الحديثة، حيث يفتقد قسمها الحديث روعة وبهاء قسمها القديم. وقد اعتبرت منظمة الـ"يونسكو" حلب القديمة مدينة تاريخية هامة، نظراً لأهميتها التاريخية، ولاحتوائها على تراث إنساني عظيم، يتوجب حمايته.

ويذكر الشيخ محمد طباخ، مؤرخ مدينة حلب، في كتابه "أعلام النبلاء"، أن ابن بطوطة زار حلب، وكان ذلك سنة 731 ميلادي، وقال في وصفها: "هي من أعز البلدان التي لا نظير لها في حسن الوصف وإتقان الترتيب واتساع الأسواق وانتظام بعضها بعضاً". فيما يحدثنا ابن النديم، في كتابه "بغية الطلب"، أن أرسطو، المعلم الأول، استأذن الإسكندر كي يستجم في حلب، وقد بقي فيها أشهراً عدة. كما أقام فيها المعلم الثاني، الفارابي، في رعاية سيف الدولة الحمداني، إلى أن مات فيها. وزار حلب رامبليز الإنكليزي قبل قرنين، وقال: حلب هي لندن الصغيرة. كما زارها الشاعر الفرنسي لامارتين، بعد زلزال 1822، وسماها أثينا الآسيوية.

وأقدم ذكر لمدينة حلب ورد في نصوص "إيبلا" ( تل مرديخ على بعد 60 كم جنوب حلب )، التي تعود إلى الألف الثالث قبل الميلاد. كما ذكرتها نصوص مدينة "ماري" ( تل الحريري قرب مدينة البوكمال )، و"أوغاريت" في الألف الثاني قبل الميلاد. ويتوقع علماء الآثار أن في مدينة حلب مكتبة ضخمة لا تقل محتوياتها عن 20 ألف رقيم مسماري من عصور "إيبلا" و"ماري" و"أوغاريت". وفي حين أن هذه المدن التي مرّ ذكرها اندثرت جميعاً، فإن مدينة حلب بقيت صامدة تقاوم عواصف ونوازل الدهر.

ومن الثابت والأكيد أن الاستيطان البشري لمدينة حلب، تمّ في الألف الخامس قبل الميلاد، ولا أحد يعرف بالضبط معنى ومدلول كلمة "حلب"، لكن بعض الباحثين يرى أن مدلول كلمة حلب، لا يخرج عن كونه مكان التألب والتجمع أو مكان القلب، من منطلق أن حلب كانت تحتل مكان القلب والتجمع بين ممالك "ماري" و"إيبلا" و"كركميش" (جرابلس حالياً) و"مابوغ" و"أوغاريت" و"اراساوكانس" و"أراباد"، وكانت تشكل المركز الديني الأول، أو قبلة المدن الأخرى بمعبودها الشهير الإله "حدد"، إضافة إلى أنها كانت المركز التجاري الأكثر أهمية في ذلك الوقت.

ويمكن القول أن حلب شهدت مولد التاريخ، فلا نكاد نعثر على حضارة قديمة إلا وفي حلب دليلاً يدل عليها، أو غصناً أخضراً يطل علينا من خلف القرون. فهنا قام صرح شامخ، وهنا جامع متفرد في طريقة بنائه ودراسة واجهاته، أو كنيسة رائعة المعمار والزخارف، وهناك سوق ومدرسة و"بيمارستان" وحمام وخان إلخ.

وعلى طول المدينة القديمة، التي تقصف، اليوم، بالطائرات وبمدافع الدبابات، ومن أقصاها إلى أقصاها، يمتد السوق القديم المغطى، أشبه بشرايين تربط أجزاء مركز المدينة، قريبها وبعيدها بوشائج تؤكد القربى، وتصل عضو الجسم بالجسم، حتى لتحس بحلب جسداً ينبع بالحياة. جسداً يضرب جذوره في أعماق الأزل، ويطلق فروعه نحو الشمس. يعانق الفضاء بعطاء هو الضوء والألق. ووجود هذه الديمومة التي يمتد في دمها نسغ الوجود إلى أدق أعصابها، حتى لتحس أنك أمام تجسد مجسّم الوجود البشري بالوجود المعماري. فهي لا تزال عامرة مزدهرة منذ زمن بعيد، بعيد. وهي من المدن القليلة في العالم التي تتجمع فيها كل مدارس تاريخ العمارة وفنونها بتواصل زمني فريد. فقلما وجدت حضارة في العالم القديم لحوض البحر الأبيض المتوسط والشرق عموماً، إلا وفي حلب بعض آثار لها، تدلّ عليها، وتذكر بها، فهي متحف كبير حيّ للحضارات والعمارات والفنون، منذ أن بدأ الفن يتسلق جدران الكهوف، إلى أن ارتقى إلى معارج الحضارة العربية الإسلامية.

وحين نصل إلى سور المدينة القديم، نتذكر اللحظات التي كانت تغلق فيها المدينة ليلاً بوجه الغزاة، بواسطة أبواب السور المحيط بالمدينة القديمة. وهو سور روماني، جدده الأمويون ثم أصلحه العباسيون، ولما تخرّب في حروب الدولة الحمدانية على يد البيزنطيين قام بإصلاحه سيف الدولة.

وفي عهد نور الدين زنكي، في القرن الثاني عشر ميلادي، بُني سور إضافي أمام السور الأول، ثم بنى الأيوبيون عشرين بُرجاً على هذه الأسوار. وقد تهدّم عدد منها في الهجوم المغولي على المدينة، ثم رُممت في عهد المماليك. ويتخلل السور عدة أبواب، أهمها: باب النصر ـ باب أنطاكية ـ باب الفَرَج ـ باب الجِنان ـ باب قُنْسرين ـ باب المقام ـ باب الحديد.

وعندما ندخل المدينة، تتالى الأحياء والأزقة الضيفة: الجديدة، قسطل حرامي، بنقوسا، الجلوم. وعبر الدروب الداخلية، تصل إلى أسواق المدينة، حيث لا زالت حلب تُعرف بأسواقها المتنوعة التي سميت بأسماء الحرف والصناعات التي كانت قائمة في المدينة، وهي أسواق مسقوفة وذات طابع مميز يبلغ طولها مجتمعة نحو اثنتا عشرة كيلو متر.

واهتم ببنائها في بادئ الأمر سيف الدولة، ثم الظاهر غازي بن صلاح الدين وغيره من الأيوبيين. ومن أهم أسواق حلب القديمة: سوق المناديل. السُّوَيقة. سوق اسطنبول. سوق الحرير. سوق الزَّرْب. سوق الحبال، سوق العطارين.

وكانت الخانات في حلب تلعب دور فنادق اليوم. حيث يضم بناء الخانات قاعات بطابقين أو أكثر، وكانت قاعات الطابق الأرضي تخصص للمخازن والدوابّ التي يأتي بها المسافرون، في حين تخصص قاعات الطبقة العليا للسكن. ومن أهم خانات حلب: خان الصابون الواقع في سوق المناديل، وشُيّد في القرن السادس عشر ميلادي، ويمتاز بواجهة مزخرفة رائعة. وخان الوزير الذي يقع قرب المسجد الأموي الكبير، وشيّد في القرن السابع عشر، وهو من أجمل الخانات. وخان الجمرك الذي بني في العهد العثماني، وفيه مسجد و 52 مخزناً و 77 غرفة في الطابق الأول. وخان الشونة، الذي بني في العهد العثماني، ثم أصبح الآن سوقاً للمهن اليدوية. وخان خاير بك، وبني في آخر عهد المماليك في القرن السادس عشر، ويتميز ببابه الجميل والمصنوع من الحديد. وأوج خان (الخانات الثلاثة )، وبني في آخر عهد المماليك أيضاً، ويمتاز بواجهته الرائعة الجمال. ولن يفوتنا بهاء الكنائس والجوامع والمدارس الدينية، وهي تعود إلى عصور تاريخية مختلفة.

أما بيوتات حلب القديمة، فهي تحفة معمارية، حيث تتألف البيوت الحلبية القديمة من قسمين أو ثلاثة: قسم الاستقبال، وقسم للحريم، وقسم للخدم. تمتاز بسقوف خشبية مرتفعة، محلاة بزخارف هندسية ونباتية ملونة، وجدرانها مزودة بخزانات خشبية، ومغطاة بزخارف خشبية، عليها كتابات شعر ونثر وأقوال مأثورة. وبعض الجدران مكسوة بزخارف رخامية متعددة الألوان. والقاعات الواسعة ( الليوانات ) هي أجمل ما في هذه البيوت، حيث ترتفع نحو نصف متر عن أرض البيت. وقد ظهر هذا الفن العمراني التزييني في حقب سحيقة من الزمن، ولا سيما في بيوت السكن الواقعة حالياً في حي "الفرافرة" و"الصليبة" وسواهما. ونجد فيها إحياء للتقاليد الفنية السورية التي تعود إلى القرون الرابع والخامس والسادس الميلادية، ويظهر ذلك بشكل باحات فسيحة جيدة البلاط مع حديقة صغيرة، وبركة تتوسطها نافورات حجرية، وإيوان جميل متجه نحو الشمال، ومحمي من أشعة الشمس، والصالون الكبير المتصالب الذي تعلوه قبة.

كل ذلك يشهد، مع أشياء أخرى في الثورة السورية، على أن حلب أقوى من كل الأنظمة.. ستبقى صامدة، وسيندثر الطغاة والقتلة.

=================

السدود المائية التركية ـ الإيرانية هل تغيّر من طبيعة سوريا والعراق؟

سليمان الشّيخ

المستقبل - الاحد 7 تشرين الأول 2012 - العدد 4482 - نوافذ - صفحة 11

في ظل الضجيج السياسي والإعلامي، والمعارك الشرسة بين الكر والفر، إن كان في سوريا أو العراق أو تركيا، والطوفان الإعلامي بين الحقيقي و"المفبرك" من الأخبار والدسائس وحراك الشعوب ومقاومتها؛ وهي تتعرض للقتل، أو وهي تقتلع من بيوتها وأراضيها وتجبر على تركها، لتهيم بعد ذلك في ديار الغربة والتشرد، ومواجهة مآسي الفاقة والعوز والترحال والمعاناة، وتدبير اللقمة و"الملبس" وأي مساحة توفر القيلولة أو النوم بأمن وأمان لاستمرار أدنى شروط الحياة.

في ظل هذا الضجيج، ما زالت مياه الأنهار التركية والإيرانية تصب حتى الآن، أو أقل القليل منها قي المجاري التي عرفت ذلك منذ آلاف السنين، ولا زالت سلطات المياه فيها تقيم سدودا ومشاريع على الأنهار التي تنبع من اراضيها، أو التي تجري فيها، والتي يتوالى جريانها ربما بأقل ما يمكن من كمياتها وصولا إلى مصباتها الطبيعية في سورية والعراق وتركيا كذلك. وإذا كان إنشاء السدود بغرض التنمية وإرواء الأراضي والناس، وإقامة مشاريع زراعية وصناعية وتوليد الكهرباء .. إلخ ما هو إلاّ حق من حقوق الدول وسيادتها على مياه أنهارها التي تنبع وتسير في أراضيها؛ إلا أن ذلك يجب وحسب القوانين الدولية للمياه، ألا يتم على حساب الدول المشاطئة، أو التي تجري فيها مياه الأنهار، بعد أن تجتاز الحدود الأنهار التعاقبية أو الدولية وتحدد تلك القوانين كميات المياه العابرة للحدود ونوعيتها ومواصفاتها ومواقيت الحاجة وذروتها إلخ. إلا أن الأمر لم يتم يوما ضمن شروط القوانين الدولية، أو من ضمن التزامات الجيرة ومترتبات المساحات والمسافات التي تجري فيها الأنهار في دول الجوار؛ إذ أن الأمر ومنذ عشرينات القرن الماضي، عندما استقل العراق عن الدولة العثمانية التركية، وعندما استقلت سورية في أربعينات القرن الماضي عن الاستعمار الفرنسي، فإن مشكلة مياه دجلة والفرات، استمرت قائمة، في الفيضانات المدمرة في سورية والعراق وفي تركيا وإيران أيضا في المراحل الأولى، ثم في الشح والندرة والحجز وتقليل الكميات أو التلاعب بمواصفاتها، منذ مباشرة بناء بعض السدود منذ سبعينات القرن الماضي في دول المنبع وفي دول المجرى والمصب أيضا.

واستمرت العلاقة بين دول المنبع ودول المجرى والمصب هشة وحذرة، وربما قابلة للوصول إلى تراشقات إعلامية وتهديدات. وكانت معدلات الدفق المائي تنخفض أحيانا إلى مستويات قياسية لا تروي أرضا ولا ناسا ولا تولد كهرباء. كما حصل في عام 1990 عندما حجزت تركيا مياه نهر الفرات كي تعبئ سد أتاتورك أكبر السدود التي بنيت على نهر الفرات، ولمدة شهر كامل، ما أدخل سورية والعراق في أزمة شديدة التعقيد والأذى والضرر.

فورة بناء السدود

كما إن علاقة إيران مع العراق حسب الحكومات القائمة أخذت تشهد المد والجزر إياه بين فترة وأخرى، خصوصا بعد أن لجأت إبران إلى إنشاء عشرات السدود على أنهارها العابرة للحدود، والتي تصب أو كان بعضها يصب في العراق، ومع أن عشرات الاجتماعات الثنائية أو الثلاثية، وعقد المؤتمرات المحلية والدولية أقيمت منذ أربعينات القرن الماضي لحل وحلحلة مشاكل المياه بين الدول المشار إليها، وكانت تصدر توصيات وقرارات وبرتوكولات، وتوضع خطط ومشاريع ما زالت تصدر مع ذلك فإن المشاكل ما زالت تتوالد، وأحيانا تتفاقم، لا سيما في مواسم الشحائح المطرية في بعض السنين. ومع إن الأتراك أعلنوا أنه أصبحت لهم "صفر مشاكل" مع دول الجوار في السنوات القليلة الماضية، بل وأن مشروعا مشتركا بين سورية وتركيا لإقامة سد على نهر العاصي ينبع من لبنان ويسير مسافة 571 كلم ليصب في البحر المتوسط أطلق عليه اسم "سد الصداقة" بوشر في وضع حجر الأساس له بين تركيا وسورية منذ سنتين، وعلى اراض كان مُختلفا على تبعيتها، هي أراضي لواء الاسكندرون حسب الأدبيات السورية منذ أربعينات القرن الماضي، ومحافظة هاتاي حسب الأدبيات التركية. إلا أن ما حصل في سورية في الفترة الأخيرة، أوقف السير قدما في المشروع، وازدادت المشاكل وتفرعت واقتربت من دق طبول الحرب بين البلدين، خصوصا بعد تدفق آلاف اللاجئين السوريين إلى تركيا، وتوفير الأخيرة بيئة حاضنة للمعارضة السورية، إن كانت سياسية أو عسكرية. إلا أن السؤال المسكوت عنه، في ظل هذا الضجيج والضباب : ماذا عن المياه وماذا عن السدود في تركيا وإيران؟ وما مدى تضرر سورية والعراق من إقامة تلك السدود؟ وما هي حجج سلطات المياه التركية والإيرانية في هذا المجال؟

علينا الانتباه إلى أن فورة في بناء السدود قد حدثت وتحدث منذ سبعينات القرن الماضي وحتى ما بعد اليوم؛ إن كان في تركيا أو سورية أو إيران أو العراق، بما فيه الشمال الكردي. كما ويتم التداول في محافظة البصرة لبناء سد فيها، بعد أن تم ملاحظة نقص المياه في بعض أهوارها، على الرغم من أخطار الهزات الأرضية التي قد تنشأ من جراء بناء السدود. ومن يكابر ليذكر بأن المياه وكمياتها ومواصفاتها التي كانت تتدفق في مجاريها المعتادة منذ آلاف السنين، ستكون هي نفسها بعد إنشاء السدود ومحطات الكهرباء ومشاريع إصلاح الأراضي وإرواء الناس وغيرها من مشاريع، إن من يقول ذلك، يكون في وهم كبير ويخدع نفسه خداعا كبيرا؛ إذ أن سد أتاتورك والسدود الأخرى على نهر الفرات تصادر نحو 60 في المئة من مياه النهر وفروعه حسب بعض المصادر - . كما أن مشروع "الغاب" في الجنوب التركي خطط له كي يستوعب 100 مليار متر مكعب من المياه، ما سيحرم العراق على سبيل المثال من ثلث مساحة أراضيه الصالحة للزراعة، فضلا عن تسببه في نقص الحصص المائية التي تؤثر سلبا في مجالات مياه الشرب وتوليد الطاقة والصناعة. كما إن سد "أليسو" التركي على نهر دجلة سيصادر 50 في المئة من مياه النهر في حال الانتهاء من إنشائه في العام 2014. وذكرت مصادر أخرى أن سد "أليسو" سيستكمل ببناء سد "جزرة" ما يؤدي إلى تحويل أغلب كميات المياه من نهر دجلة إلى الأراضي التركية قبل عبورها الحدود التركية العراقية.

وتضيف المصادر أن كميات المياه الشحيحة عندها التي ستصل حينها إلى العراق ستكون على درجة ملوحة عالية التركيز. الغريب أنه وفي الوقت الذي كانت تركيا تعلن أن لديها "صفر مشاكل" مع جيرانها ومحيطها، وفي الوقت الذي كانت فيه حرارة الصيف قد تجاوزت الأربعين درجة في سورية والعراق، وعندما صودف وجود رئيس الوزراء التركي أردوغان في زيارة للعراق، كانت كميات الدفق المائي تتدنى إلى 230 مترا مكعبا في الثانية، علما إنه يحتاج إلى 700 متر مكعب في الثانية لتغطية احتياجاته. وعندما عرض الأمر على رئيس الوزراء التركي أثناء الزيارة، أمر بزيادة كميات الدفق المائي إلى الضعف، إلا أن الأمور عادت إلى مستواها المتدني بعد ذلك.

عابرة للحدود أم دولية؟

فما هي حجة سلطات المياه التركية، ومن ثم الإيرانية في التحكم بدفق كميات المياه إلى جيرانها، إن كان في الزيادة أو خصوصا في الحجز والنقصان؟ ذكر الرئيس التركي الأسبق سليمان ديميريل أنه "إذا كانت الثروة الطبيعية في بلدنا، فلنا الحق في استعمالها بالطريقة التي نراها مناسبة، إن المياه تنبع في تركيا ولا يمكن لدول المجرى الأدنى أن تعلمنا كيفية استعمال ثرواتنا. هناك منابع نفط في كثير من البلدان العربية، ونحن لا نتدخل في كيفية استعمالها". ويفصّل الدكتور صبحي العادلي في كتابه "النهر الدولي المفهوم والواقع في بعض أنهار المشرق العربي" الصادر في العام 2007 عن مركز دراسات الوحدة العربية، يفصّل في نقل وجهة النظر التركية في هذا الأمر، فيذكر" أن وجهة النظر التركية تعتبر مياه نهري دجلة والفرات عابرة للحدود، فلا تنطبق عليهما تعريفات الأنهار الدولية، وبذلك فإن مياه النهرين خاضعة حصرا للسيادة التركية إلى حين وصولها إلى الحدود، وتعتبر تركيا أن النهر الدولي هو النهر الذي يرسم حدودا بين دولتين متشاطئتين، وبالتالي بحسب هذا الرأي لا يصبح نهر الفرات نهرا دوليا، إلا حين ينضم إلى دجلة في الأراضي العراقية، ليشكل شط العرب الذي يحدد الحدود العراقية الإيرانية". إلا أن الباحث العادلي يورد وجهة نظر لجنة القانون الدولي التابعة للأمم المتحدة، حيث ذكرت في تقرير لها أنه "في ما يتعلق بالاقتراح الداعي إلى استخدام مصطلح المياه العابرة للحدود، بسبب استخدامه في اتفاقية معقودة أخيرا، فتلك مسألة صياغة، ولا يوجد اختلاف جوهري بينه وبين المجرى المائي الدولي، ولا يترتب على استعمال هذا التعبيرأو ذاك أية آثار قانونية".

إلا ان الأمور في النهاية لا تخضع إلى حجج قانونية مقابل أخرى، بل يحكمها في أغلب الاحيان تغليب المصالح الذاتية وقوة الأمر الواقع؛ وذلك بحجة أن منابع الأنهار لدينا. هكذا يمكن تلخيص مشكلة المياه بين تركيا وإيران من جهة ، وسورية والعراق من جهة أخرى. أما بالنسبة إلى المياه التي تنبع من إيران، فإن الدكتور العادلي ذكر في كتابه سابق الذكر: "وبالنسبة إلى إيران، فقد لجأت إلى تحويل أغلب الروافد المائية التي تغذي نهر دجلة في الأراضي العراقية نحو أراضيها نهر قارون ونهر الوند وغيرهما ما خفض المياه المتدفقة باتجاه الأراضي العراقية وأساء إلى نوعية المياه التي ما زالت متدفقة".

هذا ويمكن الإشارة إلى أن تركيا باشرت ببناء سد ضخم على نهر دجلة منذ العام 2007، يبعد عن الحدود العراقية نحو 50 كيلومترا، أطلق عليه اسم "أليسو" وتأمل سلطات المياه التركية الانتهاء من إنشائه في العام 2014، وهو من ضمن عشرات السدود الضخمة التي بنتها وتبنيها تركيا في جنوبها، وبالرغم من معارضة سكان الجنوب التركي، خصوصا في منطقة "حصن الكهف" أو "حسان كييف" حسب التسمية التركية، وترتيبهم القيام بمظاهرات عارمة ضد إنشاء المشروع في منطقتهم، ورفع شكاوي وعرائض إلى المنظمات الدولية ضده، كونه سيزيل "متحفا طبيعيا" من الآثار المنقورة في الصخور، وحصنا تاريخيا لعب دورا مهما في ردع ومقاومة غزوات عدة منذ مئات السنين، وهو يقع على تلة مهمة مرتفعة من تلال المنطقة التي يحاذيها النهر في جريانه الدفاق. مع ذلك فإن سلطات المياه التركية لم تأبه لا بالمظاهرات المحلية، ولا للمناشدات الدولية في الإبقاء على الحصن أو تغيير مكان بناء السد.

إن السوريين والعراقيين مقبلون على مواجهة أزمة وجود وحياة، في حال إتمام إنشاء السدود التركية والإيرانية، فما الذي تملكه السلطات الرسمية السورية والعراقية في ظل المواجهات القائمة فيهما من خطط وإجراءات لتفادي الأخطار الداهمة التي قد تؤدي إلى تصحير مناطق واسعة في البلدين؟

إن اللجوء إلى المحاكم والجهات الدولية المختصة بالمياه، وعرض المشكلة الحياتية عليها، هي إحدى وسائل الدفاع عن النفس والوجود والمستقبل، هذا بعد استنفاد كل وسائل الحث والاتصال والمناشدة وإجراء المباحثات والمطالبات مع الجهات المختصة في تركيا وإيران. كما إن تفعيل لغة المصالح في هذا المجال هي من وسائل الدفاع والضغط التي قد تؤثر في مجريات هذه المشكلة الداهمة، والكارثة التي تتدفق كتدفق مياه الأمطار والأنهار في بعض الأحيان.

إن العام 2040 أو في أحسن الأحوال في العام 2050، هما التقديران اللذان يضعهما بعض الخبراء في ما يمكن لتغلغل المآسي المائية في الحياة السورية والعراقية من الوصول بها إلى كوارث محققة في البلدين. فهل تفعيل لغة المصالح المشتركة، يمكن لها أن تعطل بعض السير الحتمي نحو كوارث يمكن أن تحمل صفة الحتم والتحقق؟

=================

ثورة استعادة الوطنية السورية

ماجد الشّيخ

المستقبل - الاحد 7 تشرين الأول 2012 - العدد 4482 - نوافذ - صفحة 11

في ظل ما جرى ويجري، في الآونة الأخيرة، من اختراق لمناعات النظام السوري، إلى حد تدمير بعض حصونه، ينتقل الصراع على سوريا، وليس على العاصمة أو بعض المحافظات فقط، الى حال رحلة الحرب الطويلة؛ حرب السلطة والنظام على المجتمع والشعب السوريان، حرب النظام وحلفائه الإقليميين على كل من ناصر ويناصر انتفاض الشعب وثورة الوطنية السورية، ووضعهم الجميع "كآخرين" في سلة واحدة، كمتآمرين أو متأمركين متغربين، من دون تدقيق في ما يقال أو يطرح من مفاهيم غريبة، من لدن أنصار المتحالفين أو الداعمين والمساندين للنظام، أو من صنف أولئك الذين يصفون أنفسهم بأنهم من "قومويي" أو "إسلامويي" من يطلقون عليها تسمية "الأمة"، فيما هم إلى جبهة الفتنة في الدواخل العربية أقرب، لا سيما وهم يلجّون حربا تتعدد جبهاتها وتتنوع، جاعلين من أنفسهم وذواتهم "أصحاب الحق" ومن كل الآخرين "أصحاب الباطل"؛ مع ما في هذه "القسمة الضيزى" من تجن وكذب ورياء ومصالح متمذهبة، عمادها تطييف الصراع، ونقل قضايا "الممانعة" و"المقاومة" إلى حقول صراعات ومناكفات داخلية، بدل اقتصارهما على الحقل الخارجي، حيث العدو الموصوف وحده في واجهة الصراع لم يعد يجد من ينازله.

لقد فتح الصراع على سوريا العديد من أبواب وجبهات كانت مغلقة، حتى على الصعيد الدولي، حيث الحرب الباردة التي "استكانت" ما يقرب من عقدين، تعود لتندلع مرة جديدة، بشروط أخرى مختلفة وبقوى مختلفة كذلك، حاصدة معها العديد من رؤوس الأفكار والنظريات والمبادئ التي قامت عليها الحرب القديمة. مستبدلة ما كان من تلك الرؤى القديمة، بما يكون من رؤى مختلفة عن عالم مختلف، حيث الاستبداد السياسي والديني، يتسيّد اليوم مشهدا من أغرب المشاهد التي يراد لثورات وانتفاضات شعوبنا العربية أن تؤول إليه في الأخير، كاستبدال نظام طغياني استبدادي، بآخر ذا مسحة دينية، يفتح الأبواب واسعة أمام حروب طويلة متلونة: أهلية و/أو طائفية و/أو مذهبية وسياسية/اجتماعية.. إلخ من أشكال الحروب التي تبتدعها اليوم قوى التطرف والمغالاة من أصحاب الفتن الدينية المكررة والمخترعة على حد سواء.

إن نقلة نوعية تنشأ اليوم في عالم الصراعات السياسية والمجتمعية، حوّلت معها أحد أطراف العملية الصراعية، وكأنه مساقا أو "مسيّرا" بقدرة "ربانية"، فيما الطرف الآخر وكأنه أيضا مساقا و"مخيرا" بقدرة أخرى من ذات الطبيعة، في إحلال لقدرات من التكاذب السياسي تفوق قدرة العقل البسيط على الفرز بين أطروحات متضادة في تزعم الحق وجبهته، في مواجهة الباطل ورهطه وأشياعه ومناصريه. لكن العقلانية الراشدة ترفض هذا المنطق البسيط الذي يريد وعلى طريقة أصحاب الفسطاطين، إقناعنا بالاصطفاف خلف هذا الفسطاط، أو ذاك الآخر الذي يعمد جاهدا لاحتسابنا على فسطاطه، في محاولة لمصادرة مبادئ وأخلاقيات في العمل السياسي لا يسعها إلاّ أن تكون مبدئية. وهي لذلك ترفض إلاّ أن تسمي الأشياء بأسمائها الحقيقية؛ حيث الانتفاض والثورة الشعبية في سوريا هي الانعكاس الأعمق للوطنية السورية التي صادرها ويصادرها النظام منذ استيلائه على السلطة، وتحويله الدولة إلى "مجال خاص" تتوارثه قوة أو قوى غاشمة انفصلت عن الشعب والمجتمع، وعبثت بالوطنية حتى حوّلتها إلى نقيض وطنية المجتمع والشعب السوريان؛ وعلى هذا ينشأ الصراع ويحتدم اليوم؛ من أجل استعادة الدولة إلى "مجالها العام" الذي حرم الشعب السوري من وجودها منذ أوائل ستينيات القرن الماضي.

لهذا ليس من الغرابة، أن يتواصل الصراع على سوريا الدولة، أو يستغرق مثل هذا الزمن، فالمسألة السورية أعمق من رؤيتها كصراع على السلطة بين طرفين محددين؛ إنها صراع من أجل تثبيت وطنية سورية مصادرة، لم يعد يمثلها النظام منذ أن فقد شرعيته بمصادرة الدولة ذاتها، واحتسابها من الأملاك أو الأسلاب الخاصة. لذلك سوف يأخذ الصراع سمات الحرب الطويلة التي قد ترتدي أردية عديدة؛ ولكنها في النهاية سوف تستقر عند حدود استعادة المجتمع في سوريا لوطنيته المصادرة، ولدولته التي اغتربت طويلا.

وهكذا في ظل "تطابق" استراتيجيتي النظام وقوى المعارضة، لجهة محاولة كل طرف الاحتفاظ بطرائق وأساليب حرب تحقق لكل منهما أهدافه ومآلاتها النهائية، يبدو أن تكتيكات الحرب الطويلة هي الخيار الوحيد الذي في ظله سيكون هناك قضم وهضم للسلطة، تفكيك وإعادة تفكيك للنظام, كر وفر، انتصارات وانكسارات مؤقتة، وتحولات محلية وإقليمية ودولية، ليست هي الموجه الأول لما يجري، أو لما سيأتي من تطورات لاحقة، بقدر ما هي في محصلة تداعياتها، سوف تحدد ولو بعد حين، إطارات نهائية لصراع محلي/إقليمي مركب، يمتزج بوضع دولي، أكثر تعقيدا مما نُظر ويُنظر إليه حتى اللحظة.

=================

مخاطر التقسيم الطائفي في سوريا

المستقبل - الاحد 7 تشرين الأول 2012 - العدد 4482 - نوافذ - صفحة 9

هل سنشهد، في المدى البعيد أو المتوسط قيام دولة علوية في سوريا؟ ففيما سوريا تغرق تدريجياً في حرب بات علينا أن نصفها بالأهلية، فان هذا السؤال يطرح نفسه وسط العائلات العلوية، التي بدأت بالإنسحاب الى "الأرض العلوية".

تاريخياً، تمتد هذه الأرض قليلا نحو الحدود اللبنانية والتركية، وهي تضم بعض مدن الساحل، مثل اللاذقية وبانياس وطرطوس، فضلا عن الجبل "العلوي" الذي يحمل اسم الطائفة.

فابريس بالانش، رئيسة قسم الدراسات حول المتوسط، تقول: "تجري الآن عملية انشاء هذه الأرض. في بعض المناطق مثل دمشق وضواحيها، حيث يعيش بين ستمئة الف وتسعة مئة الف علوي، يترك العلويون مناطقهم وأحيائهم ويلجأون إلى هذا الجبل. النساء والاطفال هم الأكثر عددا من بين هؤلاء الراحلين، وذلك لأسباب أمنية. فيما الرجال يبقون في مكانهم، حفاظاً على أعمالهم ووظائفهم. أحيانا العائلة بأسرها تهاجر الى الجبل".

رسمياً، فان سيناريو كهذا ليس على جدول الأعمال. اذا كان للأرض العلوية أن تأخذ طريقها إلى الحياة، فان ذلك لن يكون قبل هزيمة بشار الأسد؛ فهي خشبة خلاصه. تتابع فابريس بالانش بهذا الخصوص: "يمكننا الاعتقاد بأنه بعد سنوات من الحرب الأهلية الدموية، ان تتحول هذه الفكرة الى واقع؛ بأن يتصالح السنة المعارضون مع السنة الموالين للنظام على حساب العلويين".

ولكن بالنسبة إلى وليد جنبلاط، الزعيم الدرزي العالم ببواطن النظام السوري، فان هذا الاخير بدأ بتنفيذ هذا المشروع. وهو يرى بأن تدمير كل المدن السنية يأتي في هذا السياق. ويتابع، بأن مآل هذا المشروع هو إنشاء "ممر استراتيجي" يمتد من ميناء طرطوس وحتى سهل البقاع اللبناني، حيث تعيش غالبية شيعية يسيطر عليها حزب الله، أحد أفضل حلفاء دمشق. من هنا أهمية حمص، ثالث المدن السورية، وثلثيّ سكانها من السنة، والتي يمكن، لو اعفيت من الدمار، ان تسد الطريق على تحقيق هذا المشروع. والزعيم الدرزي يجد في هذه الحيثية بالذات السبب الذي يقف خلف شراسة انقضاض الجيش السوري النظامي على المدينة.

تعود فكرة انشاء دولة علوية الى زمن الانتداب الفرنسي (1920-1946). وقتها كانت باريس تتصدّى للمعارضة القومية العربية، فجاءتها فكرة تقسيم سوريا والمراهنة على العلويين بأن تجد لهم "أرضا". في شباط 1933 عقد مؤتمر علوي يطالب بتقسيم سوريا. ومن بين الـ 79 توقيعاً مذيلا للرسالة الموجهة الى سلطات الانتداب، كان اسم جد بشار الأسد. ولكن في نهاية المطاف، انضم زعماء علويون آخرون للقوميين، فوقفوا مع وحدة سوريا وبعضهم حمل السلاح ضد فرنسا.

يبقى أن قابلية هذه الدولة للحياة ليست بديهية. قد يسهّل نشأتها واستمرارها اكتشاف الغاز في البحر، على حدود المياه الاقليمية التركية، وقد تكون كميات الغاز فيه مهمة. ومن المؤكد من جهة أخرى ان انشاء هذه الدولة سوف يعني نهاية بشار الأسد. خطار أبو دياب، أستاذ العلوم السياسية، يقول بهذا الصدد: " بذلك سوف يخسر بشار احتكار تمثيله للعلويين. والده حافظ الأسد كان قد الغى كل زعماء القبائل، واستبدلهم بضباط سنة. مع الوقت، قد يعود هؤلاء الزعماء، او قد يعود أحفادهم".

فابريس بالانش من جهتها ترى بأن كل العائلات العلوية تحلم بأن يسقط بشار وتأخذ مكانه. وليبقى بشار في السلطة، عليه الحصول على موافقة موسكو وطهران بصفته ضامن الريع الاستراتيجي الذي سوف تحصلان عليه لو انشئت هذه الدولة". إذ انه يصعب تصور قيام كيان علوي من دون الدعم القوي لروسيا وإيران: "الروس من اجل حماية قاعدتهم في طرطوس، والايرانيين الذين يحتاجون الى موطىء قدم في البحر المتوسط، فهم يعلمون بأن الضربة المقبلة سوف توجه لحزب الله. لذلك هم يحتاجون إلى قاعدة خلفية".

أضف الى كل ذلك، السنّة الذين يعيشون في الأراضي العلوية، خصوصاً في اللاذقية، حيث يشكلون الأكثرية. في حمص بدأ تطهير الأحياء، والعديد من العائلات السنية غادرت المدينة. فهل يكون هناك تبادل بين حمص واللاذقية؟

 [جان بيار بيرين

عن "ليبراسيون" (30 ايلول 2012)

=================

أكاذيب النظام التي تحققت وبات عاجزاً عن السيطرة عليها

بكر صدقي

المستقبل - الاحد 7 تشرين الأول 2012 - العدد 4482 - نوافذ - صفحة 9

يلقي طيران النظام، في الآونة الأخيرة، إضافة إلى الصواريخ والقنابل وبراميل الـTNT، بمنشوراتٍ ورقية تخاطب مقاتلي الجيش الحر بـ"لغة العقل": "لقد تم توريطك بمواجهة الدولة. ألق بسلاحك واستسلم لها. فلا حامٍ لك غيرها". وتقوم شركتا التليفون الخليوي بإرسال رسائل نصية إلى مشتركيهما بالمضمون نفسه، إضافة إلى التليفزيون المكرس لحرب النظام الإعلامية على سوريا.

واصطنع النظام مسرحية غير متقنة في مؤتمر عقدته ما يسميها بـ"المعارضة الشريفة"، التي يحتل بعض رموزها مقاعد وزارية في حكومته، كالشيوعي قدري جميل والقومي السوري علي حيدر. فقد "فوجئ" المؤتمرون بأشخاص يرتدون ثياب جيش النظام، يدخلون عليهم قاعة ائتمارهم بصفة "ضيوف" ما لبث بعضهم أن أمسك بالميكروفون ليعلن أمام كاميرات التلفزيون عن ندمه على مواجهته لـ"الدولة"، وإلقائه السلاح وانضمامه إلى "جيش الوطن"، بعدما اكتشف أنه كان ضحية مؤامرة على الدولة والوطن.

إلى ذلك شنت أجهزة المخابرات، في الأسابيع الأخيرة، حملة تجنيد قسرية للرجال بين 18-40 عاماً، فقامت حواجزها ودورياتها بالإمساك بالناس في الشوارع، ثم ترحيلهم إلى مراكزها لتجنيدهم قسراً. وقامت الأجهزة نفسها بتوزيع السلاح على بعض الشبان من الأقليات الدينية بصفتهم "لجاناً شعبية" لحماية أحيائهم في المدن ممن تصفهم بالعصابات الإرهابية المسلحة، أي الجيش الحر.

يشير مجموع هذه التطورات إلى ورطة يزداد النظام غرقاً فيها كل يوم، تجلت في عجزه عن حسم المعركة عسكرياً لصالحه، وفي تفاقم الخسائر البشرية والمادية في صفوف قواته المسلحة، وفي انهيار معنويات هذه القوات ومعنويات قاعدته الاجتماعية التي تزداد ضيقاً باطراد. فهذا النظام البوليسي الذي تمرس في قمع الأطر التنظيمية للمعارضة السلمية طوال نصف قرن من حكم سوريا بالحديد والنار، وفي قمع المجموعات الإخوانية المسلحة التي تمردت عليه في مطلع الثمانينات، وفي إدارة وتوجيه المجموعات السلفية الجهادية منذ احتلال العراق، وفي الضربات الاستباقية لأي محاولة انقلابية داخل الجيش... فوجئ بالثورة الشعبية السلمية التي انطلقت شرارتها من مدينة درعا، منتصف آذار 2011، ثم عمت جميع أنحاء البلاد في شكل تظاهرات سلمية وكتابات على الجدران وأغنيات ثورية وإعلاماً بديلاً وغيرها من الأنشطة السلمية.

لم تقتصر الغاية من مواجهة التظاهرات السلمية بالرصاص والاعتقال والتعذيب الوحشي وانتهاك حرمات البيوت ونهب وتخريب الممتلكات، على ترويع الناس وإعادتهم إلى بيت الطاعة مجدداً بعدما كسروا حاجز الخوف، بل كذلك لدفعهم إلى التسلح دفاعاً عن النفس. فقد اتهم النظام المتظاهرين، منذ البداية، بأنهم مسلحون حين كان سلاحهم الوحيد الهتاف وقوة الإرادة الجماعية، ظناً منه أن من شأن حملهم السلاح أن يسهِّل قمعهم. فهو متمرس - كما قلنا - في مواجهة المجموعات المسلحة.

كان على النظام أن يخترع رواية كاملة عما يحدث، قائمة على الكذب والتضليل، ليبرر عنفه المنفلت في مواجهة الثورة السلمية. وهو ما فعله منذ الأسبوع الأول لهذه الثورة حين اتهمها باستخدام السلاح والسلفية والطائفية والعمالة لصالح مؤامرات خارجية. وكي يسوِّق روايته هذه على أنها الحقيقة الوحيدة، كان عليه أن يمنع وسائل الإعلام المستقلة من تغطية ما يحدث، وهو ما فعله طوال الوقت، وقتل كل الإعلاميين الذين تمكن منهم، محليين هواة أو أجانب محترفين.

اليوم، والثورة دخلت شهرها التاسع عشر، وتجاوز عدد شهدائها الثلاثين ألفاً، نرى أن النبوءة الأولى المشؤومة، أي السلاح، أصبحت حقيقةً واقعة يصارعها النظام بيأس وقد التف حبل أكاذيبه حول عنقه. النهج الذي اتبعه النظام منذ اللحظة الأولى في مواجهة الثورة، وقام على استبعاد المعالجة السياسية لصالح العنف المحض وتوريط الجيش في الصراع الداخلي، دفع بالثورة إلى حمل السلاح بصورة متدرجة. ما بدأ بعشرات الجنود المنشقين تحول اليوم إلى تشكيلات مسلحة تجاوز مجموع أفرادها المئة ألف، موزعين على امتداد البلاد. وأصبحت الأرض بمعظمها تحت سيطرة الثورة، فواجهها النظام بالقصف المدفعي والجوي المتواصل الذي لا يمكِّنه من تحقيق أي مكاسب، ويعبر عن فقدان سيطرته على الأرض.

غير أن حساسية النظام من الأنشطة السلمية للثورة، ما زالت أقوى بالقياس إلى الثورة بجناحها المسلح. فعلى رغم انحسارها النسبي، ما زالت التظاهرات السلمية تخرج في مختلف أنحاء البلاد، وما زال النظام يواجهها بالقمع الوحشي نفسه حيثما استطاع، أي في الأماكن القليلة التي ما زالت تحت سيطرته. ويواصل النظام قمع أي نشاط سياسي أو ثقافي سلمي حيثما أتيح له ذلك. من ذلك مثلاً اعتقاله لعبد العزيز الخير القيادي في هيئة التنسيق المعارضة واثنين من رفاقه، قبل يومين من انعقاد "مؤتمر الإنقاذ الوطني" الذي دعت إليه الهيئة المذكورة وقوى معارضة أخرى يجمعها "الاعتدال"، في العاصمة دمشق بحماية حلفاء النظام الدوليين: روسيا والصين وإيران.

فعلى الرغم من ادعائه بأنه إنما يواجه "عصابات إرهابية مسلحة"، ما زال يقمع بشدة أي نشاط ثوري سلمي وأي عمل سياسي معارض، حتى لو كان "معتدلاً" و"إصلاحياً" في معارضته، وحتى لو كان بمباركة حلفائه الدوليين.

روسيا والصين وحتى إيران، يدعمون نظام الأسد في حربه على سوريا، وفي ظنهم أنه يريد بهذه الحرب أن يحقق نصراً سياسياً. في حين أن النظام فقد الأمل تماماً من تحقيق حتى النصر العسكري، وما يفعله بسوريا لا يعدو كونه انتقاماً خسيساً من شعب وبلد خسرهما إلى الأبد.

=================

ثقافة المجازر في سوريا:

ألبومات للموتى

روزا ياسين حسن

المستقبل - الاحد 7 تشرين الأول 2012 - العدد 4482 - نوافذ - صفحة 9

في الثالث عشر من شهر آب 2012 وقعت مجزرة أخرى بحقّ مدنيين في ريف دمشق. اصطفت رقماً متسلسلاً في قائمة متطاولة تكاد لا تعرف الختام، ككابوس ممتد. فأمام حاجز لقوات النظام السوري، على الطريق الواصل إلى مدينة "جديدة عرطوز"، قُتل تسعة شبان يستقلون الحافلة التي تأخذهم باتجاه دمشق. أجبروا على النزول من الحافلة، وقُتلوا على مرأى من الناس بسبب هوياتهم الشخصية التي تحمل أسماء عائلاتهم كنبوءة للنهاية. ثم أُخذت جثثهم من أمام الحاجز، وتم رميها كنفايات عند مدخل مدينة "جديدة عرطوز"، تحت قوس البداية تماماً!! كان منهم ثلاثة شبان من المدينة نفسها، والباقون من المناطق المجاورة مثل "جديدة الفضل" و"المعضمية" وغيرهما.

شهداء "جديدة عرطوز" دفنوا على الفور. البقية ممن لم يستطع أحد التعرّف إليهم، أو لم يقدر ذووهم على القدوم لأخذهم، بسبب من انقطاع الطرق والاتصالات، فقد التقط لهم أحد شباب "جديدة عرطوز" صوراً بكاميرا هاتفه المحمول، واحتفظ بالصور لديه في ألبوم خاص، أسماه: "ألبوم شهداء القوس"، نسبة إلى مدخل المدينة كقوس حجري، قبل أن تُدفن الجثث المرشّحة للتحلّل، بسبب انقطاع الكهرباء والحرّ الشديد، على عجل.

إلى الهاتف المحمول لذلك الشاب راح أهالي المفقودين يتوافدون. يدلّهم كل من يُسأل، فقد أضحت الحادثة معروفة للصغير والكبير. كل من اختفى ابنه يأتي ليلقي نظرات على صور القتلى: شهداء القوس. والشاب يعرض الصور بشكل تلقائي كأنه يقوم، مخلصاً، بوظيفته في أرشيف وزارة. لمن تعذّر عليه التدقيق في صور القتلى كان الشاب يساعده في تذكر لون ملابسهم أو أحذيتهم أو ساعاتهم أو علامات أخرى. في إحدى المرات لم تعرف أم أحد الشهداء، القادمة من "جديدة الفضل"، ابنها.

ـ "يبدو وجه الموتى غريباً حتى عن أحبابهم!!".

علّق الشاب. لكنه عرف ابنها القتيل من فوره حين ألقى نظرة على صورته حياً، صورة مخبّأة في صدر أمه بين طيات ملابسها، وبمقارنة سريعة تأكد بأنه ابنها المفقود، هو ذاك القتيل الذي تهشّم نصف وجهه برصاصة قريبة، وكان يرتدي بنطال جينز وتي شيرت بلون السماء.

مثل هذه الحالة ستصادفها كثيراً في سوريا اليوم، بتمظهرات مختلفة وتفاصيل متباينة. ربما هي محاولات للوقوف في وجه النسيان! أن نوثّق الموت كأنه جزء رئيسي من حياتنا، نحفره في ذاكرتنا، أو في أي ذاكرة بديلة كذاكرة هاتف محمول!! لكن هذه الذاكرة المقيمة ضد النسيان، الذي نخشاه، تتحوّل إلى ذاكرة معتادة مع الزمن، كمن يعلّق صورة متوفى في غرفته فيتآلف مع وجودها، ويتحوّل المتوفّى ليغدو صورته. اعتياد الموت يجعلنا نتحوّل إلى موتى أحياء.

في سوريا اليوم، ينتشل شباب المناطق المقصوفة الجثث يومياً كمن يحمل أكياس قمح. بالحماسة ذاتها والاعتياد ذاته. هذا لا يعني أن الألم انتفى، أبداً، ولكنه أضحى ألماً معتاداً، نتعايش معه. يرتكسون تجاه العثور على المجازر كإرتكاساتهم تجاه الهول اليومي الذي يعيشونه: اعتياد. قبل مدة ليست بطويلة التقيت بشاب من مدينة داريا، وهي مدينة في ريف دمشق، حدّثني عن برّاد كبير لنقل الفواكه والخضار وجدوه بجانب الفرن الآلي في المدينة، كان متروكاً إلى جانب الطريق كهدية من الشيطان بعد المجزرة الفظيعة التي حدثت هناك بين 20 و27 آب المنصرم. كان لهفاً وهو يحدثني عن اكتشاف ما فيه: "34 جثة، منها 28 جثة لرجال و3 نساء و3 أطفال، منهم طفلة بدون ساق ورضيع عمره أشهر وطفل لا يتجاوز عمره 11 سنة من مختلف أنحاء داريا". ثم أردف بنبرة تجمع الاعتداد بالألم والخوف:

ـ "كنت ممن حمل جثثهم ونقلها.. وانظري هذا هو الفيديو..".

وحالما أنهيت مشاهدة الفيديو نقلني إلى فيديو آخر يُظهر جثثاً مصطفة بجانب بعضها البعض يكاد لا يظهر آخرها، ورجل يحمل خرطوم مياه ويغسل الدماء وآثار الحرق وتراكم الموت عنها.

ـ "لم يعد ثمة متسع من الوقت لنغسل كل جثة على حدة، صرنا نغسلهم مجتمعين.. تعرفين 750 شهيداً في داريا خلال أسبوع.. رقم مهول".

ولدهشتي فقد شاهدت الفيديوهات كلها وأنا متماسكة. كما شاهدت فيديوهات لمقتل عواينية وشبيحة في الحجر الأسود بالتماسك ذاته، ولم أخفِ ارتياحي. إذاً من حيث أراد النظام أن يقمع الثورة بالعنف الشديد، راحت الثورة تنتج عنفها المضاد، وهذا أمر متوقع. وهذا العنف تبدى بالدرجة الأولى في دواخلنا نحن السوريين: اعتياد المجازر، ودخول الموت في تفاصيل الحياة اليومية كثقافة متراكمة. فهذا الشاب الديراني كان يدرس في الجامعة حين بدأت الثورة، ولأنه لم يحمل السلاح، ككثير من ثوار داريا السلميين، تحوّل مع الوقت إلى منتشل جثث، وموثّق للقتلى والمجازر وذاكرة الفظاعة في المنطقة. كان يُري الفيديو ذاك لكل قادم. ويحرص على نشر كل ما يصوّره، ورفاقه، على المواقع الالكترونية. في النهاية أبدى حزنه وانزعاجه لأن ذاك الحساب الإلكتروني تم حظره من إدارة الفيسبوك بسبب ما نشره عن جثث محروقة مشوّهة في داريا!!

هل هي محاولات لاواعية للتكيّف مع موتنا اليومي!! أم محاولات للاستمرار وسط الجحيم! أم هي بوادر لتبلّد إحساسنا بالموت كما حصل مع أوروبيي الحرب العالمية، وهم يرمقون الجثث المشلوحة في الشوارع ويكملون طريقهم. وربما كانت محاولات للبقاء على قيد الفاعلية بالنسبة إلى مدنيي الثورة، فالتصالح مع الموت، وتقديم ما يمكننا له، جزء من طقوس العمل في ثورة سوريا التي تدفع كل يوم مئات المدنيين كقرابين.

قبل شهور قليلة حصلت حادثة لا أعتقد أن من السهل نسيانها، فقد قُتل شاب من مدينة سقبا في مدينة جرمانا، وهما مدينتان في ريف دمشق، رداً على قتل أحد رجال اللجان الشعبية هناك بيد رجل من سقبا (حسب الرواية المتداولة). ووسط سعار العنف الذي يسود ألقى بعض المجرمين القبض على شاب سقباوي، لا علاقة له بالجريمة ألّلهم إلا أنه من بلد القاتل، وتم قتله في الساحة الرئيسية في مدينة جرمانا. درزت بطنه بالطلقات واندلقت أحشاؤه على الإسفلت أمام المارة. وكان للحادثة وقع الصاعقة في مدينة مازالت بمنأى، نوعاً ما، عن أعمال العنف الشديدة من قبل النظام، قبل أن تبدأ سلسلة التفجيرات المتتالية فيها.

تلك الجريمة التي حصلت تحت الشمس، على مسمع ومرأى رجال الأمن، ليست بيت القصيد هنا، بل بيت القصيد هو أن الفيديو المصوّر عن الجريمة، بحذافيرها، انتشر خلال ساعات في عموم المدينة، وانتقل من ثم إلى خارجها. وبقي الناس أياماً قادمة يقدّمون الفيديو للزائر مع القهوة، ويتساءلون بعد إلقاء السلام إن كان قد رأى الفيديو! فإن كان جوابه النفي يقحمون الهاتف الخليوي في وجهه ليراه مرفقاً بنظرة يشوبها الفخر.

هل هو نوع من معرفة المعلومة وسط غياب لمصداقية الخبر ما جعل أهل جرمانا يفعلون ذلك، وضياع بين إعلام السلطة وإعلام معارضة؟! أو هو نوع من توثيق للحقيقة لن توثق إلا بفيديوهات تتحرّك فوق أجساد يحتلها الموت؟!

إنه حال خطير ينبغي أن نفكر فيه بجدية. هل تصالح السوريون مع الموت، اعتادوه وأصبح جزءاً من حياتهم اليومية. هل أضحى العنف تفصيلاً طبيعياً من تفاصيل حياتنا؟! لا نستهجنه، لا نشمئز منه، ونسوّغه في بعض الأحيان، وكأن النظام السوري استطاع أن ينقل لنا جزءاً من عنفه الشرس الذي يطبقه منذ سنة ونصف على أرواحنا.. هل كل هذا ما جعل ابني يأتي إلى البيت يوماً وهو يحمل مجموعة من فوارغ الرصاص التي راح ورفاقه يلعبون بها بدل الدحاحل. كان قادماً وفي وجهه فخر مضمر لأنه استطاع أن يربح كمية إضافية من فوارغ الرصاص الجديدة!! أما الدحاحل الملونة المستديرة بلطف فقد أضحت طيّ النسيان! وينظر إليها نظرة استخفاف وشفقة!!

ملاحظة لابد منها: كتابتي هذه جزء لا يتجزأ من ثقافة المجازر التي أتكلّم عنها، اعتياد الكتابة عن الموت كاعتياد رائحة الجثث وحملها وغسلها وتكفينها. ثقافة واحدة تلك التي تؤسس في دواخلنا اليوم نحن السوريون، وكم سنبذل من جهود كي نظف أرواح أطفالنا منها، كي يستطيعوا بناء سوريا الجديدة تلك التي يحلم الجميع بها.

=================

إيران من الريال إلى الدولار

الياس حرفوش

الأحد ٧ أكتوبر ٢٠١٢

الحياة

عندما يستسهل الإيرانيون التخلي عن عملتهم والمتاجرة بها في السوق السوداء لمصلحة عملات غربية مثل الدولار واليورو أو استبدالها بالذهب، فان ذلك يعد مؤشراً مهماً إلى مدى سوء حالهم الاقتصادي وانعدام ثقتهم بسياسات حكومتهم، وإلى مدى البؤس الذي أوصلتهم إليه السياسات المتعاقبة والمواجهة المكلفة التي تخوضها إيران مع الغرب بسبب الاتهامات المتعلقة ببرنامجها النووي. (كانت قيمة الدولار قبل الثورة الإيرانية 70 دولاراً وبلغت اليوم 40 ألف دولار!)

وضع اقتصادي بائس كالوضع الذي بلغه الاقتصاد الإيراني يفترض بأي حكم أن يبادر سريعاً إلى تحمل مسؤوليته ومعالجة أسباب الأزمة لاستعادة ثقة مواطنيه بعملتهم الوطنية بسبب تأثير انهيار هذه العملة في القدرة الشرائية للمواطن، خصوصاً مع صعوبة تغطية العجز من احتياطي إيران من العملات الأجنبية بسبب تجميد الودائع الإيرانية الموجودة في المصارف الخارجية.

غير أن قادة إيران، وبحسب طريقتهم التقليدية في مواجهة أزمات بلادهم، وبدل البحث في أخطاء سياساتهم والكلفة البالغة للمواجهة التي يخوضونها، اتجهوا إلى تحميل قوى «الاستكبار العالمي» مسؤولية الكارثة الاقتصادية التي تضرب بلدهم. وعندما نصف الوضع الاقتصادي في إيران بالكارثي فذلك ليس من قبيل المبالغة. لقد ارتفعت أسعار المواد الغذائية الرئيسية بنسبة 80 في المئة خلال عام. كما تراجعت قيمة الريال الإيراني بالنسبة نفسها خلال العام الماضي، وهبطت 40 في المئة خلال هذا الأسبوع، وبات الدولار والذهب الملجأ الأسلم الذي يثق به الإيرانيون بدل عملتهم المحلية. ومن شأن أزمة كهذه في أي دولة تحترم مواطنيها أن تؤدي إلى سقوط الحكومة من دون تردد.

لكن هذا ليس حال إيران. هنا ينهج النظام سبيل المكابرة في وجه «الاستكبار». فالمرشد علي خامنئي اعتبر أن الضغوط التي تتعرض لها إيران سببها «استقلال الأمة الإيرانية» كما وصفه. والرئيس أحمدي نجاد اتهم الولايات المتحدة بشن «حرب نفسية» ضد الشعب الإيراني. ويبدو أن خبرة أحمدي نجاد في الطب النفسي توازي خبرته في علم التاريخ! إذ لو صحت تهمة «الحرب النفسية» فسوف تسجل كأول حرب من هذا النوع تؤثر في قيمة العملة وأسعار الخبز واللحوم بدل أن تؤدي بالمصابين بها إلى مصحات الأمراض العقلية.

وعندما يحمّل المسؤولون الإيرانيون كل «الأعداء» تبعات السياسة التي يمارسونها وحرب طواحين الهواء التي يشنونها مع الغرب، فانهم بذلك لا يفعلون سوى التهرب من مواجهة ما ارتكبته سياساتهم بحق الإيرانيين والتي أدت إلى العقوبات القاسية التي فرضتها الحكومات الغربية على إيران، تنفيذاً لقرارات صادرة عن مجلس الأمن وعن دول الاتحاد الأوروبي، التي فرضت مؤخراً حظراً على الصادرات النفطية الإيرانية قلّص إلى النصف عائدات إيران من هذا القطاع الحيوي.

غير أن هذه العقوبات، وعلى رغم قسوتها، لها إيجابيات مهمة لا بد من الانتباه لها. لقد بدأت العقوبات تترك أثراً على الوضع الداخلي الإيراني، مما يؤدي إلى انشغال المواطن بهمومه المعيشية ومحاسبة حكومته على النتائج الكارثية التي أوصلت هذا البلد النفطي المهم إليها. ومن شأن ذلك أن يفتح باب الجدل أمام نقاش علني حول سلامة القرارات الحكومية ويتيح للمعارضة رفع صوتها في الشارع. وهو ما شاهدناه في تظاهرات تجار البازار في طهران هذا الأسبوع الذين كانوا يدعون إلى تجميد البرنامج النووي وإلى سقوط الحكومة ووقف تمويل القوى المتحالفة معها في المنطقة مثل «حزب الله»، فضلاً عن المساعدات التي تقدمها إيران للنظام السوري في معركته مع المعارضة والتي تصل إلى بلايين الدولارات.

ومن إيجابيات هذه الأزمة أيضاً أنها تقفل الباب أمام محاولات إسرائيل نقل النزاع مع إيران في شأن ملفها النووي من مرحلة العقوبات الاقتصادية إلى المواجهة العسكرية التي تحاول حكومة نتانياهو استدراج الولايات المتحدة إلى خوضها. وبهذا تكون حجة إدارة أوباما الرافضة أصلاً لهذه المواجهة أن العقوبات تفي بالغرض ولا حاجة بالتالي للتورط في عمل مسلح غير مضمون النتائج، فضلاً عن مخاطره الكبرى على أمن منطقة الخليج برمتها.

=================

هل تنشب حرب سورية تركية؟!

يوسف الكويليت

الرياض

7-10-2012

    هل مناوشات الحدود بين تركيا وسوريا تديرها جهات عدة، واستخدام الأكراد جزء من فتح معركة كردية سورية، عراقية وبدوافع وتأييد ودعم من روسيا وإيران والعراق، وقد ظلت اللعبة الكردية قضية مفتوحة على أبواب عديدة لعدة عقود..

فالرئيس حافظ الأسد عندما حاول حماية الزعيم الكردي عبدالله أوجلان في البقاع اللبناني تحت حراسة الجيش السوري مما دفع تركيا للتهديد بشن حرب على شمال سوريا، وهنا جاء حذر الأسد بأن أخرج أوجلان ليقبض عليه في كينيا بعمل دولي استخباراتي ويسلم لحكومة أنقرة..

المحاولة في نقل معركة الداخل السوري لتركيا تحكمها مخاطر كبيرة، فحتى الردود بالنار بين الطرفين، تظل مسيطراً عليها، لكن ماذا لو حاولت سلطة الأسد توسيعها وبدوافع من حلفائها، وباعتقاد أن العلويين في الأراضي التركية سوف يتحركون لتأييدها بحربها مع تركيا، وهو وهم تقوده أفكار خارج الواقع، وحتى الأكراد يريدون استغلال الثورة بإعلان منطقتهم دولة أسوة بشمال العراق، ومتلاحمة مع أكراد العراق بخلق نواة الدولة الأشمل..

خلق مثل هذا الواقع تحكمه فرضيات وأفكار قد ترى في المسألة تطويقاً كردياً لتركيا، وهذا ما يرفضه أعضاء حلف الأطلسي، وربما يساندون تركيا في أي مواجهة قادمة، والمشكل في الأكراد أنهم ظلوا لعبة القوى المتداخلة في المنطقة الموجودين بها..

فقد اتفق شاه إيران مع إسرائيل على فتح جبهة على حكومة صدام حسين لإغراقه بحرب عصابات طويلة تستنزف قوته، لكن بعد اتفاق الجزائر بين إيران والعراق توقفت الحرب مما عزز قوة صدام والذي استخدم أسلحة كيماوية ضدهم أثناء حربه مع إيران وحدثت مذابح هائلة انتقاماً من تلك المواقف..

مع تركيا قد تتكرر السيناريوهات محاولة من الأسد تخفيف الضغط الذي تمارسه وتدفع بالمعارضين والجيش الحر السوري لمحاربة النظام، لكن بمقارنة قوة البلدين، فالميزان راجح لتركيا في كل الأسلحة، يضاف لها قوة الأطلسي، ولذلك فإن المغامرة لو حدثت بأن استمرت سوريا بإرسال القذائف والصواريخ على حدود تركيا فقد تنشب حرب تؤدي إلى اجتياح شمال سوريا كلها، وفي هذه الحال لن تقوى إيران أو روسيا على الدخول في حرب قد تشعل حرباً كونية لرضا سوريا..

نظام الأسد حاول خلق عداوات كردية سورية مع عربها، مثلما جعل العلويين في حرب مع مكونات الشعب كله، ومثل هذه التصرفات لا تنقذ الحكم، ولا تطيل عمره، بل تجعل حشد قوى أخرى ضده مسألة يدخل فيها مختلف الاعتبارات ومنها توحيد القوى الداخلية واتساع دعمها من أطراف عربية ودولية مختلفة..

اللعب بالنار مع قوى توازي تسليح وقدرات الجيش السوري عملية يجازف فيها نظام يفهم أنه بلا غطاء يجعله ينتصر ،وأزمته لا تحل بفتح المعارك مع الجيران، وإنما بالتخلي عن الأحلام لإدراك الواقع والذي يتجه لإنهاء أسطورة حكم العائلة..

=================

بثينة شعبان ليست آخر العنقود

علي حماده

2012-10-07

النهار

عندما وقع ميشا ل سماحة بيد فرع المعلومات بانكشاف مؤامرة التفجيرات التي كان متورطا فيها لحساب مدير مكتب الامن القومي للنظام السوري اللواء علي مملوك، وبمعرفة مستشارة بشار الأسد بثينة شعبان، لم يكن احد يعرف ان في حوزة الرجل "ارشيفا " ضخما ومخيفا من التسجيلات تعود الى سنوات عدة، كانت تتم بواسطة آلات تسجيل متطورة تستخدمها عادة اجهزة الاستخبارات.

تقول المعلومات التي انكشفت حتى الان ان سماحة كان يسجل كل شاردة وواردة مدى عامين كاملين، وربما أكثر ( اذا تم كشف مكان اخفائه تسجيلات ووثائق تعود سنوات الى الوراء) وقدرت الأجهزة المختصة عدد ساعات التسجيل بالآلاف ولم يفرغ منها سوى عشرات الساعات لغاية اليوم. وكلما مرّ الوقت ستكشف التسجيلات جوانب كانت حتى الان مخفية عن سياسات، وسلوكيات، النظام السوري وقيادات ٨ اذار، فضلا عن انها يمكن ان تكشف حقائق تتعلق بعدد كبير من الاحداث التي مر بها لبنان، كالاغتيالات، او طبيعة عمل بعض شبكات النظام في سوريا العاملة في لبنان. ومن المقدر انها ستكشف خفايا تتعلق بالحرب الإعلامية المخيفة التي أدارها سماحة تحت رعاية بثينة شعبان لسنوات عدة تفرع خلالها عمله بين خلق وسائط اعلامية على شبكات الانترنت متخصصة بالتشهير الاعلامي والاغتيال المعنوي للاستقلاليين في لبنان. فضلا عن شبكة من الصحافيين ولا سيما الاجانب الذين عملوا لحساب سماحة - شعبان في إطار الحرب الاعلامية. وتشمل اللائحة المنتظرة صحافيين اميركيين وفرنسيين من بين كبار الاسماء.

أضف الى ذلك ينتظر المتابعون من تسجيلات سماحة ان تكشف الشبكة السياسية الفرنسية التي عملت معه لخدمة النظام في سوريا، وكان لسماحة دور كبير في اقامتها. ولا نستبعد انكشاف حقائق تتعلق بقضايا كنسية، واخرى أمنية بحتة، وثالثة شخصية تتعلق بالحياة الشخصية للعديد من رموز قوى ٨ آذار وقادتها.

إذاً، ثمة حجم كبيرمن التسجيلات يفترض ان يتم تفريغها في الاسابيع وربما الشهور المقبلة، ثم تحليلها من  أجل فهمها ووضعها في إطارها الصحيح.  والسؤال المطروح : لماذا كان سماحة يحرص على تسجيل كل مكالماته ولقاءاته السياسية؟ وما الهدف من زرع سيارته بآلة تسجيل كهذه ؟ هل كانت لحسابه ام لحساب جهة معينة ؟ومن كانت الجهة التي تتسلم التسجيلات في حال كان يسلمها ؟ اسئلة عديدة قد تكون اهميتها بحجم اهمية الكشف عن مؤامرة التفجيرات في الشمال. ويقيننا ان قضية سماحة لما تنتهي فصولا، وما ظهر منها حتى الآن ليس سوى رأس جبل الجليد.

ميشال سماحة صيد ثمين؟ ام ثمة جوانب اخرى يمكن عند انكشافها ان تغير كل الافكار المسبقة من هنا وهناك؟

ان من يتابع الحملات التي تستهدف فرع المعلومات لابد من ان يربطها بجانبها الأهم اي بقضية ميشال سماحة وما ستكشفه تسجيلاته تباعا من مفاجآت سياسية امنية اعلامية ومالية إن هنا في لبنان او هناك عند بشار. فبثينة شعبان لن تكون آخر العنقود.

=================

تراجع الرهان على الانتخابات الاميركية مفصلاً للتغيير

والحرب غدت طويلة من دون سقف في الأزمة السورية

روزانا بومنصف

2012-10-07

النهار

لا يوافق زوار لبنان من الديبلوماسيين الاجانب على احتمال ان تمتد الحرب في سوريا مدة موازية للحرب في لبنان اي خمسة عشر عاماً او اقل قليلا، ويربطون نفي هذا الاحتمال بثقة لديهم بان المجتمع المدني اي الغربي لا يمكنه احتمال سقوط هذا العدد من القتلى يوميا في سوريا والذي يتجاوز معدل المئة وخمسين قتيلا. وكذلك يفعل عدد لا بأس به من السياسيين والمراقبين في لبنان في نفي مثل هذا الاحتمال. لكن ثمة ترجيح بات قويا وشبه عام، بأن تدوم هذه الحرب لمدة طويلة انما من دون تحديد موعد  لانتهائها. والنتيجة المباشرة لهذا الترجيح هو اطاحة او تراجع الآمال التي علقت على الانتخابات  الرئاسية الاميركية كموعد اساسي لاحتمال بدء العد العكسي للعمل على ملف الحرب في سوريا، اما في اتجاه صفقة بين الولايات المتحدة وروسيا تشمل الدول الاقليمية أيضاً او في اتجاه قرار بالحسم من خلال تقديم دعم للمعارضة السورية او ما شابه. اذ ان ربط تطورات  الملف السوري بالاستحقاق الاميركي يجري منذ الربيع الماضي، خصوصاً لدى اوساط ديبلوماسية عربية وغربية. وقبل اسابيع معدودة من موعد هذه الانتخابات في نهاية الاسبوع الاول من الشهر المقبل، خبت هذه الآمال الى درجة كبيرة ولم تعد الانتخابات الاميركية تلك المحطة المفصلية التي سيكون الملف السوري  بعدها غير ما قبلها بغض النظر عمن سيفوز في هذه الانتخابات علما ان باب المفاجآت يبقى مفتوحاً. ووفقاً لمعلومات مصادر مطلعة فان الاسباب الكامنة وراء اسقاط الرهان على الانتخابات الاميركية تتصل بجملة أمور من بينها في درجة اساسية ان لا قرار اميركيا ولا رغبة في التورط عسكرياً في سوريا على رغم حماسة الجمهوريين اكثر من الديموقراطيين لعمل ما في سوريا. اذ ان اي قرار من هذا النوع لن تنتهي مفاعيله في اسابيع او اشهر قليلة في حين ان الاستحقاقات الاميركية الداخلية لا تنتهي مع موعد انتخابات الكونغرس الاميركي بعد سنتين. ويثار ذلك من اجل دحض الاعتقاد بان الرئيس الاميركي يمكن ان يكون اكثر تحرراً في ولايته الثانية إذا اعيد انتخاب باراك اوباما، الاّ ان ذلك لن يكون  في حال حصوله في اتجاه قرارات يرتقبها كثر من مثل التدخل العسكري في سوريا على رغم الانتقادات له بعدم الاقدام على خطوات جريئة في الموضوع السوري، علماً ان احتمال تفاوض اوباما مع  روسيا بعد الانتخابات على جملة قضايا ومسائل تهم الطرفين، وقد تكون سوريا من بينها امر غير مستبعد، لكنه غير مرئي في المعطيات الراهنة، وفقاً لما يقول المعنيون. اما في حال  حصول مفاجأة بفوز المرشح الجمهوري فان المسألة قد تمتد فترة أطول ان في اتجاه التفاهم مع الروس أو أي خطوة اخرى. 

 ويستند بعض الاوساط الى حادث سقوط قذائف على تركيا قبل ايام قليلة والذي استنفر مواقف دولية عدة صبت كلها في اطار ضرورة ضبط النفس من جانب تركيا جنباً الى جنب مع استمرار وجود رغبة واضحة في عدم نشوء نزاع بين تركيا وسوريا او النظام السوري نظراً الى ان اتساع رقعة النزاع من الداخل السوري يمكن ان تتسبب بحرب اقليمية لا احد يريدها راهناً لا من نزاع حدودي بين تركيا وسوريا ولا من ضربة اسرائيلية على المنشآت النووية الايرانية. فالبيت الابيض والاتحاد الاوروبي اعلنا وقوفهما مع تركيا في الاجراءات المتخذة لمنع انتهاك اراضيها، لكن بدا واضحاً ان حلف "الناتو" الذي تنخرط فيه تركيا لن يتحرك راهناً من اجل دعمها. لذلك فان ما حصل كان مؤشراً على استمرار وجود قرار بعدم التدخل في سوريا على رغم حال الترقب التي ادى اليها هذا الحادث، ثم تكراره في اليومين الاخيرين، من احتمالات او ذرائع قد يفتح عليها، واهمها التدخل العسكري في شكل ما في الوضع السوري من اجل المساهمة في انهاء الحرب فيها، في حين ان تركيا تفادت حتى الآن ومنذ اندلاع الحرب في سوريا التدخل منفردة فيها ودون غطاء دولي من الامم المتحدة او من "الناتو". ومن الصعب ان يتغير هذا الموقف الدولي اذ استمرت الحرب في سوريا محصورة في داخلها ولم تتخط حدودها الى الدول المجاورة على نحو خطير ومهدد للسلم في المنطقة على رغم تأثر دول الجوار السوري كلبنان والاردن وتركيا والعراق بهذه الحرب. وتذكر هذه الاوساط بتحذير الرئيس الاميركي النظام السوري في موضوع اسلحته الكيماوية على اساس ان استخدامها هو خط احمر لن  تقبل واشنطن بتخطيه مما ترك المجال للاستنتاج بأن ما تحت هذا السقف لن يحرك الولايات المتحدة.

وتقول هذه الاوساط ان عملية الرصد لمواقف كل الأفرقاء المعنيين بالحرب في سوريا التي أجراها الموفد الدولي الى سوريا الاخضر الابرهيمي أظهرت عدم تطور مواقف الافرقاء على الارض في اتجاه الرغبة في التنازل او التفاهم  على حل. وتستند هذه الاوساط الى حالة الانكار المقصودة التي يصر عليها النظام السوري من خلال رفض وصف ما يحصل في سوريا، الاّ بالعمليات الارهابية بحيث كرر وزير الخارجية السوري وليد المعلم في الكلمة التي القاها امام الجمعية العمومية للامم المتحدة الاسبوع الماضي كلمة "ارهاب" 25 مرة  في سبيل محاولة اقناع المجتمع الدولي بأنه لا يواجه ثورة على حكم يدوم منذ 40 عاما بل يواجه ارهاباً تحاربه كل دول العالم. ولا يقل تعنت النظام السوري عن رفض معارضيه لحل معه عن تعنت القوى الاقليمية والدولية الداعمة حيث كرر المسؤولون الروس في الاونة الاخيرة المواقف نفسها الداعمة، للنظام من دون اي تغيير يذكر. وهو الامر الذي دفع بالمسؤولين الغربيين الذين كانوا يكررون على اثر لقاءات مع مسؤولين روس بانهم  يلمسون تغييراً او تقدماً قابلاً للتطوير في الموضوع السوري الى التحفظ عن ابداء مثل هذه التعليقات وعدم ذكرها على الاطلاق منذ بعض الوقت بعدما ظهرت مبالغات وحتى اخطاء ان لم يكن خفة ايضا  في تقدير الموقف الروسي وابعاده. لكن لا يجوز الاستهانة، كما تقول هذه الاوساط، بالرهانات على القدرة على مواصلة الحرب والصمود فيها ولا ايضاً على التورط الواضح الاقليمي والدولي في الحرب. ولذلك فانه في انتظار بروز ما يمكن ان يغير في هذا المنحى، فان احدا لا يملك سوى ترك الأمور على غاربها في سوريا حتى تفرض الارض واقعاً مختلفاً او تنضج مواقف الافرقاء بالاقتناع بالوصول الى طريق مسدود.

=================

إيران: ضياع بوصلة الثورة

بحسابات الاقتصاد، يمكن لإيران أن تصبح دولةً إقليميةً كبرى بكل المقاييس. لكن سيطرة الأيديولوجيا الخانقة والطموحات الشخصية على التفكير السياسي لقادتها يمنع حصول ذلك

د. وائل مرزا

الأحد 07/10/2012

المدينة

تنتج إيران أكثر من 4 ملايين برميل من النفط في اليوم وتُعتبر رابع أكبر منتج في العالم لهذه السلعة الثمينة. رغم هذا، تهبط قيمة الريال الإيراني أكثر من 80% خلال هذا العام وأكثر من 40% خلال الأسبوع الماضي وحده!

ضاعت بوصلة الثورة الإيرانية منذ زمنٍ طويل.

لبضع سنوات، حاول الرئيس السابق محمد خاتمي ومعه بعض الإصلاحيين إعادة توجيهها في الاتجاه الصحيح تنميةً للبلاد وبناءً للإنسان، لكنهم لم يفلحوا في ذلك.

أضاع قادة إيران بلادهم وهم يلهثون وراء هوسٍ امبراطوري معاصر يعتاش على هوسٍ مرضيٍ ببعض أحداث التاريخ. لاحاجة لنا اليوم للحديث بمنطق الصراع الطائفي لانتقاد مايفعله هؤلاء اليوم بموقفهم من الشعب السوري وثورته النبيلة. فالموقف المذكور لم يأتِ إلا تجلياً لاستمرار هوسهم المذكور، وتعبيراً عن شعورهم بخطورة تلك الثورة.

لايجب أن نستهين أبداً بما فعلته الثورة السورية على صعيد إضعاف أي مشروعية سياسية وأخلاقية لمشروع إيران في المنطقة. فهذه المشروعية في غاية الأهمية لأن القوة وحدها لاتكفي أبداً لتحقيق المشروع. وقد هدمت الثورة السورية في أشهر مشروعيةً قضت إيران أكثر من عقدين في بنائها.

المهم أيضاً أن ندرك كيف يأخذ قادة إيران شعبهم وبلادهم إلى الهاوية بممارساتهم وأحلامهم التوسعية. لانقول هذا من باب الأمنيات وإنما تؤكده الوقائع والأرقام.

فحين تهوي قيمة العملة الإيرانية بالشكل الذي بينّاهُ، وحين تمنع السلطات المواطنينَ قهراً من تحويل أموالهم إلى العملة الصعبة، وحين تُضرب أجزاء كبيرة من بازار طهران الشهير، ويخرج التجار والمواطنون في مسيراتٍ تهاجم النظام وسياساته، ويُواجَهُ هؤلاء بالقنابل المسيلة للدموع، لايكون بعيداً وفق سنن الحياة الاجتماعية أن يصبح هذا بداية الانهيار الكبير.

لاندّعي أن هذا سيحدث غداً أو الشهر القادم، لكننا نعرف أن السنن المذكورة لاتُحابي أحداً. فبحسابات الاقتصاد، يمكن لإيران أن تصبح دولةً إقليميةً كبرى بكل المقاييس. لكن سيطرة الأيديولوجيا الخانقة والطموحات الشخصية على التفكير السياسي لقادتها يمنع حصول ذلك، وبشكلٍ فعّال.

يرتفع إجمالي الناتج القومي لإيران من 230 إلى 482 مليار دولار تقريباً خلال السنوات من 2007 إلى 2011، هذا علماً أن السبب الأكبر يكمن في صعود أسعار البترول عالمياً. وترتفع صادراتها من 67 إلى 132 مليار دولار يُشكّل النفط نسبةً تصل إلى 80% منها.

لايمكن إدراك الفشل الكامن في سياسات القيادة الإيرانية إلا بمقارنتها مثلاً بجارتها تركيا التي تقاربها في عدد السكان. ففي نفس الفترة، ارتفع الناتج القومي لتركيا من 400 إلى 778 مليار دولار، وارتفعت صادراتها من 90 إلى أكثر من 143 مليار دولار لايشكل النفط منها شيئاً. ستبدو الصورة أوضح بكثير حين نعلم أن إيران تنتج أكثر من 80 ضعفاً من إنتاج تركيا من النفط والغاز!

تريد القيادة الإيرانية أن تملك دوراً إقليمياً متميزاً وأن يكون لإيران، تحت سيطرتها، وزنٌ مُعتبر، لكنها ستُمنى بفشلٍ تلو آخر مادامت تسير ضد سنن وقوانين الاجتماع البشري. وخاصةً حين تزهد كلياً بعملية التنمية الداخلية وتُبعثر ثورة بلدها في مغامرات خارجية.

تستطيع القيادة الإيرانية الاستمرار في دعم النظام السوري، وهي لاتُقصّر في ذلك، لكنها تفعل ذلك كمن يريد شراء الوقت أكثر من أي شيءٍ آخر. فالنظام السوري انتهى كلياً سياسياً وإلى حدٍ كبير عملياً، وإن لم يكن واضحاً وقت وكيفية السقوط على وجه التحديد. والإيرانيون يعلمون أن هناك مستتبعاتٍ كبيرة لهذا السقوط تتعلق بمشروعهم.

إذ لايمكن لأي نظام أن يقدم لإيران ماقدّمه نظام الأسد، وبالتالي فلكي يبقى النظام الإيراني نفسه، وسط محيطٍ سني، لايوجد أمامه إلا أن يقدم تنازلات تتعلق بوقف أحلامه بالسيطرة على المنطقة وتصدير الثورة، وصولاً إلى التعامل مع الدول الأخرى بما يُحقق مصالح هذه الدول. وإلا فإن إيران ستشهد عزلة إقليمية خانقة تُضاف إلى عزلتها الدولية الحالية، الأمر الذي سيزيد الأعباء الداخلية ومايتبع ذلك من اضطرابات اقتصادية واجتماعية وأمنية وسياسية نرى ملامحها تزداد منذ الآن.

ولايمكن هنا إلغاء عنصر يتمثل في وجود حزب الله ودوره. إذ لن يكون هذا الحزب كما هو عليه الآن قطعاً، لأنه يستمد نفوذه من مجموعة عناصر أحدها القوة العسكرية التي يُحاول أن يترجمها قوةً سياسية في واقعٍ يسمح بذلك مثل الواقع اللبناني. بالمقابل، سيكون لسقوط النظام السوري تأثير سلبي كبير على مسائل الإمداد العسكري لحزب الله. ثم إن سورية تُعتبر عمقاً استراتيجياً في غاية الأهمية بالنسبة للحزب، حتى في ظل وجود مرجعيته في إيران، لأن الجغرافيا السياسية تفرض نفسها في نهاية المطاف. وسقوط النظام سيكون له مرةً أخرى تأثير سياسي عملي ومعنوي هائل يتمثل في غياب العمق الاستراتيجي المذكور.

منذ سنوات، أكد خاتمي على ضرورة إدراك الفارق بين (ثقافة المنع وثقافة المناعة) وعن إمكانية (ظهور أزمة هوية بين قيم الحكومة وقيم المجتمع) وعن خطورة وجود (انقسامات في الخطاب الوطني وولادة ثقافتين متناقضتين).

لم يفهم القادة الذين سيطروا على إيران مثل هذه الطروحات بعد أن جمّدوا (ثورتهم) عند مرحلة التركيز على الشعارات من جانب وحصروها في طموحات إمبراطورية خارجية من جانب آخر. والواضح أنهم سيدفعون ثمن هذا التفكير على المدى المنظور.

 

=================

سورية ونهاية حكم الملالي

نجيب غلاب

عكاظ

7-10-2012

بأي شكل كانت نهاية النظام السوري فإن تركيا سيكون لها الدور الأبرز في التحولات المقبلة في سورية ولبنان، وهذا بالتأكيد يطمئن الغرب فيما يخص السلام في المنطقة، وهذا ما يخيف إيران فتغيير المعادلة الإقليمية لصالح تركيا ومحاصرة إسرائيل بالسلام سيفقد إيران الكثير من الأوراق، وهذا قد يدفعها للتهور مستندة على الإسناد الروسي والصيني.

من الواضح أن الأسد وأنصاره من الملالي ومن تبعهم لا يدركون طبيعة الصراع الحالي، ويبدو أنهم خارج التاريخ، ويعانون من معضلة الأنظمة الشمولية التي قادت صدام حسين إلى هزيمة نكراء، وبمتابعة مواقف روسيا نجد أنها تبدأ قوية ومتحفزة للدفاع عن حلفائها، وتنتهي بعقد صفقات لتعظيم مصالحها، أما الصين فلن تتورط في حرب من أجل النظام السوري. ويبدو لي أن لدى بكين خوفا من التحولات في العالم العربي، وتريد جعل سورية عينة معملية مؤلمة ولديها تخوفات من إسقاط النظام الإيراني لاحقا لأن الموجة ستصلها ولو بعد حين.

الاندفاع الصيني الروسي في تغطية جرائم نظام الأسد وحلفائه، ومحاولة إنقاذه لم تعد مجدية ونتائجها ستكون مضرة بمصالحهم في المنطقة العربية والعالم الإسلامي، ومهددة للأمن والسلم العالميين، وقد يخسرون إيران في حالة دفعها إلى حرب لحماية النظام السوري. فالجحيم السوري سيكون المدخل لثورة إيرانية.

بكل الحسابات النظام السوري صار عبئا على المنطقة حتى على ملالي طهران. فتورط إيران سينهكها والشعب الإيراني من أكثر الشعوب الإسلامية تمردا على حكامه، وينتظر اللحظة المناسبة لحسم أمرة في ظل نمو جيل جديد لم يعد قادرا على التعامل مع رجال الدين، وستكون المذابح في إيران فظيعة بحكم تركيبة النظام. وهذه المذابح ستنهي حكم الملالي للأبد.

الصين وروسيا بحاجة إلى استيعاب أن التغيير في إيران ونهاية شبكة الملالي التي تنشر الفوضى في المنطقة سيفتح فرصا رائعة للجميع، وسيتحرك اقتصاد منطقة الشرق الوسط، والاقتصاد العالمي. وفي حالة الإصرار على دعم الظلم من قبل بكين وموسكو فإن منطقة الشرق الأوسط بالكامل ستتحالف مع الغرب وتنبذهما وهذا سيضر بمصالحهما لا محالة.

 

=================

حريق الريال الإيراني

طارق الحميد

الشرق الاوسط

7-10-2012

صحيح أن عملية انهيار الريال الإيراني المتواصلة لا تشير للآن إلى أن لحظة انفجار ما قادمة في إيران، كما يردد بعض المهتمين، لكنها تطرح عدة أسئلة عن واقع النظام السياسي الإيراني، داخليا وخارجيا، خصوصا أن لسعة حريق الريال تمس العصب الحساس داخليا (التجار والمواطنين)، وخارجيا (عملاء إيران).

وبالطبع، وكما هو متوقع، فإن النظام الإيراني سيفعل المستحيل، لوقف انهيار العملة الإيرانية، وبالتالي تفويت فرصة أي اهتزازات سياسية داخلية، لكن هذا الأمر يفرض أسئلة عدة، كما ذكرنا، عن مقدرة إيران بالتعامل مع استحقاقات المرحلة. فهل ستستمر إيران بدعم نظام طاغية دمشق بشار الأسد إلى ما لا نهاية، وهو نظام شارف على الرحيل؟ فالمعلن أن طهران قدمت قرابة عشرة مليارات دولار للأسد، أموالا، أو عتادا، وحتى بالرجال، ومعها حزب الله الذي قدم مقاتلين دفاعا عن الأسد، والحزب ممول أيضا من إيران، فهل تستطيع طهران مواصلة هذا التمويل رغم التململ الداخلي، الذي يشكل خطورة حقيقية على النظام السياسي هناك، أم أن الأمر سيدفع إيران للتفكير ليس بعقلانية، بل ببراغماتية الأمر الواقع، والتي تقول لماذا الاندفاع خلف تمويل نظام سيسقط لا محالة بسوريا، خصوصا أن الأوضاع الداخلية في إيران تنبئ بخطر كبير؟

الأمر الآخر أن إيران مهددة اليوم بأنها واقعة بالمنطقة الحمراء التي رسمها لها رئيس الوزراء الإسرائيلي، الذي قام بتشكيل رأي عام قوي، على أثر خطابه بالجمعية العامة للأمم المتحدة، فهل طهران قادرة على مواجهة خطر كبير بهذا الحجم بينما وضعها الداخلي غير مستقر، ومرشح للحظة انفجار، خصوصا أن العقوبات الاقتصادية الدولية مستمرة، مما يعني أن انهيار العملة الإيرانية مستمر أيضا؟

القصة هنا ليست قصة قراءة الودع، أو التمني، بل هي محاولة لمعرفة كيف من الممكن أن يكون التفكير بطهران اليوم مع هذه الظروف الحساسة التي هي من صنع أيديهم بلا شك؛ فمن الطبيعي أن الإطالة في العبث بالمنطقة، واللعب مطولا خارج الأراضي الإيرانية، سينعكس على الوضع الداخلي الإيراني، فكما ذكرنا من قبل فإن الوضع السوري بحد ذاته تحول إلى عملية استنزاف لإيران، اقتصاديا وسياسيا، وبشكل كبير جدا. وأبسط مثال على الاستنزاف السياسي، مثلا، حجم المعلومات التي باتت تسرب الآن عن لقاءات الجنرال قاسم سليماني مع بعض القيادات العراقية، وتحديدا الكردية، فالواضح أن هناك من بات يلجأ للإعلام، وتحديدا الغربي، لإحراج إيران أكثر، وفضح تدخلها السافر في سوريا، خصوصا بعد المعلومات التي ترددت عن الضغوط التي بات يواجهها قاسم سليماني نفسه في إيران بسبب عدم إنجازه أي شيء ملموس في الدفاع عن بشار الأسد، وطوال تسعة عشر شهرا!

وعليه، فليس المقصود هنا القول بأن إيران قد تُغير مواقفها، وإنما القصد هو القول: هل تستطيع إيران الاستمرار بمواقفها، وتحديدا في سوريا؟ وهل طهران أيضا قادرة على الخروج من عنق زجاجة المنطقة الحمراء التي رسمها نتنياهو لطهران في الأمم المتحدة، والوضع الإيراني الداخلي غير متماسك؟ هذا هو السؤال الذي يجب البحث عن إجابة له لأنه سيترتب عليه الكثير، وبكافة الأصعدة، في قادم الأيام.

=================

تركيا بين الكلام والفعل

عبدالرحمن الراشد

الشرق الاوسط

7-10-2012

لا أدري إلى أي مدى يفهم المسؤولون الأتراك حجم الضرر الذي أصابهم في العالم العربي من وراء سوريا، القضية والمواقف، إضافة إلى ما سبقها. لكنني واثق بأنهم أقدر من غيرهم على حساب مصالحهم، ويعرفون أن لهم دورا مهما يلعبونه لم يفعلوه بعد، ونحن لا نفهم لماذا؟ وقصة تركيا سبقت الحدث السوري بسنوات، خاصة باهتمام رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان بالعالم العربي واستعداده للمشاركة الإيجابية فيه. بدأها أولا من الباب الخاطئ عندما قبل بمساندة سوريا الأسد في معاركها الخارجية، وكذلك ساند، بحماس، إيران في ملفها النووي. مواقف صححها لاحقا عندما اتضحت له الحقيقة.

وأردوغان صاحب شخصية قيادية جذابة، دخل القلوب العربية المحبطة، أولا من حادثة ندوة متلفزة في مؤتمر دافوس، قبل ثلاث سنوات، عندما رد الصاع صاعين للرئيس الإسرائيلي شيمعون بيريس. كال أردوغان هجوما على بيريس وسياسة إسرائيل الاحتلالية، ثم رمى الميكرفون وغادر المكان غاضبا من أجل قضية عربية. وتلاها موقف تركيا بإرسال سفن لفك الحصار عن غزة مع ناشطين أوروبيين، وعندما هاجمتها قوات إسرائيلية في المياه الدولية، هدد أردوغان وتعهد بأن يدفع الإسرائيليون ثمن الهجوم على سفن تركية وقتل مواطنين أتراك، غاليا. بعدها، رفعت صوره في المظاهرات العربية وأصبح نجما من نجوم العرب. الخطأ الأردوغاني أنه رفع توقعات العرب، لكن لا شيء مهما فعله، باستثناء وقف المناورات العسكرية المشتركة مع إسرائيل.

الخيبة الأكبر كانت سوريا، فالحكومة التركية أخذت مواقف قوية ضد نظام بشار الأسد، وأطلقت تهديدات متتالية ضده بأنها لن تقف مكتوفة الأيدي أمام المجازر التي ترتكب. لكنها وقفت مكتوفة الأيدي عبر الحدود لأكثر من عام من بدء المجازر.

ثم لوحظ أن رئيس وزراء تركيا، مع وزير خارجيته، طارا لبورما والتقطا الكثير من الصور مع المسلمين المهجّرين، ووعداهم، كما وعدا السوريين والفلسطينيين، وذلك قبيل يومين من انعقاد مؤتمر القمة الإسلامي في مكة المكرمة، لكن لا شيء فعلته تركيا. وعلق البعض منتقدا بأنها حملة علاقات عامة أخرى.

من إسرائيل إلى سوريا إلى بورما، خسرت تركيا الكثير من المحبطين الذين علقوا عليها الآمال، وهنا نتساءل بموضوعية، إن كنا نحمّل الأتراك أكثر مما ينبغي أم أننا كالعادة ضحية سهلة: يمكن شراء الإنسان العربي ببضع خطب حماسية إعلامية، كما فعل من قبله الخميني والأسد ونصر الله؟ أعتقد أنها خليط من الاثنتين. أردوغان سياسي شعبوي يعرف كيف يحصّل تصفيق الجماهير، لهذا كسب معارك حزبه وكسب معارك الانتخابات، وفي نفس الوقت، نحن العرب، توقعاتنا منه أكبر من قدرات تركيا، أو لا تراعي ظروفها. أردوغان عرف باعتداله الديني والسياسي والحزبي، وأثبت من خلال قيادته، سواء لحزبه أو للحكومة، أنه يملك مهارتين؛ كسب الرأي العام، وفي نفس الوقت عدم التورط في أعمال أكبر من قدرة بلاده. والإسلاميون المتشددون من العرب، الذين ظهروا لاستقباله في مطار القاهرة بالآلاف، صدموا من خطابه السياسي لاحقا عندما أوصاهم بتبني العلمانية السياسية منهجا للدولة، وغضبوا منه في مصر وتونس. الحقيقة أن أردوغان تركيا وإسلامييها مختلفون في مفهومهم لدور الدين والدولة عن نظرائهم من الإخوان المسلمين والسلفيين في دول الربيع العربي، بل إن الهوة الثقافية واسعة بينهم، فأردوغان من المعجبينبابن عربي، و«الإخوان» معجبون بحسن البنا، والسلف بابن تيمية.

ولا يزال هناك أمل كبير أن يكون لتركيا تحت حكم أردوغان دور كبير في سوريا، بإنقاذ الشعب السوري، بكل ما تعنيه هذه الكلمة من استعجال وحركة. تركيا أقوى عسكريا من كل الدول العربية، ولها حدود مباشرة مع سوريا، بخلاف السعودية ومصر، وبالتالي مصالحها أكبر في تغيير النظام بما يرضي غالبية الشعب السوري وبما يؤمّن استقرار المنطقة ويحمي تركيا.

الأمل أن تقوم حكومة أردوغان بتوسيع نشاطها الداعم للمعارضة، ونحن نعرف أنها أول من دعم الثوار، ولولاها ربما ما استمرت الثورة السورية، لكننا نعرف أن ما يشاع أن تركيا تحت ضغوط غربية تمنعها من دعم الثوار - مجرد أكاذيب، وأن العكس صحيح. طبعا، هذا لا ينفي أن دول المنطقة وحكومات غربية لا تحبذ دعم الجماعات السورية والجهادية الأخرى المتطرفة، موقف مفهوم ومبرر، إنما هؤلاء لا يمثلون إلا نسبة صغيرة من إجمالي خريطة الثورة السورية. أيضا، نعي أن لتركيا حسابات معقدة مرتبطة بالموضوع السوري، قد تنعكس سلبا عليها إن تدخلت بقوة، مثل أن إيران تعتزم خلق مشاكل داخل تركيا، وستدعم المعارضة الكردية التركية المسلحة، التي كانت تستضيفها سوريا من قبل. مثل هذه الحسابات لا بد أن تقلق تركيا، إنما نحن نعرف أن مصلحة تركيا العليا أصبحت مرتبطة بسقوط نظام الأسد، وقيام نظام سوري ديمقراطي، وبقيادات معتدلة، وضمان استقرار ووحدة الأراضي السورية، فلا تقوم دويلات علوية أو كردية منفصلة. هذه مصلحة الأتراك، تماما مثلما هي مصلحة السوريين. وإيران وروسيا، حليفا نظام الأسد الآن، ستقبلان بالتعامل مع النظام السوري الجديد، واحترام تركيا التي ستصبح أقوى وأكثر إيجابية.

=================

أزمة إيرن وخلاصات سياستها!

فايز سارة

الشرق الاوسط

7-10-2012

في واحد من أبرز مؤشرات الأزمة في إيران، تعرض الريال الإيراني إلى خسارة نحو ثلث قيمته في غضون أسبوع واحد، وهو أمر مرشح للتفاقم إذا ظلت أزمة إيران على حالها، إن لم تزدد عمقا وتدخل في أنفاق جديدة، وهو الأمر المقدر لهذه الأزمة، طالما أن الذين خلقوها هم القائمون على التعامل معها، وقد أكد الرئيس أحمدي نجاد، المعني مباشرة بالأزمة، على أمرين؛ أولهما الإصرار على المضي بذات السياسات التي اتبعتها الحكومة الإيرانية، والثاني اللجوء إلى إجراءات ذات طابع قسري وزجري، بدل البحث عن حلول سياسية وعملية تتجاوز مجرد إدخال القوى الأمنية في معالجة أزمة إيران الراهنة بكل أعماقها.

أزمة إيران تماثل وتشبه، من حيث جوهرها، كل أزمات الدول النامية، التي تظهر لدى قادتها طموحات إمبراطورية، ليس هدفها إحياء الماضي الذي ذهب بلا رجعة واستعادة بعض من أمجاده، بل أيضا التمدد في الفضاء الإقليمي من جهة، والسعي نحو انتزاع موقع في الفضاء الدولي، وغالبا ما يحيط بمثل هذه الطموحات توفر مستوى من عناصر مادية، أولها وفرة مالية، وأساسها في الشرق الأوسط أموال النفط، والثاني امتداد جغرافي للدولة وعدد كبير من السكان مقارنة بما لدى دول الجوار الإقليمي، وحال إيران في هذا الجانب لا يختلف عن حال عراق صدام حسين، لكنه يختلف في واحدة من تلك السمات مع ليبيا معمر القذافي، التي عانت بسبب قلة سكانها.

لقد قادت الطموحات الإيرانية إلى تبني استراتيجية تقوم في السياسة الخارجية على تعزيز قدرات إيران العسكرية، وتوسيع إطار هيمنتها السياسية والثقافية في المجالين الإقليمي والدولي باعتبارها الحاضنة للإسلام الشيعي، وبنيت السياسات الداخلية لهذه الاستراتيجية على تحشيد آيديولوجي، يرى أن التقدم يتواصل، وأن حلول ومعالجة المشاكل القائمة مقبلة لا محالة، وأن الأمور سوف تتحسن، وتحل كل المشاكل، ولا سيما الاقتصادية والاجتماعية، ومنها مشاكل النساء والشباب والعاطلين عن العمل.

وكان من الطبيعي أن يكون هم إيران الأساسي موجها نحو تعزيز قوتها العسكرية والعمل على مشروع نووي، بالتزامن مع بناء علاقات قاعدية داعمة، كان أبرزها علاقات طهران مع دمشق، التي فتحت الباب نحو علاقات قاعدية أخرى، واحدة في لبنان مع حزب الله، وثانية مع الجماعات الفلسطينية وخاصة حركتي الجهاد وحماس عبر دمشق، قبل أن تتطور علاقات إيران القاعدية مع العراق الحالي بقيادة نوري المالكي، وكان الخط الثالث في هموم إيران الإقليمية اتباع سياسة القبضة الحريرية أو القوة الناعمة مع جوارها، وخاصة في الخليج.

وكلفت هذه السياسة إيران كثيرا من مواردها، سواء ما جرى دفعه في سباق صناعة الأسلحة أو في سباق التسلح، ثم ما تم صرفه في المشروع النووي من جهة أو في رعاية القواعد الإقليمية، ومنها تكلفة حزب الله اللبناني، ورعاية حاضنته الاجتماعية والسياسية، إضافة إلى المنح والإعانات التي قدمتها إيران لسوريا في فترات مختلفة، ومنها الإعانات التي تقدمها حاليا لمساعدة السلطات في مواجهة الأزمة القائمة سياسيا واقتصاديا وعسكريا.

وأضيفت تكلفة جديدة على التكلفة الاقتصادية والمالية لسياسة إيران الخارجية في الفترة الأخيرة، وهي ناتجة عن العقوبات الدولية التي تم فرضها على إيران بسبب ملفها النووي، وشملت عقوبات على مبيعات النفط، المورد الرئيسي للعملات الصعبة في البلاد، وعقوبات على المبادلات المصرفية، التي تمنع استعادة أموال مبيعات النفط إذا تم بيعه، وخلاصة العقوبتين سعي لإخراج النفط وموارده من قدرات السلطات الإيرانية.

وإذا كانت أزمة إيران على هذا النحو من الخطورة، فإن ما يزيدها خطرا يكمن في تفسير الأزمة والطريقة التي تتعامل بها السلطات الإيرانية معها، حيث الأزمة، ليست أكثر من «مؤامرة» و«حرب نفسية» و«حرب اقتصادية» تشنها الدول الغربية ضد إيران لإخضاعها، وإن علاجها سيتم عبر سعي المؤسسات المالية الإيرانية لتوفير العملات الصعبة، كما يقول الرئيس الإيراني، وعبر قيام الأجهزة الأمنية بالتصدي للمضاربين بالعملة الإيرانية، كما يقول وزير الصناعة مهدي غضنفري.

خلاصة القول، أن الأزمة الإيرانية قائمة، وهي ناتجة عن خيارات وسياسات حكومة نجاد، وما يترتب عليها من تداعيات إقليمية ودولية أخذت توالي ظهورها خارجيا وداخليا، لعل الأسخن فيها الهبوط الحاد في سعر العملة الإيرانية ومظاهرات الإيرانيين الاحتجاجية على سياسات حكومة نجاد، التي بات عليها تبديل استراتيجيتها العامة، وتغيير سياساتها، قبل أن تأخذ إيران والإيرانيين إلى كارثة محققة، لن تنجو حكومة نجاد من نتائجها.

=================

ديفيد إغناتيوس

24 ساعة في سوريا

الشرق الاوسط

7-10-2012

وصل مقاتل أحمر الوجه يدعى فيصل إلى المقر الأمامي للجيش السوري الحر ملتمسا للسلاح، وكان قادما لتوه من خط الجبهة في صاخور، وهو حي ظل لمدة 3 أسابيع يرزح تحت هجوم القوات الحكومية. وبينما كان يهتف مناديا قادته، كان يمكنك سماع هزيم نيران المدفعية المقبل من على بعد نحو نصف ميل، وصرخ فيصل ثائرا بأن رجاله يموتون وأنه بحاجة إلى قاذفات صواريخ محمولة لمواجهة دبابات جيش الرئيس بشار الأسد. يبلغ فيصل من العمر 28 عاما، وقد تخرج لتوه في كلية الحقوق، وهو مفتون بشجاعة وانتعاش الثورة. واستمع القائد إلى طلبه، لكنه قال إنه متردد، فالجيش السوري الحر لا يملك أسلحة كافية، والمجلس العسكري الذي يدير القتال ليس واثقا من أن فيصل ورجاله يمكنهم تنفيذ مهمتهم بنجاح.

ورحل المقاتل الشاب وكل ما معه هو قاذفة صواريخ محمولة متهالكة حصل عليها من مخزن المقر الأمامي في حي طارق الباب، الذي يقوم بتنسيق القتال على الجبهة الشرقية من معركة السيطرة على حلب. واستمرت طقطقة نيران المدفعية بينما كان فيصل يحمل سلاحه الثمين عائدا إلى ساحة المعركة، ويقال إن المقاتلين المجاهدين المتمركزين في مكان قريب يجهزون لهجمات مضادة، بالتنسيق مع قيادة الجيش السوري الحر.

هذا المشهد الذي جرت تفاصيله عصر يوم الخميس الماضي يبرز حقائق أساسية عن الحرب الدائرة في سوريا، تلك الحرب التي تدك مدينة كانت في أيام أكثر هدوءا واحدة من جواهر العالم العربي. أولا، فلا يوجد ما يكفي من الأسلحة كي يتمكن الثوار من هزيمة قوات الأسد، وكل السوريين الذين تحدثت معهم تقريبا يرون أن هذه هي خطأ أميركا. ثانيا، فإن قادة الجيش السوري الحر يحاولون تطبيق قيادة وسيطرة أفضل في عملية ظلت حتى الآن مهلهلة وغير منظمة. ثالثا، في ظل هذا القتال الفوضوي الذي يعاني نقصا في الموارد، فإن قوة المجاهدين السلفيين، الذين لا يطلبون سوى الشهادة، تبدو في تصاعد مستمر.

وقد قضيت يومين من الأسبوع الماضي في التجول داخل سوريا مع الجيش السوري الحر، حيث ساعدوني في التسلل عبر الحدود يوم الأربعاء من بلدة ريهانلي التركية (وتبلغ تكلفة تهريب الناس عبر الحدود 40 دولارا في المعتاد، ولكن بالنسبة للأميركيين يقال إنهم يدفعون 100 دولار)، وقد رتبت هذه الرحلة من خلال «مجموعة الدعم السورية»، وهي منظمة تقع في واشنطن حصلت منذ عدة أشهر على تصريح من وزارة الخارجية بجمع أموال وتقديم مساعدات أخرى لصالح الجيش السوري الحر.

وقد تصادف أن أكون في سوريا بينما تشهد التوترات تصاعدا حادا، بعد رد تركيا على القصف السوري الذي قتل فيه مدنيون أتراك. ولكن مهما كان تورط تركيا، فإن الشيء الأساسي في هذه الحرب الآخذة في الاتساع يظل هو الجيش السوري الحر. والسؤال الملح هو: كيف يمكن تقويته بما يكفي لقلب الموازين ضد النظام؟

وأثناء سيري لساعات طويلة على طريق العودة، بدا واضحا أن الجيش السوري الحر يسيطر على الشمال الريفي، حيث كانت نقاط التفتيش التابعة لها موزعة في كل مكان عدا المدن والطرق الرئيسية، ويستطيع قادة الثوار التجول في أمان عبر معظم أنحاء الثلث الشمالي من البلاد.

«مرحبا بك في سوريا الحرة». هكذا حياني عبد الله الحيد لدى وصولي إلى المعبر الحدودي المسمى «باب الهوى»، وأخذني لملاقاة العقيد عبد الجبار العكيدي، قائد قوات الثوار في منطقة حلب، وربما يكون القائد الأعلى للجيش السوري الحر في البلاد، وكان قد انتهى لتوه من أداء صلاة العصر فوق العشب مع بعض ضباطه ومقاتليه. وتم تقديم طعام العشاء في صحن مشترك وضع فوق أوراق صحف تم بسطها فوق العشب. وكان من بين ضيوف العشاء رجل له لكنة قيل لي إنها تميزه بأنه ليبي، مما جعله يعتبر من بين المجاهدين المعروفين باسم «المقاتلين الأجانب».

وردا على سؤال بعد العشاء، أبدى العكيدي إحباط قائد ظل ينتظر مساعدة أميركية لكنه يزعم أنه لا يحصل على أي شيء مفيد. وتتلخص السياسة الأميركية في تقديم مساعدات غير قتالية، ومن بينها أدوات للقيادة والسيطرة مثل الهواتف المتصلة بالأقمار الصناعية. ويبدو العكيدي رجلا عسكريا بصدره العريض وإحساسه بالثقة، وهو من نوعية الضباط الذين تأمل واشنطن في أن يبنوا قوة قتالية صلبة. وقد تعهد الرجل بأن الولايات المتحدة إذا أمكن أن تساعده في الحصول على أسلحة حديثة مضادة للطائرات والدبابات، «فسوف أمنع وقوعها في أيدي الجماعات المتطرفة». وهو يأمل في أن تقدم أميركا التدريب أيضا، ولو حتى دورة تدريبية أساسية لمدة أسبوعين قد تساعد على تكوين جيش حقيقي، إلا أنه يضيف أن الولايات المتحدة إذا لم تزوده بأسلحة يمكنها أن تقلب الموازين، فسوف يحتاج إلى مساعدة من المجاهدين الذين لديهم حرص كبير على القتال والموت، موضحا: «ليست لدي أي مشكلة مع المتطرفين إذا كانوا يقاتلون النظام. كل ما يهمنا هو أن يسقط النظام وأن يتوقف نزف الدماء». وماذا سيفعل العكيدي إذا استخدم النظام الأسلحة الكيماوية؟ يضحك ويجيب: «سوف نبحث عن قبر».

وداخل منزل آمن في قرية أطمة على بعد ساعة بالسيارة، التقيت العقيد عفيف سليمان، قائد قوات الجيش السوري الحر في محافظة إدلب، وكان يرتدي جراب مسدس معلقا في كتفه وهناك طلقات فضية مثبتة في الحزام، وقد ردد النصيحة نفسها لأميركا: «أعطونا أسلحة وساعدونا على تنسيق قواتنا، وإلا فإن المتطرفين سيسيطرون على زمام الأمور».

وبعد منتصف الليل بقليل، عدنا في سيارة العكيدي المرسيدس المتهالكة وذهبنا إلى مقره شمال غربي حلب، وهذه الرحلة تستغرق نحو ساعتين، إلا أن اللحظات العصيبة الوحيدة أثناءها كانت عند المرور عبر قرى تسيطر عليها جماعة كردية يدعمها بشار الأسد تعرف باسم «حزب العمال الكردستاني»، وكان ذلك هو وقت «التهيؤ للقتال» بالنسبة للعكيدي وحراسه.

وداخل مقر العكيدي صباح يوم الخميس الماضي، كان يمكنك أن ترى العمل الشاق الذي تنطوي عليه إدارة شؤون ثورة: مقاتل يقوم بتوزيع الطلقات بينما تتدلى سيجارة من بين شفتيه، ومساعدو العكيدي يمسكون بأكوام من العملة السورية يبلغ قوامها عدة بوصات من أجل سداد الفواتير. إن هذا الجيش يعكس العمود الفقري السني الريفي لسوريا.

وانطلقنا إلى حلب بعد الظهر مباشرة، وفي تلك الرحلة الطويلة بالسيارة إلى قلب سوريا التي يسيطر عليها الأسد، لم يبد على المقاتلين أي قلق أو عصبية إلا عندما سمعوا صوت طائرة مروحية تحلق فوقهم، فالأسد يسيطر على الأجواء، وربما لا يستطيع تغيير تلك الموازين القاتلة سوى القذائف الأميركية.

وإذا كانت الولايات المتحدة تريد أن ينسق الثوار عملهم بصورة أفضل، فعليها أن تبادر هي أولا بتنسيق المساعدات الخارجية، حيث إن وابل الأموال والأسلحة القادم من السعودية وقطر والكويت وغيرها من البلدان العربية يساعد المقاتلين المتطرفين ويضعف وجود أي سلسلة نظامية من القيادة عن طريق الجيش السوري الحر.

وغادرت سوريا في وقت متأخر من ليلة الخميس الماضي باندفاع مجنون عبر مسافة 400 ياردة من الأراضي المحرمة، بصحبة مهربين كانوا يبدون قدرا هائلا من التسامح كلما علقت في الأسلاك الشائكة، ولم يحصلوا على مقابل إضافي لإنقاذي عندما تعثرت أثناء مروري عبر الثقب الذي صنعوه في السور الحدودي.

* خدمة «واشنطن بوست»

=================

ميزان قوى جديد!

ميشيل كيلو

الشرق الاوسط

7-10-2012

من هجوم فاشل يشنه النظام في دمشق إلى هجوم آخر أشد فشلا، يتعاظم ميل ميزان القوى الداخلي إلى وضع جديد لصالح طرف الصراع الآخر: شعب سوريا المقاوم.

ومع أن كثيرين قالوا منذ بدء ما صار يعرف بالأزمة السورية إن موازين القوى التي كانت راجحة لصالح النظام لن تستمر، وإن هناك قوة ستتقدم وأخرى ستتراجع، ما دام الشعب مصمما على انتزاع حريته، ولأن العنف لا يصلح وسيلة لمعالجة مشكلات سياسية واجتماعية واقتصادية متراكمة ومعقدة، فإن أهل القرار ركبوا رأسهم وواصلوا تجاهل الواقع وانتقلوا من معارك استخدمت فيها البنادق، إلى أخرى قوامها المدافع، فثالثة زجوا فيها بوسيلة جديدة هي الدبابات، وصولا إلى مرحلة رابعة وأخيرة أضافوا فيها إلى أسلحتهم السابقة الطيران الحربي: دون جدوى أو نتيجة يمكن أن تحتسب لهم أو تعتبر في صالحهم.

لم يكن الأمر يتطلب كثير ذكاء، فالشعب السوري أجبر على الدفاع عن نفسه، مع ما تطلبه ذلك من تعبئة طاقاته وزيادة قدراته وحماية نفسه وممتلكاته، علما بأن موارده كبيرة وتستطيع بشيء من التنظيم وحسن الاستخدام إقامة وضع لا قبل للنظام بمواجهته، مهما نظم موارده المحدودة، فالفارق العددي بين جهتي الصراع هائل، والانتشار الجغرافي الشعبي عامل حاسم إلى أبعد حد، بينما انتشار النظام نقطة ضعف قاتلة، على الرغم مما لديه من أسلحة متقدمة، وتفوق تقني وتخطيط مركزي موحد.

وقد كتب سوريون كثيرون عن هذه النقاط، وشخصوا ما يمكن أن يترتب عليها من نتائج، وتنبأوا بأن النظام مهزوم لا محالة في حال عبأ المواطنون قدراتهم ونظموها وزودوها بما يلزم من أسلحة، مهما كانت قليلة التقدم تقنيا، وقالوا إن النظام سيرتكب غلطة لن يستطيع إصلاحها إن هو خاض معركة مفتوحة ضد شعب غاضب ومصمم على الحرية كشعب سوريا، بلغ نقطة اللاعودة في استعداده لفعل كل ما هو ضروري من أجل استعادة ما كان لديه خلال فترة تاريخية سبقت تكوين وقيام دولته الوطنية، خاض خلالها معارك متنوعة الأشكال ضد جيش فرنسي يشبه جيش النظام الحالي، من حيث تفوقه التقني وعجزه عن كسر شوكة المواطنين السوريين والمقاومة الوطنية، وفي ظل سيادة حافز معنوي يوحّد الناس، كان بالأمس الاستقلال عن الفرنسيين، وهو اليوم القضاء على النظام القائم وصولا إلى الحرية وإعادة بناء الدولة الوطنية.

حشد النظام كل ما لديه من قوة، وعبأ جماعاته معنويا ووعدها بالغنائم، وأطلق يدها في المواطنين، وبثت الفوضى بين صفوفهم لبلبلتهم وإفشال مقاومتهم وتفتيت وحدتهم وتدويخهم وتحويلهم من أكثرية مجتمعية متضامنة إلى أشتات ممزقة. لكن النتيجة كانت عكس ما أراده: فقد تم تنظيم المقاومة تنظيما متعاظما وما صحب ذلك من ميل متزايد، بطيء لكنه ملحوظ، في ميزان القوى لصالح الشعب. وليس سرا أن إلقاء براميل المتفجرات على بيوت السكان يعد إقرارا بأن النظام يواجه عدوا وحيدا هو الشعب، وأن انتقامه الأعمى منه صار دليل يأسه من قهره وكبح التطور الذي يتخلق منذ عدة أشهر، وأدى إلى توسيع دوائر السوريين المشاركين في المقاومة، وتقلص قدرات وطاقات الموالين للنظام من مدنيين وعسكريين، وتقلص رقعة ما يسيطر النظام عليه من أرض الوطن.

ثمة علامات تؤكد أنه لا سبيل بعد اليوم إلى وقف هذا التطور، الذي سينتهي بهزيمة النظام، وأن فرص الحل غير العسكري للصراع، الذي رفضته السلطة بعناد وإصرار، تتراجع، وأن الشعب نجح في تعبئة قواه على الرغم من أنه انطلق من نقطة الصفر، بينما كان النظام قد عبأ قدراته إلى نقطة الذروة، وأن السوريين لن يهزموا بعد الآن، ليس فقط لأن مناطق كثيرة تحررت من سطوة السلطة وممثليها، بل لأن فارق الروح المعنوية لدى الطرفين صار عاملا حاسما في المعركة، وكذلك فارق الإيمان بعدالة القضية التي يقاتلان من أجلها، فضلا عن الحامل الاجتماعي الذي يعتبر المقاومة جزءا تكوينيا منه، يرتبط أمنه ووجوده به، بينما يرى منذ وقت طويل في جيش السلطة غازيا لا مفر من صده بأي ثمن، بمعونة مقاومة وطنية وشعبيه هو منها وهي منه.

خرج النظام من حوران في الجنوب إلى دير الزور في الشرق وإدلب وحلب في الشمال، كما أخرج من مناطق واسعة نسبيا في قلب محافظة اللاذقية، التي يعتبرها فناءه الخلفي ونقطة قوته، مع أنه صار يتحرك فيها أيضا ويده على الزناد، ويعتبرها منطقة غير آمنة، ويرى في معظم مواطنيها أعداء محتملين أو مؤكدين. في الوقت نفسه، صار من الصعب ضبط جيش النظام دون تهديد ضباطه وجنوده بالقتل، إن هم ترددوا في تنفيذ أي أمر يصدر إليهم. يفسر هذا لماذا تكاثرت عمليات الانشقاق عن السلطة والالتحاق بالمقاومة، وتكاثرت بدورها الإعدامات التي أخذت تطاول صفوف الموالين أيضا، ولعل أعظمها خطورة مقتل كبار ضباط خلية الأزمة، الذين تمت تصفيتهم بدم بارد في عملية قيل إن النظام هو الذي رتبها، مع ما واكب هذا كله من تزايد النقد لسياسات الحلقة الأسدية/ المخلوفية الضيقة، التي تربط وجود البلاد والعباد ببقائها في السلطة، على الرغم من أنه لم يبق لها من وظيفة ممكنة أو محتملة غير ممارسة القتل واستباحة حياة المواطنين.

قطعت أزمة سوريا الشوط الأكبر باتجاه الحل، ودخلت في مرحلتها الأخيرة، التي ستتطلب الكثير من الضحايا، لكنها لن توهن عزيمة وتصميم الشعب المقاوم أو تفت في عضده، بينما تفضح تصريحات كبار المسؤولين حجم الصعوبات التي يواجهونها، وتبين أن نهاية المعضلة التي كانوا يروجون لها ليست قريبة، وأن ما كانوا يلخصونه بكلمة «انحلت» أو: «خلصت» لم يكن غير كذب صريح، وأن المقاومة تهد حيلهم وتقوض خططهم وتطردهم من مواقعهم واحدا بعد آخر، وتقضم وجودهم الذي يتأكل باطراد لا سبيل إلى وقفه، وسيؤدي حكما إلى انهيار النظام.

قبل أيام سألني سائق تاكسي باريسي من أصل أفريقي، عندما علم أنني سوري: هل رئيسكم مجنون؟ ألا يعلم أنه لا توجد قوة تستطيع قهر شعب يثور لكرامته ومن أجل حريته؟ كم أتمنى أن يتوقف أنصار بشار الأسد أمام هذا السؤال وأن يجيبوا عنه بنزاهة إنسانية وضمير وطني!

------------------------

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها

 

 

أعلى الصفحةالسابق

 

الرئيسة

اطبع الصفحة

اتصل بنا

ابحث في الموقع

أضف موقعنا لمفضلتك

ـ

ـ

من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ