ـ

ـ

ـ

مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وقولوا للناس حسنا

اتصل بنا

اطبع الصفحة

أضف موقعنا لمفضلتك ابحث في الموقع الرئيسة المدير المسؤول : زهير سالم

الاثنين 26/09/2011


أرسل بريدك الإلكتروني ليصل إليك جديدنا

 

واحة اللقاء

 

التعريف

أرشيف الموقع حتى 31 - 05 - 2004

ابحث في الموقع

أرسل مشاركة

لماذا المجلس الوطني السوري؟!

الأحد 25/09/2011

د. وائل مرزا

المدينة

لأن السياسة بالتعريف السائد هي فنّ الممكن. والممكن في الواقع السياسي السوري المعاصر يفرض على الساسة المعارضين الاتفاق لخدمة الثورة السورية عمليًا والخروج من نفق الجدالات النظرية التي يريد البعض أن تغرق المعارضة فيها إلى الأبد.

لم يعد مهمًا اليوم الحديث في النيّات والبحث ما إذا كانت عمليات المماطلة والتأجيل تحت عناوين الحوار تأتي عن حُسن نية أو سوء طويّة. يكفي أن هذا الانتظار، الذي يبدو أشبه بانتظار جودو الذي لن يأتي أبدًا، أصبح فِعلًا سلبيًا مرفوضًا يُساهم في تأخير وصول الثورة إلى أهدافها. بل إنه صار أداةً من الأدوات التي يستخدمها النظام لاستمراره وبقائه جنبًا إلى جنب مع حملته الوحشية ضد شعب سورية الأعزل.

ليس من طبيعة الدنيا الكمال، ولم يقل أحدٌ أن مشروع المجلس الوطني السوري مشروعٌ كامل الأوصاف. لكن الموقف الطبيعي من مثل هذا الوضع يتمثل بالمساهمة الفعالة والعملية في استكمال المشروع، لكي يصبح قادرًا على تحقيق مطلب الثوار في توحيد المعارضة وخدمة الثورة داخليًا وخارجيًا.

لهذا، لم يعد مفهومًا أن تُصبح المفاوضات لتوحيد المعارضة هدفًا بحدّ ذاتها سواء قصد البعض ذلك أو لم يقصدوه، وإذا كانت المفاوضات وسيلةً كما يجب أن تكون فلا معنى للوقوف مرةً تلو أخرى عند جملةٍ هنا ومصطلحٍ هناك في خضمّها. فثوابت الثورة واضحة، والمجلس الوطني ملتزمٌ بها، والعمل بتناغم مع تلك الثوابت ينضبطُ كلما انخرط فيه ممثلون لقوى المعارضة الأخرى.

لم يخترع المجلس الثوابت المذكورة من عنده، وإنما طرحها بعد الاطلاع على وثائق عديدة أصدرتها جهاتٌ متنوعة في المعارضة خلال الأشهر الماضية. ويسري الأمر نفسه على المنطلقات الرئيسة لملامح سوريا المستقبل. فقد تمّت دراسة تلك الوثائق بأسرها، وجرى الخروج من الدراسة بوثيقة توافق وطني تُحدد المشتركات الأساسية المتعلقة بتلك الثوابت والمنطلقات. وتم التأكيد فيها على أن الثورة تهدف لإسقاط النظام، وعلى أنها سلمية، وبأن مفصلها الرئيس يتمثل في الوحدة الوطنية ونبذ أي دعوة للطائفية أو المذهبية أو احتكار الثورة.

أما بالنسبة لملامح سوريا المستقبل فقد أكّدت الوثيقة التي أصدرها المجلس أن سوريا دولة مدنية حديثة يضمن دستورها الجديد الحقوق المتساوية للمواطنين والتداول السلمي للسلطة واستقلال القضاء وسيادة القانون واحترام الحقوق السياسية والثقافية والدينية والشخصية وحرية الإعلام لجميع مكونات المجتمع السوري في إطار الوحدة الكاملة للوطن وترابه. وعلى أن سوريا دولة ذات نظام ديمقراطي يقوم على مبدأ فصل السلطات والتعددية السياسية. وعلى أن السوريين شعبٌ واحد، أفراده متساوون في الحقوق والواجبات، لا ينال أحد رجلًا كان أو امرأة منهم امتيازًا أو ينتقص من حقوقه بسبب أصوله الدينية أو المذهبية أو القومية. وأن تنال كل المكونات القومية والدينية التي يتشكل منها الشعب السوري حقوقها في سوريا المستقبل على أساس المواطنة من دون أي تمييز، وأن لكل منها حقوقًا وواجبات على قدم المساواة مع الجميع، مع الاعتراف الدستوري بالهوية القومية الكردية، وضرورة إيجاد حل ديمقراطي عادل للمسألة الكردية في إطار وحدة الوطن.

إضافةً إلى هذا، أكّد ميثاق المجلس أن القانون فوق الجميع، وأن المحاسبة مبدأ شامل لا استثناء فيه، وعلى عدم تسييس المؤسسة العسكرية التي تتمثل مهمتها في الدفاع عن تراب الوطن وحماية حدوده ضد الاعتداء الخارجي وتخضع دستوريًا لسلطة النظام السياسي الديمقراطي بسلطاته الثلاث، وعلى تقوية دور المجتمع المدني ومؤسساته للمساهمة في ترسيخ مفاهيم المواطنة والمشاركة في عملية التنمية، وعلى السعي المستمر لتحقيق العدالة في توزيع الثروة الوطنية، بحيث تكون الموارد الوطنية ملكًا للسوريين جميعًا في إطار حكم رشيد، وتوجيه ثمار التنمية نحو رفع مقدَّرات ومستوى حياة جميع شرائحهم ومناطقهم وفي مقدمتها الأكثر حرمانًا.

وأكدت خاتمة الميثاق بعد ذلك أن سوريا المستقبل دولةٌ حرة مستقلة الإرادة تحافظ على سيادتها الوطنية، وملتزمة باتفاقياتها الدولية على أساس المصالح الوطنية العليا، وعلى أن العلاقات الخارجية مبنية على مبادئ حسن الجوار والاحترام المتبادل مع المجتمع الدولي.

طرح المجلس المبادئ المذكورة أعلاه وتحرك للعمل بثلةٍ من العاملين تمثل شريحةً واسعةً من أطياف المجتمع السوري ومكوناته وقواه السياسية. لكنه لم يقبل أبدًا بالانغلاق على نفسه، ولم يزعم احتكار التمثيل، ولم يدّعِ اكتمال بنائه النهائي، وإنما بقي مفتوحًا لجميع الجهود والقوى بحيث تأخذ موقعها اللائق فيه إن ارتأت العمل من خلاله، وبقي منفتحًا على جميع الجهود والقوى التي ترتأي العمل من خارجه. فالمجلس مسكونٌ بهاجس العمل من أجل الثورة في نهاية المطاف، وهذا الهاجس هو المحرّك الأول والأساس لنشاطاته وحركته في كل مجال.

وخلال أسبوعٍ واحدٍ من تأسيسه، قام المجلس بممارسات تُثبت عمليًا موقفه المذكور. فقد أرسل مباشرةً وفدًا إلى مخيمات اللاجئين السوريين في تركيا يمثل لجنةً خاصة أنشأها لخدمتهم بشكلٍ مؤسسي بعيدًا عن الجهود الفردية السابقة. وأرسل وفدًا للقاء رئيس منظمة الصليب الأحمر الدولي في جنيف متابعةً للملفّ الحقوقي ضد النظام وأركانه. والتقى بممثلين للسلك الدبلوماسي في تركيا، وتواصل مع العديد من الدول والمنظمات العالمية تمهيدًا للقاءات ترمي إلى وضع تلك الجهات أمام مسؤوليتها تجاه الشعب السوري وثورته بشكلٍ مباشر. وهو يُحضّر لزيارةٍ رسمية إلى القاهرة انطلاقًا من اهتمامه المؤكد بالبُعد العربي وتقديره لدور مصر الثورة ووزنها في الأسرة العربية.

يقوم المجلس بتلك النشاطات وغيرها وهو لا يزال يستكمل المفاوضات والمشاورات مع جميع القوى السياسية لأنه لا يرى تناقضًا بين مسارين مُلحّين لخدمة الثورة يُصرّ البعضُ أنه موجود!

لا مجال إذًا في مثل هذا السياق للوقوف أو النظر إلى الوراء أو البداية من نقطة الصفر. وحين ينطلق المجلس للعمل بتلك الروح فإن عليه أن يتذكر دومًا أن حكم الشعب والتاريخ على المعارضة السورية ودورها الحقيقي في خدمة الثورة سيكون في نهاية المطاف حكمًا على الإنجازات والأفعال، وليس على الأقوال أو الشعارات.

waelmerza@hotmail.com

=================

الواقعي والافتراضي في الانتفاضة السورية

عمر قدور

المستقبل

25-9-2011

قد يُفاجأ القطريون بوجود ثورة في بلادهم ضد أميرها، وبوجود صفحة على الفيس بوك تغطي أخبارها، وبالتأكيد لا يعرف العالم ولا الصينيون أنفسهم بوجود ثورة صينية ضد جينتاو رغم وجود صفحة على الفيس بوك تُعنى بآخر تطوراتها. أما نشطاء الفيس بوك في سوريا فيعرفون الصفحتين جيداً، ولهذا قصة تدل على جانب من الحالة السورية لا يقتصر على الطرافة وحسب. تعرّف صفحة الثورة القطرية مهمتها على النحو التالي: "نحن قطريون ونريد دعم أخوتنا العرب مصريون وليبيون وبحرينيون ويمنيون ومغاربة وسعوديون وإماراتيون وكويتيون وموريتانيون وصوماليون وعمانيون وعراقيون وسوريون ولبنانيون وأردنيون وفلسطينيون وتوانسة وسودانيون وجزائريون.. نريد أن ندعم حركات المقاومة العربية ضد الصهيونية الإمبريالية ونريد أن يرى كل العالم فضائح وجرائم عميل الصهيونية رقم واحد"!.

أليس غريباً أن يثور القطريون فقط من أجل دعم الشعوب العربية الأخرى، والتي لا همّ لها سوى الصهيونية الإمبريالية؟! صفحة الثورة القطرية توقفت عن التحديث وقت انقطاع النت في سوريا، ومن المعروف على نطاق واسع أن مؤيدي الحكم هم الذين أنشأوها غيظاً من موقف حليف الأمس تجاه ما يجري اليوم، أما صفحة الثورة الصينية فقد أنشأها شاب معارض ربما على سبيل السخرية من الصفحة الأولى، وتزداد السخرية وضوحاً باختيار الصين كأضخم دولة بعدد السكان قياساً إلى دولة صغيرة كقطر، لكن الاعتبار الأهم الذي كشف عنه مؤسس الصفحة فيما بعد هو أنه أطلقها وفاء لروح أخيه الذي استشهد أثناء الانتفاضة. الثورة الصينية محاكاة ساخرة لما يجري في سوريا، تتبدل أسماء الأشخاص والأماكن كأنما لتقول أسوة بالإعلام الرسمي أن لا شيء يحدث هنا، وأن بوسع الذين يغمضون أعينهم تصور الأحداث وكأنها تجري في مكان آخر قصيّ، وأن ينعموا بهناءة هذا الافتراض.

من يشاء النوم في العسل بوسعه الركون إلى روايات الإعلام الرسمي وصداها في الصفحات الموالية؛ هنا يجد أنصار الحكم طمأنينتهم وراحة بالهم، إذ لا شيء يحدث في سوريا سوى بعض الشغب الذي يسببه إرهابيون سلفيون وعملاء، ومن أجل التصدي لهم لا بأس إن صدقت روايتهم عن اقتلاع أظافر مجموعة من الأطفال في مدينة درعا!. هذه ليست مزحة سمجة، لقد ورد تعليق بهذا المعنى على صفحة أُطلقت دعماً وتأييداً لضابط الأمن المتهم بتعذيب الأطفال، أما الإنكار فحدّث ولا حرج، وآخر إبداعاته أن الناشط المعرف غياث مطر لقي حتفه أثناء تبادل لإطلاق النار مع أحمد عيروط، وهو ناشط آخر قُتل أثناء تشييع جنازة الأول!. بالطبع لا ذكر هنا لآثار التعذيب على جثة غياث مطر، فآثار التعذيب هي اختلاق من المندسين الذين سبق لهم اختلاق مقتل ابراهيم قاشوش واقتلاع حنجرته!.

"نحن المخابرات السورية الالكترونية تمكنا من اختراق حسابك على الفيس بوك ونسخ بياناتك، وسنقوم بتسليمها لأجهزة الأمن لتتولى ملاحقتك"؛ هذه الرسالة التي تصل إلى بعض المعارضين هي نموذج لما بات يُسمى "التشبيح الالكتروني"، وإحدى الجهات التي تقوم به تنتحل اسم "الجيش السوري الالكتروني" موحية بأنها هيئة وطنية. على المقلب الآخر تتجلى النزاهة عندما نجد شباناً يقومون بالفعل المضاد تحت اسم "اتحاد قراصنة سوريا الأحرار لدعم الثورة السورية"، فهؤلاء يقرّون بأن ما يفعلونه هو قرصنة، وعلى صفحتهم يضعون بكل شفافية أسماء المواقع التي قاموا باختراقها، ولم يُعرف عنهم اختراق مواقع أو صفحات شخصية وتخريبها، أو كتابة الشتائم والتهديدات لأصحابها. لغة الشتائم، فضلاً عن عدم أخلاقيتها، تنمّ عن قلة الحيلة وافتقاد المنطق والحجة، لذا ليس من المستغرب أن تتراوح لغة الصفحات الموالية بين التغني بشعارات المقاومة والممانعة وبين التخوين وشتم المعارضين في تغييب فجّ لأسباب الصراع.

ليس من باب المصادفة أن تفتقر الصفحات الموالية إلى المخيلة، فهي أنشئت كرد فعل على الصفحات التي أنشأها شباب الانتفاضة والمؤيدون لها، واعتمدت على المخزون اللغوي الأيديولوجي للسلطة مقدّمة دليلاً إضافياً على عقمه وعلى ابتعاده المطرد عن الواقع. إن بحثاً سريعاً على صفحات الفيس بوك يعطي صورة واضحة عن مدى تنوع الصفحات المؤيدة للانتفاضة، ومدى اختلافها أيضاً، وبالتأكيد لا أحد يزعم أن هذه الصفحات لها ذات السوية على المستوى الفني أو على مستوى الخطاب، لكنها بالتأكيد تفترق عن الصفحات المؤيدة لجهة عدم وقوعها في النمطية وعدم وجود محور وحيد تدور حوله إلى الأبد.

لقد نشط شباب الثورة على الفيس بوك وكسروا الحواجز التقنية في وقت كان الموقع محجوباً في سوريا، وانطلقت أولى الدعوات للتظاهر من خلاله، وظن البعض أن الأسماء المستعارة للناشطين مجرد واقع افتراضي حتى أثبت الواقع الواقعي خلاف ذلك، وأصبح الفيس بوك مصدر إرباك وخوف للنظام الأمني ذي الأساليب التقليدية في القمع. ثمة نكتة متداولة تدل على حجم الهوة بين الشباب والنظام الأمني. تقول النكتة إن حاجزاً أوقف شاباً معه كمبيوتراً محمولاً وفلا ش ميموري، سأله عن الكومبيوتر وعن الفلاش، ثم سأله: معك فيس بوك؟ صحيح أن النظام الأمني يحاول جاهداً ردم الهوة المعرفية بالمزيد من البطش، لكن آلة القمع تكشف يومياً عن حجم اغترابها عن الواقع المستجد، ولعل المفارقة هي أنه بقدر ما تكون الفظاعة ملموسة إلا أنها لم تعد تنتمي إلى الواقع السوري الجديد.

في سوريا صراع يزحزح المفاهيم المعتادة. فالسلطة، عادة وحكماً، تنتمي إلى الواقع أما في سوريا فالسلطة تعيش في واقعها المفترض، سلطة تملك نظرياً جميع مفاتيح القوة وتبددها باغترابها المطرد عن الواقع الفعلي. بينما نجد الشباب السوري استطاع تحويل ما هو افتراضي إلى واقعي. قد تفسر الضرورة جانباً من حجم التواصل الذي يلجأ إليه السوريون على صفحات الفيس بوك، مع أن ذلك تعدى الضرورة إلى الدمج بين ما هو افتراضي وما هو واقعي، فالفيس بوك السوري تجسيد للعقل السوري الذي تحرر من افتراضات النظام، وهو لصيق بالواقع على العكس من الاغتراب الذي يحاول النظام تعميمه على الجميع، إنه يمور بتباينات وفرادة يفتقر إليها الواقع الافتراضي للسلطة. علاوة على ذلك تعيش السلطة والموالون واقعاً افتراضياً مفاده أن لا شيء يحدث في سوريا، ثمة ثورة في قطر والوضع مستتب هنا؛ لم لا؟! فلتهنأ السلطة بواقعها المزعوم إلى أن تُفاجأ بانتصار الثورة في الصين لا في قطر!.

=================

الثورة السورية وحرق الأوراق الطائفية

غازي دحمان

المستقبل

25-9-2011

ثمة من بات في سوريا يطرح السؤال التالي، هل تنجو الثورة من محاولات جرها إلى الشرك الطائفي الذي يريد البعض تفجيره في وجهها كنمط من الأزمة يهدف إلى إجهاضها والقضاء عليها بالضربة المميتة، بل واعتبارها خطأ ارتكبه الشعب أو بعضه، بعد أن اتسعت تلك الثورة أفقياً وعمودياً وأصبحت معطى راسخاً في الواقعين السياسي والاجتماعي السوري؟

ولا شك أن الثورة والنظام لهما أنصارهما الموجودون في كل البيئات وبين مختلف الطوائف والفئات، وبقدر ما للنظام من أنصار يرتبطون به مصلحياً، وحتى عقائدياً من مختلف المكونات السورية، كذلك فإن الثورة، على مدار الأشهر الستة أسست بصبر وعناد قل نظيره، كتلتها الجماهيرية التي تتنامى بشكل مطرد، والتي يبدو أنها قطعت نهائياً مع النظام الحالي وباتت تتطلع إلى سوريا الغد، وترسم في إطارها أدوارها وتتفحص خياراتها وإمكاناتها، وكل ذلك بعد أن يتسنى لها عبور بركة الدم التي تخوض فيها سوريا من أقصاها إلى أقصاها.

وبما أن الحالة السورية دخلت، في هذه اللحظة على الأقل، في نوع من توازن القوى المربك للطرفين، بحيث أن النظام رغم احتكاره للسلطة والسلاح يعجز عن كسر الثورة، كما أن الثورة في انتظار حسم الكتلة الحرجة (غالبية المواطنين) بالانضمام إلى فعاليات الثورة، فلا بد من البحث عن مخارج جديدة غير تلك الوسائل التي تم تجريبها ولم تؤدِ إلى نتائج عملياتية ذات فعالية تذكر على الأرض.

بالنسبة للثورة، تشكل هذه المرحلة طوراً من أطوار التطور الطبيعي، وفي هذا الوضع تبدو أكثر اطمئناناً، رغم كل الجروح التي أصابتها عبر قتل واعتقال جزء مهم من جسمها الفاعل والناشط، لكن التطورات أثبتت أن الثورة استطاعت دائماً بناء كوادر بديلة من الشباب وتعويض الخسائر بسرعة وكيفية مذهلتين.

كما أنها من جهة أخرى تمكنت من تفعيل برنامجها الثوري، وهي في طريقها إلى تطوير أشكال رديفة من النضال السلمي، لا تقتصر على التظاهر كنمط ثوري وحيد، بل تمتد إلى الإضرابات والعصيان المدني الذي أخذت تطبيقاته الأولية تظهر بشكل واضح في العديد من المناطق.

وإضافة لذلك، فإن الثورة في طريقها إلى تحقيق شعارها الوطني باعتبارها ثورة وطنية شاملة تخص كل المكونات الطائفية والإثنية السورية، وذلك عبر الانضمام المتواتر لمختلف المكونات في فعاليات الثورة، عرب وأكراد وأشور وشركس وتركمان، وسنة ودروز وعلويون وإسماعيليون.

وبالتزامن مع تزخيم الحراك في دمشق وحلب، مما يعني أن الثورة استثمرت، وبشكل مجدٍ وفاعل، كل مراحل تطورها، وهي تسير بديناميكية تطورية وفي خط تصاعدي وصلت مرحلته الآن إلى حد التوازن، ولن تلبث أن تغادره إلى طور الأكثرية الواضحة.

بالنسبة للنظام، لا تشكل حالة توازن القوى وضعاً مريحاً، لا من الناحية السياسية ولا الأمنية، فالنظام تعاطى منذ البداية مع الثورة انطلاقاً من معادلة العلاقة الصفرية، إذ كل ما تربحه الثورة يشكل حسماً من رصيده.

كما أن النظام يدرك أن استمرار الثورة يعني استمرار بقائه في دائرة الخطر، ذلك أنه نظام مركب من جملة من مراكز القوى والمصالح والاعتبارات التي تتعرض بشكل يومي إلى الاهتزاز والتصدع، كنتيجة طبيعية لاستمرار بيئة الخطر التي تشكلها الثورة، كما يفرض نمط استجاباته التضحية ببعض الامتيازات التي يحتكرها، مما يحدث انقسامات، قد تكون غير مرئية حتى اللحظة، لكنها في طور التشكل، كنتيجة لاستمرار الأوضاع وتصاعدها.

في ظل هذا السياق التصارعي بين النظام والثورة، أطلت بعض الأحداث الطائفية برأسها على المشهد السوري، ما يدفع إلى التساؤل عن ماهيتها، فهل هي واقع طبيعي خلصت إليه الأزمة السورية، أم هي مكون جرى تصديره لمسرح الأزمة بعد تصنيعه وتصميمه مخبرياً كمضاد طبيعي للثورة وكاسر لأمواجها العاتية؟

لا يفيد كثيراً نكران الحالة الطائفية في سوريا، فهي واقع موجود ومتأسس منذ قرون، وتفاصيل هذا الواقع معروفة للجميع، كما لا يمكن نكران وجود بعض الانقسامات التي تنطوي عليها هذه الحالة نتيجة معطيات متعلقة بالمناخ الإقليمي المتأثر الذي شهد في السنوات الأخيرة استنفاراً طائفياً تمظهرت تعبيراته في العراق ولبنان خصوصاً.

كما أن التسابق على إحياء بنى التخلف من عائلية وعشائرية ومناطقية وطائفية صارت سمة المرحلة، ولا يمكن استثناء سوريا من هذا السياق، غير أنه في الحالة السورية بقي هذا الانقسام ضمن أطر معينة لم يتجاوزها، كما جرى استيعابه، وإن لم يجر تفكيكه على اعتبار أن النظام لا يعترف بالحالة الطائفية أصلاً، على الأقل في خطابه السياسي.

إضافة إلى ذلك فإن معطيات الواقع السوري طاردة لنمو واكتمال حالة طائفية بين ظهرانيه، وذلك راجع بدرجة كبيرة إلى واقع تدامج المصالح ووحدتها بين مختلف مكونات الشعب السوري، فضلاً عن التمازج الديمغرافي والانصهار العلائقي بين مختلف هذه المكونات، واختفاء حدود الانقسام الطائفي، بحيث أصبحت الكثير من المدن السورية (دمشق وريفها وحمص واللاذقية) أمكنة تحتضن، وبشكل متداخل، غالبية الطيف السوري، ونشأت في ظل هذا التداخل علاقات يصعب فصمها وتفريقها.

إضافة لذلك، ثمة اعتبارات عديدة تؤكد أن الانزياح إلى الشرك الطائفي في سوريا ليس سوى صناعة يُراد منها تحقيق أهداف بعينها، لا شك أنها تتعلق بتطورات الأوضاع الحالية، منها أن النظام الحالي لا يمثل طائفة بعينها، كما أن استبداده طال جميع الطوائف من دون استثناء.

ويعرف الكثير في سوريا أن معارضي النظام ممن دخلوا السجون أو شردوا أو تمت ملاحقتهم سياسياً منذ العام 1970 وحتى الآن، من غير المنتمين إلى التنظيمات الإسلامية، ينتمون في غالبيتهم إلى الطائفة العلوية أو أبناء الأقليات الأخرى المتعاطفة مع النظام.

من ناحية أخرى فإن سوريا تملك خبرة تاريخية في هذا السياق تمنحها القدرة الكافية على التعاطي مع هذه الحالة المستجدة، فقد سبق لسوريا في الخمسينات والستينات أن حصرت "الحرب الأهلية" داخل مؤسسات الدولة ومنعت انفلاتها إلى المجتمع على النمطين اللبناني والعراقي، كما أنها تجاوزت صدمة أحداث عام 1982 رغم قسوتها ومرارة نتائجها ومترتباتها.

من الواضح أن هناك أطرافاً بعضها داخل النظام تدفع نحو صراع كهذا، لأنه يعيد تركيب الأزمة الحالية بمعطيات غير معطياتها الحقيقية، بما فيها من معطيات سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية، دافعاً إلى اختصارها في صراع بين طوائف.

ولا شك أن أجهزة أمنية وإعلامية من داخل النظام تمثل بعض الأطراف المنخرطة في التحشيد الطائفي وفي الدفع نحو صراع طائفي، إلا أن المؤشرات المتوفرة حتى اللحظة تفيد أن قوى الثورة قادرة ومصممة على اجتياز هذه الحالة، بل إنها بدأت تستثمرها لغير مصلحة النظام، مما يؤكد احتراق هذه الورقة ونزعها من خانة المخاطر التي تتربص بالثورة، إن لم يجرِ تحويلها إلى أحد أهم أوراق القوة بيد الثورة.

.

=================

الديمقراطية وما يشبه الثورة

فواز حداد

الشرق الاوسط

25-9-2011

في أواخر القرن العشرين، بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، ازدادت القناعة لدى الكثير من المحللين السياسيين بأن حالة السلام تحقق مصالح الدول الكبرى أكثر مما تحققها الصراعات المسلحة الساخنة والباردة. وإذا كان لا بد من الحرب، فبعيدا عن بلدانهم، وعلى أن تكون صغيرة ومحدودة وبأدوات محلية. الحرب الأخيرة اتخذت مسرحا لها العراق وأفغانستان، حصلت بالأكاذيب تحت رايات مختلفة، وبُررت بأنها حرب اضطرارية. بعد إخفاقاتها المتتالية في الوصول إلى أهدافها، استقر الرأي على ما استقر عليه سابقا؛ أن تعتمد الحروب أشكالا أخرى تتمثل في الحصار والتضييق الاقتصادي والتجويع، رغم تجاربهم غير البعيدة التي أثبتت عدم تحقق الغرض منها، فالأنظمة الديكتاتورية لم تتهاو، ولم تقُضّ العقوبات الاقتصادية مضجع الديكتاتور وبطانته، أو تنتقص من رفاهيتهم. وإن كان الحصار على المدى الطويل يؤتي ثماره؛ مزيدا من الغليان الشعبي. لكن يتحمل الشعب نتائجها الكارثية، ولو أنها أظهرت قدراته على مقاومة الجوع والموت بالتقسيط. من جانب آخر، تراجعت الحروب الأهلية الداخلية، وحوصرت لئلا تمتد مفاعيلها إلى الخارج، هذا إذا لم تلعب المصالح الدولية دورا في إذكائها. مع أن الأمم المتحدة شرعت مبررات للتدخل فيها لدواع إنسانية، بغرض إيقافها. فالمجتمع الدولي حسب البيانات الصادرة عنه ينبغي ألا يشعر بالقلق.

في هذه الأجواء من الحرص على تعميم التهدئة في العالم، استعادت الثورات على النمط الفرنسي والروسي حظوتها، وكانت، كما أشيع، قد انطوت إلى غير ما رجعة، تمثلت بثورات مخملية، تضارع النماذج الأصلية في مظاهرها الإعلامية من ناحية تحشيد الجماهير في الشوارع والساحات وإعلان إرادتها على منصات المنابر، ونجاحها في الإطاحة بالسلطة الحاكمة، مستعيدة تقاليد الثورات الكبرى من دون مقاصل وإعدامات ومشانق، لا مبرر لها، فالضحايا يثقلون الضمائر، خاصة أن الثورات الملونة كانت مدبرة، إذ إن للتآمر ودول الجوار والعمل المخابراتي لسفارات الدول الغربية نصيبا وافيا فيها.

بات الخارج يدفع إن لم يشارك في متغيرات تعمل لصالحه في دول العالم المتخلف التي توقفت عن النمو وأمعنت في التخلف من جراء الفساد المستشري فيها، وانحدرت من المرتبة الثالثة إلى الرابعة. وربما كان في تصنيف الغرب لهذه التحركات على أنها ثورة، إرضاء لحنين الشعوب إلى ماض لم يكن بعيدا. كان الغرب نفسه هو الأشد في محاولات قمعها بشراسة وبشتى الوسائل. ففي القرن الفائت تفاءل الثوار واعتقدوا أنهم ملكوا زمام المستقبل، فإذا بالثورات الظافرة سُرقت لصالح حفنة من الطغاة اللصوص.

يبدو اليوم في وصف التظاهرات بأنها ثورة، مبالغة لا تستمد من الواقع ولا من التنظيرات، فالثورات أمست حكرا على الماضي وحده. وليس في تزلف الغرب ونفاقه إشعار منه بإعادة الاعتبار إليها، وإنما تحويل الأبصار عن تصنيعه لها وهيمنته عليها. وإذا كان الغرب قد نجح في فرض رؤيته على العالم كله، وأصبحت الثورة شيئا غير ضروري، فلأن هناك أشياء تشبهها. غير أن المظاهرات التي اندلعت على طول الوطن العربي منتفضة على حكامها، من غير كونها مدينة لأحد سوى شعوبها، حيرت المحللين في توصيفها. فالغرب لم يخطط لها، أو يشارك بها، بل فوجئ بها، ولم يؤيدها إلا متأخرا، بعدما خشي على مصالحه المستقبلية.

المثير للسخرية أنه حتى أشباه الثورات أصابها الكيل بمكيالين، فثورات أوروبا الشرقية والبلدان المنفصلة عن الاتحاد السوفياتي باركها الغرب. أما الشعوب العربية التي تعاني من الطغيان السافر تحت أنظار العالم كله، فلم يكن هناك استعجال على منحها جواز المرور إلى جنة الديمقراطية، خشية أن تشتبه بالثورة أو تصبح ثورة حقيقية، وتطيح بالترتيبات القائمة والتفاهمات السرية مع السلطات الحاكمة، مما أطال عمر أنظمة ديكتاتورية تمُت إلى عالم بغيض، وإطالة عمر حكام، أقل ما يمكن أن يقال فيهم، إنهم اختلقوا سندات توريث وصكوك ملكية تمنحهم حق التصرف بالأرض والبشر من دون حسيب ولا رقيب. ولهذا كان من السهل على الغرب ابتزازهم بتنازلات على حساب بلدانهم، مما سمح لهم باستقرار مزعوم من دون منغصات دعائية غربية.

وهكذا لم يكن عبثا تسويق تنظيرات بين فترة وأخرى، راجت على نطاق واسع، وهي أن العرب غير مؤهلين للديمقراطية. حتى إن أكاديميين غربيين، برهنوا أن الدين الإسلامي على عداء معها، وأن سيكولوجية العرب المفطورة على الاستبداد تنفر من الحرية، وأن دفعهم إلى ما يشبه الثورة سيقودهم إلى الضياع في مسارب الفوضى. دعاوى تلقفها لفيف من المفكرين والمحللين السياسيين العرب وأقاموا الأدلة على أن الديمقراطية لا ينبغي استسهالها، ولا أن تكون مبذولة، وإنما تمنح بالتدريج البطيء جدا والطويل الأمد، ثم تباروا إلى حد المنافسة المحمومة في تدمير أي نوازع يشتم منها أن شعوبهم قابلة للانضباط بقوانين تحتاج إلى ثقافة منيعة عليهم، ووضعوا اشتراطات لها حصّنتها من الابتذال. وبهذا حجزت النخبة الذكية من المثقفين العرب لشعوبها مكانا خارج التاريخ والمستقبل. واستعادت رحلة جلد الذات الممتعة. غير أن الاحتجاجات العربية، أو الانتفاضات، أو الثورات، أو ما يشبهها، ربما لأنها سلمية لا ترفع السلاح، وراهنت على الديمقراطية، فاجأت النخبة الذكية نفسها بربيع أخذ في الانتشار السريع، ودفعتها إلى مراجعة حساباتها، واضطرتهم مرغمين إلى التعاطف مع هذا المد الشعبي. وإذا كان الكثيرون قد أشاروا إلى سقوط جدار الخوف، فقد سقط معه من جملة ما سقط التنظيرات العنصرية التي تميز بين الشعوب، فتختار لنعمة الحرية شعوبا وتحجزها عن أخرى. أما الديمقراطية فقادمة، والعزم عليها، يعني أن الطريق إليها قد بدأ.

ولنتذكر، ولو كان هناك من يقول إن أوانها لم يحل بعد، أن هذا اللهيب الذي يعصف في بلاد العرب، لم يكن مدبرا، ولا مخمليا، وإذا كان ملونا.. فبالدماء.

=================

قضية فلسطين بين المحلي والدولي

تاريخ النشر: الأحد 25 سبتمبر 2011

د. رضوان السيد

الاتحاد

جاءت خطاباتُ الرؤساء في الأمم المتحدة تعبيراً عما يعتبره كُلُّ رئيسٍ نجاحاً له ولبلاده في المشهد الحالي، وفي السنوات القليلة الماضية. وهذا يسري على البلدان الكبيرة والمتوسّطة مثل أميركا وفرنسا وبريطانيا وروسيا وتركيا وإيران. أمّا البلدان الصغيرة مثل لبنان، ورغم أنّ رئيسه هو الرئيس الحالي لمجلس الأمن؛ فإنه ظلَّ مشغولاً -وهذا حقُّه- بمشكلات بلاده مع المحيط، وهما في حالتنا إسرائيل وسوريا. فقد طالب سليمان المنظمة الدولية بإرغام إسرائيل على إكمال تطبيق القرار 1701. وبالفعل فإنّ إسرائيل ما تزال تخرُق الأجواء اللبنانية بطائراتها وسفنها وتتقدم دورياتُها أحياناً لما يعتبره لبنان دواخل خطّه الحدودي. لكنّ القوات الدولية بجنوب لبنان تطالب الحكومة اللبنانية منذ مدة، بكشف أسرار الاعتداءات التي تتعرضُ لها، والتي ذهب ضحيتها خلال السنوات الماضية عشرات الجنود، من دون أن تتمكن السلطات اللبنانية من كشف الفاعلين. وإذا كانت إسرائيل معتديةً بالفعل، وعلى لبنان وسوريا وفلسطين بالمنظور الدولي؛ فإنّ مشكلة الأراضي اللبنانية التي بقيت تحت الاحتلال بالجنوب، لها علاقةٌ وتشابُكات لا تتناول الكيان الصهيوني فقط؛ بل تتناول سوريا أيضاً. ذلك أنّ الأمم المتحدة ما تزال تعتبر مزارع شبعا أرضاً سورية، وتحتاج إلى "ترسيم حدود" تقول سوريا بموجبه إنّ تلك البقعة لبنانية، ليس سكاناً وتملكاً فقط؛ بل سيادةً كذلك. وهو اعترافٌ ترفضه سوريا حتى اليوم، وما ذكره سليمان بالطبع. بل إنه فعل عكس ذلك عندما صرَّح في مقابلةٍ عشية وصوله إلى نيويورك، بأنّ ما يجري في البلدان العربية (يقصد سوريا بالطبع) ليس حركات مطلبية فقط، وهو يشير من بعيد إلى ما سبق أن أعلن أنه يوافق البطرك الراعي عليه، من أنّ بين الثائرين متطرفين وإرهابيين. وهكذا فإنه يقول رأْياً في ثورة الشعب السوري يأمل أن يُرضي به النظام هناك، كما سبق أن أرضى هو والبطرك الراعي "حزب الله"، عندما اعتبرا أنّ سلاح الحزب ينبغي أن يبقى لما بعد تحرير مزارع شبعا وحلّ مشكلة اللاجئين الفلسطينيين، فَشَرْعَنَ السلاح غير الشرعي على الأرض اللبنانية، وأسقط المسؤولية في الدفاع عن الأرض والسيادة عن الجيش، وأعطاها للحزب. والأخطَر من ذلك أنه اعتبر الحزب -وليس الدولة- مسؤولاً عن حلّ مشكلة اللاجئين، ولستُ أدري كيف! إذ لو كان يقصد عدم الدخول في اتفاق سلام أو هدنة مع إسرائيل حتى بعد التحرير إلاّ إذا أعادت إسرائيل الفلسطينيين اللاجئين إلى ديارهم، لكان قد قال إنّ الدولة اللبنانية لن تصير إلى هدنةٍ أو سلامٍ مع العدوّ إلاّ بعد إعادة اللاجئين، فهو رئيس الجمهورية، والمفروض أنه المؤتمن على الدولة والدستور والحرب والسلم، وليس "حزب الله" وسلاحه!

بيد أنّ الأبرز ليس خطاب الرئيس اللبناني أمام الأُمم المتحدة بالطبع؛ بل الخطاب الفلسطيني العربي، والعربي الفلسطيني. وكان بعضُ المراقبين قد لاحظوا أنه لولا القضية الفلسطينية ومبادرة السلطة إلى طرحها على المحفل الدولي بمجلسَيه (مجلس الأمن والجمعية العامة) لكان موضوع الكلمات الرئيس في الجمعية العامة لهذا العام هو "الربيع العربي" وثوراته الشعبية. لكنّ الطريف أنّ رئيس الوزراء البريطاني كاميرون (تصوروا) اعتبر الحركة الفلسطينية نحو المجتمع الدولي جزءاً من "الربيع العربي"! في هذا المجال جاءت كلمة أوباما مخيِّبة، فهو مع "الربيع العربي" ومع الشعوب العربية في كلّ مكان، وهو مع ربيع الشعب السوري وثورته، ويكاد يقول بالكفاح المسلَّح ضد نظام دمشق الذي يُواجه شعبه منذ ستة أشهُر. لكنه عندما وصل إلى فلسطين عاد للحديث عن حقّ إسرائيل والشعب اليهودي في السلام والحرية والدولة الآمنة. أمّا الفلسطينيون الذين يسعون منذ أكثر من ستين عاماً لنيل حق تقرير المصير والحقوق الأخرى؛ فلا يستطيعون ذلك إلاّ بالتفاوُض والتوافُق مع نتنياهو الذي لا يقبل أبداً التسليم بهذه الحقوق! فممن يطلبها الفلسطينيون إذن؟ العالم الغربي على الخصوص رفض دائماً السماحَ لهم بطلبها عبر الكفاح المسلَّح كما فعلت سائر الشعوب المستعمرة: فماذا فعل أبومازن والقيادة الفلسطينية، بعد وجوه رجاءٍ وتوسُّل على مدى السنوات الماضية، ومن إسرائيل والولايات المتحدة التي استأثرت بدَور الحكَم في القضية الفلسطينية على مدى أكثر من عقدٍ ونصف؟! ما ذهب الفلسطينيون إلى الكفاح المسلَّح بعد اليأس من المفاوضات التي أخذت فيها الولايات المتحدة جانب إسرائيل، بل إلى المجتمع الدولي والشرعية الدولية مصدر كلّ الشرعيات في عالَم اليوم! ومع ذلك فقد قال لهم أوباما إنّ هذا أيضاً غير ممكن، والسبب واضح: إنّ أوباما يريد الحصول على الصوت اليهودي في الانتخابات الرئاسية القادمة! أما ساركوزي فاختار مساراً وسطاً إدنى إلى وجهة النظر الفلسطينية؛ قال للفلسطينيين: لا تذهبوا إلى مجلس الأمن، بل إلى الجمعية العامة للحصول على منزلة عضو مُراقب، واقترح مساراً تفاوضياً يبدأُ بعد شهرٍ ويبحث موضوعَي الأمن والحدود، وينتهي خلال ستة أشهُر، أمّا المسائل الباقية فينتهي التفاوُضُ حولها خلال عام وتقوم الدولة بالتوافُق. وشكر الفلسطينيون للرئيس الفرنسي اقتراحاته، وأعلنوا سُخْطَهُم على التوجُّه الأميركي والتهديد بالفيتو. وقالوا إنهم مُصرُّون على التوجُّه إلى مجلس الأمن، إنما مع فُرصةٍ تُعطى للتشاوُر وليس للتصويت المباشر. ومعهم في الأُمم المتحدة أصوات 125 دولة، أي حوالي الثمانين بالمائة من دُوَل العالَم، فالإسرائيليون هم الخاسرون، والخاسرون أكثر هم الأميركيون الذين يُغْضبون العربَ والمسلمين في زمن "الربيع العربي"، من أجل حفنةٍ من أصوات اليهود. وتحدّث أمير دولة قَطَر باسم العرب، فحدَّد المرجعيات: المبادرة العربية للسلام، واتفاقية أوسلو، واللجنة الرُباعية، وقول الأميركيين بالدولتين. وكلُّ تلك المرجعيات متفقة على دولةٍ فلسطينيةٍ عاصمتُها القدس الشرقية في حدود عام 1967. فإلى أين تريدون أن يتّجه العرب إلاّ إلى الشرعية الدولية التي تقولُ بها كلُّ تلك المرجعيات، وهذا الذهاب بعد دخولٍ مُضْنٍ في التفاوُض والتفاوُض على التفاوُض إلى ما لا نهاية، وهناك أربعة ملايين فلسطيني ينتظرون بالداخل، وخمسة ملايين في المنفى؟! ليس الحلّ بالعودة إلى العنف، لكنه أيضاً ليس بتضييع حقوق الشعب الفلسطيني وصبره من خلال تفاوُضٍ غير مُجدٍ ولا يوصُل إلى حقٍّ ولا يمنعُ باطلاً، بل الاستيطان مُتزايد وكذلك تهويد القدس وحصار غزّة. ثم إنّ قضية الاحتلال لفلسطين ليست منفردة، بل هناك الأراضي السورية والأراضي اللبنانية. ولذا لابُدَّ من إشرافٍ دوليٍّ للوصول إلى حلٍ شاملٍ يعيدُ كلَّ الأراضي العربية، ويُنشئُ الدولة الفلسطينية، ويجعل السلامَ في الشرق الأَوسط ممكناً.

ما ارتقى الرئيس الفرنسي إلى منزلة المطالبة بمؤتمرٍ دوليٍّ بإشراف الأُمَم المتحدة، كما كان متوقَّعاً منه أو من الروسي الذي كان قد تنافس معه على الفكرة قبل ثلاث سنوات. وما جرؤ الإسرائيليون على رفْض أفكار ساركوزي مع أنها لغير صالحهم، لأنها تدعم الذهاب إلى الجمعية العامة، وتقول بِمُدَدٍ للتفاوُض وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة. ووقف العربُ موقفاً واحداً، حامت فوقه روحية الربيع المدني العربي، ربيع الأفكار الجديدة، والمبادرات الجديدة، والأساليب الجديدة في المقاومة التي لا يُقْصَدُ بها الانقسام ولا اجتراح المحاور والراديكاليات غير المُجْدية. وهو موقفٌ أو روحيةٌ لا تثأر ولا تنسى ولا تُهملُ المراقبة والمحاسبة للنفس قبل الآخَر.

وفيما كان العرب يتوجهون إلى مجلس الأمن والجمعية العامة، كان الأتراك يرفعون الصوت ضدَّ إسرائيل ويدعمون الموقف العربي، بينما كان الإيرانيون يطلقون سراح أسيرين أميركيين، ويقيمون مؤتمراً لما سمَّوه بالصحوة الإسلامية في طهران تتكرر فيه أُسطوريات المؤامرة اليهودية والأميركية، وتُمتدحُ فيه ممانعةُ النظام السوري ومقاومته التي ما عُدْنا نعرفُ منها غير قتْله لشعبه الأعزل في الشارع وفي وضح النهار!

=================

ليس للربيع اسم آخر

احمد عياش 

النهار

25-9-2011

من يطالع الصحف امس يقرأ على لسان البطريرك الراعي الشيء ونقيضه في شأن الجدل حيال مواقفه الباريسية. فهو تارة يقول انه مع الدولة والحريات ولا ينسى "ماذا فعل الأسد باللبنانيين والمسيحيين". وتارة أخرى يقول ان ما قاله عن سلاح "حزب الله" أمام الرئيس الفرنسي ليس إلا لشرح حال هذا السلاح، فإذا ما أردتم حلاًّ له فعليكم معالجة مبرراته، أي حل القضية الفلسطينية.

وعلى ما يبدو ان ظاهرة "الشيء ونقيضه" لا تقتصر على الراعي، فهي منذ أطلّت نسائم الربيع العربي أصابت كل الذين يتمتعون بالسلطة في كنف نفوذ النظام السوري وسطوة النظام الايراني وتابعه الأمين "حزب الله". ومن الأمثلة التشاطر الذي مارسه الرئيس ميشال سليمان في نيويورك في موضوعي الديموقراطية والقرارات الدولية، ومثله فعل ولا يزال الرئيس نجيب ميقاتي في موضوع المحكمة. أما الرئيس نبيه بري الذي خرج لتوه من "الجرم المشهود" في برقيات ويكيليكس فيداري أمره بمحاضر من صنعه تصيب المرء بنوبة ضحك وهو يتابع فصولها. لكن الاعراض الأشد تأثيراً لهذه الظاهرة اصابت "حزب الله" ووصلت شظاياها الى حليفه النائب ميشال عون. والاخير الذي خرج من عباءة صدام حسين في نهاية الثمانينات من القرن الماضي ليدخل في عباءة اللوبي اليهودي في الكونغرس الاميركي ثم ليدخل في العباءة المشتركة لحاكم دمشق وولي فقيه طهران وجد نفسه مضطراً الى التراجع تكتيكياً في "استراتيجيته المشرقية" ليفتح جبهة خاسرة في قانون الكهرباء، ويستتبعها اليوم بمعركة في الطبقة الثانية من وزارة الاتصالات! وماذا عن "حزب الله"؟ من يريد أن يدرس ظاهرة "الشيء ونقيضه" لا بد أن يتتبع سلوك الحزب الذي فرض عليه الربيع العربي الرقص على حبلين أو أكثر. فهو، ومثله حاكما دمشق وطهران، ظنوا أن الربيع العربي لن تتجاوز موساه ذقن حلفاء واشنطن. لكنهم فوجئوا بأن ذقن نظام الأسد لن تنجو بالتأكيد من الحلاقة. وفيما كان صوت الحزب يعلو ولا يزال في البحرين حول دخول بضع مئات من قوات درع الجزيرة السعودية، كان الصمت مطبقاً على دخول عدد غير معروف من قوات الحرس الثوري الايراني الى لبنان عبر مطار بيروت، وفق ما تشير اليه معلومات. لكن المفارقة الأشد وضوحاً كانت منذ أسبوع عندما كشف تلفزيون النظام السوري بعد فترة تشويق عن "السر المهم" وراء اغتيال القيادي العسكري في الحزب عماد مغنية في دمشق. فتبين ان "الانجاز" مرتبط بالمواطن الاردني اياد يوسف إنعيم الذي اتهم بافشاء سر "لون سيارة" مغنية مما سهّل اغتياله! بالتأكيد، داوى اعلام "حزب الله" المصيبة الاعلامية بالصمت. فيما كانت عائلة الاردني تكشف زيف التهمة وتكافح من أجل خروجه سليماً من قبضة الأجهزة الأمنية السورية.

المرجع الصالح ليحلل سلوك من تصيبه ظاهرة "الشيء ونقيضه" هو علم النفس، وخصوصاً أن المصابين ما زالوا يصرّون على ان هناك فصلاً وحيداً في عالمنا العربي هو الخريف وما يستتبعه حكماً من خرف.

=================

سؤال لأوباما: هل قامت إسرائيل نتيجة المفاوضات؟

الأحد, 25 سبتمبر 2011

خالد الدخيل *

الحياة

يعرف الرئيس الأميركي باراك أوباما إجابة السؤال الذي يطرحه العنوان. ولذلك عندما رفض في خطابه الخميس الماضي أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة عضوية دولة فلسطين في الأمم المتحدة، وهدد باستخدام «الفيتو» إذا ما تقدم الرئيس الفلسطيني، محمود عباس، إلى مجلس الأمن طلباً لهذه العضوية، يكون قد ارتكب خمس خطايا. الأولى أنه تنكر لمبدأ أميركي يقوم على ثلاثة عناصر: حق الشعوب في تقرير مصيرها، وهو الحق الذي استند إليه الأميركيون في حرب استقلالهم، وأولوية الدولة وحكم القانون، والحق الطبيعي في الحرية. ضرب أوباما بكل ذلك لصالح ما يسميه «المفاوضات». الخطئية الثانية أنه كذب عندما قال «إن الدول لا تقوم إلا من خلال المفاوضات». لم يجد مثالاً على ذلك سوى جنوب السودان. هل يقبل أوباما أن يلتزم تجاه الفلسطينيين بما التزمت به الولايات المتحدة تجاه جنوب السودان؟ هل هو مستعد للتعامل مع إسرائيل بالمنهجية والروح اللتين تعاملت بهما أميركا مع حكومة السودان؟ الرئيس يعرف أن الكل يعرف أنه لا يريد، والأرجح أنه لا يستطيع أن يلتزم بشيء من ذلك. وهو يعرف أيضا أن جنوب السودان، ومعه كل السودان، شيء، وأن إسرائيل شيء آخر. اختيار أوباما لهذا المثال انتقائية مكشوفة، ولعبة سياسية سمجة. هل قامت الولايات المتحدة الأميركية نتيجة للمفاوضات، أم نتيجة لحرب الاستقلال من الاستعمار البريطاني؟ ماذا عن إسرائيل؟ ألم تفرض هذه الدولة فرضاً على أراضي الفلسطينيين، ومن خلال التصويت في الأمم المتحدة؟ لم تقم إسرائيل نتيجة لمفاوضات، وإنما بقوة الدول الكبرى، وأولها بريطانيا وأميركا. ثم هل قامت أية دولة في أوروبا، أو آسيا، أو أفريقيا نتيجة للمفاوضات؟ كان الاعتقاد أن أوباما أكثر ذكاء، وأعلى شرفاً من ممارسة لعبة تذاك سخيفة مثل هذه مع التاريخ السياسي للنظام الدولي.

الخطيئة الثالثة أن أوباما، وتماشياً مع السياسة الأميركية المنحرفة، يربط حق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم بموافقة الإسرائيليين. أعد النظر هنا ودقق: الإسرائيليون الذين جيء بهم من أوروبا، ليستولوا على أرض الفلسطينيين، بقوة السلاح والإرهاب، يشترط أوباما موافقتهم المسبقة لقيام دولة فلسطينية تلم شتات الشعب الفلسطيني الذي شرد من أرضه، وانتهكت حقوقه التاريخية والسياسية. بعبارة أخرى، يلغي أوباما ليس فقط الحق التاريخي للشعب الفلسطيني في أرضه، بل وحقه الطبيعي في تقرير مصيره، والحصول على استقلاله من آخر وأبشع احتلال عرفه العصر الحديث، والتمتع بحقه في ما تبقى له من أرض فلسطين! والأدهى، أن الرئيس الأميركي يعرف، وقبله دهاقنة وزارة الخارجية في الـ «فوقي بوتوم» في واشنطن، وأعضاء مجلس الأمن القومي المحيطين بالرئيس، أن المفاوضات التي يدعو الفلسطينيين إليها لم تكن في حقيقتها كذلك. كانت غطاء سياسياً استخدمته وتستخدمه إسرائيل، بحماية وتشجيع أميركيين لأكثر من ثلاثين سنة لاستكمال استيلائها على الأرض الفلسطينية. بعبارة أخرى، رفض أوباما انضمام الدولة الفلسطينية إلى الأمم المتحدة يؤكد أن المفاوضات وما يسمى «عملية السلام» لم تكن إلا خدعة بغلالة قانونية مفضوحة.

الخطيئة الرابعة، أن أوباما بموقفه هذا يكون قد تنكر للقانون الدولي كركيزة أساسية لقيام الدول وسيادتها واستقلالها. خامساً، إن قول الرئيس أوباما انه «ليس هناك طريق مختصر للدولة الفلسطينية» هو من نوع الكذب الذي ينطوي على جرأة وقحة، واستهتار بحقوق الفلسطينيين، ومن أعلى منبر دولي. وهذا ما لم يكن متوقعاً من رئيس كان يبدو أنه أكثر حصافة سياسية، وأكثر التزاماً بمنطوق القانون وروحه الأخلاقية.

عاش الفلسطينيون تحت الاحتلال، وفي المنافي لأكثر من ستين سنة. هل هذا «طريق مختصر»؟ طوال أكثر من نصف قرن دمرت إسرائيل المدن والقرى الفلسطينية منذ تأسيسها، وقتلت عشرات الآلاف من هؤلاء الفلسطينيين، وهي تقتلهم بشكل يومي. هل هذا طريق مختصر؟ مولت أميركا مشاريع الاستيطان الإسرائيلي على الأراضي الفلسطينية ولأكثر من 35 سنة، هل هذا طريق مختصر؟ استخدمت إسرائيل السلاح الأميركي، والذخيرة الأميركية، والأموال الأميركية، والغطاء السياسي الأميركي لقمع الفلسطينيين وقتلهم، وسرقة أراضيهم طوال العقود الماضية. هل هذا طريق مختصر؟ عن ماذا يتحدث الرئيس الأميركي؟

هناك حقيقة تاريخية عن المفاوضات، و «الطريق المختصر»، اللذين يصر عليهما الرئيس أوباما. هل سأل الرئيس نفسه يوماً عن متى بدأت المفاوضات العربية الإسرائيلية؟ وإلى أين انتهت؟ تاريخياً بدأت هذه المفاوضات في تشرين الثاني (نوفمبر) 1973، بعد انتهاء حرب رمضان/ تشرين الأول (أكتوبر)، وهي المفاوضات التي عرفت حينها بـ «مفاوضات الكيلو 101» في شبه جزيرة سيناء المصرية بين المصريين والإسرائيليين لفك اشتباك القوات بعد وقف إطلاق النار. في عام 1977 بدأت مفاوضات كامب ديفيد، وتوجت بالاتفاق الشهير في البيت الأبيض عام 1979. في عقد الثمانينات من القرن ذاته استمرت مفاوضات غير مباشرة خلف الستار في عواصم عربية ودولية عدة بين العرب والفلسطينيين من ناحية، والإسرائيليين من ناحية أخرى. عام 1991 انطلق مؤتمر مدريد الذي دشن ما يعرف بـ «عملية السلام». عام 1992 حصلت المفاوضات الفلسطينية - الإسرائيلية السرية التي انتهت باتفاق أوسلو في 1993. منذ ذلك الحين استمرت المفاوضات بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي. كم يصبح العمر الحقيقي للمفاوضات في هذه الحالة؟ أكثر من 33 سنة. وعلى رغم ذلك لم تفض إلى شيء على المسار الفلسطيني. اعترفت مصر بإسرائيل، وطبّعت العلاقات معها، ثم تبعها الأردن في 1994، ثم المبادرتان العربيتان (الأولى 1982 والثانية 2002). أضف إلى ذلك الضمانات الأميركية والدولية. لكن لم يتزحزح الإسرائيليون عن موقفهم الرافض في العمق، على أساس عنصري، لفكرة الدولة الفلسطينية. طوال تلك العقود، وقبلها وبعدها استولى الإسرائيليون على أغلب أرض فلسطين، وبأكثر مما يعطيهم قرار التقسيم الشهير. لم يتبق للفلسطينيين من أرض فلسطين إلا 22 في المئة. وبموازاة ذلك تحولت إسرائيل إلى أكبر قوة عسكرية في المنطقة، بفضل أموال وتكنولوجيا الأميركيين. ومع ذلك، يصر أوباما على أن الطرف الفلسطيني يرفض المفاوضات، ويبحث عن «الطريق المختصر للدولة».

كان الرئيس الأميركي السابق جيمي كارتر، الطرف الثالث في المفاوضات التي انتهت باتفاق كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل. وكانت النتيجة التي خرج بها بعد تجربة طويلة هي أن «الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية هو العقبة الرئيسية أمام التوصل لسلام شامل في الشرق الأوسط». هذا ما قاله في كتابه الشهير «فلسطين... السلام وليس الأبارتيد» الصادر عام 2006. أما الرئيس الآخر، بيل كلينتون، فقال هذا الأسبوع، بحسب مجلة «السياسية الخارجية» الأميركية إن عدم التوصل إلى سلام شامل يعود لسببين رئيسيين: «تلكؤ حكومة نتانياهو في قبول مبادئ تفاهم كامب ديفيد، والتحول الديموغرافي في إسرائيل، الذي جعل من الرأي العام الإسرائيلي أقل ميلاً للسلام». الرئيس الحالي، أوباما لم يتمكن، من إقناع/إجبار حكومة نتانياهو على وقف الاستيطان أثناء المفاوضات التي كان ولا يزال يدعو إليها. وبعد كل ذلك يطلب من الفلسطينيين أن يرهنوا قيام دولتهم بموافقة الإسرائيليين. كما فعل كارتر وكلينتون، سيأتي يوم يعترف فيه أوباما بحقيقة لعبة «السلام والمفاوضات». وهذا أمر تعودناه من الرؤساء الأميركيين. حقيقة الأمر أن هؤلاء لا يملكون أن يعدوا الفلسطينيين بشيء. وإذا وعدوا لا يستطيعون الوفاء بما وعدوا. لا يعني هذا أن أميركا عاجزة عن المساهمة في صنع السلام. لكنها متورطة في تغطية لعبة المفاوضات للاستيلاء الإسرائيلي على المزيد من الأرض الفلسطينية. يتذكر أوباما أنه تعرض ونائبه جوزيف بايدن، للإهانة على يد حكومة نتانياهو الحالية، عندما طالب بوقف الاستيطان، واضطر في الأخير أن يبلع مطالبته، وأن يتجاهل أنه قال بها يوماً ما. كيف يمكن الفلسطينيين أو غيرهم في هذه الحالة أن يثقوا بما يقوله رئيس أميركي عن المفاوضات وفضائل المفاوضات؟

بعد تجارب مريرة لأكثر من ثلاثة عقود من الوعود والضمانات التي تنتهي في الأخير بالتملص، والطلب من الفلسطينيين مرة أخرى أن يثقوا بعملية السلام لم يعد أمام الرئيس الفلسطيني إلا أن يعود بقضية شعبه إلى الأمم المتحدة. وحسناً فعل. ربما يتذكر أوباما أنه في عام 1973 قال الرئيس المصري الراحل أنور السادات إن 99 في المئة من أوراق الصراع العربي - الإسرائيلي في يد أميركا. وسارت الأمور على هذا الأساس، لكنها لم تفض إلى سلام حقيقي وشامل، ولم تفض إلى قيام دولة فلسطينية قابلة للحياة والتطور. وبما أن الأمور تقاس بنتائجها، فماذا كانت ستكون النتائج لو أن أميركا تملك من أوراق الصراع أقل بكثير مما قاله السادات؟ رعت أميركا إسرائيل على رغم أنها أنشئت بقوة السلاح، وتصويت الأمم المتحدة. والآن ترفض أميركا قيام دولة فلسطين من دون سلاح ومن خلال الشرعية الدولية.

=================

تحديات الثورات العربية

الأحد, 25 سبتمبر 2011

عبدالسلام أحمد ضو *

الحياة

تحمل الثورات العربية، وبخاصة في البلدان التي عبرت المرحلة الاولى وأسقطت رموز الانظمة الحاكمة، جملة من فرص التغيير يوفرها إمكان الانتقال إلى مقاربة تحوي أنماطاً سياسية واقتصادية أكثر رشداً وعقلانية، وقليل من الحمولات الإيديولوجية ذات الطابع الديماغوجي. ولا بد من أن تتوافق هذه النقلة مع القيم العصرية في المواطنة وحقوق الإنسان، وليس بوصفها آليات اندماج براغماتية، أو أقله إعلان انتماء إلى العالم الذي تسوده قيم الحق والعدالة. وفي الوقت نفسه هي محاولة للتكيف مع قيم ذات طابع إنساني تأخذ في الاعتبار ظروف مجتمعاتها وأوضاعها وطبيعتها.

وفي المقدار نفسه، تستبطن الثورات العربية الناجزة، لناحية إسقاط رموز الانظمة السابقة، جملة من التحديات والأخطار التي يمكن تقديرها بإعادة تفعيل خيط الاستبداد وتشغيل نمط احتكار الحياة السياسية من جانب مكونات بعينها، على اعتبار أن موروث الخبرات السياسية في هذا المجال يميل إلى هذا النمط من أنماط التعاطي السياسي، وما سواه يشكل اجتراحاً وخوضاً في اللامألوف، هذا ناهيك بأخطار الفوضى التي قد تتأتى عن ضعف خبرة الوافدين إلى الحكم في إدارة شؤون المجتمعات، نتيجة ظروف موضوعية وذاتية رسختها حالة احتكار السلطة المديدة والتي كان من نتيجتها قمع الحياة السياسية خارج أطر السلطة الضيقة.

في الخبرة السياسية العربية، سيطرت على المزاج العربي منذ بداية الخمسينات والستينات من القرن الماضي، وبداية تشكل الدولة الوطنية المستقلة، نزعة الانقلابات العسكرية التي أفرزتها، وفق الإجماع السياسي العربي، الظروف الإقليمية المتمثلة في هزيمة حرب عام 1948. وقد أخذت زمام المبادرة في هذه المرحلة القوة العسكرية على اتساع الوطن العربي، ربما باعتبارها القوى الأكثر تنظيماً في تلك المرحلة، فبادرت هذه القوى إلى إنشاء أحزاب وحركات سياسية مثل حالة مصر غداة تسلّم عبدالناصر السلطة، وليبيا في عهد القذافي، أو العمل على امتطاء صهوة حركات وأحزاب موجودة، مثل الجزائر وبعض دول المشرق، وذلك تحت دعاوى القومية العربية وتحرير فلسطين ورفع مستوى معيشة السكان، وغيرها من القضايا التي تلهب حماسة الجماهير، ولا تخضع للفحص المؤشراتي الذي يحدد الجدوى العملية للسياسات العامة المطبقة. وبذلك تصبح السياسة قضية متعالية على يومياتها وحيثياتها، وتتحول إلى ممارسة ميتافيزيقية مقدسة يصبح معها النقد نوعاً من الكفر!

وكان من نتيجة ذلك، نزع السياسة من فضائها المجتمعي، واحتكار ممارستها ضمن أطر سلطوية ضيقة صممتها تلك النخب العسكرية بما يتناسب وإستراتيجياتها لديمومة إستمرارها في الحكم، بما يعنيه ذلك من إعادة صياغة الواقع السياسي والمجتمعي تحت سقف هذه الأنماط السياسية، والذي سيتحول في كثير من البلدان إلى انتكاس السياسة لمرحلة ما قبل الدولة، عبر تكريس البنى القبلية وتعزيز المشاعر المناطقية وشرعنة الحكم من خلال توازنات قائمة على هذا الأساس، مع الحفاظ على رأس هرم السلطة باعتباره المرجعية المقدسة والراعية لهذه التوازنات.

كما كان من أبرز نتائج هذه المرحلة تدمير التجربة الليبرالية العربية الوليدة التي ظهرت تطبيقاتها الاولى في أكثر من بلد عربي بعد الاستقلال. وإن كانت تؤخذ عليها ملامحها الغربية من حيث الآليات والأنساق، إلا أن المراجعة التاريخية لتلك المرحلة أثبتت أنه كان في الإمكان تطوير التجربة والبناء عليها لنقل المجتمعات العربية من حالة التخلف إلى حالة أكثر تنظيماً، سواء من خلال مؤسسة الدولة الخارجة لتوّها من عهد استعماري مديد لمواجهة استحقاقات التنمية بمستوياتها السياسية والاقتصادية-التقنية والمجتمعية، أو لجهة بناء الأطر الدستورية التي تحدد بدقة مساحات السلطة وحدود تحركها مقابل فضاءات حراك المجتمع المدني.

والحال أن الدينامية العربية نُقلت، على اتساع مساحة العالم العربي، من الأولوية الديموقراطية التنموية المتدرجة، والتي كان من الممكن إنجازها بتقنيات وآليات يصار إلى تطويرها ذاتياً وموضوعياً، على غرار التجارب العالمية في هذا الخصوص، إلى شعارات القومية العربية الداعية إلى تحرير فلسطين من دون أي مضمون قد يقود إلى تحرير حتى جزء من فلسطين، ومن دون تطوير آليات إنجاز هذا الهدف، إن على مستوى كل دولة على حدة، أو على المستوى الجمعي، من خلال تطوير مؤسسات النظام الإقليمي العربي ذات الاختصاص (اتفاقية الدفاع العربي المشترك)، ما ادى إلى فقدان أجزاء من البلاد العربية، الأمر الذي ما زالت آثاره وتداعياته مستمرة إلى اليوم من خلال خسارة أجزاء جديدة من الأراضي العربية.

ولعل أكثر ما يخشاه العربي، في زمن الثورات العربية الذي يتميز بعودة نهوض الروح الوطنية، أن تضيع هذه الفرصة بممكناتها الإيجابية وما حملته وتحمله من قيم إيجابية وتطلع نحو غد سياسي أفضل، كما كانت قد ضاعت فرص كثيرة، بدءاً من الوعد بتحرير الأرض المحتلة، أو الحفاظ أقله على البقية الباقية منها، وكذلك ضياع فرصة الاستفادة من الفورة النفطية لإحداث التنمية التي كان من المؤمل ان تحدث ثورة تنموية على مساحة العالم العربي بفضل تكدس رؤوس الأموال العربية.

والآن، والعرب أمام تحديات هائلة بفعل ثورة المعلومات والفضاءات المفتوحة وسرعة الاتصالات، يبرز سؤال هو الآخر على شكل تحدٍ: هل تستطيع النخب المثقفة والمسيّسة تجاوز واقعها التكويني وظروف نشأتها ومن ثم قيادة شعوبها التي كان لها الفضل في تفجير هذه الثورات، وأن تضيء لها الدرب في عملية تحول تاريخي نحو أنظمة أكثر ديموقراطية تعلو فيها قيمة المواطنة والوطن، وتنبذ معها المماهاة بين الوطن وأي مكون سياسي، سواء كان حزباً أو رئيساً أو قائداً؟ فهل هذه النخب على مستوى هذا التحدي؟

------------------------

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها

 

 

أعلى الصفحةالسابق

 

الرئيسة

اطبع الصفحة

اتصل بنا

ابحث في الموقع

أضف موقعنا لمفضلتك

ـ

ـ

من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ