ـ

ـ

ـ

مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وقولوا للناس حسنا

اتصل بنا

اطبع الصفحة

أضف موقعنا لمفضلتك ابحث في الموقع الرئيسة المدير المسؤول : زهير سالم

الخميس 28/07/2011


أرسل بريدك الإلكتروني ليصل إليك جديدنا

 

واحة اللقاء

 

التعريف

أرشيف الموقع حتى 31 - 05 - 2004

ابحث في الموقع

أرسل مشاركة

سوريا وحماس والحقائق الموضوعية

علي بدوان

التاريخ: 28 يوليو 2011

البيان

الأحداث الجارية في الداخل السوري، وإن كانت شأناً سورياً داخلياً لا علاقة للفلسطينيين به، إلا أن سوريا بذاتها تهم الفلسطينيين أكثر من غيرهم، من ناحية الدور والموقع الجيوسياسي في معادلة الصراع الجاري في المنطقة مع المشروع الصهيوني، ومن ناحية الوجود الفلسطيني في سوريا، حيث يقيم أكثر من 625 ألف فلسطيني، غالبيتهم من اللاجئين الذين دخلوا أراضي الجمهورية العربية السورية عام النكبة.

فبوصلة الاهتمام الفلسطيني بالشأن السوري، لا تعني إقحام وزج الفلسطينيين في تفاصيل التفاعلات السورية الداخلية، بل تشير إلى التقاطع الواسع والمشترك، الذي شكّل وما زال يشكّل إلى الآن مساحة واسعة من التقاطع في المصالح الوطنية والقومية المشتركة، المستندة إلى حقائق التاريخ والجغرافيا والسياسة والمنطق.

فالفلسطينيون في سوريا وخارج سوريا بشكل عام، منحازون للخط الوطني والقومي لسوريا العربية في صراعها مع المشروع الصهيوني، وفي احتضانها لفصائل العمل الفلسطيني، من حركة حماس إلى حركة فتح وما بينهما من ألوان سياسية وأيديولوجية فلسطينية.

كما هم منحازون لمطالب عامة الناس في سوريا بجوانبها المختلفة، ومع تفهمها وتأييدها، وهي المطالب التي أيدها النظام الرسمي في سوريا وتبناها بشكل كبير، ويفترض أنها باتت تشكل الآن هاجساً أمام دمشق لإنجازها.

لقد اعتقد البعض من السذج، الذين يفسرون الأمور بطريقة ميكانيكية، والبعيدون عن دواخل المعادلة الفلسطينية وعن منطق تفكير القيادة السورية، أن حركة حماس قد وقعت في حفرة عميقة جراء انطلاق الأحداث الجارية في سوريا، وهو ما يفضي حسب اعتقادهم إلى ولادة واقع جديد أمام حركة حماس في علاقاتها مع سوريا، وهو ما دفعهم أيضاً للتنظير والقول بأن "شهر العسل" الدمشقي مع حركة حماس، قد ولى وانتهى.. لكن أصحاب الرأي أعلاه، تجاهلوا أمرين اثنين:

أولهما؛ أن حركة حماس هي حركة فلسطينية ذات امتداد إخواني، وليست بالتالي حركة أو تنظيما سوريا، أو مسؤولة عن سياسات الإخوان المسلمين السوريين وتوجهاتهم المختلفة، وهو أمر تتفهمه الجهات المعنية في دمشق، وفق ما تشي به الوقائع حتى الآن.

وثانيهما؛ أن سوريا، وفي اللحظات العصيبة التي تعيشها الآن، بحاجة سياسية ومعنوية إلى حلفائها الذين قاسموها الموقف السياسي في السراء والضراء، وفي مقدمتهم فصائل العمل الوطني الفلسطيني من أقصاها إلى أقصاها، بما في ذلك حركة حماس، التي باتت تشكل جزءاً أساسياً من مكونات المعادلة السياسية للحالة الفلسطينية، جنباً إلى جنب مع حركة فتح وباقي القوى الفلسطينية ذات الشأن والحضور، كحركة الجهاد الإسلامي والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين.

فالمصلحة الوطنية السورية، كما مصلحة النظام في سوريا، تفترض وجود علاقات إيجابية مع جميع ألوان الطيف الفلسطيني، بما فيها حركتا حماس والجهاد الإسلامي على وجه الخصوص، اللتان تمثلان من وجهة نظر سوريا، "الإسلام المقاوم الحقيقي" في مواجهة العدو الإسرائيلي.

كما أن المناخ العام في سوريا على المستوى الشعبي، يساند وبقوة وجود فصائل العمل الفلسطيني في الساحة السورية، ولحركة حماس جمهورها المؤيد لها بين السوريين، وعليه من المستبعد بالنسبة للنظام الرسمي في سوريا، استفزاز الشعب السوري بإبعاد القوى الفلسطينية أو أي منها، وتحديداً في هذه الفترة بالذات.

لقد أثبتت وقائع شهر مضى من الأحداث الجارية في سوريا، أن جميع فصائل العمل الفلسطيني، اشتقت موقفاً متوازناً، ومنطقياً، وعقلانياً، ومقبولاً، بشأن الأحداث الجارية في سوريا، موقفاً استند لخبرات واسعة ومكتنزة من التجربة الفلسطينية ذاتها.

وهي تجارب مريرة دفع الفلسطينيون أثمانها الباهظة في أكثر من موقع ومكان، كان آخر فصولها ما دفعه بضعة آلاف من اللاجئين الفلسطينيين في العراق، الذين نكّل بهم شر تنكيل على أيدي الميليشيات الطائفية والزمر والمجموعات الحاقدة والموتورة، التي نشأت مع وجود الاحتلال وقوات الغزو الأنجلوسكسوني.

كما استند الموقف الفلسطيني المتخذ بشأن الحدث السوري، إلى تثمين الموقف القومي والسياسي لسوريا، والتقدير لموقفها التاريخي باحتضانها لجزء كبير من شعبنا، ومعاملته معاملة كريمة عبر مساواته بالمواطن السوري في كل الحقوق والواجبات، ومن هنا وقعت على بيان عام صدر في دمشق قبل أسبوعين، كل القوى الفلسطينية العاملة في الوسط الفلسطيني في سوريا، وعددها اثنا عشر فصيلاً:

حركة فتح، حركة حماس، حركة الجهاد الإسلامي، الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، الجبهة الشعبية/ القيادة العامة، منظمة طلائع حرب التحرير الشعبية (قوات الصاعقة)، جبهة النضال الشعبي الفلسطيني، جبهة التحرير الفلسطينية، الحزب الشيوعي الفلسطيني، حزب الشعب الفلسطيني، حركة فتح/ الانتفاضة، الجبهة الديمقراطية، إضافة لرئاسة هيئة أركان جيش التحرير الفلسطيني.

وخلاصة القول، أننا نستطيع أن ندحض وأن ننفي في الوقت نفسه كل التنبؤات الإعلامية أو المعلومات المتسربة، التي تحدثت عن احتمال وقوع افتراق "حمساوي/ سوري" في المدى القريب، علماً بأن وجود حركة حماس في الساحة السورية، يقتصر على العمل الإعلامي والسياسي، وعلى وجود بعض المؤسسات التابعة لها.

فالحديث عن افتراق «سوري/ حمساوي» أمر مبالغ فيه، ويأتي في إطار اللعبة الإعلامية الاستخدامية الجارية لأهداف سياسية من قبل أطراف مختلفة، في ظل الحراكات الجارية في سوريا، حيث يريد بعض الأطراف زج الفلسطينيين في شأن ليس لهم به شأن. فالقوى الفلسطينية في سوريا معنية بأهدافها الفلسطينية، وليست معنية بالقضايا الداخلية للشعب السوري الشقيق.

================

الأسد: لا عودة إلى دمشق!

علي حماده  

النهار

28-7-2011

في سوريا ثورة ضد نظام ستاليني ارساه الرئيس الراحل حافظ الاسد قبل اربعة عقود ثم أورثه لابنه الرئيس الحالي، وهذه الثورة تتسع اسبوعا بعد اسبوع في المجتمع السوري، وتتجذر في وعي الشعب السياسي. فقد انتهت مرحلة من عمر النظام بشكل حاسم. لا بل ان ثمة من يعتقد ان النظام في سوريا نفسه قد انتهى، وهو يعيش بالدم والمجازر التي يرتكبها في حق شعبه حشرجات الموت. يقاوم النهاية المحتومة، ويحاول ان يرفع ثمن رحيله، لكنه راحل مهما بلغت مستويات القتل. فمع كل سوري حر يقتل انما يقوم النظام بقتل نفسه قليلا. فلا افق لحمام الدم، ولا افق للتحايل على حركة التاريخ التي تسير في الاتجاه المعاكس.

في البداية، اي في منتصف آذار الفائت، كنا نظن واهمين ان ثمة عقلا راجحا بين اركان النظام. وكنا نتوهم ان بشار الاسد نفسه، رغم التجارب السيئة المخيبة معه في لبنان، يمكن ان يكون اقل تهورا واكثر حكمة في بلده. كنا نظن انه سيكون اكثر حرصا على دماء السوريين الاحرار من حرصه على دماء الاستقلاليين اللبنانيين. وكنا نظن انه سيكون اكثر دراية بما تشهده المنطقة من تحولات على عكس ما قرأه في خريف 2004 عندما رمى بنفسه في مواجهة اللبنانيين والمجتمع الدولي، ثم عندما تورط في دماء الاستقلاليين في لبنان مع قتل رفيق الحريري وبقية شهداء ثورة الارز. كنا نظن ان الاسد الابن، مع خروجه من مرحلة العزلة التي فرضتها عليه سياساته في لبنان، سيكون اكثر حكمة في التعامل مع حقوق السوريين الذين ما طالبوا سوى بالحرية والكرامة. والحق اننا كنا واهمين لمجرد انّا ظننا للحظة ان التغيير في سوريا يمكن الاسد الابن ان يقوده. والآن وصلنا الى نقطة اللاعودة في سوريا. فالبلاد لن تعود الى ما كانت عليه قبل الخامس عشر من آذار، والنظام لن يسيطر عليها بسياسة العصا الغليظة، بل انه سيدفع بسوريا نحو الهاوية، وفي كل الاحوال فإن النظام سيسقط. واما الاسد الابن فقد فوت على نفسه فرصة لا تعوض. وكما خرج من لبنان في 2005، فإنه سيخرج غدا من دمشق ليفقد "إرثاً" لم يحافظ عليه كرجل دولة.

نقول هذا الكلام ولا نجافي الحقيقة على الارض التي تشير انه في الايام القليلة الماضية بدأت النخب المهنية في سوريا في الانضمام الى الثورة. فمن محامي السويداء الذين يُخرجون مع منتهى الاطرش واصدقائها النظام من جبل العرب، يتحرك محامو حلب واطباؤها، كما يتحرك اقرانهم المحامين والاطباء في قلب العاصمة دمشق، حيث يفترض ان تكون قبضة النظام اقوى واشد تحكما بمسار الامور. هذه اشارات مشجعة جدا لأن النخب المهنية تمثل واجهة الطبقة المتوسطة وهي عصب المجتمع السوري، وبخروج هذه النخب على النظام ستتوسع مروحة الثورة اكثر واكثر.

إن سوريا تتغير وستتغير، والشعب يرسم مستقبله بالدماء التي يقدمها على مذبح الحرية والكرامة. اما النظام، فإنه يتراجع شيئا فشيئا ليصير جزءاً من الماضي.

================

سموم ديمقراطية

حسن عصفور

 الدستور

28-7-2011

يتهامس بعض أعداء الحراك الشعبي في البلدان العربية بأن الواقع القمعي والقهري سيكون له الغلبة، بل أن المال قبل الأمن قد يصبح سيد الموقف، ومنطلق هؤلاء الجاهلين لعمق الغضب الشعبي أن القوتين الأمنية والمالية سيكونا أداة الحسم بعد أن تعلمت الأنظمة من تجربة مصر وتونس، وهناك من يعتقد أن وسائل يتم ابتكارها لتطويق واحتواء ثورة مصر بما يقطع الطريق على سيرها بما بدأت به ثورة ديمقراطية تحررية تعيد للوجه العربي اشراقته المدنية ونحو دولة تصبح نموذجا ثوريا بعيد عن القهر والظلامية، محاولات لا تتوقف لوضع كل ما يمكن أن يعرقل مسار الثورة المصرية التي يشكل نجاحها نصرا عاما للأمة من مشرقها لمغربها، حتى لو اصيبت بعض حراك الشعوب الأخرى بضربات احباطية.. ونصر الثورة في مصر سيكون رافعة للقادم المنتظر، ولذا نجد ألوان مستحدثة من التآمر عليها وعلى قواها التي أطلقتها في زمن سبات البعض.. معركة تحتدم رحاها فوق أرض المحروسة ويبدو أنها لن تنتهي قريبا رغم محاولات البعض البحث عن خريطة أمان لحمايتها ومنع انجرافها لمأزق قد يكون ضررا عاما لا يربح منه سوى أعداء التغيير والعودة للوراء.. لكن الزخم الكفاحي للثورة وما حدث من تغيير جوهري في القدرة الشعبية على عدم الخوف والاستكانة سيكون عاملا جوهريا لقطع دابر «الردة السياسية» مهما حاولت التلون..

ورغم القيمة التاريخية للثورة المصرية وتطوراتها التي تستحق متابعة لا تتوقف، فإن ما تشهده سوريا من أحداث لا يقل بأهميته عن الثورة المصرية، فسوريا ليس بلدا كغيره من منظومة الدول العربية الأخرى، ليس موقعا جغرافيا فحسب، بل قيمة سياسية تشكل ثقلا تاريخيا في رسم مستقبل الصورة العربية بكامل مكوناتها، وقد يكون لتطوراتها ومستقبل نظامها القادم أثر كبير على طبيعة الواقع العربي، أنظمة وشعوب وقوى، ولذا فما يحدث بها لم يعد شأنا داخليا خالصا رغم أن معظم أدواته داخلية دون تجاهل بعض الإمتدادات الخارجية التي لها مصلحة بإنهاك سوريا البلد والدولة قبل إنهاك النظام والحكم، بل أن البعض يتمنى أن تبقى سوريا بحالة «نزاع داخلي» الى أطول مدى زمني ممكن، فتلك هي الحالة النموذجية لأعداء التطور والديمقراطية الفعليون، يريدون سوريا متقاتلة داخليا مرتبكة جدا بنظامها وبغياب شبه كلي عن أي دور كان لها أن يكون لو أن النظام أكثر استقرارا، ولذا ليس مستغربا إطالة أمد « الأزمة الداخلية» في سوريا كرغبة للقوى المعادية للتغيير الديمقراطي الحقيقي، فهو يضمن لها أنهاك سوريا وعزلها دون أي فعل يبدو «خارجيا» ويمكن أن يخلق جبهة مواجهة شعبية سورية عربية..

قضية لا يبدو أن قادة الحكم في سوريا يدركون أبعادها كافة، فوفقا لسلوك النظام وطريقة رد الفعل على الحراك الشعبي السوري، الذي يتنامي ويتسع بشكل فاق البدايات بكثير، تظهر أن القيادة الأمنية بكل تشعباتها أصبحت هي صاحبة الحل والربط في تحديد وجهة سوريا وآلية العمل تجاه ما يحدث من حراك شعبي، ولعل مراجعة كل ما تم عرضه من قضايا تحت بند «الإصلاح» ترتكز في جوهرها للبعد الأمني السياسي، وكان آخر نماذجها ما سمي ب»قانون الأحزاب»، الذي طرحته الحكومة السورية، قانون جاء ليلقي الضوء على أن العقلية الأمنية هي السائدة في ثقافة «الإصلاح» التي يعتقد قادة الحكم وحزبهم أنها طريق الخلاص.. ثقافة تكشف عمق الأزمة والمأزق الذي تعيشه القيادة السياسية الحاكمة في سوريا، والتي تتجاهل عن عمد وإصرار رؤية البعد الديمقراطي والاصلاحي في الحراك الشعبي، وتدفع قواه المخلصة لسوريا الوطن نحو زاوية تبتعد عن مضمون المشهد الإصلاحي والذهاب لمربع «التغيير الشامل» للنظام، وكأن المسألة ليست في كيفية انقاذ سوريا واصلاحها ، بل إثبات أن كل دعاة الحراك يريدون «اسقاط النظام» .. مسألة غاية في السذاجة والسطحية تلك التي يعتقد بعضهم أنها اسلوبا للخلاص..

ما عرضته الحكومة السورية من رؤية « إصلاح» لقانون الأحزاب يكشف مدى المأساة التي تعيشها النظم العربية، التي حكمت الشعوب بالحديد والنار قمعا وقهر، وتظهر غالبية بنود القانون الجديد كم هي بعيدة كل البعد الثقافة الديمقراطية عن تلك النظم، بل أنها لا توجد من حيث المبدأ كنوع من «الثقافة العامة» التي يحتاج البعض من حكامنا أحيانا للتباهي بمدى معرفته بمستجدات العصر، ولذا جاءت غالبية مواد القانون المفترض به أن يكون بوابة عبور من مرحلة الشمولية السياسية التي فرضها حزب البعث بالانقلاب العسكري، الى مرحلة تأسيس مرحلة جديدة من الديمقراطية، فتنطلق المواد ،التي تشكل نوعا من السموم الجديدة، أولا من فرض وزارة الداخلية السورية رعاية ووصاية على الحركة الحزبية التي يمكن لها أن تكون في سوريا، وهي مادة تواصل بشكل آخر مع المادة 8 في الدستور السوري التي تفرض قيادة البعث للبلاد، ما يعني أن لا قيمة ولا أهمية لأي انتخابات يمكن أن تجري في سوريا ما لم تأت بالغالبية لحزب البعث لضمان الأغلبية وفقا للدستور، ما يكشف بلا مواربة أن هذه وتلك هي نوع من السم القاتل لأي حديث عن الإصلاح والديمقراطية والتغير، ويكشف بجلاء كامل أن الأمن وثقافة السيطرة والهيمنة هي التي لا تزال تتحكم فيما يتم صياغته من برامج يراها قادة الحكم ووسائل اعلامهم أنها تتماشى والرغبة الاصلاحية الممكنة ..

كيف يمكن لبرنامج إصلاحي أو يقال عنه إصلاحي، ان ينطلق من ثقافة الوصاية على الأحزاب ويفرض أغلبية مسبقة لأي انتخابات برلمانية يمكنها أن تكون، وفقا لشرط لا يعرف حتى الساعة لماذا هذا التفوق الممفروض مسبقا لحزب لم يشكل حتى الساعة نموذجا عصريا للديمقراطية، بل أنه من أكثر الأحزاب بعدا عنها في السنوات التي حكم بها على الأقل.. لماذا يمكن للشعب السوري أن يقبل مسبقا بحصول البعث على غالبية المقاعد البرلمانية ، وهل يمكن لهكذا انتخابات أن تكون لها صلة بمعايير الديمقراطية السياسية المعاصرة، أم هي شرط أمني من شروط فرض واقع قهري على النظام السياسي.. نصوص لا يمكنها أن تشكل مدخلا لترسيم طريق اصلاحي جاد لبلد لا يمكنه أن يعود للإستقرار دون إحداث تغيير جوهري في منحى الحكم وآلياته كافة.. لا يمكن اقناع الشعب أو اصدقاء سوريا بأن مبدأ « الوصاية والقيادة» المسبقة لأي عملية سياسية في سوريا هي نهج اصلاحي .. مفاهيم بالية انتهت منذ زمن بعيد ولم تجلب لشعوبها كثيرا من الخير.. بل في بلدان المنظومة الاشتراكية حيث سادت زمنا، وصلت الى ما وصلت اليه من انهيار سياسي تاريخي لأكبر قوة شكلت محورا ثوريا ضد الاستعمار والرأسمال الاحتكاري.. وانهارت معها أحلام ملايين وملايين من سكان المعمورة، وكان من بين أسباب ذاك الانهيار فرض القيادة والوصاية على الشعب والتصرف نيابة عنه وبإسمه.. مفاهيم لا مكان لها في عالم الحرية السياسية وفضاءه الواسع جدا بحيث لا تستطيع أجهزة الأمن السيطرة عليه..

سوريا تحتاج أولا لإلغاء ثقافة الهيمنة السياسية والوصاية على الشعب ونسف كل ما له صلة بفرض القيادة ..ولعل البداية تكمن في حرق قانون الأحزاب الجديد والبدء بكتابة نصوص لسوريا شعبا ووطنا ومستقبلا وليس لحزب وأجهزة وبعض متسلطين..

ملاحظة: أمريكا وتحالفها الغربي – العربي فقدت الأمل ببناء ليبيا «ديمقراطية» .. البحث الآن أين يكون العقيد ..مكانا وموقعا..هل كان هذا يستحق التدمير والقتل والدمار.. سؤال لقادم الأيام

================

إيران و«المسألة السورية»

عريب الرنتاوي

 الدستور

28-7-2011

تخوض إيران «حربها» على جبهة التغيير والإصلاح في سوريا، كما لو أنها «أم المعارك وأبوها»، ولا نبالغ إن نحن قلنا أن «المسألة السورية» بالنسبة لطهران، تكاد تكون «مسألة حياة أوموت»..ولهذا شهدنا كيف أضاءت طهران كل «اللمبات الحمراء»، وكيف رفعت الدبلوماسية الإيرانية من درجة استنفارها خلال الأشهر الأربعة الفائتة، وكيف خاضت معارك الدفاع عن النظام في سوريا، بكل ما أوتيت من قوة واقتدار.

ليست سوريا الدولة العربية الوحيدة التي وقفت إلى جانب الجمهورية الإسلامية زمن «حرب الثماني سنوات» بين العراق وإيران فحسب...سوريا ظلت على امتداد عقود ثلاثة، الحليف الإستراتيجي الأول لطهران، في منطقة المشرق العربي..ولقد حافظ هذا الحلف على ثباته وصلابته، برغم هبوب الريح العاتية التي مرت في سماء المنطقة وأجوائها، وبرغم تعاقب مراحل الصعود والهبوط، المد والجزر، في العلاقات الإيرانية السورية.

قيمة سوريا بالنسبة لإيران، تتخطى وزن سوريا وموقعها ودورها...فسوريا بوابة إيران إلى لبنان، وهي «شريان الحياة» الذي يغذي عروق حزب الله بنسغ الحياة...ودمشق حاضنة حركة المقاومة الفلسطينية حماس، ومن خلالها يصعب على أحد إنكار الدور الإيراني في المسألة الفلسطينية...ولسوريا «دالّة» لا يمكن إنكارها على «سنّة العراق» من أحزاب وقبائل وحركات، وهي «دالّة» لا يمكن الاستغناء عنها من قبل أي «لاعب» على المسرح العراقي، فما بالك حين يكون هذا اللاعب من نوع إيران (بينها وبين سنّة العراق، حاجز مذهبي)، أو بوزنها (أكبر لاعب خارجي على الساحة العراقية).

تدرك إيران، أن بلوغ الثورة السورية هدفها في «تغيير النظام أو إسقاطه»، من شأنه أن ينعكس بأوخم العواقب على دور إيران في هذه الملفات مجتمعة...فأي بديل للنظام، لن يواصل ما سبق أن بدأه نظام الرئيس الراحل حافظ الأسد، واستكمله باندفاعة أكبر، نجله الرئيس السوري بشّار الأسد...النظام المقبل في سوريا، قد يرتبط بعلاقات طبيعية مع إيران، لكن من المرجح أن يكون «خصماً» لطهران، حتى وإن جاء «التيار الإسلامي» إلى رأس السلطة في بلاد الشام.

إن قُدر للحراك الشعبي السوري أن يُحدث التغيير الذي يستهدفه في سوريا، فإن إيران ستخسر نفوذها في لبنان...وسيجد حزب الله نفسه في صدارة قائمة المتضررين من سقوط النظام، سيكون الخاسر الأكبر الثاني بعد النظام نفسه...كما أن قدرة إيران على التأثير في «الملف الفلسطيني» ستتضاءل، وهي على أية حالة ليست ذات تأثير وازن، بخلاف كل الدعاية المضادة لحماس، والتي تضعها في «السلطة الإيرانية»...وسيجد المشروع الإيراني في العراق، قوى مناهضة له، ستستقوي بلا شك، بتداعيات التغيير المنتظر في دمشق...ولا ندري في واقع الحال، كيف ستكون انعكاسات التغيير في سوريا، على «توازن القوى الإقليمي»، خصوصاً لجهة العلاقة بين أطراف المثلث غير العربي: تركيا، إيران وإسرائيل، فالكثير سوف يعتمد على طبيعة التغيير في سوريا وطبيعة النظام القادم، وأدوار القوى الإقليمية والدولية في صنعه.

لكل هذه الأسباب، وأخرى غيرها، تحرص إيران أتم الحرص، على «إدامة نظام الرئيس الأسد»، وهي من أجل هذه الغاية، تجند جُلّ مواردها، من مالية ونفطية و»غازية» ودبلوماسية..فهي من جهة «تطلق التحذيرات» في وجه أي عمل عسكري ضد سوريا، وتحذر تركيا والغرب من مغبة المضي في ترجمة «سيناريو بنغازي» في سوريا...وهي تهب برغم ضائقتها الاقتصادية، لمعالجة الضائقة الاقتصادية في سوريا...وهي تضغط على حلفائها في العراق، لمد يد العون للنظام السوري، معنوياً وسياسياً واقتصادياً...وهي تضخ نفطاً رخيصاً (يقال مجانياً) لسوريا...وهي تفكر بمد خطوط إنابيب للغاز عبر العراق إلى سوريا، ومنها إلى لبنان والأردن إن «تيسّرت المهمة»...وهي تحاجج في كل المحافل والمنابر بأن سوريا ليست مصر أو تونس، والأكيد أنها لن تكون «ليبيا ثانية».

والحقيقة أن «موقع سوريا وقيمتها» في منظومة «الممانعة والمقاومة» أو «الهلال الشيعي» أو «المحور الإيراني» في المنطقة، لم تكن خافية على أطراف عربية وإقليمية ودولية، سعت منذ سنوات عدة، بالأخص بعد حرب الخليج الثالثة وسقوط بغداد، من أجل «فك الارتباط» بين سوريا وإيران، ولقد استخدمت في سبيل ذلك مختلف وسائل الترغيب والترهيب، من الوعد بالمال والتجارة والنفط والمساعدة وفك العزلة وإدماج النظام وإعادة تأهيله...إلى التلويح بورقة المحكمة الدولية الخاصة وقرارات مجلس الأمن في لبنان وقانون محاسبة سوريا وتحرير لبنان والعقوبات الدولية والقوائم السوداء، وصولاً إلى الاستهداف العسكري والأمني لسوريا في عقر دارها، كما تبدّى في ضرب المفاعل النووي واغتيال شخصيات سورية ولبنانية وفلسطينية على الأرض السورية، وضرب معسكرات للمقاومة الفلسطينية فيها.

لم تفلح كل المحاولات السابقة، في زحزحة سوريا عن موقعها أو موقفها، لم تفض كل الجهود تلك إلى دفعها لتغيير تحالفاتها أو التخلي عن حلفائها، فقد كان هؤلاء ذخراً للاستراتيجية السورية، لم تقلل من قيمتهم، مناورات النظام فيما خص مفاوضاته مع إسرائيل، وجنوحه ل»التنسيق الأمني» في الحرب على الإرهاب، أو حتى تقاربه الحثيث مع أنقرا.

اليوم، تبدو الفرصة متاحة لتجريب ما سبق تجريبه، ولكن تحت ضغط التهديد من الداخل هذه المرة، ومن خلال وضع رأس النظام ، لا أطرافه فحسب، تحت المقصلة...اليوم تُستنفر كل الأطراف والأوراق، من مال وسلاح و»سلفيين» وعقوبات وضغوطات من أجل إنجاز تلك المهمة التي طال انتظارها...وثمة ما يشي بأن المعركة التي بدأت دامية، ستكون مكلفة للغاية، ولا ندري ما إن كان بمقدور النظام الذي أجاد لعبة البقاء، أن يخرج رأسه من تحت «شفرة» المقصلة، أم أن هامش المناورة قد ضاق، وتقطعت به سبل المناورة وحيلها وحبالها ؟!.

================

الخوف من الحرية وصناعته

د. بشير موسى نافع

2011-07-27

القدس العربي

 ليس ثمة استقرار كذلك الذي تقيمه أنظمة الاستبداد. في ظل الاستبداد، وبغض النظر عما إن كان النظام يجسد حكم عشيرة أو طائفة أو فئة اجتماعية أو عسكرية، يسود صمت مريب، ولا يخشى الناس المستقبل أكثر من خشيتهم ليومهم؛ لأن من المتيقن أن الغد لن يحمل جديداً مهما كان. في ظل الاستبداد، لا يجب أن يخاف أحد من ثورة عشائرية على العشيرة الحاكمة، أو اندلاع تمرد طائفي، أو قيام أقلية قومية بالمطالبة بحقوق المواطنة، أو خروج اتحاد عمالي لتوكيد حقوق منتسبيه، أو تظاهر منظمة مدنية للمطالبة بالحقوق الدستورية للشعب. وحتى إن شهدت البلاد شيئاً من هذا القبيل، فسرعان ما يتكفل النظام بحصاره أو إخماده أو اقتلاع من حاوله من جذورهم، للتأكد من أن أحداً لن يعكر صفو التوافق الاجتماعي أو يخل بأمن البلاد وراحة المواطنين. في ظل الاستبداد، يسود شعور بالطمأنينة، طمأنينة زائفة، قد يدعي البعض، ولكنها طمأنينة على أية حال. ولذا، فليس من الغريب أن تثير الحرية الخوف، أو أن تؤسس لمناخ يسمح بإثارة الخوف.

تحكم أنظمة الاستبداد سيطرتها بحزمة وراء الأخرى من الإجراءات والأدوات والوسائل، تعمل على تأسيس شرعية ما، وديمومة طاعة الشعب وخضوعه لسلطة الحكم والدولة، بداية من خطاب رسمي، يعكس متطلبات السيطرة ويحاول إقامة فضاء مشترك بين الحكم والشعب، إلى أجهزة أمن، تتعهد مهمات الرقابة والعقاب، وصولاً إلى مؤسسة عسكرية، تعتبر جدار الحكم الأخير ومستودع قوته الاحتياطي الأكبر. لا تنطلق الثورة ضد أنظمة الاستبداد بدون انهيار شرعية خطاب الحكم وتقويض سلطته المعنوية. وبانهيار الخطاب الرسمي، تأخذ منظومات التحكم والتسلط الاخرى في الانهيار، في صراع متعدد الأوجه والأبعاد، يتعلق بتوازنات القوى الاجتماعية والسياسية الداخلية فحسب، كما علاقات النظام وتحالفاته الخارجية. ولكن تقدم المجتمعات نحو فضاء الحرية ليس فعلاً معقماً أو طريقاً واضح المعالم والمسارات، بل حركة بالغة التعقيد من المطالب الفئوية المتدافعة والمتناقضة أحياناً، من صدام الحاجات والطموحات، من سلوك اجتماعي متدرب وهموم كهولة مثقلة، ومن البرامج والتصورات السياسية المختلفة. اندلاع الصراع والتدافع حول المستقبل هو في حد ذاته مولد طبيعي للخوف، وما أن تفتح نافذة ولو صغيرة للحرية حتى تتزايد المخاوف.

في المجتمعات التي تتمتع بتعددية طائفية وإثنية، تثير الحرية خوف الطوائف من بعضها البعض. الأكثريات الطائفية تخاف مطالب الأقليات، وسيطرتها وسعيها الدؤوب والتلقائي لتوكيد وجودها. ولكن الأقليات الطائفية أكثر خوفاً، سيما في البلاد التي عاشت، فعلاً أو تصوراً، هيمنة الأقلية على مقادير الحكم. كل الأكثريات تثير الخوف، ولكن الخوف من الأكثرية الطائفية هو خوف مضاعف، للتداخل المستبطن في علاقات الطوائف بين المقدس، من ناحية، والسياسي الاجتماعي، من ناحية أخرى. وقد شهدت بلدان المشرق العربي الإسلامي في القرنين الآخيرين، وبدرجات متفاوتة الحدة والسرعة، قطيعة ما بين الميراث التقليدي لمنظومة العلاقات الطائفية وبين النمط السياسي الحديث للدولة. في المنظومة التقليدية، عاشت الطوائف في العموم حيوات مستقلة عن بعضها البعض، يفصل بينها نظام ملل مستقر للحقوق والواجبات. وبالرغم من أن نظام الملل يوصف أحياناً بأنه نظام تهميشي، اشتغل في أغلب الأوقات لصالح الأغلبية السنية، إلا أن الحقيقة أنه وفر الحماية كذلك للفئات والطوائف الدينية المختلفة وحافظ على كينونتها.

بنهاية النظام التقليدي للحكم والاجتماع السياسي منذ النصف الثاني للقرن التاسع عشر، وولادة الدولة الحديثة ومفهوم المواطنة، أخذت الجدران بين الطوائف في الانحسار، بدون أن يقضى كلية على الموروث النفسي والثقافي لنظام الملل. وهنا بدأ التوتر بين الحقوق والواجبات في التحول إلى صراع سياسي واجتماعي محتدم في بعض الأحيان. لا احتفظ المشرق بالفواصل المحددة لنظام الملل والسلم الاجتماعي الطويل الذي حققه، ولا أنجز منظومة مواطنة مدنية من المساواة الفعلية أمام الدولة والقانون. وبالاقتراب من عتبة الحرية، تعود مسألة الطوائف والجماعات الدينية في المشرق من جديد، ويتصاعد الخوف لدى كل واحدة منها من الأخرى.

وإن اختلفت المسألة القومية - الإثنية في التفاصيل والدوافع، فليست أقل مدعاة للخوف. فمنذ ولدت الفكرة القومية في المشرق في نهاية القرن التاسع عشر وشعوب هذه المنطقة من العالم، كما كل مناطق التعدديات الإثنية والقومية، تعيش أزمة مستمرة. لم تكن الشعوب هي التي وضعت حدود دول المشرق، التي رسمت أغلبها في النصف الأول من القرن العشرين، بمحض إرادتها؛ وربما حتى لو ترك الخيار للشعوب، ما كان من المتوقع أن تستطيع إيجاد حل دائم ومرض للمسألة القومية. وجد العرب، مثلاً، سيما في المشرق العربي، حيث تجلت الحركة العربية للمرة الأولى، أن كيانات ما بعد الحرب العالمية الأولى لم تستجب لطموحاتهم القومية. وما أن اتسع نطاق الحركة العربية في فترة ما بين الحربين، وأصبحت الفكرة العربية القومية أكثر راديكالية، حتى بدأت ردود فعل قومية أخرى في التجلي، أبرزها بالطبع الحركة القومية الكردية في المشرق، ونظيرتها الأمازيغية في المغرب. ثمة قدر من الظلم والتجاهل شهدته المنطقة العربية للطموحات الثقافية الكردية والأمازيغية، وغيرها من الجماعات القومية، وقدر لا يقل من التطرف والعنف شاب التعبيرات القومية غير العربية في المجال العربي المشرقي (كما في بلاد الجوار، مثل تركيا وإيران). وتعيد رياح الحرية التي يشهدها عدد من البلاد العربية، اليوم، طرح المسالة القومية كما لم تطرح منذ زمن، أو على الأقل منذ حرب الخليج الأولى وضمان القوى الغربية للمنطقة الكردية الآمنة في شمال العراق.

بيد أن المخاوف التي تصاحب التحول السياسي من مناخ ونظام الاستبداد إلى الحرية، لا تقتصر على خطوط التوتر الطائفية والقومية، بل وتتعلق أيضاً بالتعددية الفكرية السياسية في المجتمعات العربية. في ظل أنظمة الاستبداد، لم تتعرف القوى السياسية على بعضها البعض في صورة صحية، ولا اعتادت التداول السلمي على الحكم أو العمل المشترك في إدارة شؤون البلاد. ولدت التيارات السياسية أصلاً في لحظة تأزم المجتمعات العربية وانهيار إجماعها، وطوال أكثر من قرن اتسمت علاقات القوى بقدر واسع من العنف والإلغاء. وقد عمل الصعود المثير للقوى الإسلامية السياسية في عقدي السبعينات والثمانينات، وتوجه مجموعات إسلامية إلى العمل المسلح، على تصاعد التوتر بين القوى السياسية المختلفة في معظم الدول العربية. ما يعد به مناخ الثورة العربية اليوم ليس تعزيز الحريات وحسب، بل وتسلم الشعوب مقاليد أمرها؛ بمعنى أن يكون للأكثرية الحق في تقرير مسار البلاد، لهذه الفترة أو تلك. وهذا ما يفتح الباب للمخاوف والاسئلة المتعلقة بمن هي الأكثرية السياسية على وجه اليقين، وكيف سترسم القوى الممثلة للأكثرية الانتخابية سلوكها تجاه القوى السياسية الأخرى، وهل يمكن أصلاً لمجتمعات سياسية متعددة الأصوات والاتجاهات أن تطمئن لسلطة أكثرية لم تجرب من قبل، وفي حال تطلبت عملية التغيير والانتقال السياسي وضع نص دستوري مرجعي جديد، من يملك الحق في كتابة الدستور، وغيرها من الأسئلة.

وليس ثمة شك في أن كل البلاد العربية التي تعيش مناخ الثورة والتغيير، من تونس ومصر، إلى ليبيا واليمن وسورية، تنتابها في الوقت نفسه المخاوف المصاحبة لآمال الحرية التي أنعشتها رياح الثورة والتغيير. الليبراليون والعلمانيون العرب في مصر وتونس، وحتى في ليبيا وسورية، بكافة تنوعاتهم السياسية، يخافون صعود القوى الإسلامية السياسية، ويخشون أن يؤدي هذا الصعود إلى تقليص مساحات الحرية التي تعد بها الثورة والتغيير. ويخاف الإسلاميون ما يصفونه بسطوة الأقلية الليبرالية والعلمانية والدعم الخفي والمعلن الذي تتلقاه من القوى الغربية. الأكراد السوريون، الذين شاركوا في فعاليات الثورة السورية منذ أيامها الأولى، يتصورون أن يؤدي التغيير الديمقراطي في سورية إلى تلبية مطالبهم، جملة وتفصيلاً، ويخشون إن أفلتت منهم هذه الفرصة أن لا تعود مرة ثانية بعد عشرات السنين؛ والقوى السياسية العربية السورية ترى في الكثير من المطالب الكردية ابتزازاً صريحاً للأغلبية العربية، وتخشى أن تنحدر سورية إلى طريق الانقسام والتشظي الذي يعيشه العراق. ما يفاقم مخاوف الكثير من السوريين أن الثورة لم تفتح الملف الكردي وحسب، بل وصعدت من التوتر الطائفي في البلاد، سواء بفعل جهود مخططة من قبل دوائر النظام الحاكم، أو بفعل مخاوف وترسبات تاريخية في العلاقة بين الأغلبية السنية والأقلية العلوية، لم تنجح ثقافة المواطنة السورية في احتوائها كلية.

ليس ثمة حرية بلا خوف، ولا حرية بدون قدر من فقدان اليقين ودرجات متفاوتة من انهيار الاستقرار. في الطريق إلى الحرية لن يكون هناك قتلى وجرحى وحسب، بل وتراجع اقتصادي وتوتر أمني واسع النطاق وانفجارات اجتماعية مختلفة. إثارة المخاوف المتبادلة بين الطوائف والجماعات القومية وقوى السياسية هي أداة تقليدية لحرب أنظمة الاستبداد ضد شعبها؛ وهي أيضاً إفراز طبيعي ومتوقع لتعدديات لم تتعود الحوار والتعايش. ولكن الحرية هي أيضاً العلاج الأكثر نجاعة والطريق الأقصر للتعامل مع المخاوف الطائفية والقومية والسياسية التي يولدها مناخ الانتقال من صمت الاستبداد المطبق إلى ضجيج الحرية. وقد تجد بلدان عربية من الصعب والعسير أن تعيد بناء الإجماع الذي يتطلبه الاستقرار، وتأمين المستوى الضروري من اليقين، ولكنها حالما استطاعت تحقيق هذا الهدف، ستكون قد أنجزت انتقالاً تاريخياً هائلاً في مصيرها.

================

هل تجاوز السوريون الحوار أم لم يصلوا إليه بعد؟

الخميس, 28 يوليو 2011

عمر قدور *

الحياة

كما هو متوقع، رفضت الشخصيات والهيئات المعارضة حضور اللقاء التشاوري، أو اشترطت لحضورها تنفيذ خطوات تعبّر عن حسن النية، مثل سحب الجيش من المدن ومحاكمة القتلة. إلا أن تنفيذ هذه المطالب ليس وارداً، ولا تبدو هناك نية للتراجع عن «الحملات التأديبية» التي يقوم بها الجيش والأمن في المناطق التي تشهد انتفاضة عارمة، أي ما يمكن تأويله بأن النظام لم يقرر اعتماد الحل السياسي. في الواقع؛ مع الوقت يزداد تورط النظام في الحل الأمني، وتتلاشى فرصة العودة عنه، إن لم تكن قد انعدمت بالفعل بحكم انسداد الأفق السياسي، فالكلفة الباهظة التي دفعها الشارع حتى الآن نتيجة القمع لا تسمح من وجهة نظر المتظاهرين بأية تسوية مبرَّرة أخلاقياً، فضلاً عن غياب الثقة المزمن.

كعربون متواضع أعلن رئيس اللقاء عن إلغاء قرارات منع السفر لأسباب سياسية وعن السماح بعودة المنفيين، هذا القرار أسوة بالكثير من الإجراءات المطلوبة جاء متأخراً جداً، وفي ظل تطورات لا تحتمل التسويف. من جهة أخرى؛ لا تزال آلية صنع القرار في سورية تفتقد الشفافية، إذ لا يُعرَف موقع نائب الرئيس الذي يترأس المؤتمر من مركز صناعة القرار الفعلي، وبالتالي ليس من المستغرب أن يُعرقل تنفيذ إجراء كهذا في أي وقت من جانب الأجهزة الأمنية التي ثبت أن لها اليد الطولى حتى الآن. وحتى إن لم تعرقل الأجهزة الأمنية بعض الإجراءات، فذلك لا يغير من الواقع، إذ إن المطلوب هو تفكيك النظام الأمني برمته، لأن بقاءه يعني تجاهل جذر الأزمة.

لم يعد حل الأزمة السورية رهناً بإجراءات توحي بإطلاق بعض الحريات، ففقد ثبت خلال الأشهر الأخيرة أن النظام الأمني لا يقوم بدور القمع وحسب، بل إنه يهدد السلم الأهلي أيضاً بدلاً من أن يكون حامياً له. من هنا لم يعد الإصلاح مجدياً، ربما يكون ضرورة للنظام الأمني من أجل إطالة أمده، بخلاف ذلك لا مناص من التغيير، وهذه القناعة آخذة في الاتساع لتضم المجتمع السوري بغالبيته وبمختلف تكويناته، بما فيها الكتلة الصامتة حتى الآن. وليس من باب المغالاة القول إن شريحة لا بأس بها من الموالين للحكم تبني موقفها على الخوف من التغيير لا على رضاها عن النظام، وبات واضحاً أن النظام الأمني فقد شرعيته الأخلاقية، إن كان قد امتلكها يوماً لدى البعض، ويتجه باضطراد ليصبح عبئاً على شريحة واسعة من الموالين أنفسهم.

في بداية الانتفاضة لم يستند شعار إسقاط النظام إلى قوة فعلية داعمة على الأرض، فالشعار رُفع كرد فعل على ارتفاع منسوب العنف الذي تعرض له المتظاهرون. وقد يجوز القول إن الشارع استُدرج، عبر إيقاع عدد كبير من الضحايا، إلى رفع سقف مطالبه، فأضحت المعركة مع الحكم معركة وجود. لم يكن الشارع مهيأً لهذا التحول الدراماتيكي، على العكس من القوى الأمنية التي امتلكت زمام المبادرة إزاء التطور وكأنها كانت تتحفز للاستخدام المفرط للعنف. لقد أعفى شعار إسقاط النظام الحكمَ من الإحراج الذي واجهه أمام مطالب الإصلاح التي رافقت بداية التظاهرات، وقد كان من الأسهل له الدخول في معركة حياة أو موت بدلاً من مواجهة مطالب تودي بالنهاية إلى تفكيكه من دون أن تجهر بذلك. أما بعد مضي أشهر، بما تخللها من قمع خرج عن كل الضوابط، فقد اكتسب الشارع قوة أخلاقية أكبر مدعومة بانتشار متزايد للانتفاضة وبمشاركةٍ تزداد كثافة مع الوقت، وبهذا انتقل الشعار من حيز النقمة إلى البحث في ترجمة عملية له.

يمضي الحكم في لقائه التشاوري متجاهلاً رفض المعارضة لهذه الصيغة المتواضعة، ومن دون التفات إلى خطوات بناء الثقة التي طالبت بها، ويبدو أن هناك من لا يزال يقرأ ميزان القوى على الأرض بمنطق القوة العارية الذي يميل الى مصلحة الحكم، إلا أن الإيغال في استخدام القوة أفقده هامش المناورة، بحيث أصبح أسير الخيار الأمني على رغم إدراكه فشله في حل الأزمة. في الواقع، أثبت استخدام القوة ضعف فاعليته منذ تعدى مرحلة الترهيب الأولى من دون الحصول على النتائج المرجوة، ومع توالي الأحداث والضحايا اتخذ استخدام العنف طابعاً انتقامياً ليدلل على الافتقار إلى البدائل، لذا من المرجح استمرار القمع المجاني ما دام الحكم «عاجزاً» عن إعلان هزيمة النظام الأمني أو بالأحرى سقوطه.

ثمة ما لا يحتاج إلى حوار لأن الحوار لا ينبغي أن يكون على الحقوق الأساسية للمواطنين، وهي حقوق يجب ألا تخضع للمساومة والتجاذبات، ومن المخجل أن تضع السلطة إطلاقَ الحريات العامة أو إلغاء الإجراءات التعسفية في سلة الحوار الوطني، فإعادة الحق ليست منّة أو مكرمة، ومن حيث المبدأ لا يحق لأية جهة أن تفاوض على هذه الحقوق. قد يكون الحوار الوطني في سورية ضرورة لتجنب السيناريوات الأسوأ، وهذا يتطلب أن توضع على الطاولة الأجندة النهائية بلا مواربة، وأن يجلس إلى الطاولة أصحاب القرار الفعليون. حتى الآن لا يبدو النظام قادراً على الاعتراف الجاد بأزمته، وبأنه هو الذي يواجه انسداداً في الأفق كلما تقدمت حركة الشارع خطوة جديدة... ضمن هذه المعطيات لا يجد السوريون أنفسهم في موقع الحوار، فهم إما لم يصلوا إليه بعد أو أنهم تجاوزوه؛ ذلك يتوقف على الوقت الذي ستستمر فيه سياسة المكابرة والإنكار.

* كاتب سوري

================

قانون الأحزاب في السياسة السورية

فايز سارة

الشرق الاوسط

28-7-2011

أقرت الحكومة السورية مؤخرا قانون الأحزاب السياسية في البلاد، وهو خطوة تمهد لصدور القانون لاحقا بعد أن يصدق مجلس الشعب السوري على قرار الحكومة، ليصبح قانونا نافذا يمكن تنظيم الأحزاب السياسية ونشاطها على أساسه.

وأهمية هذه الخطوة أنها تكسر النمطية السياسية، التي اختطها حزب البعث منذ استيلائه على السلطة في عام 1963، عندما استأثر بالحكم وحيدا، ثم أفسح حيزا هامشيا لأحزاب شكلية، قبلت أن يكون البعث «حزبا قائدا للدولة والمجتمع» حسب نص المادة الثامنة من الدستور، التي كرست هامشية الأحزاب المتحالفة مع البعث، فيما كان الواقع يحظر ويجرم عمل أي حزب أو جماعة سياسية أخرى، تنشط في سوريا.

وإذا كان قانون الأحزاب قد كسر تلك النمطية السياسية في سوريا على قسوتها وشدتها، فإنه في الوقت نفسه لا يمثل تقدما كبيرا على صعيد التحولات المطلوبة في سوريا بالنظر لما آلت إليه الحالة السورية بعد أربعة أشهر من حراك شعبي واسع، ورسم ملامح مختلفة للتطور السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي في البلاد، بحيث لم يعد صدور قانون للأحزاب السياسية فيه سوى تفصيل صغير في إطار لوحة عامة، مثله مثل قانون انتخابات برلمانية مرتقب، وقانون للإعلام مثله، وعشرات من قوانين سائدة، صار تغييرها مطلوبا، أو قوانين جديدة صار من المطلوب صدورها.

إن صدور قانون الأحزاب الجديد، والقوانين الأخرى المطلوبة، يفترض أن يتم وسط بيئة سياسية، ترسم ملامح وأسس الدولة، التي بات السوريون في السلطة والمعارضة والحراك الشعبي يتحدثون عنها، وهي الدولة الديمقراطية المدنية، والتي باتت حسب التصريحات والتأكيدات موضع توافق الأكثرية السورية، وعلى اعتبار أن الدستور - أي دستور كان - بمثابة مولد لكل القوانين، فإن البداية تكون منه في رسم ملامح الدولة الجديدة، بمعنى أن المطلوب إصدار دستور جديد لسوريا، وهو مطلب جرى التركيز عليه في النقاشات والحوارات، وفي الكلام الرسمي في الفترة الأخيرة، لأن صدور أي قوانين تقدم باعتبارها «خطوات إصلاحية» سوف يصطدم بمحتويات دستور، إذا لم يتم استبداله أو تعديله فإنه سيؤدي بصورة طبيعية إلى تعطيل القانون أو القوانين الجديدة مهما كانت.

إن ملامح التصادم بين محتويات الدستور وقانون الأحزاب الجديد كثيرة ومتعددة، لكن الأهم فيها يتمثل فيما أشير إليه بصدد موقع حزب البعث في قيادة الدولة والمجتمع، وهذا يجعل أي كلام عن أحزاب أخرى غير ذي معنى، إذ هي في مرتبة التابع للحزب الحاكم الذي يتولى طبقا لمحتويات الدستور الحالي ترشيح رئيس الجمهورية، كما أن محتوى الدستور فيما يتعلق بطبيعة النظام السوري، من حيث هو «نظام اشتراكي»، يمنع قيام أحزاب غير «اشتراكية»، بل إن القانون السوري يحيل المواطنين والأحزاب إلى المحاكمة بتهمة «مناهضة النظام الاشتراكي»، وهي تهمة قد تؤدي في الظروف المشددة إلى الإعدام. وباستثناء فكرة التصادم بين محتويات الدستور وقانون الأحزاب، فإن في محتويات القانون الجديد ما يجعله متصادما مع روح التحولات المطلوبة في سوريا، ومنها تخفيف قبضة السلطة التنفيذية، حيث يضع القانون الأحزاب تحت هيمنة الحكومة من الناحيتين الإجرائية والقانونية، إذ يعطي وزارة الداخلية حق ترخيص الأحزاب، وذلك من خلال تولي وزير الداخلية رئاسة لجنة الأحزاب، وهي لجنة يعينها رئيس الجمهورية. وتم إخضاع تشكيل الأحزاب إلى نسق من المبادئ ثبت في نحو خمسين سنة من حكم البعث أنها خضعت لاعتبارات ياسية، وجرى تعويمها لترتيب إدانات لكل من عارض النظام من الأحزاب والشخصيات، وهي اعتبارات لم يتم احترامها من قبل النظام وحزبه الحاكم وفي مقدمتها «الالتزام بأحكام الدستور ومبادئ الديمقراطية وسيادة القانون واحترام الحريات والحقوق الأساسية..».

والأمر في جوانب أخرى لا يقل عما سبق في علاقته بالمبادئ المتصلة ب«الحفاظ على وحدة الوطن وترسيخ الوحدة الوطنية للمجتمع»، وهذه مبادئ عامة، يمكن استخدامها بطرق ملتبسة، وثمة جانب آخر في مبادئ قيام الأحزاب وهو «عدم قيام الحزب على أساس ديني أو قبلي أو مناطقي أو فئوي أو مهني، أو على أساس التمييز بسبب العرق أو الجنس أو اللون»، و«ألا يكون الحزب فرعا أو تابعا لحزب أو تنظيم سياسي غير سوري»، وهذا الجانب من المبادئ يمثل تعارضا في الأهم من جوانبه بين محتويات القانون ووقائع وجود حزب البعث الحاكم الذي لا شك أنه لن يقوم بتسوية أوضاعه مع محتويات القانون، لأنه لن يتخلى عن هويته العروبية «القومية» ولا عن تنظيمه القومي في البلدان العربية الأخرى، وفوق ذلك، لم يقل القانون شيئا عن سيطرة البعث المطلقة ودوره في المجتمع والدولة وفي اختيار رئيس الجمهورية.

القضية الأساسية في سوريا اليوم هي إعادة بناء البنية السياسية للبلاد، وهو أمر يتطلب دستورا جديدا، وبالاستناد إليه تتم صياغة قوانين جديدة تنظم مختلف جوانب الحياة في السياسة والاقتصاد والمجتمع أولا، ومع ذلك، فإن محتوى قانون الأحزاب الجديد فيه خروقات لطموحات السوريين التي يعبرون عنها اليوم، وهو في بعض جوانبه، يكرس بعضا من ملامح السياسة التي سادت في السابق وأدت إلى الأزمة الحالية.

================

ملامح الصراع الإيراني  التركي على سوريا والخليج

هدى لحسيني

الشرق الاوسط

28-7-2011

يبدو أن توافقا تم التوصل إليه في إيران لإبقاء الخلافات الداخلية بعيدة عن الانفجار لأن التركيز على الأهداف الإقليمية أهم للقيادة الإيرانية، خصوصا أن طهران تريد كسب الاستحقاقات التي بذلت جهودا كثيرة لتحقيقها، لأنها تدعم بقاء نظامها.

السباق مع الزمن تتقنه القيادة الإيرانية مع بحثها المستمر للالتفاف على السعودية. تعرف حاجتها الدائمة لثقل سُنّي يقف إلى جانبها. مصر مترددة، وتركيا بدأت تنافسها بشدة، لذلك رمت بإغراءات اقتصادية كثيرة على باكستان، فأرسلت إسلام آباد مجموعة من رجال الدين السنّة المتشددين لإجراء لقاءات موسعة مع رجال الدين الشيعة في إيران لإظهار أن عناصر «غير مسلمة» هي المسؤولة عن التوتر الذي تعمّق بين المذهبين في السنوات الأخيرة.

دأب المسؤولون الإيرانيون في الفترة الأخيرة على القول إن الولايات المتحدة تبذل المساعي للوقيعة بين دول المنطقة لمنع إقامة ترتيبات أمنية «ولن تنجح» وإن الأساطيل الأجنبية في الخليج مضرة «ولن تبقى» طويلا فيه.

إذا نجحت إيران في ملء فراغ القوة الرئيسية في العراق البلد الذي يلامس ست قوى رئيسية في الشرق الأوسط، تكون إيران نظريا قد ضمنت حدودها الغربية، فضلا عن منفذ للنفط بحيث تمدد نفوذها أكثر.

حتى الآن، تسير الخطة الإيرانية على الطريق الصحيح، إذا لم يستنزفها الوضع السوري. فإذا لم تنجح الولايات المتحدة في إبقاء قوات عسكرية في المنطقة (العراق)، فإن إيران ستحل محلها باعتبارها القوة العسكرية الأقوى في منطقة الخليج. فهي لديها القدرة العسكرية لتهديد مضيق هرمز، كما أن لها شبكة سرية من العملاء منتشرة في المنطقة. وعبر تغلغلها العميق داخل الحكومة العراقية تتمتع بأفضل وضع للتأثير في صنع القرار العراقي. وصراع واشنطن للتفاوض على التمديد للقوات الأميركية في العراق من أوضح الأمثلة على إصرار إيران لتأمين حدودها الغربية. ورغم انشغال العالم المتقطع بالمسألة النووية الإيرانية فإن الأكثر إلحاحا بالنسبة إلى إيران هو تعزيز موقفها في العراق. وما توغلها في شمال العراق (ظاهريا لمحاربة المسلحين الأكراد) إلا محاولة لنقل هذه الرسالة.

لكن، وإيران في طريقها لتحقيق أهدافها في العراق فإنها تحتاج إلى أمرين أساسيين لاستكمال الترتيبات الأمنية التي تتطلع إليها في الخليج. الأمر الأول التفاهم مع الولايات المتحدة. والثاني التفاهم مع السعودية خصمها الإقليمي الرئيسي. وفي إعادتها لرسم سياسة الخليج تحتاج إيران أن تقنع جيرانها من الدول السُنّية، بأن مقاومتها لا تستحق التكاليف خصوصا أن الولايات المتحدة ليس لديها الوقت أو الموارد اللازمة لتأتي للنجدة. لذلك، فإن هدف إيران الآن إجبار القوى السُنّية الكبرى في المنطقة على الاعتراف بتوسيع نطاق النفوذ الإيراني.

بالطبع، هناك دائما فجوة كبيرة بين النيات والقدرات خصوصا في ما يتعلق بالحالة الإيرانية.

ونسمع من يقول من المراقبين السياسيين إن العراق سيكون «مقبرة» الطموحات الإيرانية والنظام الإيراني نفسه. وإنه بسبب أهداف هذا النظام، فإن النظام السوري مهما حاول، فإنه ذاهب إلى السقوط حتى لو قدم كل التنازلات المطلوبة منه ولو إلى درجة تعريته. إذ لا يمكن السماح لإيران بتحقيق انتصار قد يكون الأول من نوعه في المنطقة وفي التاريخ عبر «نفوذ» يبتلع العراق ويتمدد إلى سوريا وما بعدهما.

إيران ترى خططها تطورا طبيعيا يستحق الانتظار لعدة قرون، فخسارة الإمبراطورية الصفوية للعراق إلى العثمانيين أدى إلى هيمنة السُنّة على السلطة في بلاد ما بين النهرين، وشرق السعودية وبلاد الشام منذ القرن السادس عشر. والآن حان الوقت لتنقلب المعادلة لمصلحة الشيعة في هذه المنطقة.

ليس من المستغرب إذن القلق الخليجي من التطور السياسي في العراق، لذلك سوف يعتمد الخليجيون بشكل متزايد على قوى إقليمية مثل تركيا للحفاظ على السُنّة حصنا ضد إيران في العراق، وإن كانت بعض دول الخليج اقتنعت الآن بأن العراق سقط في يد إيران.

للولايات المتحدة ثلاث مصالح أساسية: الحفاظ على تدفق النفط عبر مضيق هرمز، وخفض كبير لعدد قواتها إلى خصصتها لقتال المتشددين الإسلاميين من السُنّة الذين هم أيضا في حالة حرب مع إيران، ومحاولة إعادة توازن القوى في المنطقة بحيث في نهاية المطاف، تمنع أي دولة لوحدها، سواء كانت عربية أو فارسية، من السيطرة على كل نفط الخليج. (تجربة صدام حسين عندما احتل الكويت، معروفة نتائجها، أدت إلى إنهاء نظامه).

وهناك من السياسيين الغربيين من يقول، إن وضع الولايات المتحدة الآن أكثر مرونة مما كان عليه في التسعينات، وإذا توصلت إلى استنتاج بأنه ليس لديها خيارات جيدة، في القريب العاجل، للتعامل مع إيران، فإن نوعا من «التساكن» بينهما ليس مستبعدا.

والشرح لهذا الطرح كالتالي: ما تريده واشنطن الآن هو وضع القوات الأميركية في العراق، طهران تفضل انسحابا كاملا لهذه القوات، لكنها قبلت بتقليص أعدادها.

قد تكون الولايات المتحدة مستعدة للاعتراف بالمطالب الإيرانية عندما يتعلق الأمر بشكل الحكومة العراقية أو الامتيازات النفطية في جنوب العراق، لكنها تريد أن تضمن ألا تحاول إيران تجاوز الحدود وتهديد الثروة النفطية في السعودية. لكن هناك مشكلة، فإيران لا تستطيع أن تثق بأن الولايات المتحدة لن تشارك لاحقا في عمل عسكري ضدها، والأميركيون لا يمكنهم الوثوق من أن إيران لن تتحرك باتجاه الثروة النفطية السعودية، مع العلم أن القدرات العسكرية لمثل هذه الخطوة تتجاوز قدرات إيران الآن.

القلاقل في البحرين، وموقف الولايات المتحدة الضعيف في العراق والترويج بأن واشنطن «هي» من تسعى لعقد صفقة مع إيران، تجعل طهران تأمل ولو باتفاق «هدنة» مع السعودية، على أن تعتبره إذا تحقق، خطوة نحو تسوية أوسع تؤدي إلى اعتراف خليجي عربي بإيران كقوة بارزة. وتصريحات المسؤولين الإيرانيين، ب«أن الولايات المتحدة فشلت في إقامة نظام الأمن المستدام في منطقة الخليج وليس من الممكن أن تحافظ العديد من السفن على وجود دائم في المنطقة»، هدفها زرع الخوف والشكوك لدى دول الخليج العربية بأن الوجود العسكري الأميركي البحري سيتزعزع، لكن، لا تملك إيران الآن القوة العسكرية لتهديد دول مجلس التعاون الخليجي إلى حد إجبارها على التفاوض للتخلي عن الضمانات الأمنية الأميركية مقابل أن تضبط إيران نفسها.

الصورة الإقليمية على المدى الطويل، ليست لصالح إيران. وعلى عكس إيران التي تتخبط اقتصاديا في الداخل، تبدو تركيا البلد الصاعد في المقابل، فلديها القوة العسكرية والاقتصادية والسياسية القادرة على التأثير على الأحداث في الشرق الأوسط تحت الراية السُنّية، وإن كانت تركيا تحتاج إلى وقت للعودة إلى هذا الدور، لكن ما تقوم به يشير إلى هذا التطلع.

ففي العراق يمكن استشعار النفوذ التركي في المجالات السياسية والتجارية والأمنية والثقافية.

وفي سوريا، وعلى الرغم من مقاومة نظامها حتى الآن، فليس هناك شك في أن ملامح مواجهة أكيدة تكبر بين إيران وتركيا حول مستقبل الدولة السورية. لدى تركيا مصلحة في بناء قوة سُنّية سياسية قابلة للحياة في سوريا يمكنها في نهاية المطاف أن تحل محل العلويين في السلطة، في حين أن المصلحة الإيرانية تقتضي حماية النظام القائم الآن وذلك للحفاظ على موطئ قدم استراتيجي في المشرق العربي.

الإيرانيون في سباق مع الزمن، إذ قد تكون هناك بضع سنوات قبل أن تتمكن الولايات المتحدة من أن تتحرر من كل ما يعيقها لتعود بقوة جديدة إلى الخليج. في غضون ذلك من المتوقع أن تعود تركيا إلى دورها في أنها الموازن الطبيعي في المنطقة لإيران. وحتى يتحقق كل ذلك، فإن الإيرانيين يعملون على وضع الهياكل والحصول على الاتفاقات وتثبيتها وتفعيلها لتصمد في مواجهة القوى الإقليمية. وقد يكون الخاسر الأكبر في هذه السباقات، النظام السوري القائم، فهو لم يدفع فقط ثمن تحالفه مع النظام الإيراني، بل سيكون ضحية حسابات ذلك النظام الذي في نهاية المطاف يقيّم تحالفاته ويغيّر شكل عداواته للمحافظة على بقائه.

======================

الثورات: هدم وبناء

د.خالص جلبي

الأربعاء 27 يوليو 2011

لاتحاد

كان حنق لينين عظيماً حين تمرد الجنود في سان بطرسبرج، فقد سبقته الثورة ولم يكن يتوقع اندلاعها بقدر غفلة أهل أتشيه في أندونيسيا عن قدوم التسونامي، وهو أيضاً مفاجأة غير سارة لكل محللي البنتاجون حول بركان الشرق الأوسط.

وأعترف أنا شخصياً أني كنت في يأس مقيم وإحباط أحاطا الرؤية فغبشت عيناي فأنا كليل، وهو ما دفعني أن أغسل يدي من بلدي وأكرر قول إبراهيم إني مهاجر إلى ربي، فهجرت ديار "البعث" إلى يوم البعث.

حقيقة أقول لو أن عربة البوعزيزي اشتراها نصف القادة العرب بنصف تريليون يورو، لربما أخّروا المخاض! وليس بالأمر المؤكد؛ فقدر الله أمراً حين أحرق البوعزيزي نفسه ومعه احترق العالم العربي فالتهم مفاصل نصف أنظمة حكمه.

العالم العربي بعد حريق البوعزيزي لم يعد كما كان قبل ذلك الحدث، وهو يذكر بأحداث 11 سبتمبر 2001 بفارق عشر سنوات.

وخلال عقد واحد رسمت خرائط جديدة فتغير العالم وبدأ المخاض في العالم العربي. ونحن نعلم من البيولوجيا أن أخطر لحظات الولادة هي خمس دقائق مع استقبال الجنين للحياة؛ فإما ولد سوياً وإما بانقطاع الأكسجين قد يبقى ذلك الجنين معتوهاً بقية الحياة وكذلك قدر الثورات.

حين ولدت الثورة الفرنسية لم يكن اسمها ثورة، واحتاج الأمر ثلاث سنوات قبل أن يُطاح برأس الملك لويس السادس عشر وماري أنطوانيت ومعهما طبقة كاملة من الأرستقراطيين على شفرة المقصلة.

مازلت أتذكر كلمات الفقيه المطهري في قم مع بدايات الثورة الإيرانية وهو يتحدث عن البناء والهدم في الثورات: لقد هدمنا بناية كبيرة وكل التحدي في البناء. وأنا اليوم تنتابني الحسرة، فأقول: ياحسرتنا على ما فرطنا فيها وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم ألا ساء ما يزرون.

إن ما يهدد الثورات العربية الممتدة من نواكشوط حتى القامشلي ليس حرق مفاصل الأنظمة الجمهورية القديمة بل القدرة على البناء بعد الهدم. وهو ما نراه اليوم في تونس ومصر.

القوم حيارى والاضطرابات كبيرة وقوى النظام القديمة تضرب بجذورها في تربة عطنة، والعسكر يتحلب ريقه للالتهام، والجماهير في فوضى بدون انتظام.

إنها مرحلة خطيرة تذكر بكيرنسكي في روسيا عام 1917، وروبسبير واليعاقبة في الثورة الفرنسية، وتوماس سنكارا من بوركينافاسو... قبل أن تتحول الثورة إلى كارثة.

هل يحق لنا أن نكرر مقولة أرسطو عن خوفه من الثورات ومآلها؟ أو نقول ما قاله كانط: إن يوماً من الاستبداد لا تعدله كل فظاعات المقصلة الفرنسية!

=============

بين الثورة والمعارضة

د. برهان غليون

الاتحاد

تاريخ النشر: الأربعاء 27 يوليو 2011

بقدر ما تُظهر الاحتجاجات الحالية في سوريا قدرة استثنائية على التقدم في مواجهة عنف نظام استثنائي، وتثير بذلك إعجاب العالم، تبدو المعارضة السورية في نظر الجميع وكأنها الثغرة الرئيسية في منظومة التحرر التي وضعها الشعب السوري في الأشهر القليلة الماضية. وبالفعل ليس من الممكن لأي مراقب أن لا يقارن بين التقدم الكبير الذي حققته حركة الاحتجاج الشعبي في الأشهر الأربع الأخيرة، وبين الحصيلة الضئيلة لجهود أحزاب المعارضة وتشكيلاتها المختلفة في الخروج من القبر السياسي الذي وضعها فيه النظام في العقود القليلة الماضية.

والحديث عن المعارضة السورية، بالعلاقة مع الثورة المتقدمة، هو اليوم حديث يجمع بين الأطراف كافة. يطرحه شباب الثورة والمتحالفون معها، ويطرحه ممثلو الطبقات الوسطى والعليا في المجتمع السوري، ويطرحه السياسيون الأجانب المعنيون بالوضع السوري أو المرتبطين بعلاقات خاصة مع سوريا. وستطرحه قريباً تلك القوى العسكرية والأمنية السورية التي لا تزال صامتة بانتظار ما ستسفر عنه المواجهة بين القوى الشعبية الزاحفة على السلطة وقوى النظام المسلحة.

لا يتطلع شباب الثورة إلى المعارضة من أجل المشاركة في المسيرات والمظاهرات، وإن كان لمثل هذا العمل أثر كبير على تشجيع الناس والفئات التي لا تزال مترددة. بل لما يمكن أن تقدمه من مظلة سياسية تجمع أكثر ما يمكن من القوى الاجتماعية وراء الانتفاضة وتعبر عن هويتها الحقيقية في مواجهة الاتهامات التي يسعى النظام إلى رميها بها لتشويه صورتها وتقزيم معانيها. فكان مما وصفه بها أنها غطاء يقدمه سوريون سذج أو ملعوب بهم لمؤامرة أجنبية، وأنها تمثل فئات قليلة من حثالة الشعب، وأن ما يحركها هو الانتقام والأحقاد الطائفية، كما يميل إلى تسويده اليوم. فالمعارضة السياسية هي وحدها التي يمكن المراهنة عليها للدفاع عن مشروع الثورة هذه وإعطائه معناه الحقيقي بوصفه ثورة الكرامة والحرية كما أراد لها أصحابها أن تكون. وهم يتطلعون إلى المعارضة أيضاً لأن وقوفها إلى جانب الثورة، وهي المعروفة بنضالها التاريخي من أجل الحرية والديمقراطية، يقدم لهذه الأخيرة الشرعية التي تحتاجها، في مواجهة الإنكار الكلي من جانب السلطة. وهم ينتظرون من المعارضة أيضا، وهي أكثر تنظيماً وخبرة في الشؤون الخارجية وقدرة على المبادرة السياسية، مساعدتهم في التواصل مع العالم الخارجي ووضع الثورة السورية في إطارها الطبيعي كجزء من ثورات التحرر الإنسانية، وكسب الدعم والتأييد اللذين تحتاجهما خارجياً.

وبالمقابل تنظر قطاعات واسعة من الرأي العام السوري إلى موقف المعارضة لتحدد موقفها أيضاً من الثورة التي يقودها شباب لا يكاد يعرفهم أحد، وهم أيضاً ليس في مصلحتهم أن يظهروا مادامت المعركة لا تزال غير متكافئة والخطر كبير عليهم. فوقوف المعارضة مع الثورة يشكل ضمانة لمسيرتها وأهدافها، ولا يمكن إلا أن يطمئن أولئك الذين يخشون الفوضى، عن حق، على المستقبل ويدفعهم للمراهنة عليها والقطع مع النظام. بالإضافة إلى أن المعارضة تشكل بالنسبة لهذه القطاعات وسيلة التواصل الرئيسية بينهم وبين شباب الثورة الذين لا يعرفونهم ومن الصعب أن يصلوا إليهم اليوم. ويعني التواصل تبادل الأفكار والمعلومات وتلبية الحاجات. وهي أمور لا يمكن للثورة أن تستمر من دونها.

ولا يختلف الأمر فيما يتعلق بالقوى الدولية. فهي حريصة أيضاً على أن لا تتعامل إلا مع أطراف تعرفها وتعرف برامجها وتقدر سلوكها وأعمالها وتستطيع من خلالها الحفاظ على مصالحها، وربما كان أهمها اليوم معرفة ما إذا كانت هناك معارضة قادرة على إدارة البلاد بعد سقوط النظام. ومهما كانت ثقة الدول بثورة الشباب وتقديرهم لأعمالهم البطولية، فهم يريدون التعامل مع أطر منظمة معروفة ويمكن الاتصال بها والنقاش معها. فالمعارضة تلعب هنا أيضاً دور الوسيط التواصلي بين شباب الثورة وبقية القوى الدولية والإقليمية التي يتكون منها النظام الدولي الذي لا تعيش سلطة خارجه اليوم.

باختصار هناك مهام اجتماعية واقتصادية وسياسية وفكرية وإعلامية ودبلوماسية لا يمكن لشباب الثورة العاملين في الميدان أن يقوموا بها، وهم في ما هم فيه من سرية وعمل يومي لتنظيم الشعب ومسيراته وشعاراته. وهم بحاجة من أجل تلبيتها لأناس أكثر خبرة في هذه الميادين وأكثر قدرة على التحرك والتواصل مع جميع الأطراف. وحتى تستطيع المعارضة القيام بهذه المهام ينبغي أولا أن تقف مع الثورة وهو ما فعلته منذ البداية ولو أن بعض أطرافها صرفت وقتاً طويلاً قبل أن تنخرط فيها وتساعد على تعزيز مسيراتها. وينبغي ثانياً أن تؤطرها سياسياً وفكرياً، أي أن تنشئ الإطار السياسي الذي يمثل مرجعية تضمن وحدتها واستمرارها وتواصلها مع العالم الخارجي. فوجود عنوان واحد وواضح للثورة، يضم إلى جانب ممثلي شباب الثورة الأطراف الرئيسية من المعارضة الحزبية، يساعد كثيراً في كسب الرأي العام العالمي إلى جانبها ويسهل التفاهم مع أطراف النظام الدولي، مما يضمن حصول التأييد وتحقيق الاعتراف، ومن ثم توفير الكثير من الضحايا والخسائر المادية. كما أن وجود مثل هذا العنوان الواحد، يساعد في منع المتطفلين على الثورة والمندسين في أوساطها من تشويه صورتها أو الحديث باسمها لتحقيق مآرب أخرى أو التسلق عليها وحرفها عن أهدافها.

وفي هذه النقطة تكمن أزمة المعارضة السورية. فجميعنا ندرك اليوم أنه رغم كل الجهود التي بذلت، ورغم إجماع أطراف المعارضة السورية وأحزابها، من دون تمييز بين يمين ويسار، على دعم الثورة والانتقال بسوريا من الديكتاتورية إلى الديمقراطية، لا تزال وحدة المعارضة، بل توافقها على أرضية مشتركة، والتنسيق بين أطرافها في خدمة الثورة الديمقراطية، تبدو أمنية بعيدة المنال، بينما أصبح تقدم الثورة الميداني يتطلب وجود إطار سياسي موحد يصد عن الثورة الهجومات السياسية المتواصلة ويطمئن الشعب أو أجزاء كبيرة منه على المستقبل، ويفتح باب الاعتراف السياسي الواسع بالعهد الجديد خارجياً. وستزداد الحاجة إلى معارضة موحدة قوية مع تقدم الثورة وتغير ميزان القوى وترنح النظام وتطلع الأطراف التي كانت تراهن عليه إلى التحلل من التزاماتها تجاهه، والتطلع إلى المستقبل. بمعنى آخر، لا يمكن من دون معارضة قوية ومنظمة في جبهة أو إئتلاف، قطف الثمار التي أنضجها كفاح الشباب السوريين بدمائهم وأرواحهم. وكل تأخر في تشكل مثل هذه الجبهة (المرجع) يعني بالنسبة لهم وللسوريين جميعاً تأخيراً في موعد النصر وتفريطاً بهذه الدماء والجهود العزيزة والتضحيات التي لا تقدر بثمن.

من هنا، لم يعد الأمر يحتمل الانتظار، وأصبح من الضروري التفكير ملياً في واقع المعارضة والعوائق التي تمنع المعارضين من التوافق على برنامج عمل مشترك وتكوين هيئة وطنية قادرة على حمل مسؤولية التغيير الديمقراطي المنتظر وانتزاع نصر للشعب السوري يستحقه، وتلك العوامل التي تفسر عجز المعارضة السورية عن الارتقاء إلى مستوى المسؤولية التي تطرحها عليها الثورة الحالية وقد ضربت أعظم الأمثلة في التضحية والفداء ونكران الذات! هذا ما سوف أتناوله في مقال قادم.

=============

الربيع العربي والهواجس المراوغة!

المستقبل - الاربعاء 27 تموز 2011

العدد 4068 - رأي و فكر - صفحة 20

عبد الحسين شعبان ()

ثلاثة عناوين أساسية تصدّرت الواجهة السياسية أو وجدت طريقها إليها ترافقاً مع ربيع الحرية والكرامة الذي حلّ بالعالم العربي. ولعل تلك العناوين هي أقرب الى المخاوف أو الهواجس من اختطاف الثورات أو دفعها بإتجاه خاطئ، ومثل هذا القلق إرتفع الى درجة كبيرة لدى أوساط وجماعات مختلفة في أهدافها وتوجهاتها، بعضها راوده لاعتبارات آيديولوجية والآخر دينية أو طائفية والثالث لأسباب سياسية أو إجتماعية أو غيرها.

العنوان الأول هو الخوف من صعود نجم الحركة الإسلامية والقوى الدينية، لاسيما المتطرفة مهما إتّخذت من أسماء، سلفية وأصولية، أو معتدلة لكنها تصبّ في تيار الاسلام السياسي مثلما تنبع منه، وتوّلد شعور أن هذه القوى تكاد تكون الوحيدة، المنظمة، ولديها آليات عمل متقنة ويمكنها بإسم الدين التأثير على الجمهور، القليل الوعي، وبالتالي يمكنها كسب الشارع والوصول الى قبّة البرلمان وقد يكون بإمكانها إحراز الأغلبية فيه ودفع البلاد بإتجاه دولة إسلامية، في حين أن هدف الثورات هو إقامة دولة مدنية على أساس مواطنة سليمة عابرة للأديان والطوائف والإثنيات والسلالات واللغات، تشيع الحريات وتعيد رسم العلاقة بين الحاكم والمحكوم على أسس جديدة قوامها احترام إرادة المحكومين الحرّة في إختيار الحاكم واستبداله وفقاً لإنتخابات دورية وعلى أساس تداولية السلطة سلمياً في إطار حكم القانون وفصل السلطات واستقلال القضاء. وفي هذا السياق فإن مبدأ الشفافية والمساءلة يعدّ ركناً حصيناً من أركان الدولة العصرية الديمقراطية.

وإذا كان القلق من صعود تيار إسلامي أو "إسلاموي" متشدد قد يدفع البلاد باتجاه التديين أو التطييف أمراً وارداً، الاّ أن الحل ليس بعزله أو منعه من ممارسة حقه المشروع في العمل العلني الشرعي- القانوني أو الوقوف ضد ثورات التغيير بذريعة " التيار الاسلامي"، بل في إعتماد آليات ديمقراطية يمكن صياغتها في عقد اجتماعي جديد وإدراج بعض مبادئه في الدستور بحيث لا يمكن تغييرها أو استبدالها بسهولة، خصوصاً إذا كانت ضامنة لسير الحياة الديمقراطية بإعتبارها خطة طريق طويلة الأمد للتحوّل الديمقراطي.

وبقدر مشروعية القلق من تحقيق القوى الاسلامية فوزاً كبيراً في الانتخابات البرلمانية القادمة، لاسيما في تونس من خلال حزب النهضة، ومصر من خلال حركة الأخوان المسلمين، ممثلة بحزب الحرية والعدالة، خصوصاً وقد استطاعا بحيوية ومرونة تبنّي بعض عناصر وأركان الدولة المدنية، الأمر الذي سيرمي الكرة في ملعب القوى الوطنية الأخرى: اليسارية والديمقراطية والقومية، من حيث إعادة النظر بمجمل ستراتيجياتها وتكتيكاتها التي وصلت الى طريق مسدود، والإستفادة من جيل الشباب صانع الثورات والتعلّم منه وإقامة تحالف واسع يلعب فيه الشباب إضافة الى مؤسسات المجتمع المدني دوراً وازناً، لاسيما بتبنّي مطالب الناس والدفاع عن حقوقها في العيش الكريم وتوفير مستلزمات العمل والصحة والتعليم، بإعتبارها أساسات لا يمكن للتنمية الشاملة أن تقوم دونها، إضافة الى قاعدة الحقوق والحريات المدنية والسياسية.

وإذا كانت ظروف وأوضاع العمل السري وقمع الحريات وملاحقة أتباع التيار الإسلامي سبباً في انتشاره، إضافة الى براعته في العلاقة بالناس، فإن شروط العمل العلني وفي ظل حكم القانون واحترام حق الاختلاف وإقرار مبادئ التنوّع والتعددية، سيقود الى انحسار هذا التيار إنْ آجلاً أم عاجلاً، ولكن حذار من عزله أو تهميشه، لأن هذه البيئة هي الصالحة التي يمكن أن ينمو فيها وينتشر مستغلاً أحياناً عن حق أو عن باطل إسم الدين والإسلام في مواجهة الآخرين.

العنوان الثاني الذي عاظم قلق الكثير من الأوساط السياسية والشعبية، هو الخوف من الفوضى، ولعل هذا السبب كان وراء قلق بعض القوى التي ظلّت مترددة أو حتى مرتابة من التغيير، وهاجس الفوضى يكاد يكون موازياً لهاجس الاسلام السياسي، لاسيما بعد تجربة "الفوضى الخلاقة" التي ضربت أفغانستان وبعدها العراق بعد احتلالهما عامي 2001 و2003.

وإذا كانت الثورة عملاً انقلابياً وإلغائياً للنظام السابق وإحلال نموذج جديد محلّه، فإن هذا الجديد يحتاج الى فترة قد تطول وقد تقصر ليبسط نفوذه وقيمه، ولا توجد ثورة نظيفة، أي مغلفة بالسلفون، فلا بدّ أن يرافقها أعمال عنف وتخريب وسرقات وتجاوز على القوانين والأنظمة النافذة، لحين استكمال النظام الجديد بناء نفسه وترسيخ قواعد حكمه وإعادة النظر بالقوانين والأنظمة. وسيعتمد على ما سيتم إنجازه في فترة الانتقال لمنع الجريمة المنظمة والحفاظ على المال العام ومنع تخريب مؤسسات الدولة وإنهاء مظاهر العنف ووضع سيادة القانون فوق الجميع، ويحتاج الأمر الى بناء طويل الأمد، تدرّجي، وشفافية ومساءلة، لحين رسوخه.

وحتى الآن فإن ما حصل في تونس وفي مصر فاق الكثير من التوقعات، على الرغم من بعض ما رافقه من حوادث وأعمال شغب، لكنه بشكل عام كان دليل صحة وعافية ومدنية على انتصار الثورة السلمية، وخصوصاً الحفاظ على مؤسسات الدولة، واستطاعت الثورة بسرعة كبيرة تقليص ظاهرة الانفلات الأمني، التي ظلّت محدودة، كما أن بعض مظاهر العنف والجريمة المنظمة انحسرت الى حدود غير قليلة، الأمر الذي يحتاج الى عقد اجتماعي جديد لاستعادة وترسيخ تقاليد جديدة ديمقراطية قائمة على قيم الحرية والعدالة والمساواة والمشاركة، واحترام التنوّع والتعددية وحقوق المرأة والأقليات والمهمشين.

العنوان الثالث هو الخوف من القوى الخارجية، التي قد تحاول استغلال الثورات أو حرفها عن مسارها أو توجيهها وجهة خاطئة أو التأثير عليها، سواءً الثورات المنتصرة في تونس ومصر، أو الانتفاضات والاحتجاجات الأخرى في البلدان العربية المختلفة من مغرب الوطن العربي وحتى مشرقه، ومن محيطه الى خليجه. وإذا كان القلق من التدخل الأجنبي مشروعاً ومبرراً، لاسيما وأن هذا البرزخ يمكن أن يكبر، وهناك الكثير من الأمثلة الصارخة، ولعلها أكثر إثارة بالنسبة للعالم العربي هو ما حصل في العراق بعد الاحتلال، وما يجري اليوم في ليبيا من اقتتال قد يطول بسبب تدخل حلف الناتو وقيامه بقصف طرابلس وتدمير البنية التحتية والمرافق الحيوية والمنشآت الاقتصادية، فضلاً من إلحاق ضرر بليغ بالسكان المدنيين الأبرياء.

وإذا كان مبرر التدخل الانساني هو حماية السكان المدنيين في بنغازي وبقية المناطق التي وقعت تحت قيادة الثوار، فإن هذا الهدف تم التجاوز عليه، لاسيما ما تعرّض له السكان المدنيون، وما سيتركه من تأثيرات سلبية على صعيد المستقبل.

أقول ذلك بعيداً عن أصحاب نظرية المؤامرة الذين يفسّرون الأحداث والتطورات في ضوئها وعلى هداها. ولا أحد يستطيع إنكار الاستهداف الخارجي، لاسيما من جانب القوى المتنفّذة والمتسيّدة في العالم، وخصوصاً الولايات المتحدة وحلفائها،لأن ذلك جزءًا من الصراع الدولي، لكن مثل هذا التفسير سيبدو وحيد الجانب، حين يجري التشكيك بمطالب شعبية وتحركات واحتجاجات وقوى وجماهير غفيرة، وكأنها دمى يحرّكها الخارج.

لعل مثل تلك الأطروحات مهما كانت نزيهة، لكنها ستكون شئنا أم أبينا دفاعاً عن الحاكم وتبريراً لإستبداده وتجاوزه على الحريات والحقوق، فضلاً عن أوضاع الفساد المالي والاداري الذي يزكّم الأنوف، تلك الأحوال والأهوال، التي دفعت الشباب للانتفاضة من أجل الكرامة والحرية. كما أن الحجة التي يتم التعكز عليها، وأعني بذلك مناهضة الامبريالية ومؤامراتها، التي هي غير غائبة، لن تكون مبرراً لما تقوم به أنظمة التسلّط والاستبداد من قمع للحريات والتجاوز على الحقوق، ولعل نقيض هذه السياسة التي أدت الى الإفقار والإذلال، سيكون المزيد من الحقوق والحريات والتنمية لمواجهة المخططات الخارجية وليس العكس.

أما الوجه الثاني لهذا العنوان فهو محاولة بعض القوى تبرير التدخل الخارجي بل الاستقواء به، تحت ذريعة عدم قدرة المعارضات الداخلية على تغيير الأنظمة بسبب كبت الحريات المزمن، وقد قادت مثل هذه التعويلية على القوى الأجنبية بلدانها الى كوارث لا حدود لها، الأمر الذي يحتاج الى توازن بحيث تكون المطالبة بالتغيير هي ضد الاستبداد، وفي الوقت نفسه ضد الطغيان الخارجي، الذي لا يريد خيراً بتطلعات شعوب المنطقة، لاسيما في ظل انحيازاته المسبقة الى " إسرائيل" وفي محاولاته المستمرة للهيمنة على النفط.

ومن الطبيعي أن تحاول القوى المخلوعة أو بعض أركانها أو المعارضة التقليدية، أو حركات سياسية جديدة، "اصطياد" الثورة وتوجيهها الوجهة التي تخدم مصالحها، الاّ أن جيل الشباب صانع الثورة قد يكون في واد، وهذه القوى أو بعضها في واد آخر، الأمر الذي يحتاج الى توافقات جديدة بين جميع هذه القوى، بما فيها المجتمع المدني ومؤسساته وجمعياته، التي عملت طويلاً في العقود الثلاثة ونيّف الماضية وفي كل بلد عربي حسب توفّر هامش الحرية من أجل إبرام عقد اجتماعي جديد، يضع الأفكار والقيم الثورية في إطارها القانوني- الاجتماعي لما بعد الثورة، للانتقال الى شرعية دستورية جديدة، لا تشبهه الشرعيات الثورية العسكرية أو الانقلابية، التي تحققت وتعتّقت في السلطة في فترة ما بعد الاستقلال، خصوصاً عندما تشبثت بالشرعية الثورية وألغت كل شيء عداها، الأمر الذي يحتاج الى التكيّف، لعقد جديد يختلف عن العقد القديم، لاسيما في علاقة الحاكم بالمحكوم.

وتبقى المعضلة الأساسية هي علاقة الحاكم بالمحكوم في الدولة العربية الحديثة، التي يتوقف عليها الشرعية المنشودة، خصوصاً شكل الدولة وطبيعة نظامها السياسي والاجتماعي والمبادئ والقيم التي تحكمها، وهو الأمر الذي لا بدّ من التفكير فيه على نحو معمق في ظل الشرعية الجديدة التي ينبغي أن يقوم عليها العقد الاجتماعي الديمقراطي الجديد.

()باحث وحقوقي عراقي

=============

ما الذي كان يمنع النظام السوري من تحرير فلسطين؟

المستقبل - الاربعاء 27 تموز 2011

العدد 4068 - رأي و فكر - صفحة 20

خيرالله خيرالله

ليس هناك ما يحصل بالصدفة. هناك سبب ما وراء كل قرار سياسي مهما كان صغيرا او تافها او مهمّا. لذلك من المنطقي التساؤل لماذا اختار النظام السوري هذه الايام بالذات للاعلان عن اعترافه بالدولة الفلسطينية في حدود الرابع من حزيران 1967؟ الم يعترف بها منذ دخوله في مفاوضات مع اسرائيل استنادا الى القرار 242 الصادر في العام 1967... او منذ ذهابه الى مؤتمر مدريد في العام 1991 او منذ موافقته على مبادرة السلام العربية في قمة بيروت للعام 2002؟ هل الاعلان عن موقف جديد من الدولة الفلسطينية يغيّر شيئا في وقت يبدو واضحا ان الفلسطينيين في مأزق حقيقي. هذا المأزق عائد الى وجود حكومة اسرائيلية لا هدف لها سوى تكريس الاحتلال من جهة... وسلسلة من الاخطاء ارتكبها الفلسطينيون، خصوصا منذ توقيع اتفاق اوسلو في العام 1993 من جهة اخرى. فوق ذلك كلّه، هناك ادارة اميركية على استعداد لمسايرة بنيامين نتانياهو الى ابعد حدود حتى لو ذهب بعيدا في عمليات الاستيطان في الاراضي الفسطينية المحتلة!

الاكيد ان الموقف السوري من الدولة الفلسطينية لا يقدم ولا يؤخر بمقدار ما انه يعكس عجزا عن التصرف كدولة طبيعية تعرف حجمها الحقيقي بدل الكلام عن دور اقليمي اقرب الى الوهم من اي شيء آخر. انه على الاصح الرهان على اوراق غير موجودة من بينها القدرة على عرقلة اي تسوية في المنطقة في غياب السعي الجدي الى لعب دور ايجابي على كل صعيد، بما في ذلك داخل سوريا نفسها. كان هناك الى ما قبل فترة قصيرة استخدام سوري لحركة "حماس"، التي هي جزء من الاخوان المسلمين، من اجل العرقلة. تبين فجأة ان لدى "حماس" اجندة خاصة بها وانها تنتمي الى مدرسة الاخوان المسلمين التي لا تؤمن سوى باستخدام الآخرين لتحقيق اغراضها السياسية. هل الموقف السوري الاخير ردّ على "حماس" وجزء من تصفية الحسابات معها؟

ايا تكن الاسباب التي جعلت دمشق تسير مع الشرعية الفلسطينية، فانّ القدرة لا تعود الى كون النظام السوري، او سوريا نفسها في الظروف التي تعيشها منذ مجيء البعث الى السلطة في العام 1963 قوة اقليمية. ان هذه القدرة السورية على العرقلة تستند الى ان اسرائيل لا تريد تسوية مع الفلسطينيين، اللّهم الاّ اذا ارتضى هؤلاء الرضوخ لشروطها التي تعني اوّل ما تعني التخلي عن القدس الشرقية وعن جزء من الضفة الغربية.

لماذا انتظر النظام السوري الى العام 2011 كي يعلن انه يقف مع دولة فلسطينية في حدود 1967؟ هل كان قبل ذلك يرفض عمليا اي تسوية كان يمكن ان تؤدي الى قيام دولة فلسطينية "قابلة للحياة" استنادا الى مبادرة السلام العربية؟ هل كان يريد تحرير فلسطين من البحر الى النهر او من النهر الى البحر لا فارق وهناك من منعه من ذلك؟

في كل الاحوال، ان الموضوع يتجاوز الاعتراف السوري بدولة فلسطينية يعتبر قيامها في يوم من الايام انجازا ضخما في حدّ ذاته، خصوصا اذا اخذنا في الاعتبار موازين القوى في المنطقة. الموضوع يتعلق بما اذا كان النظام السوري سيتوقف عن ممارسة عملية الهروب الى امام وهي عملية ارتدّت عليه في آخر المطاف. المهمّ ان يكون الاعتراف بالدولة الفلسطينية في حدود 1967 خطوة اولى على طريق اتباع سياسة واقعية تقوم على الاهتمام بالشعب السوري والسعي الى معالجة مشاكل سوريا اوّلا واخيرا. انها مشاكل في غاية التعقيد تبدأ باقامة دولة القانون وبحرية المواطن وكرامته وتنتهي بالمياه والكهرباء والبرامج التعليمية مرورا بالنمو السكاني المتوحش والبناء العشوائي والتطرف الديني والتطرف وهجمة الريف على المدينة.

يفترض في النظام السوري في ضوء الثورة الحقيقية التي يشهدها البلد منذ ما يزيد على اربعة اشهر الاقتناع بان ما هو في حاجة الى تغيير يتجاوز الموقف من الشعب الفلسطيني وقضيته. التغيير لا يمكن ان يقتصر على التعاطي بطريقة مختلفة مع القضية الفلسطينية بعدما تبين ان لا فائدة من ايواء منظمات منشقة لمجرد انها ادوات تستخدم لاضعاف السلطة الوطنية او لخلق المشاكل في لبنان واثبات انه لا يسيطر على اراضيه، فضلا عن ابتزاز اللبنانيين طبعا. التغيير الحقيقي هو ذلك الذي يكون تحت شعار التصالح مع الشعب السوري، اي تحت شعار سوريا اوّلا. لماذا الخوف من ذلك؟

كل ما عدا ذلك دوران على الذات وتاكيد لواقع يتمثل في ان النظام السوري عاجز عن القيام باصلاحات. انه وهم الدور الاقليمي المستند الى حلف غير مقدس بين عرب وغير عرب لا همّ لهم سوى الابقاء على حال اللاحرب واللاسلم الى ما لا نهاية تحت لافتات "المقاومة" و"الممانعة" و"الصمود" و"التصدي" و"وافشال المشروع الاميركي" كما لو ان الادارة في واشنطن تدرك ما الذي يدور في الشرق الاوسط، هي التي فوجئت بالشعوب العربية تطالب بالكرامة.

الواقع ان كل الهدف من هذه اللافتات المتاجرة بما تقع اليد عليه. هل الاعتراف بالدولة الفلسطينية في حدود 1967 بمثابة توقف عن المتاجرة بالشعب الفلسطيني وقضيته... ام ان كل ما في الامر ان المطلوب التراجع قليلا فلسطينيا لمتابعة عمليةالانقضاض على لبنان عن طريق الادوات الايرانية وادوات الادوات التي استخدمت في الانقلاب على اتفاق الدوحة اخيرا؟ للمرة الالف، هل الانتصار على لبنان بديل من الانتصار على اسرائيل؟

=============

سورية ورهانات المرحلة

د. لطفي السنوسي

القدس العربي

27-7-2011

لفتت انتباهي مقولة ردّدها مبارك وولي عهده جمال قبل سقوط نظامه وهي 'مصر ليست كتونس'، و بالرغم من عدم صدق حدسه الا أن ما شهدته المنطقة من انتفاضات استُلهمت من الثورة التونسية في كل من ليبيا والبحرين واليمن وسورية يجعلنا ننظر الى هذه المسألة بأكثر واقعية بعيدا عن السيناريوهات العنترية التي تشبه الدراما السورية، فالمتتبع لطبيعة الأنظمة القائمة يدرك أن لكل منها بيئتها الخاصة محليا وإقليميا، واذا كان هذا منطلقا لتقييم ما يجري في سورية بالتحديد فلن يكون بالتأكيد صك غفران للنظام السوري الذي لم يتوان في استخدام الدبابات والذخيرة الحية في سحل شعبه.

لا شك بأن طبيعة النظام السوري البعثي الذي حكم سورية منذ سنة 1963 بعقيدة العنف الثوري، جعله يتفرد بالحكم ملغيا بذلك كل مقومات الحياة السياسية، فاعتمد الاقصاء المدني بل واستعمل كل الاساليب لتصفية خصومه من الاسلاميين والناصريين بل حتى من البعثيين أنفسهم، فكانت ممارساته أقرب الى محتل منه الى حاكم، وهذا ما يفسّر السّرعة المذهلة في استخدام القوة ضد المتظاهرين خلال انتفاضتهم باستعمال الدبابات والحوامات والمدرعات وكانه يواجه جيشا جرارا، فقتل واعتقل وهجّر وشرّد الآلاف من أبناء شعبه ممارسا بذلك سياسة العقاب الجماعي الذي استعمله الكيان الصهيوني إبان ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين على شعب فلسطين الأعزل.

ولعل اهم ما صنعته ثورة الأحرار في سورية هو انها كسرت جدار الخوف وزادت يقين كل الأحرار بأن لا ملجأ من الثورة الا الى الثورة، فسقطت كل آليات التنكيل والتسلط والإذلال بأيدي من واجهوا الرصاص بالدم، وأمام الصمت الخارجي يبقى السؤال الملح: هل ستتواصل ثورة الشعب السلمية على نفس الوتيرة، خاصة وأن فرضية التدخّل الخارجي كما في ليبيا تبدو غير مطروحة، بعدما عجز مجلس الامن عن اصدار قرار يدين هذه المجازر بسبب وقوف موسكو والصين امام اي إجراء محتمل ضد هذا النظام، ونحن نفهم جيدا الأسباب التي لم تعد خافية على أحد، فما شهدناه من تباعد في المواقف من الثورة الليبية يجعلنا ندرك أن لا قيمة لأي قيمة انسانية أمام المصالح الاستراتيجية والقومية،وهنااكتفت جامعة الدول العربية بإبداء النصيحة،حتى العقوبات المسلطة على مسؤولين سوريين ستكون في صالح النظام لا ضده.

إن ما يمكن استخلاصه هو أن الثورات العربية قد كشفت عورات وسوءات كل من لبس ثوب النزاهة والغيرة على الأرض والدين، وجعلتهم يقفون أمام من تبعهم موقف الخزي والعار، ولعل الواقفين وراء النظام السوري بل والداعمين له هم من جعلوه لا يتوانى في التنكيل بمن أراد أن يوهمنا بأنهم متآمرون على أمن سورية واستقرارها، لكن إرادة الشعوب في التحرر والانعتاق أبدا لن تقهر خصوصا بعد سقوط نظام بن علي ومبارك، إن إدراكنا لطبيعة النظام السوري يجعلنا نجزم بأن تزحزحه من العرش لن يكون بالأمر الهين، فهذا النظام تعود على الهروب من أزماته الداخلية من خلال فتح جبهة خارجية من شأنها أن تدير رؤوس الرأي العام عليها، فللنظام السوري في اعتقادي خياران، الأول يتعلق بالجولان هذه الورقة التي لعب عليها طويلا ولم يتجرأ طيلة هذه السنوات على إطلاق رصاصة واحدة من أجل سيادة بلاده، فربما حان الوقت ليتحرك في هذا الاتجاه ليطالب اليوم برسم الحدود مع ما يسمى 'بدولة إسرائيل'، أما الخيار الثاني فهو محاولة اقحام حركات المقاومة المدعومة من النظام السوري في هذا الصراع من خلا ل فتح جبهة مع اسرائيل بأية ذريعة، وهذا يدخل في نطاق تصفية حسابات قديمة لهذه الحركات مع اسرائيل، وهنا طبعا لست أتّهم حركات المقاومة بالتواطؤ وإنما توحد المصالح بين الطرفين، كل منهما يراها من أولويات المرحلة.

بالتأكيد أن الحديث عن قضية الجولان اليوم تعتبر ورقة ضاغطة على البيت الأبيض حتى لا يمضي في طريق تسليط عقوبات على النظام ورموزه، ولعل الاشتباكات التي شهدناها على الحدود تعتبر رسالة واضحة من النظام السوري لإسرائيل في هذا الاتجاه، وهنا يربح النظام السوري استبعاد الحل العسكري تجاهه، وهذا يعتبر ربحا للوقت في اتجاه قمع المنتفضين وترويعهم، فالسيناريو الليبي جعل النظام السوري يزداد قوة، فبالمقارنة نجد أن آلاف الليبيين سقطوا وهجّروا ودمرت بيوتهم وانتهكت أعراضهم، ثم نسمع اليوم فرنسا وأمريكا تتحدثان عن ضرورة التفكير في حلّ سياسي بين طرفي النزاع في ليبيا. أما الحديث عن حركات المقاومة في فلسطين ولبنان فالأمر يجب أن ينظر إليه بطريقة مختلفة، فهذه الحركات لا تتعامل مع ما يحدث في سورية من موقعها كدولة، وانما ككيان غير معترف به دوليا ولا بد لهم من المحافظة على أهم مقومات البقاء لديهم وهي الحياد في القضايا التي لا تمسها بطريقة مباشرة، وهذا لا يدينها في رأيي حيث أن هذه الحركات تعول دائما على شرعية قضاياها لا على التحالفات المشروطة، وأي تحرك أو موقف تتبناه هذه الحركات يعتبر دفاعا عن وجودها لا على النظام السوري الذي لن يتردد لحظة واحدة في التحالف مع الشيطان من أجل بقائه في الحكم حتى ولو كان ذلك على حساب حلفائه.

ان الخطر المحدق بسورية اليوم هو السير في طريق التناحر الطائفي والذي سيكون غطاء لممارسات هذا النظام الذي سيحاول تغذيتها بكل الأشكال وهذا ما سيمضي بسورية في اتجاهين محتملين، الأوّل هو دخول سورية في حرب أهلية والتي ستفتح الباب على مصرعيه أمام عدة قوى في الداخل والخارج من أجل تحقيق أهداف مرتبطة في الغالب بأجندات خارجية، وهذا ما يفسر وقوف حزب الله موقفا مختلفا عن مواقفه من الثورات السابقة، فما نعرفه على هذا الحزب منذ تحرير جنوب لبنان سنة 2000 مرورا بحرب تموز/يوليو عام 2006 وحرب غزة عام 2008 وبداية 2009وكيفية تعامله مع الازمات الداخلية يجعلنا ربما نثق في موقفه الذي يراه يخدم المنطقة ككل في هذه المرحلة من حيث رسم خارطة الأولويات، فموقف حزب الله وحماس يمكن أن يُفسر على أنه استراتيجي بالأساس لا مبدأي، بمعنى أنه يندرج تحت مبدأ الخوف من انفجار المنطقة ككل مما سيرجح كفة اسرائيل وحلفائها على حساب حركات الممانعة.

اما الاتجاه الثاني فيتعلق بتركيبة الجيش السوري الطائفية ، والذي من المحتمل أن يستغل انهيار الأوضاع الأمنية وانسداد الافق السياسي من أجل قلب نظام الحكم، وهذا طبعا لا يعتبر الحل الأمثل، لأن الشعب السوري لا يمكنه ان يعيش من جديد في ظل نظام يولد من رحم من سبقه بعدما رأى النموذج التونسي والمصري وهذا ما سيجعل البلاد تدخل من جديد في صراعات طائفية قد تمضي بالبلاد الى طريق غير مضمون العواقب، وأعتقد أن الوضع سيكون أتعس بكثير مما آلت إليه العراق وليبيا.

من هنا تأتي الحاجة الملحة لتدخل القوى الثورية التي ناضلت طيلة عقود في الداخل والخارج من معارضة وقطاعات رأي عام من أجل الخروج بسورية مما يحاك لها من مؤامرة قد تجرها إلى التمزق والتشرذم، فما نعرفه عن المعارضة السورية من تنوع على مستوى تركيبتها واختلاف مذاهبها وطوائفها وقومياتها ومشاربها الأيديولوجية يجعلنا ندرك أن مسؤوليتها تجاه سورية هي تاريخية بأتم معنى الكلمة، حيث أن المهمة الموكولة لها تتمثل في التخلص من كل ثوابتهاالايديولوجية والفكرية من أجل تحقيق الوفاق في اتجاه الوصول بسورية إلى مستوى الدولة المدنية الديمقراطية، فالأكيد اليوم هو أن النظام قد اقتنع بأن لا سلطة لحزب البعث على الدولة كما في الماضي وهذا يعني بطريقة أو بأخرى أن نظام الأسد قد فقد شرعيته، فالمهمة الاكثر تعقيدا هو الوصول الى تكوين قيادة تمثل الشعب وقتيا و تتمتع بغطاء إقليمي ودولي،بحيث يمكن لها أن تشكل بديلا للنظام القائم في هذه المرحلة الانتقالية والتي سنشهد فيها ازدواجية الدولة كما هو الشأن في ليبيا، فلا تختصر المهمة اذا على بناء مستقبل سورية ما بعد حكم البعث بل يجب أن يكون موضوع كيفية الاطاحة بنظام الأسد بأقل التكاليف من أولويات قوى المعارضة وهو ما لم يطرح بصفة جدية في المبادرات الأخيرة.

=============

هل ستُهزَم نظرية المؤامرة في معركة الثورات العربية

فراس قصاص

القدس العربي

27-7-2011

لا تزال نظرية المؤامرة بوصفها أداة في التحليل والمقاربة، معتمدة وشغالة وإن بدرجات مختلفة ومتفاوتة في معظم المجتمعات البشرية، فهي حاضرة لدى بعض تلك المجتمعات، بصفتها عصبا رئيسيا في عمليات التعاطي والتفكير والتحليل، وبدرجة أقل رئيسية وفاعلية في بعضها الآخر. الثابت أنها لم تفقد إغراءها بالرغم من تهافتها وضعف منطقها الداخلي وهشاشة الموضوعية المتحصلة من استخدامها. فما هي نظرية المؤامرة؟ وما هي المحددات التي تجعلها منتشرة في مجتمعات بعينها بنسبة تفوق سواها؟ وهل ستنهزم نظرية المؤامرة في الواقع العربي بعد الثورات العربية التي يشهدها عالمنا العربي؟، تلك هي الأسئلة التي تود هذه المقالة الإجابة عليها باختصار.

يمكن ضبط مفهوم نظرية المؤامرة وفقا لكونها القراءة التي تؤكد على وجود افتراق كبير يصل حد التناقض، بين ما ترصده الحواس وتلامسه من حدث ما يقدم نفسه لها من خلال حدوثه، وبين حقيقة الحدث وصورته الواقعية، هي قراءة تكرس الانفصال التام بين الشكل الذي يقدم فيه الحدث نفسه، وبين مضمون الحدث وجوهره، وتفترض التضاد بين بنية الحدث وبيئته، مقدماته وأسبابه، وبين تقديمه لنفسه وحدوثه وفقا لشاكلة معينة.

نظرية المؤامرة هي منهجية تحليلية دائما ما تفسر العالم انطلاقا من وجود مؤامرة لا تشير الحيثيات ووسائل التحقق التجريبية إلى وجودها، ضعف نظرية المؤامرة وختلها في الوصول إلى الواقع تحليلا وتفسيرا والاقتراب منه ما أمكن، لا يشكل نفيا لفكرة المؤامرة ووجودها، هي موجودة بالفعل، لكن ليس دائما أو غالبا، و يجب لإثبات وجودها الالتزام بأدوات تحليلية علمية رصينة واتباع طرق وأدوات استدلالية ومنطقية تؤكدها نوافذ الوعي، الحواس ولا تنفيها. مولدات عديدة تدفع نحو اللجوء إلى نظرية المؤامرة في مقاربة الواقع وأحداثه وتحليلها، منها الانطلاق الرغائبي في عملية التحليل، أي إخضاع قراءة الواقع للرغبة في الوصول إلى نتيجة معينة، تعكس إيمانا أو حاجة أو وسيلة للدفاع عن الذات المحللة والقارئة، ومنها الكسل المعرفي والاستسهال، فالواقع صعب ومعقد ولا يقدم نفسه بسهولة، وعملية التحليل ذاتها، تتطلب إلماما وصبرا وإعمال للعقل وتملكا لأدوات تحليلية وقدرة على التجرد من الموقع والمصالح ما أمكن. يرتفع منسوب شعبية نظرية المؤامرة، استخداما وقبولا، بحسب المنهجية النافذة في الوعي المعرفي لمجتمع ما، فالمجتمعات التي انتصرت فيها المنهجية العقلانية الحديثة أسلوبا للعلاقة مع الواقع والعالم قراءة وتفاعلا، المجتمعات التي تتقدم فيها العلوم التجريبية وتأخذ بأسباب العلم في حياتها الخاصة والعامة، والمجتمعات التي تنعم بالديمقراطية وتثق بقدرتها على تحديد مستقبلها وتوجيهه على النحو الذي تريد، تتضاءل فيها كثيرا نسبة القائلين والعاملين وفقا لنظرية المؤامرة، لكنها لا تختفي تماما، ولا يمكن لها أن تختفي في أي مجتمع، فالوهم والرغبة والضعف والكسل المعرفي، وهي عوامل تدفع إلى الأخذ بتلك النظرية، سمات أنتروبولوجية موجودة حيث يوجد الإنسان ويعيش. أما المجتمعات التي لا تزال بعيدة عن قراءة عالمها بالاستناد إلى مقولات العلم وحقائقه، والتي تعيش استلابا ذو هيئة سياسية أو اقتصادية فهي مجتمعات أغلبيتها أقرب في قبولها، للتحليل وفقا لنظرية المؤامرة وتبعا لنتائج تطبيقها.

نظرية المؤامرة وعلى الرغم من تعرضها لتداول الألسن والأقلام نقدا في مرات كثيرة، إلا أنها لا تزال وحتى وقت قريب، محافظة على أساسيتها وتلقائية استحضارها في معظم قراءات الإنسان العربي أثناء مواجهته أي حدث أو تطور أو وضع أو معطى، النجاح الذي كانت تلقاه هذه النظرية في العالم العربي، ظل من اكبر النجاحات التي حققتها في أي مكان من العالم، لاعتبارات وأسباب كثيرة، منها ما هو ذاتي ومتعلق بالذات المعرفية العربية التي بقيت دون أفق النهضة والتحديث، ومنها ما هو موضوعي، وينشد إلى الواقع العملي واليومي الذي يعيشه الإنسان العربي، سماته السياسية والاجتماعية، واقع الاستبداد والتعمية والإفقار والتضليل السياسي والأيديولوجي والإعلامي الذي يرهقه ويقمعه ويستهلك ملكاته وطاقته.

فهل تنجح الثورات العربية السلمية الأخيرة بعد صناعتها الذاتية لواقعها وإبداعها الخلاق لأدواتها، وتحديها في انتاجها لمستقبلها وحياتها لمصالح قوى اقليمية ودولية نافذة ونجاحها في ذلك، هل ستنجح في التأسيس لمنطق جديد آخر في المنطقة العربية والشارع العربي، يضعف إلى حد بعيد من رواج منطق المؤامرة بوصفها نظرية للتفسير وأرضية للتفاعل مع الذات والعالم؟ سؤال ليس صعبا الجواب عليه بنعم، ففي منطق الثورات العربية الداخلي ثقة طاغية بالذات ودينامية كفيلة بتحقيق ما كان في الأمس القريب معجزات حقيقية، ذلك المنطق يتناقض مع المنطق العاجز الذي تبتني عليه نظرية المؤامرة في أي مجتمع وتشتغل، فالمنطقة العربية التي تعيش مخاضها التاريخي هذه الأيام ستكون منطقة واثقة بنفسها ومشاركة في صناعة الحضارة الإنسانية في المستقبل. وهذا ما ينتظره العربي ويتطلع إليه بكل تأكيد.

=============

الاسلاميون في انظمة ما بعد الثورة

د. سعيد الشهابي

2011-07-26

القدس العربي

 يمكن القول ان من بين اسباب الاصرار الغربي، خصوصا الامريكي، على تأجيل حسم الثورات العربية الموقف ازاء موقع الاسلاميين في الانظمة الجديدة التي يتوقع قيامها على انقاض الانظمة القديمة. وبرغم ما يبدو من استعداد غربي للاعتراف بالحركات الاسلامية التي طالما بقيت خارج النظام السياسي الذي حكم العالم اكثر من نصف قرن، فالواضح ان هناك تأجيلا لحسم الموقف لاسباب عديدة. اولها عدم ثقة الغرب باطروحات الاسلاميين حتى بعد ان أبدى الكثيرون منهم 'اعتدالا' في المواقف والسياسات والرؤى وبرامج الحكم. والواضح ايضا انها ازمة مشتركة بين الطرفين. فالولايات المتحدة الامريكية مترددة في التعامل مع الاتجاهات الاسلامية خصوصا التي تعتبرها 'اصولية'.

وفي الاسابيع الاخيرة ابدت واشنطن شيئا من 'المرونة' وقالت انها مستعدة للتحاور مع 'الحركات الاسلامية التي لا تمارس العنف' في اشارة واضحة لحركة الاخوان المسلمين في مصر، كبرى الحركات واكثرها غموضا في نظر الغرب. ومن جانب آخر ما يزال الاسلاميون، في غالبيتهم، مترددين في التحاور مع الولايات المتحدة لاسباب عديدة منها ان واشنطن هي التي قطعت العلاقات معهم، وانها دعمت، وما تزال، انظمة الاستبداد العربية، وانها من جهة ثالثة تدعم الكيان الاسرائيلي بدون حدود، ورابعا انها تعتقد ان مشروعها الاسلامي سوف يتعرض للخطر كثيرا اذا انفتحت على 'الشيطان الاكبر' الواقع تحت التأثير الصهيوني. أيا كان الامر فقد فاجأ 'ربيع الثورات' الطرفين وفرض على كل منهما اتخاذ القرار الصعب بالتواصل او القطيعة مع الطرف الآخر. ومع استمرار هذه الثورات، وبروز مشاكل كبيرة لدى الجانب الامريكي، سياسية وعسكرية واقتصادية، ما يزال التواصل مؤجلا في الوقت الحاضر. مع ذلك هناك ضغوط تفرضها تطورات الساحة الثورية على الطرفين. كما ان هناك اضطرابا غير قليل في الصف الاسلامي نظرا لتلكؤ الثورات في ادائها ونجاح قوى 'الثورة المضادة' في تحويل بعضها الى حروب اهلية او طائفية. ولم يعد خافيا على الاسلاميين غياب الحماس الامريكي لحسم الموقف في اليمن او ليبيا او البحرين او سورية لاسباب متعتددة من اهمها ضعف الموقف الامريكي الداخلي وعدم رغبة ادارة الرئيس الامريكي في ما يعتبره 'مغامرات' غير مضمونة النتائج. ويراهن الجانب الامريكي على عامل الوقت الذي قد يؤدي الى حالة من اليأس والتعب تخفف من الحماس الشعبي للثورة الشاملة والتغيير الجوهري.

كانت مفاجأة كبرى عندما اعلنت واشنطن انها فتحت حوارا مع الاخوان المسلمين في مصر. ولكن مصادر الاخوان تؤكد عدم وجود حوار بالنمط الذي ينطوي عليه الاعلان الامريكي ويقولون انه ربما جرت بعض اللقاءات بين 'السياسيين' من الاخوان، اي اعضاء مجلس الشعب المصري المنحل، ولكن ليس مع الجماعة. وعلى افتراض ان ذلك النفي الاخواني صحيح، فان الولايات المتحدة تجد نفسها امام واقع جديد، خصوصا مع استمرار روح الثورة في نفوس المصريين واصرارهم على القطيعة الكاملة مع العهد السابق. الامر الذي يقلق واشنطن قدرة الثورة المصرية على تجديد نفسها بتنظيم الاحتجاجات العملاقة وتحدي المجلس العسكري الذي يتهم بعض عناصره بعلاقات ودية مع قوى الثورة المضادة التي تتزعمها السعودية. وفي الوقت نفسه تجد ادارة اوباما نفسها في مواجهة عاجلة ام آجلة مع استحقاقات ثورة 25 يناير، وان عليها حسم الموقف سريعا قبل حلول موعد الانتخابات المزمعة في اكتوبر. مشكلتها انها واقعة تحت ضغطين: الرغبة في تحاشي المواجهة مع الثورة وشبابها بعدم التدخل المباشر لتأجيل التحول الى الحكم المدني وانهاء مهمات المجلس العسكري. ومن جهة ثانية، استمرار الضغط السعودي للوقف بحزم امام قيام نظام ديمقراطي حقيقي وفق ما يريده شباب الثورة. وفي غياب حسم الموقف، يبدو الموقف الامريكي متأرجحا وهشا، يتسم بالقلق وغياب المبادرة، فيما تتجه السعودية نحو سياسات على غرار ما قامت به في العراق، عندما شجعت اعمال العنف واثارت التوتر المذهبي، على امل اضعاف وهج التغيير، واحتواء النزعات نحو الممارسة الديمقراطية التي لا يمكن حصر آثارها ضمن اطر جغرافية محدودة. الاخوان المسلمون من جانبهم، يجدون انفسهم بين ضغوط ايضا. فهم من جهة مطالبون بموقف قيادي مسؤول يمنع انزلاق الامور نحو التوتر او العنف من خلال التناغم مع شباب الثورة، وفي الوقت نفسه يشعرون بضرورة الحفاظ على نقاء دعوتهم الدينية وشعاراتهم خصوصا 'الاسلام هو الحل' الذي هو في الوقت نفسه مصدر قلق لدى الغربيين. كما يواجهون ايضا تحديا آخر يتمثل بكيفية التعاطي مع احتمالات اكتساح الانتخابات النيابية وما لذلك من انعكاس على حالة التوازن القلق مع الاحزاب والتيارات الاخرى. وربما التحدي الاكبر يتمثل بمدى قدرتهم على تقديم نموذج حكم مدني حديث يحافظ على الاصالة مع تقديم انموذج فاعل لنمط الحكم الاسلامي الملتزم في لجج من المحيطات الايديولوجية الهائجة.

وثمة بعد آخر للصراع المحتدم بين القوى الغربية والاسلاميين، وهو أيديولوجيا نظام الحكم بعد الثورة. ولا يكفي هنا الحديث عن الاسلام كنظام سياسي بديل للانظمة العلمانية الحاكمة، بل من الضروري طرح بديل واضح من الافضل ان يكون قريبا من التجارب الاسلامية العديدة في العالم. وهنا يطرح النموذج التركي من قبل بعض الحركات الاسلامية كنموذج 'اسلامي' واقعي مقبول من قبل الغرب، فحركة النهضة التونسية لا تخفي اعجابها بذلك النموذج ورغبتها في الاحتذاء به.

وفي مقابلة مع صحيفة 'التايمز' اللندنية مؤخرا، سعى زعيمها الشيخ راشد الغنوشي لطمأنة الغربيين بالاشارة الى عزم حركته على اقامة نظام حكم مدني على غرار تجربة حزب العدالة والتنمية التركي. ونسبت الصحيفة اليه قوله ان الحركة مستعدة للمضي في ذلك المنحى بما في ذلك غض الطرف عن الانماط المعيشية الليبرالية التي لا تنسجم مع الاسلام. مع ذلك فهناك اتجاهات داخل الحركة تبحث عن نظام حكم اكثر نقاء وأقل نزوعا نحو الثقافة الليبرالية في الحكم والممارسة وأكثر مبدئية في السياسات الخارجية خصوصا في العلاقة مع 'اسرائيل'. وبرغم اكثر من ثلاثة عقود على التحريض ضد النظام الاسلامي في ايران، ما يزال هناك اعجاب بالنموذج الايراني في الحكم الديني، خصوصا في الجوانب التنموية والعلمية والتكنولوجية.

الاسلاميون اليوم ليسوا مطالبين بالاختيار بين نماذج الحكم ذات الطابع الديني، بل انهم مطالبون بتفعيل نظام حكم يناسب بلدانهم وظروفهم. مطلوب منهم الاحتفاظ بعدد من الثوابت والاجتهاد في تطبيقها وفقا لظروف بلدانهم. من هذه الثوابت تأكيد مفهوم الحرية كركن اساس من اركان الحكم، بدون فرض قيود الا الحفاظ على حقوق الآخرين واحترام الرأي الآخر، ومنها كذلك مفهوم الشراكة الشعبية في الحكم والادارة عبر انتخابات نزيهة لمجالس تشريعية وادارية ذات معنى. الثابت الثالث اعتماد الحوار لغة في التعامل بين جنس البشر، والابتعاد عن اساليب التنميط او الاحتقار او التنازل عن الحقوق والحريات.

الرابع ترويج قيم العدالة والمساواة المستوحاة من احكام الاسلام وتجارب الآخرين. وفي مجال اقامة نظام سياسي عصري في منطقة تعج بالتخلف والاستبداد، اصبح لزاما على رواد التيارات الاسلامية اعادة النظر في شعارات المرحلة والتأكيد على مبادىء الشراكة والتعددية والنأي عن التطرف او الجنوح نحو الاستبداد. الامر المؤكد ان الغاء التجربة الديمقراطية في الجزائر قبل قرابة العشرين عاما كان قرارا استراتيجيا غربيا لمنع انتشار الظاهرة الديمقراطية على نطاق واسع. وتم الترويج آنذاك لمقولة مختلقة مفادها ان الاسلاميين عندما يحكمون لا يلتزمون بالمبدأ الديمقراطي وان الانتخابات البرلمانية تحت حكمهم لا تجري الا مرة واحدة قبل ان يجهزوا على المبدأ الانتخابي. هذا التنميط طرح على نطاق واسع، ثم اعقبته موجة عنف غير مسبوقة في العالم العربي ادت الى مقتل ما يقرب من 200 الف انسان. مطلوب من الاسلاميين اعادة النظر في تجاربهم العديدة ليس بهدف التخلي عن تلك الثوابت خصوصا ما يتعلق بمشروعهم السياسي الديني، بل من اجل انجاح ذلك المشروع وبناء اسس اجتماعية وسياسية تحمله شاهقا، وتجذب الآخرين اليه. وبموازاة ذلك تعميق الايمان بالمشروع بدلا من المساومة عليه او التخلي عنه او تشويهه بربطه عضويا بالمشاريع الاخرى التي تسعى لفرض النفوذ على العالم وتعتبر نفسها المرجعية العليا للنظم السياسية وايديولوجية التطور وبناء الدولة الحديثة.

وثمة صراع تدور رحاه على ارض مصر، لكونها الاهم من بين دول العالم العربي، ولان تجربتها سوف تنعكس نجاحا او فشلا على الوضع العربي العام والحركة نحو الديمقراطية. انه صراع يهدف للتأثير على الحركات الكبرى ذات النفوذ الشعبي التي تملك نصيبا كبيرا من الفوز في الانتخابات البرلمانية المزمع عقدها في الخريف المقبل. فالولايات المتحدة والسعودية تسعيان من جهة لتأجيل الاستحقاق الديمقراطي والبرلماني، او السيطرة على نتائجه. وتسعى تركيا لترويج نمطها الديمقراطي الذي اوصل طرفا اسلاميا الى السلطة، واصبح لها سمعة ايجابية في الاوساط العربية خصوصا بعد العدوان الاسرائيلي على غزة. وليس سرا القول بان ايران هي الاخرى تسعى للتأثير على ما يجري في مصر عن طريق التيارات الاسلامية. وتبقى جماعة الاخوان المسلمين الاكثر جذبا لاهتمام هذه القوى.

فبرغم العداء التاريخي من قبل الولايات المتحدة والسعودية للجماعة، فانهما يبذلان جهودا كبيرة لمد خيوط التواصل مع الجماعة بهدف 'ترويضها' او 'عقلنتها' او 'ابعادها عن خط التطرف'. وتدرك الجماعة هذه الاهمية المتصاعدة، ولكنها تدرك ايضا مدى الخطر الذي يتربص بمستقبل الثورة بسبب التدخلات الاجنبية خصوصا الامريكية والسعودية، والسعي المتواصل لمحاصرة مشروعها الاسلامي. فبرغم طرحها 'مانفستو اصلاحيا' بعد اعلانها تشكيل حزب 'الحرية والعدالة' فما تزال حالة من الشك تهيمن على تصورات الآخرين تجاهها. كما ان هناك قلقا من حالة التنافس بين الاتجاهات الاسلامية خصوصا بعد اعلان الحركة السلفية تشكيل جناح سياسي لها باسم 'جمعية الدعوة السلفية'. وثمة خشية من ان تؤدي حالة الشد والجذب بين شباب الثورة والمجلس العسكري الى حالة استقطاب داخل قوى المعارضة، خصوصا فيما لو تناغمت القوى السياسية في خطابها مع سياسات الدول الاجنبية واستراتيجياتها. هاجس عدم الاستقرار اصبح يؤرق المعنيين بمصر بشكل خاص، نظرا لعدم وضوح مستقبل خيارها الديمقراطي وسط حالة الشد والجذب هذه.

وما يقال عن مصر يصدق الى حد كبير على البلدان الاخرى، مع اختلاف في تفصيلات الوضع وخطوط العمل السياسي في الاتجاهات الايديولوجية المتعددة. والسؤال هنا: ما هي آفاق وصول الاسلاميين الى الحكم في هذه البلدان خصوصا مع استمرار قوى الثورة المضادة على كافة الاصعدة لمنع ذلك؟ ما دور الاموال النفطية الهائلة التي خصصت لمواجهة هذا التغير الجوهري في السيطرة على توازن القوى في المنطقة؟ وما هي آليات قوى الثورة المضادة لمواجهة السيناريو المرعب من وجهة نظرها متمثلا بالاحتمالات المتصاعدة لوصول بعض الاسلاميين الى مواقع تشريعية وتنفيذية عليا في الدولة العربية الحديثة في مرحلة ما بعد الثورة؟ فاي تغيير جوهري في اليمن مثلا سوف ينعكس على الاوضاع في السعودية ودول الخليج الاخرى. كما ان اي تغيير في الاردن لن يكون معزولا عن اوضاع بلدان الشرق العربية.

هذا التداخل اصبح يضغط على صناع القرار ومسؤولي السياسات الغربية في المنطقة لصياغة سياسة جديدة للتعاطي مع الاوضاع المتجددة. الامر المهم هنا يتمثل بمدى استعداد الاسلاميين ليس للتعايش فحسب بل للمساومة احيانا مع قوى تتصدرها الولايات المتحدة الامريكية والسعودية، ومدى استعداد امريكا للاعتراف بواقع جديد يسمح للاسلاميين بالشراكة الحقيقية في السلطة وفق القواعد الديمقراطية.

الامر الواضح ان امريكا تتعامل مع هذا الواقع ليس كحتمية لازمة، بل من منظور الهيمنة على القرار، وما يستتبع ذلك من عقلية استكبارية مستعدة للتضحية بالبشر لخدمة مصالح الاستكبار. مع ذلك تدرك واشنطن ومعها القوى الاخرى في الثورة المضادة ان الوقت قد حان للتخلي عن تلك العقلية والتعامل بواقعية مع التطورات، والاستعداد للتعايش مع الاسلاميين كقوى حقيقية لا يمكن تجاهلها، خصوصا في زمن الثورة ضد الاستبداد السلطوي والهيمنة الامريكية والاحتلال الاسرائيلي.

=============

مانديلا وثوراتنا: الانتصار على الذات

الاربعاء, 27 يوليو 2011

إميل أمين *

الحياة

قبل أيام قلائل احتفل العالم بعيد ميلاد الزعيم الجنوب إفريقي نيلسون مانديلا الثالث والتسعين، وقد اعتبر الاحتفال يوماً عالمياً من المجتمع الدولي، تكريماً لمسيرة المناضل الكبير، وفرصة للترويج للديموقراطية السلمية.

هل يتوجب علينا والحالة هذه، في العالم العربي، ان نتوقف لحظات مع سيرة ومسيرة مانديلا، والتي هي بلا ادنى شك انتصار على الذات، وتيار مضاد لشهوة الانتقام، ودعوة للحقيقة والمصالحة.

يرى الناظر المحقق والمدقق في الخريطة العربية، لا سيما في المواقع والمواضع التي انفجر فيها ما اصطلح على تسميته بالربيع العربي، وإن لم يحسم بعد ما إذا كان ربيعاً ام خريفاً، ان شهوة الانتقام وروح الثأر تكاد تلامس عنان السماء، ما يجعل الأمر قريباً من الثورات الدموية لا البيضاء، وإن بدأت كل تلك الحركات «سلمية سلمية» كما انشد المتظاهرون.

«حينما خرجتُ من السجن كانت مهمتي تحرير الظالم والمظلوم، وقد يقول البعض انه قد تم انجاز ذلك، ولكنني اعلم ان هذا غير صحيح، فقد خطونا الخطوة الأولى فقط، على طريق أطول وأصعب. فأن تكون حراً لا يعني فقط ان تلقي بقيدك، لكن أيضاً ان تعيش بطريقة تحترم وتعلي من حياة الآخرين».

بهذه السطور التي تشع كلماتها نوراً كان الرمز الإفريقي الأشهر نيلسون مانديلا يكتب نهاية سيرته الذاتية، خالية من مرارات الماضي تجاه الرجل الأبيض أو نظام الحكم العنصري في جنوب إفريقيا.

أعظم ما في مسيرة مانديلا تواضعه وإنسانيته وصدقه. وهو إذا قال، كان لا بد من ان يصدقه الآخرون، لكنه أبداً ودوماً يتذكر «انه بشر».

يكتب مانديلا: «لقد سرت ذلك الطريق الطويل نحو الحرية وحاولت ألا أتعثر، لكنني اتخذت خطوات خاطئة على الطريق، وقد اكتشفت السر، وهو انه بعد ان يكمل الإنسان تسلق تل، يكتشف ان هناك تلالاً أخرى كثيرة عليه تسلقها. ويضيف: «لا استطيع التوقف سوى لحظة لأنه مع الحرية تأتي مسؤوليات، ولا استطيع الإطالة لأن مسيرتي لم تنته بعد»... مع الحرية تأتي المسؤوليات، لا الفوضى والهدم والتشارع والتنازع، دوغمائياً كان ام سياسياً، عرقياً ام ثقافياً.

ما المدهش والذي يخلب الألباب في تجربة الزعيم الإفريقي الكبير؟ الانتصار على الذات، لا سيما ان كل المقدمات التي عاشها، وسنوات السجن التي قضاها، كانت كفيلة بأن تجعله يباشر عمليات الانتقام المضادة. أليس الإنسان ذئباً لأخيه الإنسان، كما يرى الفيلسوف الانكليزي توماس هوبز، والآخرون هم الجحيم، على حد تعبير نظيره الفرنسي سارتر؟

يكتب مانديلا عن طفولته، مسقطاً الكلام على بني جلدته اجمعهم: «الطفل الإفريقي يولد في مستشفى للأفارقة فقط، ويحمل الى المنزل في حافلة للأفارقة، ويعيش في مناطق الأفارقة، ويلتحق بمدارس الأفارقة فقط، ويركب قطارات الأفارقة ويؤمر في أي وقت من الليل والنهار بأن يُبرز تصريحه، وإذا لم يفعل ألقي في السجن، وتحد حياته القوانين واللوائح والعنصرية التي تعوق نموه». كيف يتأتى لإنسان ما ان يتحلى بروح الصفح والمغفرة في هذه الأجواء؟ أليست هذه معجزة لا يراها الكثيرون من مؤرخي حياة الرجل؟

في صباح 11 شباط (فبراير) 1990 كان مانديلا البالغ من العمر وقتها اثنين وسبعين عاماً، يستعد لمغادرة السجن الذي بقي خلف جدرانه سبعة وعشرين عاماً، على ان أكثر ما يدهش المرء رغبته العارمة في وداع سجانيه وعناقهم: «كان رجال كهؤلاء قد دعموا إيماني بجوهر الإنسان، حتى بالنسبة الى هؤلاء الذين أبقوني خلف الجدران لسبعة وعشرين عاماً... كنت قد أخبرت السلطات أنني أود وداع الحراس والسجانين الذين رعوني وقد طلبت ان يتواجدوا هم وأسرهم عند البوابة لأتمكن من شكرهم بنفسي. هكذا كان السجين العجوز يترفع عن الانتقام ويفسح في المجال للصفح والعرفان لبداية جديدة.

منذ اللحظات الأولى التي أعلنت فيها نتيجة فوز مانديلا بمنصب الرئاسة في جنوب إفريقيا، رأى الرجل ان مهمته هي التوفيق وخلق الثقة. كان يعرف ان كثيراً من الأقليات وبخاصة البيض والملونين، كانوا يشعرون بقلق في شأن المستقبل وأراد ان يشعرهم بالأمان. ذكّر الناس مراراً بأن معركة التحرير ليست ضد مجموعة معينة أو لون معين لكنها ضد نظام طاغ.

وفي خطاب التنصيب كان يؤكد: «إننا نتعهد ان نحرر شعبنا من استعمار العبودية والفقر والحرمان والمعاناة العرقية، ومختلف أنواع التمييز... لن يحدث أبداً أبداً ان تتعرض تلك الأرض الجميلة لطغيان احد على الآخر... فلتسد الحرية... وليبارك الله إفريقيا...».

في عيد ميلاده الثالث والتسعين لا يزال مانديلا يؤمن بأنه «في وسعنا ان نغير العالم ونصنع منه مكاناً أفضل، وفي متناول كل واحد منا ان يحدث هذا التغيير». لكن يبقى شرط مانديلا الرئيس ماثلاً في الأذهان في كلمتين لا أكثر «الحقيقة والمصالحة». هل بلغت شهوة قلب مانديلا ثوار العالم العربي؟

=============

الموقف الغربي من ليبيا وسورية

الاربعاء, 27 يوليو 2011

رندة تقي الدين

الحياة

التفاهم الفرنسي - البريطاني الذي كان جلياً في محادثات وزيري خارجية البلدين الان جوبيه ووليام هيغ في لندن مساء الأول من أمس الاثنين حول ما يجري في ليبيا وسورية مهم جداً لأن التدخل المشترك للبلدين في ليبيا وعضويتهما في مجلس الامن ونفوذهما في القرار الاوروبي اساسي (مع علاقة خاصة لبريطانيا مع الادارة الاميركية) يعطي زخماً لدورهما وتفكيرهما على صعيد ما يجري في العالم العربي وخصوصا في ليبيا وسورية ومصر.

فلا شك انه بالنسبة الى البلدين وغيرهما من الدول الغربية ان الصورة اوضح بالنسبة الى تطورات الاوضاع في ليبيا مما هي بالنسبة الى سورية وفي مصر. فهناك استراتيجية صلبة في ما يخص ليبيا بأن الضغط العسكري سيستمر وان كان يأخذ وقتاً اطول من التوقعات. الا ان هناك معارضة قد تشكلت كبديل ولدى خروج القذافي من السلطة سيبدأ المسار السياسي للوضع الجديد لما بعد القذافي، الذي تقرره القوى المختلفة في هذا البلد. ففرنسا وبريطانيا الآن تبذلان كل الجهود للإفراج عن الاموال المجمدة في مصرف «سوسيتي جنرال» والمصارف البريطانية لدعم المجلس الانتقالي الليبي المعارض، وفي النهاية هناك قناعة مشتركة ان نظام القذافي الى زوال عاجلاً ام آجلاً ولو ان ذلك استغرق بعض الوقت والمزيد من التحدث مع القادة الافارقة اصدقاء بريطانيا وفرنسا.

أما بالنسبة الى سورية فالوضع مختلف كون الدولتين مقتنعتين ان النظام السوري فقد شرعيته بقمعه واستخدامه القوة والقتل ازاء شعب يتظاهر من أجل قيم أصبحت الديموقراطيات الاوروبية تدفع اليها وتطالب بها وان كان مع بعض التأخير. فهناك تساؤلات عديدة بالنسبة الى الوضع السوري التي حالت دون قول أي مسؤول غربي حتى اليوم للرئيس بشار الأسد ان عليه ان يغادر السلطة. فالمسؤولون في بريطانيا وفرنسا والادارة الاميركية يتساءلون عن البديل اذا سقط النظام السوري ومن هي المعارضة وما هي نوعية هذا البديل وكيف سينظم بنيته ليمثل بديلاً مقنعاً. وهناك ايضا اسف شديد لدى فرنسا وبريطانيا ازاء الموقف الروسي الرافض لأي قرار في مجلس الامن يدين ويعاقب القمع في سورية، لأن روسيا ترى ان الاسرة الدولية تجاوزت القرار الدولي في تدخلها في ليبيا وتتخوف ان تفعل الشيء نفسه في سورية. والموقف العربي المتمثل في الجامعة العربية غير فاعل وغير داعم لموقف دولي يعاقب النظام السوري او يقول بفقدان شرعيته، علماً ان النظام السوري فقد اصدقاءه مثل قطر والصديق الاقليمي الآخر تركيا. الا ان التخوف والقلق موجودان على صعيد الوضع في سورية لأنه ايضاً مرتبط ومؤثر في اوضاع لبنان والعرق والاردن واسرائيل وتركيا، اي الدول التي لها حدود معه. فلا شك ان هناك حيرة في تفكير الدول الغربية بالنسبة الى مستقبل سورية مما يجعلها تتحفظ عن القول مثلما فعلت في ليبيا ان على الرئيس الاسد ان يتنحى عن السلطة، ولو ان هناك قناعة سائدة انه لا يمكن لمثل هذا النظام السوري ان يستقر أو يدوم بمثل هذا النهج .

وفي ما يخص مصر، ان قراءة بريطانيا وفرنسا لتطورات الاوضاع في هذا البلد الكبير والمهم مقلقة وموضوع مناقشة وتفكير عميق نظراً لاهمية مصر وايضاً لعدم اليقين حول اتجاه التطورات بعد الترحيب بالثورة الديموقراطية فيها.

فالتفاهم والتقارب الفرنسي - البريطاني يعكسان التساؤلات المشروعة حول مستقبل الثورات العربية مع تأييد غير مشكوك فيه لدعم مسارها من أجل الحرية والمحاسبة والديموقراطية.

=============

قانون أحزاب جديد!

ميشيل كيلو

الشرق الاوسط

27-7-2011

من المفرح حقا أن يصدر قانون أحزاب جديد في سوريا. من المفرح كذلك أن يصدر القانون عن جهة رسمية لطالما قالت إن حزبها وأحزاب الجبهة الوطنية التقدمية المتحالفة معه يمثلان سائر أطياف وطبقات ومصالح وآيديولوجيات المجتمع السوري السياسية والثقافية، والاقتصادية والاجتماعية، القائمة والمحتملة القيام، اليوم وغدا وإلى أبد الآبدين. في المقابل، من المحزن أن يصدر القانون بالطريقة التي قدمه من خلالها الإعلام السوري، وهو رسمي بنسبة ألف في المائة، وتحدثت عن «رعاية تأسيس الأحزاب وتنظيم عملها». الجهة التي تعترف بأن حزبها وحلفاءه ارتكبوا أخطاء جسيمة جعلتهم بحاجة إلى إصلاح جذري، بعد أن اكتشفوا أنهم لا يمثلون المجتمع السوري ومصالحه وطبقاته وآيديولوجياته، ولهذا تقر لأول مرة منذ قرابة خمسين عاما بحق السوريين في تكوين أحزاب أخرى، تريد – صدقوا أو لا تصدقوا - «رعايتها وتنظيم عملها»، وهذا يعني في واقع سوريا وفي ضوء خبراته أنها تريد، بكل بساطة، أحزابا محدودة الحرية، ناقصة المسؤولية عن نفسها ومقيدة الصلاحيات والإرادة والاستقلالية، قرر مصدر القانون أنها تحتاج إلى رعاية وتنظيم من الجهة الرسمية، التي لم يعرف عنها حسن رعاية أحزاب الجبهة، حليفتها، التي أسلمت أمرها لها، وألزمت نفسها برسم سياساتها في ضوء مقررات حزب البعث القطرية وبرامجه، وبالامتناع عن «النضال» بين الطلبة وفي الجيش، فكانت النتيجة تفتيتها – بمعنى الكلمة الحرفي - وغيابها عن الشأن العام، حتى إن أحدا لا يتعب نفسه اليوم لمعرفة كم صار عددها، وإن عرف البعض أنها كانت خمسة عند تأسيس الجبهة، ثم انشقت جميعها، حتى إن الحزب الشيوعي - على سبيل المثال - المعروف بصرامة تنظيمه وخضوع أعضائه شبه الأعمى لقادته، صار أربعة أحزاب وبعض الكسور. أما رعاية البعث نفسه من قبل قياداته، فتستحق أن يفرد لها كتاب طويل جدا، يبين كيف تحول من حزب جماهيري حقا قبل استيلائه بانقلاب عسكري على السلطة، إلى واحدة من أدوات سلطة أمنية صرف، وكيف فقد استقلاليته عن أهل الحكم وما كان له من رصيد جدي لدى الشعب، وعزل عن الناس ومشكلاتهم، كما ظهر خلال أحداث الأشهر الأخيرة في كل مكان، علما بأنه انقلب منذ سنوات كثيرة إلى ما يكاد يكون تنظيما افتراضيا، بدلالة دراسة أجريت عام 2006 حول نسبة حضور اجتماعاته، بينت أن من يواظبون عليها لا يتعدون في دمشق العاصمة، مركز السلطة الحديدية، 6.4% من أعضائه. وللعلم، فإن النظم الشمولية جميعها تقتل أحزابها وتقوض آيديولوجيتها، مع أنها لا تتوقف عن التحدث باسمها ومنح شرعيتها منها، على الرغم من أنها تفرغها من معانيها بل وتقلبها إلى نقيضها.

أنتقل الآن إلى رعاية تأسيس وتنظيم الأحزاب الجديدة، فمن الذي سيرعاها؟ يقول القانون الجديد إنه وزارة الداخلية، التي سيرأس وزيرها لجنة اسمها «لجنة شؤون الأحزاب» تضمه إلى نائب رئيس محكمة النقض عضوا، وثلاث شخصيات عامة مستقلة يسميهم رئيس الجمهورية لمدة ثلاث سنوات. إن لجنة الإشراف هذه هي إذن هيئة رسمية بنسبة مائة في المائة، ستكون الأحزاب التي تسمح بتأسيسها تحت يدها، كما ستبين تفاصيل الشرح.

سيقدم طلب تأسيس الحزب إلى هذه اللجنة، موقعا من خمسين مؤسسا لا يجوز أن يكون أي منهم محكوما بجرم شائن (المادة 9). بما أن السياسة كانت دوما «جرما شائنا» في سوريا، وبما أن معظم المهتمين سياسيا محكومون بهذا الجرم الشائن، فإن من يريد تأسيس حزب سيبحث على الأرجح، حتى لا أقول بالتأكيد، عن مؤسسيه خارج عالم السياسة، وإلا رفضت اللجنة منحه الترخيص القانوني، وآخذا بالاعتبار نقطة مهمة هي ألا يقوم الحزب «على أساس ديني أو قبلي أو مناطقي أو فئوي أو مهني» (المادة 5)، ويكون ملزما بممارسة نشاطه... «بهدف المشاركة في السلطة وفقا لقانون الانتخابات العامة» (المادة 4). بينما يجب على طلب التأسيس أن يتضمن (المادة 10):

- عنوان المقر الرئيسي للحزب ومقاره الفرعية إن وجدت، على أن تكون جميعها داخل سوريا، وألا يكون أي منها ضمن أبنية إحدى الجهات العامة أو المؤسسات الخاصة أو الهيئات التعليمية أو الأماكن الدينية أو الجمعيات الخيرية (ليس هناك أي حزب يخالف هذا الشرط اليوم غير حزب البعث الحاكم، الذي يبدو بوضوح أن القانون لن يطبق عليه). سؤال: هل يعقل أن يستأجر حزب قيد التأسيس مقرا أو مقرات (أجرتها ملايين الليرات سنويا) قبل الترخيص له؟

- الأهداف والمبادئ التي يقوم عليها الحزب والبرامج والوسائل التي ينتهجها لتحقيق هذه الأهداف.

- كيفية تنظيم هيئات الحزب... مع تأمين كامل الممارسة الديمقراطية داخلها.

- النظام المالي للحزب وتحدد فيه مختلف موارده، وكذلك قواعد وإجراءات مسك قيود حساباته.

هذه الشروط، التي تكون في العادة متغيرة ومرنة في الأحزاب كما في حياتها السياسية المتبدلة، يجب أن تتحقق قبل تقديم الطلب، كأن يكون للحزب مقرات وموارد مختلفة يعرفها وهو يحدد الوسائل التي سينتهجها لتحقيق أهدافه. اللافت هنا هو طابع الشروط الفضفاضة، الذي يسمح بتدخل لجنة شؤون الأحزاب في شؤونها، لترويضها وإبقائها تحت العين واليد، وإلا ما معنى شرط تأمين «كامل» الممارسة الديمقراطية داخل هيئات الحزب، ومن الذي سيحدد كمالها من نقصانها غير «لجنة الإشراف». يبدو، أخيرا، أن «تأمين الممارسة» المطلوب سيكون قبل تأسيس الحزب، ما دام أحد شروط الترخيص له!

بعد تأمين هذه الشروط، على الحزب الالتزام بما يلي (المادة 5):

- تشكيل هيئاته واختيار قيادته ومباشرة نشاطه على أساس ديمقراطي (تحدده لجنة إشراف شكلتها سلطة لا تطيق منذ 50 عاما سماع كلمة ديمقراطية!).

- ألا تنطوي وسائل الحزب على إقامة أي تشكيلات عسكرية أو شبه عسكرية علنية أو سرية، أو استخدام العنف بأشكاله كافة أو التهديد به أو التحريض عليه. (لن يطبق هذا المطلب المحق جدا والمهم جدا على البعث، لذلك سيكون لدينا حزب مسلح من أخمص قدميه إلى قمة رأسه، يواجه أحزابا منزوعة الأنياب؟)

- ألا يكون الحزب فرعا أو تابعا لحزب أو تنظيم سياسي غير سوري (مرة أخرى الازدواجية: بعث قومي وغيره قُطري حكما).

ما صلاحيات اللجنة ورئيسها؟ إنها هي التي تعطي الترخيص، وتراقب الحسابات، وتتدخل في حياة الحزب الداخلية مراعاة ل«تأمين كامل الممارسة الديمقراطية في هيئاته»، وهي التي تشرف على موارده المالية، التي يجب أن يضعها تحت تصرفها في أي وقت، والتي من حقها الاعتراض على أي تغيير يطاول قيادته أو قوامه التنظيمي أو أنظمته الداخلية، ومراقبة مقراته ووثائقه ووسائل اتصالاته وتفتيشها أو مصادرتها بقرار قضائي، وهي التي تعتبر «أمواله في حكم الأموال العامة والقائمين على شؤونه في حكم الموظفين العامين» (المادة 24)، والتي لها حق حله بطلب معلل يقدم إلى القضاء، إن هو أخل (من وجهة نظرها طبعا) بأي شرط من شروط تأسيسه، وهي التي توقف نشاطه بصفة مستعجلة بطلب من المحكمة يوجه إلى رئيس اللجنة، والتي تفرض عليه عقوبات وغرامات مالية، بعد أن حددت هويته بطريقة تجعل من السهل اختراقه، إن حدث وتم الترخيص له أصلا.

تطرح نفسها هنا ملاحظات ثلاث لا ترد في القانون، أولاها: أن التداخل بين الأجهزة السورية، التي يخترقها الأمن جميعها بخبرته الواسعة في ضبط الحياة العامة خارج أي قانون، يمكن هذه الأجهزة من قراءة وتفسير وتطبيق نص القانون الجديد بالأسلوب الذي يروق لها، والذي سيؤدي، في حال عدم كبحه ووقفه، إلى تأسيس أحزاب ستغدو أدوات لها تشبه أحزاب الجبهة الوطنية التقدمية الحالية، التي ليست اليوم غير بؤر سلطوية تمد خيوطها الواهية إلى قطاعات معينة من المجتمع، لتضبطها قدر الإمكان وتعكس باقتدار ما يجري فيها مما قد يمس بالأمن. وثانيتها: أن تطبيق القانون على البعث يعني نهايته. وبما أن هذا يكاد يكون ضربا من المحال، فإن عدم تطبيقه عليه يعني إفراغ القانون من مضمونه، والحيلولة دون تأسيس أو نشوء أحزاب جديدة ومستقلة حقا في سورية. وثالثتها أنه سيسمح للبعث بامتلاك تنظيمات عسكرية وشبه عسكرية، وسيبقى حزبا قوميا، وستبقى وزارة الداخلية ولجنة الإشراف تابعة له، فيكون لدينا في الواقع نوعان من الأحزاب: حزب سلطة وأحزاب تحت رقابته وإشرافه، حزب أجهزة تسيطر على كل شيء باسم البعث، وأحزاب تابعة لها وظيفة قريبة جدا من أحزاب الجبهة الوطنية التقدمية الحالية، لكنهم يسمونها جديدة، مع أنها ستلعب أدوارا قديمة وعفا عليها الزمن!

============

مزمار الطائفية في سورية

الاربعاء, 27 يوليو 2011

عبدالرحمن الخطيب *

الحياة

بدأت بوادر الطائفية تلقي بثقلها على الثورة الشعبية السلمية في سورية. فالنظام لجأ إلى هذه اللعبة القذرة، لينجو بنفسه من الضغط الشعبي الداخلي، والضغط الغربي الخارجي، على حد سواء. إذ لجأ إلى تسليح الطائفة العلوية في كثير من المدن والقرى في محافظة اللاذقية، والقرى المحيطة بمدينة تلكخ، وفي بعض الأحياء التي تقطنها الغالبية منهم في العاصمة دمشق. وفي الأسبوع الماضي قتل (شبيحة) النظام ثلاثة من الطائفة العلوية في مدينة حمص، واتهموا الشباب السنة من أهل حمص، ليزيد إذكاء نار هذه الفتنة. وبالفعل انطلت الحيلة على بعض الشباب من الطائفة العلوية، فقرروا الأخذ بالثأر، فتجمع بضع عشرات منهم، ممن يتنسب إلى أجهزة الأمن المختلفة، وبدؤوا بإطلاق النار على حشد كانوا في جنازة أحد الشهداء، مما تسبب في مقتل نحو 50 شهيداً، وجرح المئات، بينهم نساء وأطفال. بل وذهب بعض الشباب من الطائفة العلوية إلى أبعد من هذا، إذ اختطف بعضهم العديد من الفتيات من طائفة السنّة. وهذا الأمر جعل أهل حمص ينتفضون عن بكرة أبيهم ذوداً عن عرضهم. وتفاقم الأمر وبدأ أهل الطائفة العلوية الذين يقطنون في أحياء يقطنها الغالبية من السنة في هجرها. وبدأت العنصرية الدينية والمذهبية تطفو على السطح.

وعلى رغم إنكار النظام أنه بريء من إشعال هذه الفتنة الطائفية، فالأمر لم يعد خافياً على المواطن السوري البسيط. فالنظام أضحى يطبق المثل القائل: «ضربني وبكى، وسبقني واشتكى». فهو ما فتئ يتهم المتظاهرين بأنهم طائفيون، أو ما أطلق عليهم «العرعوريين». على رغم نفي جميع أطياف المعارضة، ومعظم قادة المتظاهرين، أو ما سمي قادة التنسيقيات، لهذا الأمر.

بدأت معظم النقاشات الخافتة في أغلب المؤتمرات التي عقدتها المعارضة في الخارج والداخل، التي يملؤها الخوف منذ زمن بعيد وحتى الآن، تركز على الأزمة الطائفية في سورية، ومدى عمقها، وما تركته من احتقانات خطيرة داخل المجتمع، وحجم مساهمتها في شق صفوف ائتلاف شباب الثورة الشعبية. والكثير من المواطنين السوريين يدركون عمق هذه اللعبة القذرة التي يلعبها النظام، وانعكاساتها على الوحدة الوطنية للمجتمع، وضخامة هاجس الرعب الماثل للجميع، خوفا من وقوع كارثة عند التفكير في تغيير نظام الحكم.

الطائفة العلوية استوطنت سورية منذ مئات السنين، وهي تنتشر بشكل أساسي في الجبال الساحلية من البلاد، من عكار جنوباً، إلى طوروس شمالاً، ويتوزع بعضهم في ريف محافظات، مثل: حمص، وحماة، ودمشق، حيث تشكل هذه الطائفة نسبة 9 في المائة من عدد سكان سورية. إن سورية، منذ آلاف السنين، لم تعرف الطائفية إلا في العهود الأسدية، إذ اعتمد النظام، منذ عهد حافظ الأسد، على اللعب على الورقة الطائفية، لضمان بقاء سيطرتهم على الحكم. وخلق النظام الأسدي نوعاً من المحاصصة الطائفية والمناطقية، ووزعها بالطريقة التي تخدم نظامه. إذ ركز النظام على أبناء المنطقة التي ينتمي إليها بالدرجة الأولى (ريف جبلة)، وعلى أبناء العشيرة التي ينتمي إليها بالخصوص (عشيرة الكلبية – القراحلة)، وفرضهم قيادات عسكرية وأمنية في مفاصل أساسية. وسلمهم مفاتيح وحدات عديدة في الجيش، وأجهزة الأمن. ومن يراقب أسماء عناصر النظام الرئيسين في الجيش والأمن يجد أنهم، في غالبيتهم العظمى، ينتمون إلى أبناء المنطقة الممتدة بين نبع نهر السن ومفرق قرية القرداحة، ويمتد صعوداً حتى القرى التي تقع في قمة سلاسل جبال تلك المنطقة والتي لا يزيد عدد سكانها عن 300 ألف. وهي المنطقة التي ينتمي إليها أبناء عائلة الأسد، ومخلوف، وأصلان، ودوبا، والخولي، وحيدر، وجلول، وفياض، وخليل، ومعلا، وشاليش، وعباس...إلخ. بل إن معظم القيادات العليا في التشكيلات الميدانية، أي قادة الفرق، والألوية، والكتائب هم من الطائفة العلوية. كما يشكل صف الضباط والجنود المتطوعين العلويين 70 في المئة من تعداد المتطوعين في الجيش. كما أن رؤساء أفرع المخابرات والأمن وكبار الضباط، جلّهم من الطائفة العلوية. حتى إن الانتساب إلى الكلية الحربية، والكلية الجوية تقوم على أساس طائفي بحت.

إن المتابع لسيرة حافظ الأسد خلال مسيرته الطويلة وأساليبه الملتوية ودخوله في مؤامرات متواصلة، يكتشف أن همه الأساسي الذي كان يسعى إليه دائما، وبأي ثمن، هو بقاؤه في السلطة واستمرار صعوده وتحقيق طموحه الذي لا حدود له. لا يهمه في ذلك حزب البعث، ولا غيره من الطوائف غير السنية. ففي 23 شباط 1966 انقلب على زميله في حزب البعث سليم حاطوم من الطائفة الدرزية وقتله بدم بارد. وفي عام 1968 دبر اغتيال زميله عبد الكريم الجندي من الطائفة الإسماعيلية. حتى إن بعض الضباط والسياسيين المميزين من السنة الذين كانوا رفاق حافظ الأسد في حزب البعث، مثل: أمين الحافظ، وعبد الحليم خدام، ومصطفى طلاس، وحكمت الشهابي، قد تم التخلص منهم.

الطائفية السياسية للنظام السوري مكرسة من ساسة ليس لديهم التزام ديني أو مذهبي، بل هو موقف انتهازي للحصول على عصبية، كما يسميها ابن خلدون، أو شعبية، كما يطلق عليها في عصرنا هذا؛ ليكون هذا النظام الانتهازي قادراً على الوصول إلى السلطة، والتمسك فيها لسنوات طوال.

الانتماء إلى طائفة أو مذهب لا يجعل الإنسان المنتمي إلى تلك الطائفة طائفياً، كما لا يجعله طائفياً عمله لتحسين أوضاع طائفته، أو المنطقة التي يعيشون فيها، دون إضرار بحق الآخرين. ولكن الطائفي هو الذي يرفض الطوائف الأخرى، ويغمطها حقوقها، أو يكسب طائفته تلك الحقوق التي لغيرها، تعالياً عليها، أو تجاهلاً لها، وتعصبا ضدها.

شباب الثورة والمثقفين في سورية على دراية تامة بمخاطر المنزلق الطائفي، كما أن بعض المؤشرات تشير إلى محاولات للتنسيق السني العلوي في اللاذقية ضد العصابات الموالية للنظام، وانضمام بلدة «نُبُّل» الشيعية الإمامية إلى الحراك الثوري، ونزول الغالبية من الطائفة المسيحية، والأكراد، والدروز، والإسماعيلية بثقلهم وراء الثورة. وهذا ما سيضمن بقاء الثورة السورية، ثورة شعب بحق، ويجعل ترويضها أو حرفها عن مسارها أمرا عصيًّا.

------------------------

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها

 

 

أعلى الصفحةالسابق

 

الرئيسة

اطبع الصفحة

اتصل بنا

ابحث في الموقع

أضف موقعنا لمفضلتك

ـ

ـ

من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ