ـ

ـ

ـ

مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وقولوا للناس حسنا

اتصل بنا

اطبع الصفحة

أضف موقعنا لمفضلتك ابحث في الموقع الرئيسة المدير المسؤول : زهير سالم

السبت 09/07/2011


أرسل بريدك الإلكتروني ليصل إليك جديدنا

 

واحة اللقاء

 

التعريف

أرشيف الموقع حتى 31 - 05 - 2004

ابحث في الموقع

أرسل مشاركة

حماة: مجزرة ثانية أم نهوض عنقاء من الرماد؟

صبحي حديدي

القدس العربي

8-7-2011

أغلب الظنّ، اتكاء على ما يتوفّر اليوم من معطيات، أنّ النظام السوري حائر في أمر مدينة حماة، بعد سلسلة الوقائع الفارقة التي تركت آثارها العميقة، وحكمت سلوك الأهالي والسلطة، على حدّ سواء:

 في الثالث من شهر حزيران (يونيو) الماضي، سقط أكثر من 60 شهيداً، برصاص عناصر الأجهزة الأمنية، أو أفراد كتائب الحرس الجمهوري، أو قطعان الشبيحة'.

 وفي الأيام التالية كانت مواكب تشييع الشهداء تنقلب إلى تظاهرات عارمة، كما هي حال جميع المدن والبلدات والقرى السورية؛ لكنها في حماة ظلّت تكتسب بعدها الرمزي العميق، بالنظر إلى التاريخ الدامي الذي تحفظه المدينة لهذا النظام.

 ولعلّ هذا العامل الخاص هو الذي أجبر النظام على التراجع قليلاً، قبيل إعادة انتشار دبابات الحرس الجمهوري من داخل المدينة إلى تخومها، وسحب عناصر الأمن، فأخذت أعداد المتظاهرين تتضاعف كلّ يوم، وليس كلّ نهار جمعة فحسب، حتى أخذت ساحة العاصي تتحوّل تدريجياً إلى نظير لميدان التحرير القاهري.

 جمعة 'إرحل' الماضية سجّلت انعطافة كبرى، إذْ احتشدت أعداد تتراوح بين 250 إلى 300 ألف متظاهر، وثمة مَنْ ذهب بالرقم إلى 400 ألف؛ وتعالت في الساحة أهازيج وهتافات من طراز جديد، شجاع وغير مسبوق في جسارته، أو بالأحرى تجاسره على رموز النظام. لقد بدا وكأنّ حماة، شهيدة العام 1982، تنتفض على تلك الذكرى الدامية، وتنهض من رمادها، مثل عنقاء أبيّة، حيّة وحيوية.

 كانت الحال أشدّ مضاضة من أن يحتملها النظام طيلة شهر، ولاح أنها أعلى قدرة على نقل الفيروس إلى أرجاء الوطن السوري بأسره، ثمّ إلى العالم الخارجي أيضاً، فتوجّب أن يعود أهل السلطة القهقرى إلى حيث مبتدأهم في خيارات الحلّ الأمني. وهكذا أصدر بشار الأسد مرسوماً بإعفاء محافظ حماة، أحمد خالد عبد العزيز، واستبداله بضابط أمن ('قوي الشكيمة'، كما قيل!)؛ وعاد بعض عناصر الأمن و'الشبيحة'، فسقط 20 شهيداً؛ وتقدّمت الدبابات إلى تخوم المدينة (صحيفة ال'غارديان' البريطانية نقلت عن شاهد عيان أنه أحصى قرابة 90 دبابة تحكم الطوق على أطراف المدينة)؛ وقُطعت الكهرباء والمياه عن غالبية الأحياء.

ماذا سيفعل النظام، والحال هكذا؟ وإذا كانت نيّته ستقتصر على ترهيب المدينة عبر حصارها، بالدبابات والمدفعية وكتائب الحرس الجمهوري؛ ثمّ تنفيذ عمليات قنص وتصفيات جسدية واعتقالات، على أساس انتقائي؛ فما الذي يمكن أن تسفر عنه هذه الخيارات؟ وإذا انتقل القرار من الحصار إلى اقتحام المدينة، فهل ستنخرط كتائبه في حروب شوارع، من طرف واحد عملياً؟ وكيف يمكن لخطوة كهذه أن لا تكون مقامرة، خاسرة سلفاً، بالنظر إلى عواقبها المزدوجة: تصليب عزيمة الحمويين، وإطلاق طرائق مقاومة شعبية تعتمد أسلحة الحجارة والمتراس البسيط والعائق الترابي والإطارات المحروقة، فضلاً عن استنهاض تضامن السوريين مع المدينة وأهلها، من جهة أولى؛ والمجازفة بخسران المزيد من شرائح ما يُسمّى 'الأغلبية الصامتة'، واستثارة سخطها على النظام، والذهاب أبعد في إقلاق سكينة الجيش النظامي (الظاهرية فقط، والتي قد تتبدّى في انشقاقات جديدة أو علائم أوضح حول رفض زجّ الجيش في وجه الشعب)، من جهة ثانية؟

ذلك لأنّ منطق الأوضاع الراهنة، على صعيد المجتمع والنظام والمشهد الإقليمي، فضلاً عن التطورات الهائلة في تناقل الصورة والخبر، ودرجات عزلة النظام على صعيد دولي، بصرف النظر عن ضعف الضغوطات أو شدّتها، وما إذا كانت منافقة أم شبه صادقة... كلّ هذه العوامل تشير إلى صعوبة (وليس، البتة، استحالة) أن يعيد النظام تكرار مذبحة 1982. وهنا تصبح استعادة تفاصيل تلك المجزرة واجباً وطنياً وكفاحياً وأخلاقياً سورياً، بصفة عامة، ومن أجل ترسيم سمات ملموسة وعادلة لسيرورات العدل والمصالحة في سورية المستقبل. هي، كذلك، استعادة تردّ إلى الحمويين واحداً من حقوقهم الأكثر جوهرية، في تثبيت ذاكرة الضحية قبل انتظار صفحها أو ركونها إلى التصالح مع الماضي، وفي وردّ مظالم مدينة لا تلتفت إلى الوراء إلا لانها تشخص إلى الأمام.

ففي الثاني من شهر شباط (فبراير) 1982، قامت كتائب مختارة من 'سرايا الدفاع' التي كان يقودها رفعت الأسد، وكتائب مختارة من 'الوحدات الخاصة' تحت قيادة اللواء علي حيدر، بمحاصرة المدينة طيلة 27 يوماً، وقصفها بالمدفعية الثقيلة والدبابات والطائرات، قبل اجتياحها واستباحتها وإيقاع عدد من الضحايا يتراوح بين 30 إلى 40 ألفاً من مواطنيها المدنيين، وخلّفت قرابة 15 ألف مفقود لم يتمّ العثور عليهم حتى اليوم، وهجّرت نحو 100 ألف. وثمة، بالطبع، تباين في الأرقام طبقاً للمصدر، ولكنّ منظمات حقوق الإنسان الدولية لا تهبط عن 25 ألف ضحية ('العفو الدولية'، مثلاً).

ومجزرة حماة كانت، من حيث الشكل، بمثابة الخطّ الأخير الفاصل في المعركة بين النظام والفصائل الإسلامية المسلحة، ولهذا وافق حافظ الأسد على إعطاء ضبّاط 'سرايا الدفاع' و'الوحدات الخاصة' نوعاً من ال'كارت بلانش' المطلق. وكان هذا إذناً صريحاً بأن تُستخدم كلّ الأسلحة، وكلّ طرائق القمع والردع والعقاب، حتى إذا اقتضى الأمر تهديم أحياء بأكملها (مثل البارودي، الكيلاني، الحميدية، الحاضر)، وما تقتضي العمليات قصفه من مساجد وكنائس.

أمّا من حيث المحتوى، فقد كانت المعركة أعمق، وأوسع نطاقاً. باتريك سيل (الكاتب البريطاني، ومؤلف سيرة عن حافظ الأسد هي بين الأشدّ تعاطفاً، والصديق المقرّب من النظام حتى عهد قريب على الأقلّ، والعارف بتاريخ سورية الحديث والمعاصر...) اعتبر أنّ فهم معركة حماة بوصفها الفصل الأخير في صراع طويل مفتوح، قد يفيد في تفسير وحشية العقاب الرهيب الذي فُرض على المدينة. فوراء النزاع المباشر كانت تكمن العداءات القديمة، متعددة المستويات، بين الإسلام والبعث، والسنّة والعلويين، والريف والمدينة (سيل، 'الأسد: الصراع على الشرق الأوسط'، الطبعة الإنكليزية الأولى، ص 333).

ليست صائبة، بقدر ما هي استشراقية تنميطية، خلاصات سيل حول اعتبار المجزرة معركة بين سلسلة ثنائيات، ولكنّ حديثه الصريح عن وحشية العقاب يدلّ على الأهمية الحاسمة التي كان النظام قد أولاها لهذه المعركة. كانت حماة بمثابة الدرس الأقصى، والأقسى، للشارع السوري بأسره، إسلامياً كان أم علمانياً، على صعيد الجمهور العريض والأحزاب المعارضة، مثل النقابات والإتحادات المهنية ومجموعات المثقفين. وكانت حماة أمثولة، ودرساً، وقاعدة للتعامل المستقبلي مع أيّ تحرّك معارض، سواء أكان مسلّحاً أم سلمياً.

الأهمّ من هذا، والأكثر مأساوية في الواقع، أنّ أمثال سيل سوف يقولون فيما بعد (ضمناً، وليس صراحة!) إنّ معركة حماة حُسمت لصالح الحداثة والأنوار ضدّ الأصولية والطهورية. وكان سيل قد اعترف بأنّ أعداداً لا حصر لها من المساجد والكنائس والمواقع الأثرية الأخرى دُمّرت ونُهبت، بما في ذلك متحف قصر العظم الذي يعود للقرن الثامن عشر. وخلال نحو شهر من القتال هُدم تماماً قرابة ثلث قلب المدينة التاريخي.

بعد فقرة واحدة فقط سوف يروي سيل أنّ حماة كانت، في العام 1961، قد طردت باصاً يقلّ طلبة وطالبات من جامعة دمشق توقفوا في المدينة للراحة، وذلك لأنّ بعض الفتيات كنّ يرتدين البناطيل. وسوف يستخلص ما يلي: 'بمعزل عن قتل العديد من الناس، كان دكّ المدينة في عام 1982 قد صُمّم بحيث يقصي هذه الطهورية (Puritanism) مرة وإلى الأبد. وفي إعادة بناء هذا المجتمع المهدّم بُذل جهد واعٍ لا يقتلع الماضي فحسب، بل يغيّر المواقف أيضاً'.

لكنّ حماة لم تكن المجزرة الوحيدة، لكي يُقال إنها معركة ضدّ الطهورية. خيارات النظام في قمع المعارضة الإسلامية المسلحة نهضت، جوهرياً، على قمع روح المعارضة في الشارع السوري بأسره، من حلب إلى جسر الشغور إلى دير الزور إلى اللاذقية، انتهاء بمجزرة تدمر الشهيرة. وكانت الخيارات منتظمة في سياق منهجي متكامل، لم يكن القمع العسكري وتهديم المدن وتنفيذ المجازر الصغيرة في السجون والأحياء والشوارع سوى تتويجه الدموي العنيف.

وخلال المؤتمر القطري السابع لحزب البعث (كانون الأول/ ديسمبر 1979)، أعلن رفعت الأسد، عضو القيادة القطرية، أنّ مَن لا يقف مع الثورة يقف في صفوف أعدائها، ودعا إلى شنّ حملة تطهير وطني تتضمن إرسال المعارضين إلى معسكرات عمل وتثقيف في الصحراء. وكان رفعت الأسد يستبق حركة الإحتجاج الشعبي التي تبلورت في إطار الأحزاب المعارضة غير المنضوية في جبهة السلطة، وفي صفوف النقابات المهنية للأطباء وأطباء الأسنان والمهندسين والصيادلة والمحامين، الذين أعلنوا إضراباً ليوم واحد (31/3/1980) احتجاجاً على غياب الحريات وشراسة آلة القمع وانتهاك حقوق المواطن. وكان ردّ السلطة الفوري هو حلّ هذه النقابات واعتقال عدد من أبرز قياداتها، ثمّ شنّ حملة اعتقالات واسعة في صفوف أحزاب المعارضة. وكان لا بدّ لهذه السياسات أن تنعكس بعمق في الاقتصاد والحياة المعيشية للمواطن السوري، فمرّت سورية في طور غير مسبوق من الإفقار (أكثر من 60 في المائة تحت خطّ الفقر)، والبطالة (بين 20 و38 في المائة)، واتساع الهوّة بين الأجور والأسعار، وتخريب القطاع الصناعي ومؤسسات القطاع العام إجمالاً، مقابل الإعتماد على الصناعات الإستخراجية والزراعات التصديرية. وجرى، بالتوازي، تعزيز التحالف بين الشرائح الأمنية  العسكرية العليا وممثّلي الرأسمالية الطفيلية، وبروز ظاهرة تماسيح الفساد (وليس القطط السمان وحدها!)، وارتفاع مديونية الدولة بأرقام قياسية، وتهريب الأموال الوطنية إلى الخارج (بين 70 و100 مليار دولار)...

وقد يقول قائل إنّ بشار الأسد هو وريث لهذه الحال عموماً، والمجزرة خصوصاً، فلم يشارك في صنعها، ولم تكن له سلطة القرار في الأساس. غير أنّ 'درس حماة'، إذْ تُصنّف المجزرة على هذا النحو في الكثير من الأدبيات التي تدرس تاريخ سورية المعاصر، كانت واحدة من أبرز تعاليم 'الحركة التصحيحية'، وأكثرها استيلاداً لفلسفة الإستبداد الوراثي، من جهة أولى؛ وإنتاجاً لطرائق الحفاظ عليه، ومواجهة أخطار الإنتفاض ضدّه، من جهة ثانية.

كان 'درس حماة' هو الإستبداد في ذروة أدائه التطبيقي، فهو إرهاب الدولة ضدّ المجتمع، وقهر الإحتجاج عن طريق سياسة الأرض المحروقة، والمدن المستباحة، والتدمير العميم والمعمّم، والعقاب الجماعي، واستخدام كلّ وأي سلاح. وهو اشترط، أيضاً، عسكرة الدولة في مختلف المستويات، وإلغاء السياسة عن طريق التنكيل والإعتقال والطرد من الوظيفة، وإفقار المجتمع بحيث يكون البحث عن لقمة العيش هو الهاجس الوحيد؛ فضلاً عن الترهيب تارة، والترغيب طوراً، وإشاعة ثقافة الولاء والطاعة والوشاية. أليست هذه بعض سمات النظام الراهن، الذي كان ويظلّ امتداداً لتراث 'الحركة التصحيحية'، بل يتبدى أسوأ منه في أمثلة عديدة؟

فارق 1982 عن 2011 هو، مع ذلك، الفيصل بين مدينة استُفردت حتى برهة الشهادة، وأخرى تتظاهر وتنتفض وتقاوم مع شقيقاتها مدن وبلدات وقرى سورية، وتعدّ ما تبقى من حشرجات نظام آخذ في الاحتضار، مثلما تستشرف ما يهلّ من بشائر فجر وشيك آتٍ، لا محالة.

============

التحديات التي تواجه العرب

الجمعة, 08 يوليو 2011

باتريك سيل *

الحياة

نادراً ما واجه الزعماء في العالم العربي من حكام وناشطين في المعارضة ومثقفين ومخطّطين اقتصاديين ومصرفيين ورجال أعمال بارزين هذا الكمّ من التحديات مثل تلك التي يواجهونها في صيف عام 2011. فالأمور كلها تتغيّر أمام أعينهم داخل المجتمعات العربية وفي العالم الخارجي على حدّ سواء.

وتبرز مشكلتان أساسيتان من بين مجموعة المشاكل المربكة القائمة. وستؤثر الطريقة التي ستتمّ بها معالجة هذه المشاكل وحلّها في العالم العربي على مرّ العقود المقبلة، لا سيّما أنها تتطلّب تفكيراً ملياً وتحركاً جريئاً.

والمشكلة الأولى والأكثر وضوحاً هي تلك التي تفرضها موجة الثورة المنتشرة في أنحاء المنطقة. ويكمن السؤال الأساس في كيفية التأكد من أن الطاقات الكبرى التي افرزتها ممارسة «القوة الشعبية» سيكون لها وقع إيجابي وليس سلبياً، أي التأكد من أنّ الطاقات الهائلة التي أطلقها «الربيع العربي» ستؤدي إلى نشوء عالم عربي عادل ومستقر ومزدهر بدلاً من العنف والفوضى.

وتتعلق المشكلة الثانية بالتغيير الحاصل في الأولويات الاستراتيجية الأميركية والأوروبية. ومما لا شك فيه أنّ الولايات المتحدة وحلفاءها الغربيين يسحبون قواتهم العسكرية ببطء لكن بخطى واثقة من الشرق الأوسط وآسيا الوسطى. كما يتمّ تدريجاً سحب المظلة الأمنية الغربية التي طالما ميّزت المنطقة منذ الحرب العالمية الثانية. لقد بدأت هذه العملية في العراق وأفغانستان وباكستان. كذلك يعدّ وجود القواعد الأميركية في الخليج أمراً استثنائياً لن يدوم طويلاً.

تبدو الولايات المتحدة منهكة بسبب الحروب ومفلسة. فمجموع ديونها يبلغ 14500 بليون دولار، أي ما يوازي 100 في المئة من إجمالي ناتجها المحلي. ويبدو أنّ إنفاقها 900 بليون دولار على العمليات الدفاعية والعسكرية هذه السنة لا يمكن أن يدوم. فهي تنسحب من العالم العربي والإسلامي حتى تركّز طاقاتها على الصين التي تعدّ منافستها العالمية. ويدلّ إخفاق الرئيس باراك أوباما الواضح في فرض حلّ الدولتين على إسرائيل على الضعف الأميركي ويذكّر بمدى سيطرة الناشطين الموالين لإسرائيل على السياسة الأميركية الخاصة بالشرق الأوسط. ويعتبر اعتماد العرب على الولايات المتحدة من أجل حلّ مشكلة فلسطين خطأ كبيراً.

منذ عشرين سنة، ارسلت الولايات المتحدة 500 ألف جندي من أجل إخراج صدام حسين من الكويت. إلا أنّ هذه الأيام قد ولّت. فقد أدت الحربان في العراق وأفغانستان، اللتان أخفقت فيهما الولايات المتحدة الى حد بعيد وحيث تمّ ارتكاب جرائم كبيرة، الى تراجع الأميركيين عن أيّ رغبة في الدخول في مغامرات في الشرق الأوسط. وهذا يعني أنّ الولايات المتحدة لن تهاجم إيران حتى لو بلغت العتبة النووية. إلا أنها لن تسمح أيضاً لإسرائيل بجرّها إلى حرب ضد طهران كما فعلت اسرائيل وأصدقاؤها الأميركيون عام 2003 من أجل شنّ حرب على بغداد. فقد تمّ تعلّم الدرس من ذلك.

أما في ما يتعلق ب «الربيع العربي»، فيمكن وصف الوضع باختصار بالقول إنّ تونس وهي البلد الذي بدأت فيه الثورة الشعبية، متقدمة على الآخرين لجهة الانتقال إلى نظام يكون اكثر تمثيلاً لشعبه. ويبدو أنّ تونس مجهزة في شكل جيّد لإجراء تغيير دستوري بفضل الطبقة المتوسطة الواسعة والمثقفة وبسبب الإرث الحديث الذي تركه الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة. ومن الممكن أن تكون مثالاً تحتذيه البلدان الأخرى.

وفي مصر، قد يصعب حصول انتقال سلمي بسبب المشاكل الكثيرة التي يعاني منها هذا البلد، مثل الانفجار الديموغرافي الذي يشلّه والمشاكل الاقتصادية المتواصلة وبقاء فلول النظام العسكري الأسبق بقسوتهم ونفوذهم. إلا أنّ تحقيق نجاح في مصر يُعتبر ضرورياً لها وللعرب كافة. فإن لم تكن مصر قوية وإن لم تكن تحظى بإدارة تمثيلية قوية وتلتزم بالقضايا العربية، فسيضعف العالم العربي برمته كما يشير تاريخ السنوات الثلاثين الماضية.

أما مستقبل ليبيا الفوري فهو يقع في ايدي القوى الغربية، على الأقل في الوقت الحالي. فقد تدخلّت هذه القوى عسكرياً بحجة حماية المدنيين الليبيين من عنف معمّر القذافي، إلا أنها كانت تسعى في الواقع إلى وضع حدّ لنظامه الاستبدادي والقاسي. وقد يكون ذلك التدخّل المسلح هو الأخير الذي يقوم به الغرب في بلد عربي في المستقبل المنظور.

أما الوضع في اليمن وسورية فيرتبط في شكل مباشر بالثروات العربية. فالاستقرار في اليمن يعتبر أساسياً للأمن في شبه الجزيرة العربية، والاستقرار في سورية أساس للأمن في منطقة المشرق العربي. وسقوط الضحايا في هذين البلدين يدعو الى الاسف. فقد أساء الحكام في كليهما من خلال اللجوء إلى العنف إدارة موجة الاحتجاجات. فالعنف يولّد العنف ويجب أن يتمّ وضع حدّ لقتل الناس.

ومن غير المرجح أن يعود الرئيس عبدالله صالح الذي يتعافى من إصابته في المملكة العربية السعودية إلى السلطة في صنعاء. فقد فرّط في سمعته ولطّخ إرثه من خلال التمسك طويلاً بالسلطة. وفي سورية، يأمل البعض أن يؤدي الحوار الوطني المتوقع إطلاقه هذا الشهر إلى تمرير وتطبيق قوانين جديدة خاصة بالأحزاب السياسية وحرية الاجتماع وحرية الإعلام ووقف عنف رجال الشرطة وإطلاق سراح السجناء السياسيين وقيام سلطة قضائية مستقلة وحقيقية. باختصار، يجب إعادة هيكلة جهاز السلطة.

وفي إطار الحكم على الأنظمة العربية التي تواجه احتجاجات شعبية في البحرين والمغرب وفي البلدان التي تمّ ذكرها آنفاً، نحن بحاجة إلى تذكّر عبرتين من التاريخ. العبرة الأولى أنه لا يمكن بناء الديموقراطية في يوم واحد أو خلال سنة ولا حتى خلال جيل واحد. فقد استغرق هذا الموضوع في معظم البلدان الغربية ألف سنة أو ألفي سنة. ويجب بناء نظام ديموقراطي تدريجاً بدءاً بالمؤسسات التشاركية التي تعكس حقوق المواطنين العاديين وتحترمها وتدافع عنها.

والعبرة الثانية أنّ الابتعاد من العنف هو استراتيجية أكثر فاعلية من استخدام القوة من أجل إقناع الأنظمة الاستبدادية في تغيير مسارها. ومن الأفضل دفع الناشطين في الربيع العربي إلى أن يأخذوا في الاعتبار رسالة عبدالغفار خان، وهو قائد ديني مسلم وسياسي سابق في شبه القارة الهندية، دعا إلى إنشاء معارضة غير عنيفة للحكم البريطاني. لقد كان مؤثراً جداً علماً أنه يتمّ احترامه ومقارنته بغاندي.

يجب أن يتحمّل العرب مسؤولية مصيرهم بنفسهم. ويجدر بهم أن يسعوا إلى حماية انفسهم. كما يتعيّن على الدول الغنية بالنفط مساعدة البلدان الفقيرة وذلك من أجل مصلحتها الخاصة. وفي هذا المجال تستطيع المملكة العربية السعودية إنقاذ الربيع العربي ومنعه من الوقوع في الفوضى، إلى جانب تعزيز نفوذها في اطار التحالفات الجديدة. وتعتبر إقامة شراكة واسعة النطاق بين العرب وتركيا وإجراء حوار صريح مع إيران مجرّد من البغض والمخاوف الطائفية مفيدَين للعرب.

يحتاج العرب مع تغيّر العالم من حولهم إلى كلّ مساعدة يحصلون عليها. ويجب دفع ربيعهم إلى بلوغ نتيجة ناجحة. ويجب أن يسعوا إلى الدفاع عن نفسهم فيما يتمّ تدريجاً سحب المظلة الأمنية الغربية، ويجب أن يحموا قضية فلسطين من المستوطنين الإسرائيليين المتشددين ومن السياسيين اليمينيين ومن أصدقاء إسرائيل النافذين في الولايات المتحدة، كما عليهم أن يدافعوا عن المصالح العربية والإسلامية في أفغانستان وباكستان حيث شكّل التدخّل الأميركي كارثة.

يشكل هذا برنامجاً مكثفاً. لكن فصل الصيف يعتبر فرصة للتفكير. ويجدر بالقادة العرب الموجودين في السلطة وأولئك الطامحين للوصول إلى السلطة التفكير في كل هذه الأمور في شكل جدي.

* كاتب بريطاني مختص في شؤون الشرق الاوسط

=============

الأزمة الأيديولوجية في الرأسمالية الغربية

آخر تحديث:الجمعة ,08/07/2011

جوزيف ستيجلتيز

الخليج

قبل بضعة أعوام فقط كانت إحدى الإيديولوجيات القوية الاعتقاد في قوامة الأسواق الحرة غير المقيدة سبباً في دفع العالم إلى حافة الهاوية . وحتى عندما كانت في أوج قوتها، منذ أوائل ثمانينيات القرن العشرين وحتى عام ،2007 لم تجلب الرأسمالية المتحررة من القيود على الطريقة الأمريكية، المزيد من الرفاهية المادية إلا لأغنى الأغنياء في أغنى بلد في العالم . بل إن أغلب الأمريكيين لم يشهدوا على مدى ثلاثين عاماً من صعود هذه الإيديولوجية غير الانحدار أو الركود في دخولهم العام تلو الآخر .

ولم يكن نمو الناتج في الولايات المتحدة فضلاً عن ذلك مستداماً من الناحية الاقتصادية . فمع ذهاب هذا القسم الضخم من الدخل الوطني الأمريكي إلى هذا العدد البالغ الضآلة من الأمريكيين، لم يكن النمو ليستمر إلا من خلال الاستهلاك الممول بجبل متراكم من الديون .

كنت من بين أولئك الذين تمنوا لو يتعلم الأمريكيون (وغيرهم) من الأزمة المالية بطريقة أو بأخرى، درساً عن الحاجة إلى قدر أعظم من المساواة، وقيود تنظيمية أكثر إحكاماً وقوة، وتوازن أفضل بين السوق والحكومة . ولكن للأسف، لم يحدث ذلك . بل وعلى العكس من ذلك تماماً، كان ظهور اقتصاد جناح اليمين من جديد، مدفوعاً كما هي حاله دوماً بالإيديولوجية والمصالح الخاصة، تهديداً جديداً للاقتصاد العالمي، أو على الأقل الاقتصاد في أوروبا وأمريكا، حيث لاتزال هذه الأفكار مزدهرة . في الولايات المتحدة، جاء هذا الانبعاث اليميني، الذي يسعى أنصاره بوضوح إلى إلغاء القوانين الأساسية التي تحكم الرياضيات والاقتصاد، ليهدد بدفع البلاد إلى العجز عن سداد الديون . فإذا أجاز الكونغرس الإنفاق بما يتجاوز العائدات، فسوف يكون هناك عجز، ولابد من تمويل هذا العجز . وبدلاً من إيجاد توازن دقيق بين الفوائد المترتبة على كل برنامج للإنفاق الحكومي وبين التكاليف المترتبة على زيادة الضرائب لتمويل هذه الفوائد، يسعى اليمين إلى استخدام مطرقة ضخمة، فعدم السماح للدين الوطني بالزيادة يرغم الإنفاق على أن يقتصر على الضرائب .

وهذا من شأنه أن يترك الباب مفتوحاً أمام مسألة تحديد النفقات التي تحظى بالأولوية، وإذا لم يتمكن الإنفاق من سداد أقساط الفوائد على الدين الوطني، فإن العجز لا مفر منه . فضلاً عن ذلك فإن خفض الإنفاق الآن، في خضم أزمة مستمرة جلبتها إيديولوجية السوق الحرة، من شأنه أن يطيل أمد الركود لا محالة .

قبل عشرة أعوام فقط، وفي وسط طفرة اقتصادية، وجدت الولايات المتحدة نفسها في مواجهة فائض ضخم إلى الحد الذي هدد بالقضاء على الدين الوطني تماماً . ولكن التخفيضات الضريبية غير المبررة والتي لا يمكن تحملها، وحالة من الركود العميق، وارتفاع تكاليف الرعاية الصحية إلى عنان السماء الذي كان راجعاً في جزء منه إلى التزام إدارة جورج دبليو بوش بإطلاق العنان لشركات الأدوية في تحديد الأسعار، حتى عندما كانت أموال الحكومة على المحك سرعان ما حولت الفائض الضخم إلى عجز لم يسبق له مثيل في الضخامة في زمن السلم .

ثم أتت علاجات العجز الأمريكي انطلاقاً من هذا التشخيص: إعادة أمريكا إلى العمل من خلال تحفيز الاقتصاد؛ والحروب الحمقاء؛ وكبح جماح التكاليف العسكرية وتكاليف الأدوية؛ ورفع الضرائب، على الطبقة الأكثر ثراءً على الأقل . ولكن اليمين لم يتقبل أياً من ذلك، بل إنه سعى بدلاً من ذلك إلى فرض المزيد من التخفيضات الضريبية لمصلحة الشركات والأثرياء، إلى جانب خفض الإنفاق على الاستثمارات والحماية الاجتماعية، الأمر الذي دفع بالاقتصاد الأمريكي إلى موقف بالغ الخطورة ومزق كل ما تبقى من العقد الاجتماعي . وفي الوقت نفسه كان القطاع المالي الأمريكي يضغط بكل شدة من أجل تحرير نفسه من القيود التنظيمية، حتى يتسنى له العودة إلى أساليبه الطائشة المأساوية السابقة .

ولكن الحال ليست أفضل كثيراً في أوروبا، ففي ظل الأزمات التي تواجهها اليونان وغيرها، كان العلاج ببساطة حزمة عتيقة من التقشف والخصخصة، وهي الحزمة التي لن تجلب على البلدان التي تبنتها سوى المزيد من الفقر والضعف . فقد أخفق هذا الدواء في شرقي آسيا، وأمريكا اللاتينية، وأماكن أخرى من العالم، وسوف يُخفق في أوروبا هذه المرة أيضاً، بل إنه أخفق بالفعل في أيرلندا ولاتفيا واليونان .

ولكن هناك بديلاً، وهو يتلخص في استراتيجية النمو الاقتصادي التي يدعمها الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي . فالنمو من شأنه أن يعيد الثقة بقدرة اليونان على سداد ديونها، فيدفع بالتالي أسعار الفائدة إلى الهبوط ويتيح المجال للمزيد من الاستثمارات المحفزة للنمو . والنمو في حد ذاته يعمل على زيادة العائدات الضريبية والحد من الحاجة إلى الإنفاق الاجتماعي، مثل إعانات البطالة . والثقة التي يولدها هذا من شأنها أن تقود إلى المزيد من النمو .

ولكن من المؤسف، أن الأسواق المالية وخبراء الاقتصاد اليمينيين تعاملوا مع المشكلة بشكل معكوس تماماً: فهم يعتقدون أن التقشف ينتج الثقة، وأن هذه الثقة سوف تنتج النمو . ولكن التقشف يقوّض النمو، ويزيد من الموقف المالي للحكومة سوءاً، أو على الأقل يعود بتحسن أقل كثيراً مما يعد به أنصار التقشف . وفي كل الأحوال فإن الثقة تضعف وتبدأ دوامة الهبوط .

هل نحن حقاً في حاجة إلى تجربة أخرى مكلفة تستعين بأفكار أثبتت إخفاقها مراراً وتكرارا؟ لا ينبغي لنا هذا، ولكن من الواضح على نحو متزايد، أننا سوف نضطر إلى تحمل تجربة أخرى رغم ذلك . إن إخفاق أوروبا أو الولايات المتحدة في العودة إلى النمو القوي، يعني الإضرار بالاقتصاد العالمي بالكامل . والإخفاق في كل من أوروبا والولايات المتحدة يعني وقوع الكارثة حتى ولو استمرت بلدان الأسواق الناشئة الكبرى في النمو . وللأسف الشديد، ما لم تكن الغَلَبة للعقول الحكيمة، فإن العالم يسير نحو الكارثة بالفعل .

* أستاذ في جامعة كولومبيا، وحائز جائزة نوبل في الاقتصاد، والمقال ينشر بترتيب مع “بروجيكت سنديكيت”

=============

الصراع على مناطق النفوذ وارتهان لبنان

رضوان السيد

الشرق الاوسط

8-7-2011

انهمك اللبنانيون في الأيام الماضية بمتابعة المجادلات في مجلس النواب بين فريق 8 آذار الذي شكل ميقاتي حكومته من بين أعضائه، وفريق 14 آذار الذي أخرج من حكومة الوحدة الوطنية السابقة التي كان سعد الحريري رئيسا لها. وموضوع الجدال في هذه الجلسات النيابية هو البيان الوزاري لحكومة ميقاتي، وبخاصة البند المتعلق بالمحكمة الدولية وبالقرار الظني الذي صدر يوم الجمعة الماضي، وعرف منه اتهامه لأربعة أعضاء في حزب الله بالاشتراك في اغتيال الرئيس رفيق الحريري عام 2005، والطلب من لبنان (بمقتضى الاتفاق المعقود مع حكومته عام 2007) اعتقال هؤلاء وتسليمهم إلى المحكمة لمحاكمتهم. والمعروف أنه بعد صدور القرار الظني ذاك ألقى الأمين العام لحزب الله خطابا طويلا أعاد فيه عبر كلام طويل، وما اعتبره وثائق، اتهام المحكمة بأنها أميركية - إسرائيلية، ولذلك فهو يرفض تسليم هؤلاء «المقاومين» البارزين إليها - وتوجه بالخطاب إلى فريق 14 آذار بأنهم لو كانوا هم في الحكومة لما استطاعوا القبض على المتهمين، فلا ينبغي تكليف حكومة ميقاتي (الموثوقة كما قال) بما لا يستطيعون هم أنفسهم القيام به. وعاد أخيرا إلى إنذار الولايات المتحدة وإسرائيل بأنه سيفشل هذه المحاولة الجديدة للتطويق والحصار، وسينجح في ذلك كما نجح في تغيير الاستراتيجية العسكرية الإسرائيلية في حرب عام 2006!

لقد قيل الكثير في مجلس النواب اللبناني، بعضه غث وبعضه الآخر سمين، لكن هذا وذاك ما كان الموضوع الحق والحقيقي. فقد جاء اغتيال الرئيس رفيق الحريري عام 2005 في ذروة تجاذب إقليمي ودولي، كان من وقائعه ذهاب كل من الرئيس حافظ الأسد والملك حسين وياسر عرفات وصدام حسين.. ورفيق الحريري. كما كان من وقائعه الاحتلال الأميركي لأفغانستان والعراق وإزالة حكومتي طالبان وصدام منهما. وكان من وقائعه ونتائجه (أي ذاك التقاطع والتجاذب) انتشار بؤر ومواطن التنفذ الإيراني في العراق وسوريا ولبنان وغزة والبحرين والكويت واليمن، وبأشكال مختلفة. ومع تغير الإدارة السياسية والعسكرية الأميركية وذهاب المحافظين الجدد واتباع أوباما سياسات «القبضة الناعمة»؛ بدأ العرب يتنفسون، لأن تلك الحروب والتجاذبات كانت تجري على أرضهم وقرارهم، كما ذكر الأمير سعود الفيصل وزير الخارجية السعودي في مؤتمر القمة العربي الأخير بمدينة سرت الليبية في ربيع عام 2010. والتنفس العربي هذا تناول ثلاثة أمور: مراجعة السياسات تجاه الولايات المتحدة باتجاه استعادة زمام المبادرة في قضية إقامة الدولة الفلسطينية، والنظر في لملمة الصفوف العربية من أجل القضية الفلسطينية (مصالحة فتح وحماس)، ومن أجل استعادة الاستقرار في بؤر النفوذ والتوتر في الوقت نفسه، التي اصطنعتها إيران ودأبت على استغلالها في سياق تجاذباتها مع العرب ومع تركيا ومع الولايات المتحدة. وجاءت حركات التغيير العربية لتجعل من هذا الجهد العربي لتجاوز الفراغ الاستراتيجي ذا معنى شعبي وعام. فالشبان العرب إنما ثاروا من أجل التغيير في إدارة شأنهم العام، وإقامة الحكم الصالح. ومع أن إيران زعمت على مدى أكثر من شهرين أنها مع الثورات العربية وفي تونس ومصر وليبيا بالذات، لكنها ما لبثت أن أسفرت عن موقفها بوضوح عندما وصلت الثورة الشعبية إلى سوريا.

لقد سبق وصول الثورة الشعبية إلى سوريا التصالح بين فتح وحماس، وازدياد التوتر الداخلي بالعراق، وانتهاء قضية الحوثيين باليمن، ودخول قوات درع الجزيرة إلى البحرين، والمحاكمات ضد شبكات تجسس إيرانية بالكويت، ثم اندلاع النزاع في صفوف المحافظين والمحافظين الجدد بداخل السلطة القائمة بإيران. ولا شك أن هذه الأمور كلها أشارت إلى تأزم شديد بالداخل السلطوي الإيراني بسبب فشل سياسات مناطق النفوذ، وعلى وقع تأزم شديد وتضاؤل بالغ في امتدادات النفوذ الإيراني بالمنطقة العربية. وما كان من الواضح بداية كيف يسلك المحافظون الإيرانيون تجاه الوقائع الجديدة: هل يتهاودون ويعودون إلى التفاوض مع العرب والتشاور مع تركيا بانتظار مرور العاصفة السلامية الأميركية (وأسميها عاصفة رغم أنها تتعمد القول إنها مع الهدوء والتفاوض والسلام والديمقراطية، لأن القائمين عليها لا يزالون من العسكريين!)، أم يلجأون للرد العنيف في مناطق النفوذ، لإعاقة الثورات العربية، والمزيد من المواجهة مع مجلس التعاون، والمزيد من إزعاج الولايات المتحدة الأميركية؟! ما صار الأمر واضحا أي المقاربتين ترجحت لدى الإيرانيين؛ إذ هناك غموض من جهة في محاولات التصالح والحوار بين الفلسطينيين وفي البحرين، وهل إيران معها أم لا؟ بيد أنه من الواضح أن الإدارة الإيرانية اختارت المواجهة بالعراق ولبنان. ففي العراق يثور أنصارها ويمارسون العنف بحجة دفع الأميركيين للانسحاب من البلاد أواخر هذا العام كما هو مقرر. وفي سوريا أرسل الإيرانيون مساعدات كثيرة للنظام هناك. وفي لبنان أقدم حزب الله على الاستيلاء على الدولة من خلال اجتذاب وليد جنبلاط وميقاتي وإقامة حكومة من لون واحد ليس للمسلمين السنة دور حقيقي فيها.

لقد كان خطاب نصر الله الأخير تعبيرا عن النشوة بالاستيلاء على الحكومة بعد القرار، وتعبيرا عن «الاستقلال» بمصيره عن مصائر النظام السوري. وبذلك فقد انقلبت الموازين: بعد أن كانت سوريا هي التي ثمن على الحزب بالمساعدة؛ فإن الحزب يقول الآن إنه يملك «فائض قوة» يستطيع به أن يؤثر لصالح النظام السوري، ويستطيع من خلاله الاستمرار في السطوة المسلحة حتى لو زال النظام السوري! لقد كان من ضمن السيناريوهات، إن لم يكن تدبير أكثرية في البرلمان اللبناني، اللجوء إلى السلاح مرة أخرى وإرغام الخصوم على الاستسلام. إنما استطاع الحزب بمعونة الرئيس الأسد إقناع جنبلاط وميقاتي بالانضمام إليه، إعدادا للمرحلة الحالية والمستقبل القريب: المتغيرات في سوريا والمنطقة، ومواجهة القرار الظني للمحكمة، والتفاوض مع العرب والدوليين من موقع قوة. وكل ذلك لا تستطيع إيران القيام به إلا في لبنان ومن خلال الحزب. ونحن على انتظار في البحرين وغزة، وهل تفسد إيران المناسبتين إن استطاعت، أم تعتبر التهدئة والحوار فيهما مفتاحا للتقدم في العلاقات الإيرانية - العربية؟!

هل يطول «الارتهان» والاستيلاء الذي حققه الحزب في لبنان؟ هناك عدة محددات؛ الأول منها: مصائر النظام السوري، الذي سيضعف انهياره أو تغير سياساته إيران وبؤر نفوذها. والثاني منها: اتجاه إيران نهائيا للصراع أم للاستيعاب؛ فإن اختارت الصراع فإنها ستغامر بنزاع طويل في لبنان، وازدياد التوتر مع العرب. والثالث منها: مدى جدية الضغوط الدولية والعربية على إيران وعلى الحكومة اللبنانية لإنفاذ القرارات الدولية ومنها القرار 1757 (بشأن مقتل الرئيس الحريري)، والقرار 1701 (بشأن وقف النار في الجنوب)، والقرار 1559 (بشأن خروج القوات الأجنبية من لبنان، وتجريد الميليشيات الداخلية من السلاح). والرابع منها: مدى قدرة قوى 14 آذار على الصمود داخليا، والاستمرار في ضبط الشارع، وفي الوقت نفسه ملاحقة ميقاتي والذين خرجوا معه لإقناعهم بالانصراف عن تنفيذ المخططات التي عهد إليهم بها إن كان لجهة المحكمة أو للقضايا الوطنية الكبرى.

لقد تم التحكم بقرار لبنان منذ مدة، أما الآن فإن لبنان معروض للمساومة مثلما كان يفعل الراحلان ياسر عرفات وحافظ الأسد، وإن لأهداف أخرى. ولا حول ولا قوة إلا بالله.

=============

عن سورية وانتفاضتها والنظام و «معارضاته»

الجمعة, 08 يوليو 2011

هوشنك أوسي *

الحياة

المشهد السوري يظهر شديد التعقيد والاشتباك، والالتهاب أيضاً. والتعاطي الإقليمي والدولي معه ينطوي على قدر من الالتباس، كاشفاً نُذر صفقات وانفجاراتٍ محليّة وإقليميّة لا تحمدُ عواقبها، ففي «جمعة ارحل» الماضية، قالها الشعب للنظام: ارحل، فردّ النظام بهمجيّته المعهودة، حاصداً أرواح ثمانية وعشرين مدنيّاً، قائلاً: «ما أنا براحل. فليرحل الشعب». وهنا، تجب الإشارة إلى لعب النظام السوري على مفهوم الشعب، باعتباره ليس من ينزل للشوارع متظاهراً، محتجّاً، مطالباً بالحريّة والديموقراطيّة وإسقاط النظام، فالشعب لديه هو ذلك القطيع الخانع، الذليل، المستمرئ للفساد والاستبداد، مغلّفاً بتنميقات وتزويقات وطنيّة. الشعب لديه هم الذين التزموا منازلهم، ولم يخرجوا للشارع، راضين بما ينعمون به من «أمن» و «حرية» و «كرامة» في دولة الممانعة والمقاومة، ذلك أن النظام يحسبُ الأغلبيّة الصامتة مواليةً له، وحساب كهذا يمكن إدراجه في سياق أوهام النظام، أو ربما من التعويلات التي سرعان ما يظهر بطلانها، تحت ارتفاع إيقاع الانتفاضة الشعبيّة الوطنيّة السوريّة، واتساع رقعتها، وازدياد تجذّرها.

وبحسب ما أوردته وكالة «رويترز»، فإن ما يناهز الأربعة ملايين سوري، شاركوا في مظاهرات «ارحل» الاحتجاجيّة في 268 نقطة على امتداد سورية. وأشارت «الحياة» في 2/7/2011، إلى أن حماه شهدت «أكبر التظاهرات، وتخطى عدد المشاركين فيها نصف مليون شخص وفق مصادر متطابقة، وتظاهر أكثر من 100 ألف في حمص و60 ألفاً في دير الزور و40 ألفاً في معرة النعمان»، مضافاً إلى ذلك الأعداد غير المعروفة التي شاركت في مظاهرات المدن الأخرى. وعليه، رويداً رويداً، ينكشف النظام السوري أكثر أمام العالم، وتسقط مقولته بأن الشعب ليس المتظاهرين.

وعلى صعيد المعارضة، تجدر الإشارة إلى رواج «موضة» الاجتماعات والمؤتمرات والأطر والتحالفات والهيئات والتنسيقيّات... خارج وداخل سورية. وهذا التبدد، مصحوباً بالمناكفات والمساجلات بين اطيافها، هو أيضاً ينطوي على حالة مَرَضيّة، من شأنها تقوية وتعزيز جبروت النظام، ودفعه نحو التركيز على تمييع المعارضة أكثر فأكثر، في مسعى لكسب الوقت، وصولاً لحالة من خيبة الأمل لدى الشعب حيال المعارضة التقليديّة. ولعلّ النظام ليس بغافل عن أن المعارضة الكلاسيكيّة ليست المسؤولة عن إدارة وتنظيم الانتفاضة، لكن من الأهميّة بمكان لديه أن يسدّ كل منافذ الإنعاش عن المعارضة التقليديّة أيضاً. وإن لم يتسنَّ له ذلك، فأقلّه ترويضها وتدجينها، في سياق إشراكها في السلطة، لتصبح ضمن دورة النظام المنتجة للدولة الاستبداديّة، ولو بأقنعة أكثر حداثويّة.

ولا يخلو أداء المعارضة من علامات استفهام وتعجّب أيضاً. فمثلاً، المؤتمر الذي شهده أحد فنادق دمشق، الذي ضمّ المثقفين المعارضين المستقلّين، وما نتج عنه من مقررات وسجالات. هذا المؤتمر، وبحسب الكثير من المصادر، حظي بدعم واهتمام غير مباشر من قبل النظام وإعلامه، كما رحّبت به واشنطن واعتبرته «هامّاً». وهذا بدوره يشير الى توافق سوري – أميركي ما في بعض الحيثيات، وأن أميركا لم تنفض يدها من النظام بعد، رغم كل ما أثير هنا وهناك حول نيّتها تغيير النظام. وحتّى الآن، جلّ ما يمكن فهمه من التعاطي الاميركي مع النظام، والضغوط التي تمارسها واشنطن على دمشق، يفضي الى أن الادارة الأميركيّة تريد تغيير سلوك النظام، وليس النظام ككل. ما يقف بالضدّ من مطلب الانتفاضة السورية الرئيس، وهو إسقاط النظام. ويمكن عطف هذه الحيثيّة على ما نشرته صحيفة «الغارديان» البريطانيّة حول دفع الإدارة الاميركيّة للمعارضة نحو الدخول في حوار مع النظام، تصديقاً وتأكيداً. وهذا بالإضافة الى الإصرار الروسي على ذلك، عبر تصريحات سيرغي لافروف الأخيرة، ما يمكن أن يمنح بعض قوى المعارضة السوريّة ذريعةً هي ضرورة الدخول في حوار مع النظام، على اعتبار أن أميركا والمجتمع الدولي، لم يقطعا بعد مع النظام.

وقد رأينا بعض رموز المعارضة وقد حضروا مؤتمر المعارضين المستقلين بدمشق، والهيئة الوطنيّة للتغيير الديموقراطي، وسيشاركون في مؤتمر الانقاذ الوطني المزمع عقده في 16/7/2011 بدمشق، وربما يشاركون في مؤتمرات وأطر معارضة أخرى. وهذا أيضاً ينمّ عن تأرجح وعدم استقرار في الخيار أو الإطار السياسي لدى الكثيرين من المعارضين المستقلّين!

ولشدّة ما خلقته الانتفاضة من رعب لدى النظام، لم يعد مستبعداً أبداً أن يلجأ النظام إلى ضحاياه القدامى، من المعارضة التقليديّة، لكسر إرادة المعارضة المستجدّة، التي تأبى حتّى الآن الانخراط في السياقات التقليديّة للمعارضة، بل إن تنسيقيّات الانتفاضة صارت تنتقد أي اجتماع او هيئة او لجنة أو إطار تنجزه المعارضة التقليديّة. والحقّ أن هذه هي ضالة النظام، وجلّ ما يريده. وغنيّ عن البيان خبرة وبراعة وتخصص النظام في تبديد وتشتيت الطاقات المعارضة له منذ مطالع السبعينات، فالرئيس الراحل حافظ الأسد مارس مع معارضته سياسة «فرّق تسد»، ولم يقتصر نجاحه على تشتيت معارضته وبثّ الشقاق بين الشيوعيين والناصريين والقوميين الاجتماعيين والحركة الكرديّة وحسب، بل تعدّى ذلك الى بثّ الشقاق بين القوى الفلسطينيّة واللبنانيّة أيضاً.

وأثناء الخوض في الحال الانتفاضيّة، لا يمكن إغفال الدور الإقليمي والدولي. واللافت في اشتباك هذه التدخّلات، هو التطوّر الملحوظ بين أنقرة وتل أبيب، وعودة العلاقات بين الحليفين الإستراتيجيين في هذه الآونة الى سابق حرارتها، ما يشي بأن هنالك رضًى إسرائيليّاً، إن لم يكن توافقاً على الدور التركي في سورية، ومحاولات تركيا تجيير الأمور لصالحها، وضبط مرحلة ما بعد بشّار الأسد بما لا يضرّ المصالح الاسرائيليّة والأميركيّة.

في غضون ذلك، فتصريح مرشد الثورة الخمينيّة علي خامنئي، ووصفه المنتفضين السوريين بأنهم «منحرفون، ويخدمون الاجندة الأميركيّة والاسرائيليّة»، لا يؤكد فحسب صحّة التقارير التي أشارت الى التورّط الايراني العميق في عملية سحق الانتفاضة، بل هو بمثابة الفتوى الدينيّة التي تشرعن هدر دماء السوريين، ما يشي بأن الآتي من الأحداث سيكون أعظم.

وكل ذلك يُنذر بأن سورية مُقدمة على حالة من الاستعصاء السياسي العميق، ربما تفتح الباب أمام منزلقات وانفجارات دمويّة، تجعل كلفة الحرية والعدالة ودولة المواطَنة الحرّة أكبر وأكبر.

* كاتب كردي سوري

=================

شروط المهادنة

الخميس, 07 يوليو 2011

حسان حيدر

الحياة

نظامان عربيان فشل كل منهما في إقناع شعبه بالذرائع التي ساقها للإبقاء على أسلوب الحكم ذاته طوال عقود، على رغم التغيير الطوعي، أو بحكم الأمر الواقع، الذي طرأ على دوره في مواجهة إسرائيل، بعدما كان هذا الدور مرتكزاً أساسياً في تقديمه لنفسه في الداخل والخارج.

فالأول المصري انهار وباتت رموزه قيد المحاكمة، فيما لا تزال قاعدته التي استند إليها طوال عقود (الجيش) تقاوم التغيير وتحاول الاحتفاظ بنفوذها ولو على جزء من القرار. والثاني السوري على الطريق لكنه يقاوم أيضاً بالنار والحديد ويهدد معارضيه بالحرب الأهلية والتقسيم وسائر عظائم الأمور. أما القاسم المشترك بينهما فهو الانتقال من المواجهة مع إسرائيل الى مهادنتها رسمياً أو ضمنياً، من دون أن يواكب ذلك تغيير في الوظيفة الداخلية.

اختارت مصر السلام لكنها لم تستجب لشروطه في صوغ دور داخلي جديد للنظام يستند الى توزيع الدخل بصورة عادلة، بعدما كانت الحصة الكبرى منه تذهب الى المجهود الحربي وتفرعاته، ويتيح هامشاً واسعاً من الحريات ويحارب الفقر ويكافح الفساد. أما سورية فأبقت على حال الحرب شكلاً وشعاراً والتزمت الهدنة عملاً، لكنها ظلت تعتبر نفسها في وضع «ممانع» يتطلب في مفهومها ضبط الداخل ومنع أي معارضة أو مساءلة وإبقاء النمو ومستوى المعيشة في مصاف متأخر من الأولويات.

وافق السادات على الدخول في عملية السلام مع إسرائيل وأبرم معها برعاية الولايات المتحدة معاهدة قضت بخفض موازنة الدفاع وتكريس اقتصاد السوق في مقابل الحصول على مساعدات خارجية سنوية بالبلايين. ثم جاء حسني مبارك بعد حادثة المنصة ليكمل التزام مصر بالمعاهدة وبالعلاقات المميزة مع واشنطن.

ومع أن السلام غيّر وجه مصر، فتدفقت مساعدات ورساميل واستثمارات ونهضت قطاعات مثل الخدمات والسياحة في حين تحول الجيش جهازاً إنتاجياً ضخماً مع مواصلة مهمته في رعاية النظام وحمايته، الى جانب التضخم الكبير في أجهزة الأمن والشرطة، إلا أن هذا الوضع لم يغير في حياة المصريين الكثير وبقي عشرات الملايين منهم يعيشون في عوز.

وفي الوقت نفسه كانت الضغوط الأميركية والغربية المترافقة مع المساعدات تتزايد للسماح بالأحزاب المعارضة ووسائل الإعلام المستقلة، واشتدت وتيرة الضغوط بعد الغزو الأميركي للعراق ورغبة جورج بوش في شرق أوسط «مختلف». وكان نظام مبارك يخضع للضغوط تارة ويمانع تارة أخرى، فيمنح حريات في مجال ويغلقها في آخر، ويمكّن المعارضة من دخول البرلمان في 1987 ليحله لاحقاً. لكن الفساد استمر وكذلك الفقر الملازم للزيادة السكانية الهائلة. وانفجرت المواجهة بين النظام ومواطنيه أكثر من مرة، لكن الاستياء بلغ مداه أخيراً، وخرج الجيل الثالث من المصريين الذي ولد في ظل السلام الى الشارع، فأسقط النظام.

أما في سورية التي لا يعرف شبانها المتظاهرون اليوم من «حال الحرب» سوى انعكاساتها الفظة على حياتهم اليومية، فتحول «النزاع» مع إسرائيل، برغم «السلام» غير المعلن، الى عبء دائم مع استمرار تخصيص قسم كبير من الموازنة لبند الدفاع والأمن وأجهزته، فيما الاقتصاد يعاني من عزلة وتخلف. وبات السوريون رهينة شعارات نظامهم الافتراضية ومزايداته القومية، وزاد من معاناتهم استشراءُ الفساد والمحسوبية الحزبية والعائلية وبقاء قانون الطوارئ سيفاً مصلتاً على الحريات وعلى كل من تخطر في باله أسئلة من نوع: لماذا نتحمل كل هذا الفقر وكل هذا القهر إذا كنا لا نحارب أحداً؟ ولعل الذين تساءلوا تلقوا الجواب الوحيد للنظام مع وصول الدبابات الى منازلهم.

====================

أردوغان والموقف من أحداث سوريا 

آخر تحديث:الخميس ,07/07/2011

يوسف مكي

الخليج

في سلسلة مقالاتنا التي بدأنا بها قبل أربعة أسابيع عن المستقبل التركي بعد نتائج الانتخابات البرلمانية الأخيرة، انتهينا بالسؤال عما إذا كان الإسلام السياسي قد تمكن من حسم الصراع نهائياً مع المؤسسة العسكرية لمصلحته، أم أن ما يحدث الآن هو استراحة محارب؟ تساءلنا أيضاً عن الأسباب التي حرّضت حكومة أردوغان على تغيير مواقفها السياسية والاستراتيجية، وتبني مواقف تندفع بقوة نحو اليمين، متسقة مع تدخل حلف الناتو في ليبيا؟ وأيضاً تزعزع العلاقة مع النظام السوري، بعد الحركة الاحتجاجية التي عمت المدن السورية في الشهور الأخيرة؟ هل يمثل ذلك انتقالاً آخر نحو الغرب، ومغادرة لاستراتيجية التوجه نحو العمق الاستراتيجي في الشرق والجنوب؟

وابتداء، نذكر بأن حزب العدالة والتنمية الذي يقوده أردوغان، رغم تبنيه لمواقف تبدو راديكالية، تجاه الغرب والكيان الصهيوني، لم تبلغ خلافاته معهما مستوى القطيعة . كان أردوغان بسياساته هذه يضيف أرصدة جديدة إلى علاقة تركيا بالخارج، ولم يعمل على إضعافها بمكان، وتقويتها بمكان آخر . أما أعضاء الناتو، فكانوا حريصين على استمرار دور تركيا في الحلف، بسبب ثقل موقعها الاستراتيجي، وقربها من حدود روسيا الاتحادية شمالاً، وإيران شرقاً والوطن العربي جنوباً .

الأمر نفسه لا يختلف بالنسبة إلى موقف الكيان الصهيوني من تركيا، فحكومة نتنياهو لا ترى مبرراً كافياً، لقطع الوصل مع أردوغان، ولا تعدّ موقف الحكومة التركية من القضية الفلسطينية أكثر من محاولة لتعزيز الحضور التركي في العمق العربي . ومن هذا المنظور، فإن تركيا يمكن أن تكون وسيطاً مستقبلياً مع السوريين نتيجة لرصيد تركيا مع النظام السوري الذي ساد إلى ما قبل اندلاع الحركات الاحتجاجية الأخيرة بالمدن السورية .

بمعنى آخر، إن جميع الأطراف، اتفقوا على أنه ليس من المصلحة تردي العلاقات الاستراتيجية والسياسية في ما بينهم . وبالنسبة إلى الأتراك فإنهم بسياستهم الجديدة، ضمنوا علاقة متميزة مع الغرب ومع الشرق والجنوب في آن معاً . وحين يتعلق الأمر بأردوغان شخصياً، فإنه ضمن عدة مواقع، بضمنها رضا العسكر الذين يخشون اختلال المعادلة التركية في العلاقة مع الغرب التي سادت منذ عهد أتاتورك، واستمرت في حلقات متصلة، بقليل من الإشكالات . كما ضمن حضوراً تاريخياً قوياً، باعتباره الزعيم التركي الذي توجه بحسم نحو العرب والمسلمين، وناصر القضية الفلسطينية .

أما التأييد التركي للغرب والقبول بتدخلات الناتو في الشؤون الداخلية ببلدان الثورات العربية، فهناك جملة من الأسباب التي تجعل الموقف التركي مفهوماً، وإن لم يكن مقبولاً لكثير من العرب .

لن يقبل الأتراك بتكرار تجربتهم مع العراق، في مكان آخر، وبشكل خاص حين يكون البلد المستهدف هو سوريا، البلد الذي يشبه العراق من وجوه كثيرة، لعل أهمها وقوعه على حدود تركيا الجنوبية، ولوحته الدينية والأثنية الفسيفسائية، ووجود نظام مماثل يقود المجتمع والسلطة . ولأن لأتراك يدركون طبيعة المشاريع الغربية، والتصميم على تنفيذها، فإن الموقف البراغماتي الذي طبع مسار حزب العدالة والتنمية، منذ تأسيسه، بعد سقوط حكومة نجم الدين أربكان يحتم على حكومة أردوغان التنسيق الكامل مع الغرب، في تحديد مستقبل الثورات العربية .

إن تداعيات الأحداث في البلدان التي برزت فيها الاحتجاجات العربية، تسهم هي الأخرى في تقديم الدعم لموقف الحكومة التركية . فهذه الاحتجاجات، ليست موضع إجماع من كل العرب، والانقسام حولها، بين مؤيد ومعارض، هو بمستوى التكافؤ . والتدخلات الغربية في البلدان العربية، تأتي بمنطق مختلف عن الذرائع التي سيقت كمبرر لاحتلال العراق . فالهدف المعلن هنا، هو حماية المدنيين العزل والدفاع عن قيم الحرية والديمقراطية، وهو هدف إنساني ونبيل، يضيف تدخل الأتراك، من وجهة نظرهم عناصر جديدة تسهم في ترشيده وتوجيهه .

والنتيجة أن تدخل تركيا في شؤون سوريا، بخلاف التدخل الإيراني في شؤون العراق، يحظى بدعم واسع من عدد كبير من قنوات التلفزة العربية، وينظر إليه من قطاع واسع من الجمهور، على أنه خطوة عملية وإيجابية لمساندة الثورة الشعبية السورية، خاصة بعد تدخل الجيش السوري في جسر الشغور ومعرة النعمان، ومناطق أخرى قريبة من الحدود التركية . لقد نتج عن تدخل الجيش السوري في هذه المناطق، عبور ما يقرب من عشرة آلاف لاجئ سوري إلى تركيا، فتحت لهم مخيمات من قبل حكومة أردوغان، لتلبية احتياجاتهم من المأوى والغذاء .

علاوة على ذلك، فإن ما يطلق عليه مجازاً بربيع الثورات العربية، هو في حقيقته ربيع لحركة الإخوان المسلمين التي يعد حزب العدالة والتنمية أحد تفرعاتها . وإذاً، فنصرة هبة الإخوان المسلمين في سوريا، ينظر إليها من قبل حكومة رجب طيب أوردغان، على أنها نصرة لإخوة في الإسلام والجهاد .

ويشجع الحكومة التركية على اتخاذ موقفها هذا، أن حركة حماس التي شهدت انقساماً بين الداخل والخارج، حول الموقف الذي ينبغي تبنيه تجاه أحداث سوريا، ما لبتثت أن تمكنت من تجاوز خلافاتها . لقد أسهمت حركة الإخوان المسلمين في مصر، في التخفيف من حدة الخلاف بين الحركة في قطاع غزة ومركزها في دمشق، بالتلويح بأن القاهرة يمكن أن تكون مقراً مثالياً بديلاً عن دمشق لزعيم حركة حماس، خالد مشعل، بما يعني أن الضرر الذي يلحق بحماس من جراء سقوط نظام دمشق ليس بالحجم الذي تخيلته قيادة حركة حماس بالخارج في بداية انطلاق الحركة الاحتجاجية .

وربما تبادر إلى ذهن صانع القرار التركي، أن بلاده لن تخسر أي شيء في حالة فشل مشروع “الثورة”، واستمرار النظام في الحكم . فهم في كل الأحوال يملكون اليد العليا، إن في السيطرة على مياه الفرات، أو من حيث تحكمهم بخط الترانزيت المتجه للبلدان العربية، عبر الأراضي السورية، أو في حاجة الحكم السوري إلى وسيط يثق في نزاهته في حالة عودة المفاوضات السورية مع “الإسرائيليين” . إن ذلك يعني بداهة، عودة الأتراك بقوة إلى المسرح السوري، واستعادة العلاقة الاستراتيجية بين البلدين .

تلك هي صورة المشهد التركي، في علاقته بالأحداث الجارية الآن على الساحة السورية، وهو مشهد ستتكفل الأيام المقبلة بالحكم سلباً أو إيجاباً عليه، وليس علينا سوى الانتظار .

===================

حماه … ميدان التحرير العربي

علي حماده

النهار

7-7-2011

في "جمعة إرحل" صارت مدينة حماه بأسرها "ميدان التحرير"، ولم يعد خافيا ان مئات الآلاف من ابناء المدينة، ويمثلون نسبة عالية جدا تصل الى ما يفوق 70 في المئة من سكانها المقيمين، خرجوا ليقولوا كلمة واحدة للنظام في سوريا : "إرحل".

هذه هي سمة الثورة في سوريا، فما ان يغيب الامن والمخابرات وقطعات الجيش الموالية حتى يظهر حجم المعارضة المتنوعة للنظام. فالحل الامني العنيف والدموي الذي اعتمد حتى الآن نحج وفشل. نجح في الحد من خروج مظاهرات ضخمة شبيهة بتلك التي شهدتها حماه يوم الجمعة الفائت تكشف مدى الحالة الثائرة على النظام شعبيا. وفي المقابل فشلت في وأد الثورة، بل فاقمتها بأن رد الشعب على القتل المنهجي بمزيد من الاصرار والتصميم على اكمال مسار اسقاط النظام، وتعميق ازمته التي يعكسها انحصار "مشروعه" بالحل الدموي، مما افقده كل شرعية فعلية في الشارع. وسوف يفرض على العالم، المتباطئ في دعم الثورة، اجندة مختلفة مع ارتفاع حصيلة القتلى، وقد بلغت الى اليوم اكثر من ألف وخمسمئة مواطن.

لقد أثبت الشعب السوري قدرة كبيرة لا نظير لها في التحمل، وفي مواجهته بأساليب سلمية اعتى آلة امنية ستالينية في المشرق العربي. وفي المقابل يتبدى يوما بعد يوم ان النظام في سوريا غير قابل للاصلاح، وان الرئيس بشار الاسد يقود عملية امنية بإمتياز يغلفها بكلام ووعود بالاصلاح. والهدف قمع الثورة التي قامت في وقت كان الاسد الابن يفتخر بكون سوريا "عصية" على الثورة!

و من "جمعة" الى "جمعة" تكبر كرة الثورة في سوريا، وتنضم فئات جديدة من المجتمع السوري الى المناخ الثوري، بعضها مجاهرة، وبعضها الآخر بشكل غير ظاهر للعلن. ومن جمعة الى جمعة يكتشف السوريون ان ما يعتبر "نعمة" الاستقرار ما كانت سوى غطاء لتحكم عائلة وقلة متنفذة بحياة ملايين السوريين، وحشرهم في سجن كبير كان اسمه سوريا، وها هو يوشك ان يسقط مع تحرر الشعب من اغلال الخوف، وتجرئه على منازلة النظام مباشرة في شوارع المدن والبلدات والقرى. ومع مرور الايام لن يعود النظام بقادر على حشد الجيش والقوى المخابراتية على انواعها لمواجهة ملايين السوريين المصممين على البقاء في الشارع حتى سقوط النظام.

لقد سقطت شرعية النظام في الشارع. اسقطتها دماء اريقت على مذبح الحرية والكرامة. وخلال مدة وجيزة سيكون للعامل الاقتصادي اقوى الاثر على المعادلة. فمع الوقت ستجف موارد النظام الرسمي، وسيرتفع الضغط على مصالح طبقة كبار التجار ورجال الاعمال المتحالفين معه، الامر الذي سيدفع بهم الى الهروب من سفينة غارقة ولا امل بنجاتها. إننا في لبنان مدعوون الى التبصر في ما يحصل في سوريا. انها ثورة شعب على الاستبداد بأسوأ مظاهره وتجلياته. فإذا كان في لبنان من يتشدق بنصرة المظلومين في العالم، فأحرى به ان ينصر من يُذبحون، وهم اطفال ونساء ورجال، لمجرد انهم يطالبون بالحرية والكرامة، لا ان يكون نصير من ستستضيفهم قاعات المحاكم الدولية، في اكثر من قضية، ولو بعد حين.

===================

اوباما مع الاسد.. الدولة ضد الفيس بوك

هآرتس 6/7/2011

2011-07-06

القدس العربي

 أوقفت اليونان ابحار قافلة الاحتجاج البحرية الى غزة، ومنعت تركيا قبل ذلك سفنها من المشاركة في المظاهرة البحرية. السياق السياسي واضح وهو أن اسرائيل تقوى على خلفية الثورات في العالم العربي، وتجذب اليها حلفاء واصدقاء يتركون من اجلها الفلسطينيين والمعسكر الموالي لايران. ألف رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو تأليفا صحيحا بين اجراءات دبلوماسية وتهديدات باستعمال القوة وصُدت القافلة البحرية. لكن لوقف القافلة البحرية معنى أوسع يتجاوز لعب القوة في الحوض الشرقي للبحر المتوسط. فقد تولت الحكومات القيادة وأوضحت أنه لا الركاب ولا الربابنة سيقررون ابحار السفن. غضب منظمو الاحتجاج لكن ظلوا عاجزين إزاء حرس السواحل اليونانيين.

قالوا لنا حتى الآن ان الحكومات قد أخذت تفقد قوتها التي تنتقل الى أيدي المدنيين المنظمين في جمعيات وشبكات اجتماعية مثل الفيس بوك وتويتر. حركات الاحتجاج والشبكات الرقمية تتجاوز الحدود ولا تخضع في ظاهر الامر للساسة وموظفي الهجرة ومراقبي الجمارك. وتستطيع فكرة تحظى بالشعبية في الفيس بوك مثل احتجاج الكوتج في اسرائيل ومظاهرات ميدان التحرير في القاهرة أن تسقط حسني مبارك من الحكم في مصر. هنا تبين انه في العالم الحقيقي الذي يسكنه البشر والسفن والطائرات، ما تزال الدول قوية وتستطيع التغلب على تنظيمات مدنية.

كان اسامة بن لادن الذي انشأ القاعدة بصفة منظمة مفرقة ليست لها ارض ونجحت في أن تضرب قلب القوة العظمى الامريكية، كان أول من ترجم الشبكة الاجتماعية الى قوة عسكرية وسياسية. بشّرت احداث الحادي عشر من ايلول 2001 بالصراع بين الحكومات والنظام القديم الذي اعتمد على حدود دولية صارمة، والعالم الفوضوي المفتوح للقرن الواحد والعشرين الذي يكفي فيه حاسوب شخصي أو هاتف محمول أو اشرطة تسجيل مشوشة لاحداث ثورات. احتاجت الولايات المتحدة الى ما يقرب من عشر سنين لاعتقال بن لادن وقتله.

تبدو الثورات في العالم العربي أنها النصر النهائي للشبكة الاجتماعية على الحكومات، مع اجهزة الامن وغرف التحقيق لديها فقد أخرج مبادرون شباب مشاركون في تويتر الجماهير الى الميادين وأسقطوا مستبدي مصر وتونس. وهذه هي الصورة الرقمية لمقولة 'يا عمال العالم اتحدوا' التي كانت ايام ماركس وربيع الشعوب الاوروبي في القرن التاسع عشر. انها الأخوة الطبقية لجيل الانترنت الذي تمرد على سلطة الآباء وغيّر العالم.

لكن كما حدث لثورات الستينيات في الغرب - التي أسقطت الرئيسين لندن جونسون وشارل ديغول ونصبت بدلا منهما زعيمين أكثر محافظة نظمت الحكومات هذه المرة انفسها من جديد لصد خطر ضياع سيطرتها. جرى التعبير عن هذا في الدول العربية بقمع عنيف للمظاهرات بعد الصدمة التي أحدثها خلع مبارك. وفي تركيا واليونان جرى التعبير عن هذا الاتجاه بالتخلي عن القافلة البحرية من اجل غزة المحاصرة.

يُمزق رئيس الولايات المتحدة باراك اوباما كالعادة بين ميل قلبه الى المتظاهرين ومصلحته الرسمية في الحفاظ على النظام العالمي، وهذا يفسر رده على الانتفاضة في سورية. فقد نجح بشار الاسد في أن يقنع بأنه اذا نُحي فستنفض عُرى سورية وتتدهور الى حرب قبائل كما في افغانستان والعراق وليبيا التي انفضت بعد اعمال الغزو الغربية. واوباما لا يريد مغامرة نازفة اخرى كهذه، ولهذا يحاول إبقاء الاسد على كرسيه مع دعوة ضعيفة الى 'اصلاحات' في نظام الحكم السوري.

سعت اسرائيل التي واجهت منذ أُنشئت تنظيمات 'خاصة' للفلسطينيين الذين حاولوا العودة الى اراضيهم التي كانت لهم قبل 1948 أو تنفيذ عمليات، سعت دائما الى القاء مسؤولية على دول وحكومات لتكون 'عنوانا' لطلب الهدوء وجباية ثمن. وفي حالات لم تكن فيها حكومات سلمت اسرائيل المناطق والمسؤولية الى منظمات معادية (منظمة التحرير الفلسطينية وحزب الله وحماس)، آملة أن تصبح مؤسسات فتضمن وقف اطلاق النار وسد الحدود. ولهذا من المفهوم لماذا عاود نتنياهو بعد الاخفاق في وقف القافلة البحرية السابقة حينما حارب الجيش الاسرائيلي تنظيما مدنيا وتورط، لماذا عاود النهج المعروف وهو القاء المسؤولية على الحكومات.

نجحت الحيلة حتى الآن على الأقل ومنحت النظام القديم تعزيزا آخر. انتصرت الدولة على الفيس بوك والجمعيات حتى الجولة القادمة على الأقل.

===================

ست سنوات من اختفاء السياسة في سورية

الخميس, 07 يوليو 2011

ناهد بدوية *

الحياة

لم يكن مفاجئاً ما نشهده الآن من غياب كامل للسياسة في التعامل مع الانتفاضة السورية، وحضور فاقع للوجه الأمني، فالإناء ينضح بما فيه. فمنذ ست سنوات في أعقاب اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري، أعلن للمرة الثانية، بعد فترة الثمانينات، أولوية المسألة الأمنية على عملية الإصلاح في سورية. وتمت العودة على نحو سريع الى السمات الشمولية التي حاول عهد الأسد الابن التخفيف منها وتغييرها. فبعد أن كان الكلام يدور على فصل الحزب عن الدولة وازدياد المشاركة وتخفيف المظاهر الشمولية للدولة من صور وشعارات ولغة خشبية... عادت هذه المظاهر على نحو مستفز أكثر من السابق. اعتُقل الناشطون ورُموا في السجون وعادت الصور والدبكة والرقص لإثبات الولاء وعادت اللغة الخشبية المقيتة الفارغة. عاد التشديد على شرط الانتماء البعثي في توزيع المناصب ووقف توسيع الاستعانة بالمستقلين الذي كان قد تم التوجيه به منذ 2000. وأعلنت التعبئة العامة للحفاظ على السلطة والعودة الى تجفيف منابع مقاومة المجتمع وحيويته، ما أدى الى تصحر سياسي عميق حكمت البلاد في ظله مافيات اقتصادية وأجهزة أمنية.

توافق الاحتكار المافيوي للسلطة وميلها إلى امتلاك رأسمالها الخاص وأعمالها التجارية مع توجهات الأسواق العالمية باتجاه تحرير الخدمات واقتصاد السوق. لذلك استمرت القوانين الاقتصادية الجديدة في الصدور، وقد بدأت منذ تسلم بشار الأسد، وأحدثت في السنوات الست الأخيرة تغيرات عميقة في بنية الاقتصاد السوري باتجاه اقتصاد السوق وانتعشت الطبقة الوسطى نسبياً مقارنة بالسابق. إلا أن ذلك أدى، في ظل حالة غياب لسيادة القانون ولحرية الصحافة والرأي والقضاء المستقل، الى ظاهرتين بارزتين يمكن اعتبارهما من أهم عوامل الانتفاضة السورية الحالية، أولاهما انتشار الفساد على نحو غير مسبوق في تاريخ سورية، بحيث لم يعد توزيع وظائف أو مناصب الدولة يدرس على أساس إرضاء قطاعات مختلفة من حلفاء النظام، بل بات الأمر يخضع فقط لديناميات شبكات الفساد وسعر السوق، وقد وصل سعر بعض المناصب في الدولة إلى عشرات الملايين من الليرات السورية. والظاهرة الثانية هي أن احتكار القوة أدى الى احتكار الاقتصاد في أيدي قلة قليلة من أفراد العائلة المالكة، وازداد عدد الفقراء وحدَّة الفقر في المناطق المحرومة من مشاريع التنمية إذ تركزت المشاريع والأعمال في العاصمتين الأولى (دمشق) والثانية (حلب) وتعرضت المناطق الأخرى للتهميش والإفقار والنهب، ونشأ الآلاف من الشباب المتعلم في هذه المناطق يتامى من دون دولة ترعاهم، ومن دون أية آفاق، ومن دون أي أمل بالمستقبل أو الحصول على فرصة عمل وحياة كريمة. هؤلاء الشباب الذين اكتشفوا عبر وسائل الاتصالات الحديثة أنماطاً أخرى من الحياة واكتشفوا أن هناك خياراً آخر غير الاستسلام لليأس والاكتئاب والسكوت على الإهانات، وهو أنهم يستطيعون تغيير مصيرهم بأيديهم فنزلوا إلى الشارع يحملون أحلامهم بالحرية والحياة الكريمة وأعتقد أنهم لن يعودوا قبل تحقيقها.

كذلك أدى اختفاء السياسة وغياب خطط الدولة الوطنية الشاملة إلى إهمال كبير لمعظم أنحاء سورية، وشمل في ما شمل المناطق المختلطة طائفياً، لأن مافيات المال الناشئة عن احتكار السلطة كانت تتحالف مع أصحاب رؤوس الأموال في مراكز المدن ضاربة عرض الحائط بالبشر من جميع الطوائف، بما فيها الطائفة التي ينتمي إليها الرئيس. وفي ظل غياب مركزية قوية في الحكم يعمل الجميع لحسابها كما كان سائداً في ظل حافظ الأسد، صار كل مركز قوة صغير يعمل لحسابه الخاص ويشكل المافيا الصغيرة التي تسيّر أعماله ورزقه، وصارت الأماكن المختلطة كبانياس وتلكلخ وجبلة اماكن لمعارك اقتصادية غير موجهة من المركز بين البشر المهملين. ونتيجة نقص الفرص والموارد ظهر احتكار للفعاليات الاقتصادية المحدودة المتوافرة على نحو فظ من مراكز القوى القريبة من النظام، مما أوجد حال احتقان ظهر جلياً في الانتفاضة الحالية. وليس الالتفاف الحالي للكثير من هؤلاء المنتفعين حول النظام إلا دفاعاً عن احتكار الفعاليات الاقتصادية والخوف من خسارة الامتيازات مهما كانت صغيرة، بخاصة أن النظام عمل جيداً على إثارة كل أنواع المخاوف لديهم بإيهامهم أن من يملك عربة خضار أو يسكن غرفة في المخالفات سيخسر هذه الامتيازات إذا ذهب النظام.

ساهم غياب السياسة من نظام الحكم الحالي واللهاث وراء الأرباح والأعمال والأموال أيضاً في إهمال مناطق وقطاعات لطالما كانت حليفة للنظام، ما أدى إلى خروجها من سلسلة التحالفات الداخلية التي كانت أحد منابع قوة الأسد الأب مثل درعا والرستن، لا بل أدت سيادة أجهزة الأمن وغياب السياسة المركزية القوية الى التعامل الصلف والمتعالي والإفراط في التنكيل وعدم الاحترام حتى مع أصحاب المناصب السياسية السابقة والزعامات التقليدية. ففي درعا مثلاً اضطر الكثير من أولاد هؤلاء للعمل أجراء عند الرأسماليين الجدد الذين اشتروا مساحات كبيرة من أراضي درعا وريفها، ما أدى الى تزايد الاحتقان في مثل هذه المناطق.

تشهد أفلام الفيديو أيضاً، كونها مصورة من كاميرات الهواتف الخليوية، على غياب السياسة وعلى الطابع المافيوي للنخبة الحاكمة التي تعتبر البلاد مزرعة لها ومن حقها إغلاقها للشهر الرابع على التوالي في وجه البعثات الإعلامية والمنظمات الحقوقية والإنسانية من دون حاجة الى أي تفسير أو تبرير. لذلك، فإن أي توقع لسلوك سياسي في إدارة الازمة الحالية هو توقع بأن ينضح الإناء بما ليس فيه. ولا يمكن الذهاب باتجاه السياسة إلا اذا ضعف المركز المافيوي تحت ضغط توسع الانتفاضة جغرافياً وانضمام فئات جديدة إليها، ما قد يؤدي إلى ظهور ميل سياسي جديد عند قسم من رجالات النظام يريد أن يدرأ انهياراً مدوياً للنخب الحاكمة.

* كاتبة سورية

===================

سورية: النظام والمعارضة و«الضمانات» الدولية

الخميس, 07 يوليو 2011

عبدالوهاب بدرخان *

الحياة

تتصف محاولات المعارضة السورية لإعلان وجودها وإثباته والسعي إلى تنظيم صفوفها، في الداخل كما في الخارج، بالجرأة والوعي والاستعداد لتحمل المسؤولية، انطلاقاً من شعور متنامٍ بأن لحظة انخراطها في مستقبل البلد قد حانت. كان بعض السوريين في الخارج بلغ حدود اليأس بل تجاوزها ليوقن بأن مصيره تقرر وحسم، فهو مضطر لنسيان سورية ونسيان جذوره فيها والقناعة بالعيش والموت في المهجر القسري الذي غدا مع الوقت وطناً اختيارياً. لكن بعضاً آخر لم يستطع قبول هذا المصير «المصادَر» إلى حد التفكير والبحث عن أي صيغة للذهاب إلى المحافل الدولية والحصول على إقرار للسوريين ب «حق العودة» إلى سورية، ليس للمهاجرين فحسب وإنما أيضاً للمقيمين المنفيين والمقصيين في الداخل.

قد يؤخذ تعدد أطياف المعارضة كمؤشر لفوضى محتملة، لكن الشعب كان يعترف دائماً بهذا التعدد، فلا يجهله ولا يتجاهله، أما النظام فأراد دائماً تقديم حزبه الواحد على أنه بوتقة انصهار الشعب وعنوان ولائه للحكم القائم أو خضوعه للأمر الواقع الذي اهتز الآن ولم يعد أمراً ولا واقعاً. التعدد تجربة عيش وتعايش أتيحت للسوريين يوم كانوا يناضلون من أجل الاستقلال، وبرهنوا أنها يمكن أن تنجح، ثم لم تعد متاحة حين راح النظام يقولب حقائق المجتمع ومكوّناته من دون أن يتمكن من تغييرها أو من صياغتها في «علمانية» جامعة. وها هي انتفاضة الشعب تواجهه بأنه كان يعيش وحده في الوهم الذي اخترعه.

برزت على السطح معارضات معروفة كانت عمّدت نضالها بالدم والدمع والتعذيب في السجون. وبرز أيضاً شبه معارضات معروفة بأنها كانت في خدمة النظام وتريد الآن خوض غمار اكتساب شيء من الشرعية الشعبية لتتمكن من البقاء. ويبدو الجميع كأنه يسابق «الحوار الرسمي» المفترض أن ينطلق في العاشر من هذا الشهر، لكن بكثير من التحفظ الذي يجعل مرجعيته تقول إنه مجرد اجتماع «تشاوري» للتوافق على منهجية ل «الحوار»، ما ترجمته: لاستشراف الممكن والمستحيل... في «الإصلاح». ورغم أنه ليس معروفاً مَن سيحاور مَن في «الحوار الرسمي»، إلا أن المعروف مسبقاً أن تلك «المنهجية» ستصطدم بمستحيلات كثيرة، لأن الهدف بات التغيير وليس الإصلاح. فالنظام لم يأبه بالتحذيرات الدولية التي نبهته إلى أن الوقت ينفد ولن يعود في مصلحته. فكل قتيل جديد في يوم جمعة آخر كان يرفع سقف المطالبات. لذلك ذهب معارضو الخارج في انطاليا فوراً إلى استجابة دعوة المتظاهرين إلى «إسقاط النظام»، فيما لم يتردد معارضو الداخل في القول خلال اجتماعهم الأول من نوعه في دمشق أن هذا النظام «إلى زوال».

عودة إلى «المستحيلات» التي لم يعد هناك مناص من التعامل معها، وإلا فإن النظام لن يتمكن من تغيير مجرى الأحداث. فأي حوار، حتى لو بين النظام ونفسه، إذا كان يبحث عن مخارج حقيقية، لا بدّ أن يعلن بوضوح نهايتين ناجزتين: للحل الأمني ولحكم الحزب الواحد، وبدايتين فعليّتين: للانتخابات الحرّة والمفتوحة بمشاركة جميع الفئات بما فيها المعارضة الحائزة طوعاً وحكماً «حق العودة» من دون قيود ولا إزعاجات، ولرفع يد الأجهزة عن الحريات كافة تحت مظلة الشرعة العالمية لحقوق الإنسان. أما لماذا تُعتبر هذه «مستحيلات» بالنسبة إلى النظام فلأنها تعني عملياً نهايته. إذ أن كسر الاحتكار البعثي سيعني تضاؤل الحزب الحاكم إلى حزب عادي، بالأحرى إلى زواله. كما أن وجود الدبابات والقوى الأمنية في الشوارع هو ما لا يزال يديم وجوده، أما انسحابها فسيعني تظاهرات مليونية واعتصامات دائمة. ولعل الحشد الذي جمعته تظاهرة حماة في «جمعة إرحل» الأخيرة وخلفيات إقالة محافظها شكلا اختباراً موحياً لما يمكن أن تقدمه تظاهرة من دون إطلاق النار.

بعيداً عن التحليلات لمكانة الأجهزة الأمنية ودورها في صنع القرار فإن الانتفاضة استطاعت أن ترسّخ حقيقة أن الحل لن يكون أمنياً. فهذا رهان سقط. لكن النظام الذي تبلغه التقارير أن قواته لم تفقد سيطرتها لا يرى أنه يواجه مأزقاً حقيقياً يلزمه البدء بالتنازلات. هنا يلوح عنصر الضغط الخارجي وما إذا كان يتسم بأي فاعلية. ورغم أن معارضي الداخل والخارج ينظرون إلى دعم القوى الدولية على أنه إضافي ومساعد للانتفاضة، إلا أنهم يراهنون عليه بحذر ولا يعتبرونه عاملاً حاسماً. وتكاد النظرة الشعبية هذه توازي وتتساوى مع تقييم النظام نفسه لحقيقة الموقف الدولي، بالأحرى الغربي، من وجوده واستمراره. والواقع أن العقوبات الأميركية والأوروبية، رغم ما فيها من تشهير وتقريع للنظام ولرموزه، لم تخرج من إطار تفاهمات دولية سبق تثبيتها بشأن الشرق الأوسط، ومنها اعتبار هذا النظام ضمانة لاستقرار سورية وأن سلوكه حيال إسرائيل ضمان لاستقرار المنطقة وعدم عودتها إلى الحروب الإقليمية.

هذا هو المعطى الذي تستند إليه روسيا في رفضها أن يتعامل مجلس الأمن الدولي مع الأزمة السورية، بالإضافة طبعاً إلى مصالحها الخاصة قي سورية. وهو ما يفسر المخاطبة الأميركية والأوروبية للرئيس السوري كي يبادر إلى الإصلاح أو يتنحى. فالسؤال الرئيسي الذي يتكرر لدى القوى الغربية يتعلق ب «البديل» وما إذا كان سيلتزم سياسة «الاستقرار الإقليمي» نفسها، وإذ يبقى «البديل» غامضاً أو غير مضمون فإن جوهر الموقف الغربي يريد رؤية النظام السوري قادراً على الاستمرار لكنه يجب أن يمكّن القوى الدولية من مواكبته ودعم بقائه. ف «الضمانات» التي كان، وربما لا يزال، يحظى بها لم تكن تعني قبولاً أو استحساناً لتركيبته وسياساته في الداخل أو حتى للأدوار التي لعبها في دول الجوار. كان يتمتع بالسكوت وغضّ النظر عن ممارساته ضد شعبه لقاء ثباته في التزاماته الإقليمية وطالما أنه يستطيع معالجة مشاكله الداخلية من دون إحراج الضامنين الدوليين.

تأخر المجتمع الدولي في التفاعل مع الحدث السوري، ويُعزى ذلك إلى إعطاء النظام كل الوقت والفرص التي احتاجها لترتيب رد فعله على الانتفاضة الشعبية. وحين تبين أنه فوّت تلك الفرص وأهدر الوقت، مصمماً على الحل الأمني ومتوقعاً نجاحه، راح الارتباك الغربي (والإسرائيلي) يتفاقم، وشعر أطرافه بأن النظام الذي يراهن على الضمان الخارجي - للأسباب المشار إليها – بات هو نفسه يزعزع كل الضمانات، إلى حد أن أحد المراقبين الدوليين استنتج أنه إذا كانت هناك «مؤامرة» فعلاً فهي «مؤامرة على الشعب»، كيف؟ قال إن العقوبات تُفرض على النظام «ليبقى لا ليرحل، أما كيف يبقى فهذا شأنه، وعليه أن يجد السبيل إليه، لكنه حتى الآن لم ينجح».

صحيح أن «البديل» يشكل عقدة، ولا يزال المعنيون الدوليون يناقشونها على قاعدة استحالة حلّها في القريب العاجل، إلا أن كثيرين منهم شرعوا يتعاطون معها على نحو أكثر تفصيلاً بغية تجريدها من الأوهام والأساطير المتوارثة. ولعل ركيزتهم في ذلك أن المعارضة في الداخل باتت تتحدث علناً عن تغيير عميق وجذري، ما يستوجب مقاربة مسألة سقوط النظام على أنها قد تفرض نفسها على الواقع في أي وقت.

===================

صوت حماة

الخميس, 07 يوليو 2011

حسام عيتاني

الحياة

كان صوته يأتي شجياً عميقاً من لقطات الفيديو على مواقع الأنترنت. يغني أو يهتف أو يصرخ شعارات ابتكر بعضها وجمع البعض الآخر مما سبق أن أطلقه متظاهرون في حماة وحمص ودرعا وغيرها.

لم يمر صوته عبر مصافي الكورال والفوكال والسولفيج. كان صوتاً خاماً. فجاً. قوياً. كأصوات العمال في ورشات البناء أو البائعين وراء عرباتهم في أسواق الفقراء. كانت كلماته باختصارها لتعقيدات الموقف السياسي وتبسيطها المطالب إلى حدود البداهة، تأتي كدرس في الانتماء الوطني لا يحتاج سفسطة وتفسيراً: الحرية للجميع. التسلط الى زوال. الفساد الى النهاية التي يستحق. شخصيات السلطة تعرّت، بصوته المنغم في ليالي حماة ونهاراتها، فجأة من الرعب الذي كانت تلقيه صورها الضخمة على واجهات الأبنية وتماثيلها عند الساحات والمفترقات، وباتت مخلوقات مثيرة للسخرية بضعفها ونواقصها. سقطت الرموز.

مئات الآلاف هتفوا مرددين، ضاحكين، مصفقين لكلمات بدت كأنها تخرج من حناجرهم جميعاً. كأنه، هو إبراهيم قاشوش، صار- عندما يذكر التاريخ سورية وحماة- صار صوت هذا الكائن الموحد من الحمويين والسوريين والعرب المتظاهرين رفضاً للظلم والقمع والتعذيب والمعتقلات والإخفاءات القسرية. ورفضاً لأنظمة لا تفعل سوى تسويق أوهام تغلف بها إمساكها الأبدي بخناق بشر لا يطلبون غير الحرية والكرامة.

هذا الكائن الذي يجمع متظاهري سورية، وجد صوته في إبراهيم الذي لعب برموز السلطة وعرّاها وسخر منها، بكلمات تصدر من قلب الإنسان السوري العادي. من دون بهرجة. من دون تكلف لفظي. الحقيقة العارية بعبارات بسيطة.

أدرك القتلة خطورة ما فعل إبراهيم. وعلموا تمام العلم سعة الخطوة التي خطاها بتحطيمه رموز الخوف والرعب. ولا شك أنهم فهموا معنى تحول السخرية من السلطة الى كلمات تنطلق من حنجرة إبراهيم بالسهولة التي تصدر فيها أغاني الغزل أو العتابا.

البداهة والطلاقة عنصران يخيفان أي سلطة استبدادية إذا كانا ضدها. وإبراهيم قاشوش كان التجسيد الحي لبداهة تكاد تلمسها الأصابع ولطلاقة لا تنضب ولا تصمت. فكان قتله بتلك الوحشية الرد الوحيد الذي وجده الجناة ليعادلوا فيه الرعب الذي ألقاه في قلوبهم، بجعله هو ومصيره مصدر الخوف والخشية لكل من صفق ذات يوم لذلك الشاب صاحب الصوت الهادر في ساحة العاصي في حماة.

كان من «المنطقي» أن تأتي محاولة إعادة الخوف عبر قتل إبراهيم، بالتزامن مع محاولة استعادة السيطرة الأمنية وقطع الماء والكهرباء عن المدينة التي ذاقت لأسابيع قليلة طعم الحرية. فالقضاء على رمز الانتفاضة وصوتها، يعادل في الأهمية نشر فرق الموت في الشوارع، وهذا ما يعرفه كل رجال «الأمن» في العالم وما يتبادلونه من خبرات.

لكن، ومن دون التقليل من أهمية مأساة إبراهيم الشخصية والمعاناة الرهيبة التي مر بها على أيدي جلاديه وما تعاني منه حماة في هذه الأيام، يجوز الجزم أن اغتيال إبراهيم قاشوش جاء، مثله مثل كل الخطوات القمعية و «الإصلاحية» التي يتخذها الحكم في دمشق، متأخرة ومفتقرة الى التأثير. يضاف الى ذلك أن هذه الجريمة وغيرها لن تثني السوريين عن المطالب التي رددها شهيدهم إبراهيم بكلماته البسيطة: «سورية بدها حرية».

====================

ما هي أولويات الحكومة التركية الجديدة؟

ديدم اكيل*

الشرق الاوسط

7-7-2011

ذهب قرابة 43 مليون تركي، أي ما يصل إلى 87 في المائة من الناخبين، إلى صناديق الاقتراع في الثاني عشر من يونيو (حزيران) لانتخاب الحكومة الجديدة. وأدلى ناخب من بين كل اثنين بصوته لصالح حزب العدالة والتنمية الحاكم، ليبقى الحزب في سدة الحكم لولاية ثالثة بنسبة 49.9 في المائة من الأصوات – متجاوزا النسبة التي حصل عليها في انتخابات 2007 (47 في المائة) وفي انتخابات 2002 (34 في المائة). وبعودة حزب العدالة والتنمية ومعه قاعدة دعم أكبر، تعززت مصداقيته في الداخل والخارج، مما يجعل من السهل التعامل مع تحديات مثل الإصلاح الدستوري والقضية الكردية والانضمام للاتحاد الأوروبي من خلال تعهده بفتح موانئه للسفن القبرصية.

لقد أتت الانتخابات ببرلمان ممثل بصورة غيرة معتادة، على الرغم من الحاجز الانتخابي البالغ 10 في المائة اللازم للتمثيل في البرلمان. لقد حصل حزب العدالة والتنمية على 326 مقعدا في المجلس المكون من 550 مقعدا، ورفع حزب الشعب الجمهوري المعارض الرئيسي من عدد مقاعده ليصل إلى 135 مقعدا بدلا من 112 مقعدا، وذلك بعد أن حصل على 26 في المائة من الأصوات. وتمكن حزب الحركة القومية من الحصول على 53 نائبا بقاعدة دعم نسبتها 13 في المائة، على الرغم من أنه خسر عشرات المرشحين إثر نشر مقاطع فيديو لأعضاء في الحزب مع خليلاتهن. وزادت الكتلة الانتخابية المعتمدة على حزب السلام والديمقراطية المناصر للأكراد من عدد نوابها المستقلين ليصل إلى 36 نائبا بدلا من 21 نائبا، وذلك بعد حصوله على نسبة 6.5 في المائة من الأصوات.

وقد كان الأداء الاقتصادي المذهل لتركيا القوة الرئيسية وراء زيادة شعبية حزب العدالة والتنمية، ومن الواضح أنه غطى على المخاوف إزاء عدم تسامح رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان مع انتقادات وغطى على أسلوبه الهجومي. لقد ارتفع الاقتصاد بنسبة 6 في المائة في المتوسط في الفترة بين 2002 و2008، وبعد أن تراجع عام 2009 بسبب الأزمة العالمية عاد ليرتفع بنسبة قرابة 9 في المائة عام 2010، ليتجاوز بذلك معدلات الانتعاش العالمية وداخل الاتحاد الأوروبي. وارتفع الناتج المحلي الإجمالي التركي ومعدل الدخل بالنسبة للفرد بمقدار ثلاثة أضعاف خلال تسعة أعوام، ليصل الناتج المحلي الإجمالي إلى 736 مليار دولار ومعدل الدخل بالنسبة للفرد إلى 10.000 دولار. وفي المقابل، تراجعت معدلات التضخم من 30 في المائة إلى أعلى من 6 في المائة بنسبة قليلة.

ولعبت عملية الانضمام للاتحاد الأوروبي والإصلاحات ذات الصلة دورا مهما في قصة النجاح هذه. وارتفعت معدلات الاستثمار الأجنبية المباشرة بمقدار 20 ضعفا في الفترة من 2002 حتى 2007، لتصل إلى أعلى معدل لها بقيمة 22 مليار دولار. وتراجع هذا الرقم منذ ذلك الحين، ليصل إلى 9 مليارات دولار عام 2010، ورجع ذلك بصورة جزئية إلى الركود العالمي وبسبب الجمود في عملية الإصلاحات داخل تركيا المتعلقة بعملية الانضمام للاتحاد الأوروبي منذ 2005. وأثناء سعيه للتحرك قدما، سيكون على حزب العدالة والتنمية تجاوز العديد من العقبات في الطريق، حيث ظلت معدلات البطالة أعلى من 11 في المائة منذ أن جاء حزب العدالة والتنمية لسدة الحكم، وتفاقم العجز الحالي في الحساب الجاري - الذي بلغ أكثر من 6 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي عام 2010، بصورة ملحوظة خلال الأشهر الأولى من 2011. كما أن العلاقات الاقتصادية القوية لتركيا مع أوروبا جعلتها عرضة للتقلبات الاقتصادية والتراجع في السوق داخل منطقة اليورو.

من بين التحديات الأخرى التي تظهر أمام الحكومة الجديدة - إلى جانب مجموعة من القضايا المرتبطة بالسياسات الداخلية والخارجية والتي أرجئت قبل الانتخابات وتنتظر حلا حاليا – يأتي الدستور الجديد والإصلاحات الكردية والعلاقات مع الاتحاد الأوروبي والجمود في محادثات إعادة توحيد قبرص. وبعيدا عن هذه القضايا، هناك أكثر من عشرة آلاف لاجئ نزحوا هربا من إجراءات قمعية تقوم بها الحكومة داخل سوريا وعبروا بالفعل إلى جنوب شرقي تركيا، مع استمرار الاضطرابات داخل منطقة الشرق الأوسط لتختبر حدود سياسة تركيا الخارجية القائمة على «عدم وجود مشاكل مع الجيران».

ولم يتضح بعد أي من القضايا ستضعها حكومة أردوغان الجديدة على قائمة أولوياتها. وعلى الصعيد الداخلي، فإن النتائج البرلمانية تؤكد أن حزب العدالة والتنمية في حاجة لاتفاق مع المعارضة. وعلى الرغم من أنه حصل على حصة أكبر من الأصوات في الانتخابات، فإن التعديلات الأخيرة في أعداد النواب ببعض المحافظات المعتمدة على عدد السكان تعني بالفعل أن حزب العدالة والتنمية خسر مقاعد في البرلمان. لقد كان الوعد الرئيسي لحزب العدالة والتنمية في الانتخابات هو دستور جديد. ولكن ب326 نائبا، فإنه ليس مع الحزب الأغلبية اللازمة لصياغة الدستور بمفرده أو طرحه للاستفتاء. وفي هذه الظروف لا يحتمل أن يضغط أردوغان لتحقيق هدفه الواضح باستخدام الدستور الجديد للوصول إلى نظام رئاسي على النمط الفرنسي، وهي قضية خلافية بالنسبة للأتراك.

وسيحتاج أردوغان إلى دعم المعارضة لإجراء التعديلات التشريعية والدستورية اللازمة لنزع فتيل القضية الكردية. وقد كانت مبادرة حزب العدالة والتنمية بصدد القضية الكردية عام 2009، والتي أطلق عليها أيضا «بداية ديمقراطية»، خطوة مشجعة، ولكنها تعثرت ولم تحقق نتائج ملموسة حتى الآن. ويجب على حزب العدالة والتنمية العمل حاليا مع القوميين الأكراد المنتخبين داخل البرلمان لإحياء هذه المبادرة، التي فتحت الباب أمام وسائل سلمية لمعالجة المطالب الكردية، بما في ذلك الحق في التعليم بلغتين وتعزيز الحكومة المحلية وتغيير في القوانين لمنع تعرض الأكراد للاضطهاد بسبب تعبيرهم عن الرأي وتقليل الحاجز الانتخابي البالغ 10 في المائة وإزالة لغة تميزية عرقية من الدستور والقوانين.

لقد نتج عن سعي الحزب لإبعاد حزب الحركة القومية عن البرلمان من خلال استخدام لهجة قومية خلال الحملة الانتخابية خسارة الأصوات الكردية، كما ساعد المرشحين الأكراد المستقلين. ولكن الأجندة القومية الكردية أثبتت نفسها كجزء من الساحة السياسية العامة، ومن المحتمل أن تبعث نتائج الانتخابات إشارة إلى الناخبين القوميين الأكراد بأن الساحة السياسية، وليس الصراع المسلح، يمكن أن تعالج وتحل مشاكلهم. ولكن واجه ذلك الأمر تهديدا بسبب قرار المجلس الأعلى للانتخابات في الحادي والعشرين من يونيو (حزيران) بحرمان نائب كردي من مقعده بالبرلمان بسبب إدانته في السابق بوجود علاقة له مع تنظيم محظور. وقرر جميع نواب حزب السلام والديمقراطية مقاطعة البرلمان في 23 يونيو (حزيران) حتى حل القضية

هذه الأزمة البرلمانية المفاجئة تهدد بدفع تركيا إلى ظروف مجهولة. ولكن ما تحتاج إليه الدولة حاليا هو اتفاق على المضي قدما في الكثير من المهام المطروحة. وبعد حملة انتخابية هجومية، لطف أردوغان من خطابه في كلمة حكيمة ليلة الانتخابات، وأشار إلى أنه سيتبع منحى تصالحيا شاملا. وفي السادس عشر من يونيو (حزيران) قام أردوغان بسحب كافة القضايا التي رفعها ضد صحافيين وكتاب وسياسيين وجهوا إليه إهانات.

وعلى صعيد السياسة الخارجية، يجب أن يستفيد حزب العدالة والتنمية من رأسماله السياسي ليتخذ قرارات أكثر جرأة، ولا سيما فيما يتعلق بعملية الانضمام للاتحاد الأوروبي والتي وصلت إلى طريق مسدود. ولم يكن الانضمام للاتحاد الأوروبي في مقدمة الأجندة الانتخابية لأي طرف. والآن الحديث المبهم عقب الانتخابات عن إحياء المفاوضات الخاصة بالاتحاد الأوروبي يحتاج لدعم من خلال التزامات أوسع وأكثر عمقا، وليس إجراء بيروقراطيا بتحويل شؤون الاتحاد الأوروبي - التي كان ينسقها حتى وقت قريب وزير دولة - إلى وزارة جديدة مختصة بشؤون الاتحاد الأوروبي.

وثمة طريق واحد للقيام بذلك بصورة عاجلة وهو تنفيذ «البروتوكول الإضافي»، أي تنفيذ التزام الاتحاد الجمركي الذي يعود لعام 2005 بفتح الموانئ والمطارات أمام سفن قبرص اليونانية. وسيساعد ذلك على فتح ثمانية فصول تفاوض تركية خاصة بالاتحاد الأوروبي وبعث الحياة في عملية الاتحاد الأوروبي التي دخلت في غيبوبة. كما سيمثل ذلك خطوة مهمة في تطبيع العلاقات مع القبارصة اليونانيين. صحيح أن دول الاتحاد الأوروبي يجب أن تبذل المزيد لتشجيع تركيا، ولكن عدم قيامهم بمهمتهم يجب ألا يوقف تركيا عن اتخاذ إجراءات لإزالة عوائق في طريقها.

* محللة في مجموعة الأزمات الدولية

------------------------

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها

 

 

أعلى الصفحةالسابق

 

الرئيسة

اطبع الصفحة

اتصل بنا

ابحث في الموقع

أضف موقعنا لمفضلتك

ـ

ـ

من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ