ـ

ـ

ـ

مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وقولوا للناس حسنا

اتصل بنا

اطبع الصفحة

أضف موقعنا لمفضلتك ابحث في الموقع الرئيسة المدير المسؤول : زهير سالم

الخميس 07/07/2011


أرسل بريدك الإلكتروني ليصل إليك جديدنا

 

واحة اللقاء

 

التعريف

أرشيف الموقع حتى 31 - 05 - 2004

ابحث في الموقع

أرسل مشاركة

قتل أطفال الثورات العربية وتشويه جثثهم.. حمزة الخطيب نموذجا

حمّودان عبدالواحد*

العرب اون لاين

6-7-2011

تناقلت مؤخرًا مواقع على الإنترنت خبرًا مفاده أنّ الشيخ العرعور دعا أتباعَه في سورية إلى أن يرفعوا من وتيرة القتل والاغتصاب ويركزوا على قتل الأطفال وتشويه جثثهم ثم رميهم في أمكنة يسهل فيها إيجادُهم لنقلهم إلى المستشفيات من أجل كسب المزيد من التحريض ضد النظام. ويُختمُ هذا الخبرُ- حسب الرسالة التي نُسبَت إلى العرعور- بكلام يبرّر فيه دعوته المزعومة هاته: "فأنا أريد أن أشفي غليلي من هذا"الوحش "بما أنني لم أستطع أن أشفي غليلي من "والده ".

وبغض النظر عن صحة هذا الخبر أو كذبه، ومن هو مُحرّر نص الرسالة التي كان الغرض منها بكل وضوح هو الترويج لمحتواها، فإنّ الموضوع الذي سنسلط الضوءَ عليه في هذه السطور ينبع من فكرة "التركيز على الأطفال وتشويه جثثهم"، ومحاولة ربطها بالانتقام من والد بشار الأسد الرئيس الحالي لجمهورية سورية.

لماذا التركيز على قتل الأطفال وتشويه جثثهم؟ ما محل كلمة "الوالد"في الوعي السياسي واللغة الإيديولوجية للنظام الحاكم في سوريا؟ سننطلق، للكشف عن المستور والمخبوء في كلّ هذا، من مثال الطفل الشهيد حمزة الخطيب

اللافت للإنتباه في حدث قتل هذا الطفل، أنّ السلطات، على عكس عادتها، قد ردّت جثمانه إلى أهله. ما هي الرسالة التي أرادت أن توصلها من خلال هذا التصرف؟ ولمن بالضبط أرادت أن توجّهها، ألأهل الجيزة فقط أم لكل الشعب السوري؟ أللكبار أي الأمهات والأباء أم للأطفال خصوصا، ومن شابَهَهُم من مراهقين وشباب؟

صحيح أنّ المعنى المباشر الذي يفرض نفسه هنا هو أنّ السلطات أرادت أن تمرّر، عن طريق تعذيب حمزة وبتر عضوه التناسلي وتشويه جثته وقتله رميا بالرصاص، رسالة إرهابية مرعبة لكل من سوّلت له نفسه- من الكبار والصغار على السواء- تحدّي النظام كما فعل الطفل القتيل، لكن يحسن بكلّ من يبحث عن إجابات غير مباشرة للأسئلة أعلاه، أن يبدأ بوقفة مع حمزة- شأنه شأن ما يقرب مائة طفل سقطوا شهداء في سوريا- في دلالته كطفل من جانب، وفي علاقة طفولته بالثورة والشعب من جانب آخر.

بمعنى آخر، لن يتسنى للباحث التعمق في مدلولات الثورة والشعب ما لم يطل التأمل والنظرفي ظاهرة الطفولة. لماذا؟ لأنّ الطفل- على حد تعبير جول ميشلي Jules Michelet في وقوفه على الثورة الفرنسية- هو المفسِّر للشعب، بل هو الشعب نفسه في حقيقته الأصليّة الأولى أي الطاهرة النقيّة، قبل أن يطرأ عليه تغيّر وتحوّل، وفيه تتجلى كل مظاهر الشعب الطبيعية.

إنّ كلّ ما يصدر عن الطفل من مطالب وكلمات وسلوكات تعبّر عن نفسها في عفوية، تجسيدٌ لأحلام الشعب وتطلعاته قبل أن يشل إرادته شعورُ الخوف أو يسيطر على فكره صنم الإيديولوجيا فيقع في فخ غسل الدماغ الجماعي. الطفل هو الذي "يُظهرُ للجميع كيف أنّ الشعب مضطرّ دون انقطاع للبحث عن لغته والحصول عليها، وهما في الغالب يجدان ما يبحثان عنه عن طريق طاقة عجيبة مشحونة بالسعادة".

تأمل مثلا ما يشهد به الشاعرُ الليبي عبد السلام العجيلي حين يقول: "ثورة 17 فبراير لم تقم بها النخبة السياسية أو العسكرية، ولكن قام بها الصغار وتورط فيها الكبار، الشباب كسروا حاجز الخوف، "..."، لأول مرة يسألني أطفالي عن معنى الوطن وليبيا، وقد أخرجوا الأطلس من تحت غبار المكتبة لمعرفة خريطة بلادهم: الزنتان ومصراتة والبريقة واجدابيا وجبل نفوسة وككلة. وامتد اطلاعهم على مواقع مدن تعز وصنعاء في اليمن". وهذا البحث عن الوطن الحقيقي أي الليبي والعربي في نسخته الشعبية لا الرسمية، وهذه الأسئلة التي يطرحها الصغارُ على الشاعر حول مفهوم الهوية هي التي مَكّنتْ هذا الأخير من الوصول إلى ما كان عاجزاً عن تحقيقه من قبل: "بدأت أخيرًا في العثور على نفسي وفهم ذاتي، أعيش حالة ممزوجة بالفرح الكبير الناقص ما دامت لدينا مدن ما زالت تحت حكم القذافي".

ولعله من المفيد، ونحن بصدد الحديث عن الأطفال كصناع للثورة، أن نُذكّر القارئ بقصة لتامر زكريا، الكاتب السوري ذو اللغة الإيحائية والأسلوب الرمزي، عنوانها "الصغار يضحكون"، حتى يقفَ بنفسه على بعض بواذر الثورة، والكيفية التي تبدأ بها، وسرّ قوتها وعلاقتها الوثيقة بالأطفال. هذه القصة يُمْكن تلخيصها على النوع التالي: رأى ملكٌ ذات يوم أطفالا يلعبون وهم يضحكون، فسألهم لماذا يضحكون، فأجابوه- واحد تلو الآخر- لأنّ السماء زرقاء، والاشجار خضراء، والطيور تطير... ولمّا نظر الملكُ إلى السماء والأشجار والطيور وجدها لا تضحك فظنّ أنّ الأولاد كانوا يضحكون عليه... رجع الملك إلى قصره وأعلن قرارا يمنع الشعبَ من الضحك، فأطاع الناسُ الكبار، أمّا الصغار فلم يهتمّوا بأمر الملك، وظلوا يضحكون لأن السماء زرقاء والأشجار خضراء والطيور تطير...

رفض الصغارُ في عفوية وتلقائية ودون هدف سياسي أو قصد إيديولوجي إلا أن يَتحَدّوا الملكَ لا لأنه لا يعجبهم أو لأنهم أرادوا أن يضحكوا عليه... لا، لا، أبدا... بل لأنّ خيالهم الخصبَ الواسعَ يحلمُ باستمرار بزرقة صافية تسكن سماءَهم اللامتناهية، ويرون بعيونهم الطبيعية كل الأشجار خضراء، ولا يخطر على بالهم أبدا أن توجد طيور لا تطير... بل إنّهم يمزجون بين أنفسهم والشعور بالفرح، وبين خضرة الطبيعة وزرقة السماء وتحليق الطيور... نحن أمام استعارة تتكلم من خلالها الحرّيّة، والضحكُ الطبيعي والعفوي وجه ٌ من وجوهها المرفرفة، جناحٌ من أجنحتها البيضاء، والأطفال في كرْكرَتِهم الطليقة قلبٌ في حالة انفتاح ورديّ، وصدرٌ في أجمل انشراح نفسي، كالماء ينساب دون تعثر أو وقوف أمام عائق ما، عذبا صافيا لا تقدر على إفساده أو تكديره قوّة ما... أو كالريح في هبوبها التي لا يعرف أحدٌ متى ستقف وكيف ستنتهي !

وهذه العلاقة القائمة بين الاشياء الموجودة في العالم الخارجي وبين الأطفال هي علاقة ليست مادية ولا منطقية أو موضوعية، إنّما هي نفسية وتنبع من واقع الخيال... وكل شيء يصبح ممكنا بموجب هذا الجنس من العلاقة بين الذات والعالم الخارجي ! وهذا ما لم يفهمه الملك لأن العلاقة بينه وبين الاشياء وغير الأشياء بعيدة عن منطق القرب والإصغاء والانفتاح على الحياة لاستنشاق نبضها واستشفاف إرادتها.

وهذه الإرادة الطبيعية، إرادة الحرية والحياة الموجودة في الإنسان والنبات والطير والحيوان وسائر المخلوقات والكائنات هي التي عابها النظامُ السوري على حمزة ولم يغفرها له. لم يكن حمزة إرهابيا ولا معارضا سياسيا ولا محاربا للنظام يحمل السلاح، إنّما كان طفلا لم يتجاوز الثالثة عشرة من العمر وقام بشيء بسيط للغاية هو ذهابه إلى درعا لنقل الطعام إلى أهلها المحاصرين، وقد أوقِفَ حسب شهود من أهل الجيزة عند حاجز الأمن حيث بدأت مأساته المهولة. الحق أنّ الأبعاد الرمزية التي تحيط بحالة هذا الطفل القتيل ناتجة عن علاقات موجودة في عمق الوعي الباطني بين عدة عناصر تتفاعل وتتحرك في إبهام وغموض في نفسية المجرمين الذين قتلوه.

الذي يسترعي النظرَ في حدث قتل هذا الطفل، أنّ القاتل "جمع بصيغة المفرد" والمقتول لهما أسماء متقاربة من جهة الدلالة، إذ أنّ معنى اسم حمزة في اللغة العربية هو الأسد، مع إضافة "الشدة" كوصف رئيسي من أوصافه الكثيرة. هل هذا التقارب أو التناسب في عناصر دلالة التسمية هو مجرد صدفة أم أنّ هناك علاقة سرّيّة ذات بعد رمزي يمكنها تفسير هذا الشبه؟ هل أراد الحاكم الشاب "بشار" مباشرة أو غير مباشرة عن طريق أخيه "ماهر" وزبانيّتهما من حبيشة وغيرهم أن "يبشر بمهارة "ناذرة محيطه العشائري وشعبَه المعبّد في آن واحد بموت "الأسد" الصغير الناقص التجربة- بالمقارنة مع "الأسد الوالد"- فقام للتدليل على ذلك بقتل حمزة الخطيب أي الطفل الشبل الذي تمرّد- خارج السياسة لانه كطفل لا يعرفها- على الأسد فكان لتمرّده هذا زمجرة أدخلت الرعب على قلوب الأسود الكبار؟ هل من الممكن القول بأنّ نظام الأسد أراد من خلال قتل حمزة أن يعلن ميلاد "زمن الأسد الكبير" الذي أصبح يتجاوز كما يفعل كبار الزعماء في العالم كل ما يُسمّونه "الأخلاقيات الصغيرة"؟

وفي هذا السياق بالضبط، سياق مدلول كلمة الأسد "مفرد يحيل على جمع" يتدخل بعدٌ رمزيٌ آخر فحواه أنّ النظام لا يقبل بأن يكون في الشعب من يشارك رئيسَ الهرم السلطوي في اسمه أو وصف من أوصاف الأسد... الشعب لا بد أن يخضع لمنطق الغنيمة والقطيع، الشعب عليه أن يستسلم كما ترضخ الفريسة لمخالب الأسد... لهذا لا يُسمح لأي كان- حتى ولو كان الأمر يتعلق بالمعاني اللغوية "حمزة"- أن يكون الظل أو الند أو القرينَ للاسد، ملك الغابة وحاكم الحيوانات...

لا تحسبنّ أيها القارئ أنّ هذا النوع من التفسير فيه مبالغة أو مجازفة، إنّما هو اجتهاد يدخل في باب استكشاف المعاني، وخصوصا البعيدة منها أي التي لا تسلم عناصرَها ولا اشتغالها بسرعة وسهولة، وعلى الدارس أن يتحلى بالصبر وعمق النظر حتى يستخرجَها من الأفعال أو الأقوال وأنواع الخطابات الأخرى كما يُستخرَجُ الكنز الثمين من بطن الأرض أو عمق البحر... المهم في مسألة المعاني ما خفي منها لأنّ مستوى اشتغالها يوجدُ في البنية التحتية للغة التي يجب، من أجل الوقوف عليها، الغوصُ في أعماق الوعي التاريخي والانطروبولوجي للأفراد والمجتمعات على السواء.

من هنا أهمية الإلتفات إلى عنصر آخر من عناصر الدلالة الرمزية يدعو بحق إلى الفضول: حمزة هو اسم صحابي جليل، مشهور جدا ويعرفه الكبير والصغير، هو حمزة بن عبد المطلب، وكان عمّا لرسول الله محمّد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام، وعلامته من بين الصحابة الآخرين أنه "سيد شهداء الإسلام". وحمزة هذا تذكره كتبُ تراجم الصحابة وسيرهم مقرونا بخاصيات الشدة والقوة، والشجاعة والشدة، وكانت هوايته- ويا لها من صدفة!- "صيد الأسود" في البراري والصحاري.

والغريب في الأمر، أنّ قتل حمزة الصغير وحمزة الكبير تمّ بشكل فيه تشابه يدعو للدهشة: كلاهما تعرض وهو جثمان هامد للتمثيل الهمجي والطعن الوحشي. فمثلما أنّ حمزة الصحابي الكبير قد فتحت هند بنت أبي سفيان صدرَه وأخرجت كبدَه فعضتها ونهشتها تعبيرا منها عن نار الحقد والانتقام التي كانت تلتهب في نفسها، فكذلك عومل حمزة السوري الصغير فقد أفرغَ فيه السفاحون المجرمون كلّ ما يطبع ثقافة المتخلفين من جُبن وغباء وجهل وعمى وتجبّر وحيوانيّة...، فعَذبوه وقطعوا عضوَه التناسلي ورموه بالرصاص ومثلوا به شرّ تمثيل !

بالإضافة إلى هذا، لا نبالغ إذا أرجعنا قتل حمزة وأمثاله من الأطفال والمراهقين العرب الذين شاركوا في المظاهرات...، إلى عامل بعيد يكمن في التاريخ العربي الإسلامي الذي لا ريب أنّه حاضر، من خلال الحركات الثورية والانتفاضات الشعبية، بشكل دائم في وعي السلطات العربية اليوم. كيف ذلك؟ يخبرنا هذا التاريخ بأنّ "القطيعة بين السلطة والشباب كانت أقوى منها في الغالب بين السلطة وجيل الكهول والشيوخ". وكانت هذه القطيعة تؤدّي عموما إلى قيام ثورات يكون وراءها شباب كما كان الحال مثلا مع ثورة "الفتوة" التي كانت سلمية. وهذه الانتفاضات حاضرة في عمق الوجدان الشعبي العربي، وفيما يخص الشام بالضبط، تبقى حركات "الأحداث"- التي سمّاها المؤرخون هكذا نسبة إلى الشباب وحضور المراهقين وأحيانا الصغار فيها- مهيمنة بشكل مخيف على الوعي السياسي للسلطات العربية كتهديد محتمل الوقوع لكيانها ولا يمكن استبعاد خطره الافتراضي من الحسابات السياسية الحالية... ولا يمكن تفسير درجة القمع والعنف الوحشييْن الذيْن عاملت بهما قوات الأمن والجيش المتظاهرين الشباب السلميّين إلا من زاويةٍ استراتيجيةٍ تحاول وأدَ انتفاضة الشعب ومنع وصولها إلى مرحلة الثورة .

من جهة أخرى، يمكن تفسير بتر العضو التناسلي للشهيد حمزة بعوامل نفسانيّة تتحرّك بشكل صامت وخفي لكن فتاك في لاوعي السلطات المجرمة. نعتقد هنا بالعلاقة اللاشعورية الموجودة بين العضو التناسلي للذكر وما يرمز إليه أي مبدأ الأب وشبحه القوي الدائم الحضور عند الأبناء. والحالة هذه، لا نستبعد أن يكون أبناءُ النظام "بشار وماهر وآخرون وهم كثيرون" قد قاموا بقتل الأب "حافظ" في وعيهم الباطني ليتخلصوا من هيمنة صورته التي تلعب دورَ المراقب الثقيل، وسيطرة صوته أو أصداء أوامره ونواهيه التي تُذكّر بسلطانه وسلطويته.

إنّه لمن المحتمَل جدا، أن نكون هنا أمام تعبير مثالي عن الشعور بمسؤولية الإبن اتجاه الأب وفي نفس الوقت بالثورة عليه. قام نظام الأسد منذ جلوس بشار على كرسي الرئاسة باحترام وصية الأب، لكنّه دخل منذ انفجار غضب السوريّين- بعد أربعة عقود من استبداد الحزب الواحد- مرحلة تطبيقها بطريقة هستيرية جعلته يتجاوزها ويعلن أمام الجميع أنه ليس فقط المنفذ للوصية بل أكثر من ذلك أنه الثائر عليها بالزيادة عليها وكذلك بإحلال وصايا أخرى تعوضها وتحل محلها. هنا تظهر الحالة النفسية المبهمة من خلال ازدواجية الشعور اتجاه الأب: عن طريق نفس الفعل "بتر العضو التناسلي لحمزة"، يهدي الإبن لوالده أكبر دليل على حبّه له أو لأبوّته..، وفي نفس الوقت يحقق رغباتِه اتجاهه أي يصبح هو نفسُه أبًا في دائرة السلطة أو ينصب نفسه أبا في مكان والده.

علاوة على هذا، يمكن القول إنّ "ذكر" حمزة يُمَثل في "ذاكرة" السلطات الخائفة من شبح الثورة "تذكارا"- كما التمثال- لكل ما من شأنه أن يكون واقفا منتصبا، رافع الرأس أي ذا حياة وإرادة في التعبير عن نفسه والنظر إلى الأفق و السعي إلى المطلق مثلما هي أصوات الثائرين المرتفعة ولافتات المطالب والرايات التي تعلو رؤوس المتظاهرين وأقلام المثقفين المناضلة وهي تكتب... وكأنّ الذين نفذوا عملية بتر العضو التناسلي لحمزة يقولون للفتى الذي تصرف كما يتصرف الرجال الحقيقيّون: "أنت لست رجلا، وإذا كنت تحسب نفسك كذلك لأنّك تملك ذكرًا فها نحن نقطعه لك عِقابا لتحدّيك لنا، نحن الرجال...".

هكذا، أراد الزبانية أن ينفوا من دائرة الثورة عنصر "الطفولة "لأنها عندهم ليست "رجولة "، لكنّهم– وهنا تظهر الهشاشة الكبرى لتصوراتهم للأشياء وانحرافهم الخطير عن المعاني الانسانية– بالتركيز على جزءية جنسية بالمعنى الضيق للكلمة من جسد الطفل، خلطوا بين "الذكورة " و"الرجولة".

ولسنا نتعجب من هذا الخلط- والمجرمون يستعملون عادة في أزمنة الحروب مثلا اغتصاب النساء كسلاح لمحاربة الأعداء، والسوريون منهم هم الذين وجّهوا هنا تهمة سخيفة وعبثية لحمزة تقول بأنّه حاول اغتصاب نساء جنود النظام!-، لأنّ احتمال وجودِه يأخذ أوجُهَه الغامضة في اللاشعور الجماعي للعرب كلما اقتربنا من دوائر السلطة المختلفة حيث تُسَيّرُ شؤونُ الرعية والمواطنين انطلاقا من مركز اسمه "الأبوّة" التي سرعان ما تتحول إلى "أبويّة "Paternalisme تحت تأثير السلطوية والاستبداد Despotisme .

والحق أنّ محاولة حصر مفهوم "الرجولة" في خاصية "الذكورة" البيولوجية، تتنافى مع محتوى "الرجولة" الرائج في الثقافة العربية وكما تفهمه الشعوبُ المنتمية إليها، إذ هي مجموعة من القيم الشخصية والاجتماعية والانسانية كالشهامة والإباء والعفة والكرم والشجاعة والأمانة والوفاء بالعهود والذوذ عن المظلوم ومحاربة الظالم، وقول الحق... إلخ.

يمكن القول إذن أن قتل الطفل السوري حمزة بالطريقة الشنيعة والوحشيّة التي تعرض لها تعكس على الأقل شيئين عميقين:

- أولا، هي في آن واحد، محاولة من الأسد، كعشيرة ونظام، للتخلص من قرينه الذي يماثله في خاصية شبه، لكن أيضاً رغبة باطنية غير مباشرة للفرار أمام ضغوط النفس والتحرّر منها ولو بقتلها... وكأن نظام الأسد يطلب بوضعه حَدّا لحياة حمزة- أي الأسد الطفل أي الأسد المواطن أي الأسد الشعب أي الأسد السوري- النجدة... هكذا نكون أمام نداء إغاثة ينبأ بنهاية وشيكة وحتمية لطالب النجدة...

- ثانيا، تحيل الطريقة التي تم بها وضع حد لحياة حمزة "الشعب السوري الفتي الشجاع القوي المتدفق المندفع كما هو نداء الحياة في نموها الطبيعي..." على مدى استفحال عقدة الكراهية المزدوجة التي يشعر بها الأسد- كنظام قمعي جبان- اتجاه ضعف شخصيته وعجزنفسه، وجمود فكره وفقر خياله، وفي نفس الوقت اتجاه القيم التي يملكها الآخرُ وتدفعه إلى المطالبة بحقوقه، وهي قيم الشهامة والجرأة والإقدام التي توجد في حمزة...

نعم، ما من شكّ في أنّ هذا الشهيد هو رمز سوريا الفتية التي لا تنطفأ شعلة طفولتها وشبابها، الناظرة نحو الأفق، الواثقة بالمستقبل، الحالمة بغد تسطع فيه شموس الحرية.. سوريا المتطلعة إلى ما وراء الحدود والحواجز، والسدود والقضبان... نعم، حمزة هو سوريا التي قررت بإرادة الحياة أي إرادة الرب الخالق واهب الحرية والكرامة للإنسان...، أن تتكلم، أن ترفع صوتها، أن تعرّي عن صدورها، أن تتحدى نيران زبانية السلطات، أن تتنفس الصعداء بعد أزمنة الإهانة والاستبداد والاستعباد...

وإني- صدّقوني- لأسمع من بعيد روح حمزة، أمير الأشبال الشهداء، وهي "تخطب "في الشعب السوري والشعوب العربية على السواء، تدوّي في زمجرة رعدية تنبثق شرارات من عمق بركان ساكن في ذاكرة الشعوب العربية الغاضبة، الكريمة الحرّة الأبيّة.. تُحَذرالأسد :

لا تحْقِرَنّ صغيرًا في معاملة

قد تُدْمي البعوضةُ مُقلة الأسدِ

أما وأنك ذهبتَ بعيدًا في إهانتك للطفل حمزة، رمز الشعب العظيم، فأبشر يانظام بشار.. أبشر بنهاية الأسد... ذاك الحيوان المتسلط الظالم، الفتّاك المفترس، الراقد في رعين "الحزب الواحد" و"العشيرة" وأدغال "الشبيحة"!

ولنتأمّل، في النهاية، الخطابَ الثالث الذي ألقاه بشار الأسد يوم الاثنين 20 .06 .2011 بجامعة دمشق لنتأكد من أنّ حمزة كان حاضرا بكل ثقله في لغة الخطاب والمكان الذي ألقيت فيه وردود الأفعال الرافضة له.

- أولا، وَصَفَ الأسد- بعد تصنيفه المتظاهرين إلى ثلاثة أنواع "أصحاب مطالب" و"المخربين" و"أصحاب فكر متطرف"، وما تتعرّض له بلاده بمؤامرة– المتآمرين ب"الجراثيم التي تتكاثر في كل مكان...". وهي كائنات صغيرة الحجم لكن مفعولها فتاك وخطير على الصحة... وهو ما عيبَ على حمزة الصغير!

- ثانيا، ألقى الأسد خطابَه في جامعة دمشق، لكن أمام شخصيات من الناس الكبار والكهول والشيوخ، أما الطلبة أي الشباب مستقبل سوريا فكانوا غائبين.

- ثالثا، مِن بين ردود الأفعال السلبية اتجاه الخطاب، جاء تصريحٌ صحافي ذكي، يعبّر عن وعي ونضج كبيريْن في تقييم المحتوى السياسي للخطاب: "خطاب الأسد الثالث تعبير عن أزمة يعاني منها النظام، وأهمها أزمة فهم الواقع، وإدراك مطلب الشعب في الحرية". هذا التصريح صدر عن "ائتلاف شباب الثورة السورية الحرة"، وهو تنظيم سياسي ظهر منذ أيام قليلة... والكلمة المركزية فيه التي تذكّر بحمزة الخطيب، رمز الأطفال والفتيان السوريّين الشهداء، ويمكن اعتبارُها استمرارا لروحه الثائرة... هي "شباب"!

هذه الكلمة هي نفسها التي نجدها في "شباب ثورة تونس" و"شباب ثورة مصر"، وتحيل- كما تشهد بذلك الوقائع في هذين البلدين- إلى نوع وعمق وقوة الخيال والخصوبة والحيوية والعقيدة والإرادة التي صنعت الثورة. وهي كلمة ترتعد لسماعها قلوبُ الصناديد وأفئدة الطغاة، وتسقط أمامها الأصنام!.

=================

مجازر سوريا.. مَن يجرؤ على الصمت ؟!

محمد أبو رمان

الاسلام اليوم 5/7/2011

أشعر بالغضب الشديد، المرارة والاكتئاب، كيف يمكن أن نهنأَ بحياتنا مع أبنائنا وأهلنا، ونمارس أعمالنا باعتياد، ونحن نشاهد يوميًّا جرائم بشعة ضدّ الأشقاء السوريين، تضرب نموذجًا في القبح والبشاعة، وتتجاوز الاحتلال الإسرائيلي الذي يسيطر على الأرض، بينما هؤلاء الحكام يتحكَّمون في الأرض والعرض والإنسان!

لم تزدني زيارتي إلى "بيت الشهيد" السوري في عمان، رياض الشايب، إلا ألمًا! فهذا الشاب ابن الثمانية والعشرين عامًا، كانت جريمته وجريرة أهله أنَّه شارك في مسيرة يوم الجمعة، فجاءه زبانية الليل، لكن هذه المرَّة بمهمَّة أخرى غير الاعتقال، إنّها القتل العنيف، مع ساعات الفجر الأولى، فقُتل على سريره برصاصات عدة، وأمام ناظرَيْ والديه العجوزين، وأشقائه الذين تَمَّ اصطحابهم مع زوج شقيقته إلى "معسكرات الاعتقال"، ولا يعلم إلاّ الله، ومن معهم وأحضرهم، ومن خبر هذا الإجرام، ما يذوقونه اليوم من ويلات العذاب والتنكيل مع آلاف المعتقلين الآخرين!

اليوم ندفع ثمنًا باهظًا لنيل حقِّنا في الحرية الآدميَّة، لكنَّنا لا نملك إلا أن ندفعه، نحن الشعوب العربيَّة، وإلا فلا أمل لنا بأي مستقبل يجعلنا نعود إلى مرتبة "البشر" ونخرج من هذه "المزارع"، التي تتعامل مع بني "الإنسان" وكأنهم "جرذان" أو "جراثيم"، وقد أتقن كلا الزعيمين (الليبي والسوري) التعبير عن رؤيتهما الدقيقة لشعوبهما.

تحرُّرُنا من الخوف والرعب الذي سكن قلوبنا قرونًا طويلة هو المدخل لعصر الحرية، وهو الشرط الرئيس لآدميتنا وإنسانيتنا، بغير ذلك فإننا لا نحكم على أنفسنا، بل على مستقبلنا وأبنائنا بحياة أكثر سوادًا وأشدَّ سوءًا مما وصلنا إليه!

هذه اللحظة التاريخيَّة الفريدة بمثابة الفرصة الاستثنائية للانعتاق من هذا الواقع، هي لحظة نثور فيها أولًا على ثقافتنا، التي سوَّغت لنا قبول الظلم والطغيان والذلَّة والإذلال والحياة المُهينة، فقط لأنّنا امتلأنا بالأوهام عن هؤلاء الحكام، وتلك الأنظمة، وما هي إلا نسيج خوفنا وثقافتنا، وصنيع علماء ومثقفي السوء الذين جبروا دنياهم بكسر آخرتهم، وأرضوا شهواتهم ببيع ضمائرهم.

ليس مهمًّا إن كان الدستور أولًا أم الانتخابات في مصر، أو السجال الإسلامي- العلماني، أو قصة الممانعة الزائفة والديمقراطيَّة، ولا شكل نظام الحكم، ولا النظام الانتخابي، فهنالك معركة "الإنسان"، الحرية هي الوجود، ولا يجوز أن نخسر هذه اللحظة التي نُنهي فيها استعبادنا وإذلالنا بعد اليوم.

نعم، واقعنا مرير، والشعوب العربيَّة ما تزال تُحكم بما قَبل "العقد الاجتماعي" لكن ما يحدث في سورية اليوم تحديدًا هو عارٌ يكلّل جبيننا جميعًا، هو مسحة خزي على المتآمرين والصامتين والمطبِّلين والمزوِّرين، هو فضيحة لمثقفي وسياسيي وحزبيي وكتّاب السوء، وهو خيانة حقيقية للضمائر والعقول.

اتفقوا أو اختلفوا ما شئتم حول سياسة هذا النظام وتوصيفه، لكن ما لا يمكن الاختلاف حوله هو القبول بما يحدث مع أطفال الشام ونسائها وشيوخها وشبابها!

من أراد أن يدافع عن هذه "الجرائم الهمجيَّة"، فليطلبْ أولًا بالوقاحة نفسها التي يتبجَّح بها ضدّ "هؤلاء الأبرياء" أن يذهب إلى المعتقلات والسجون ليتأكد أنّهم يتعاملون فيها مع "بشر"، وليس "جراثيم"، أن يطلب بأن يسمع من أهالي المحافظات والقرى والمدن التي تَمَّت استباحتها حقيقة ما حدث، بعدها فليسمعنا رأيه العظيم!

في أحاديث السياسيين عبارة "من يجرؤ على الكلام" أما اليوم فالسؤال هو "من يجرؤ على الصمت؟!".

=================

ألعوبة الكلمات

علي كنعان

2011-07-05

القدس العربي

 حاولت الكتابة مرارا خلال الأسابيع الماضية، وفي كل مرة كنت أرى الكلمات تقطر دما.. فأغلق الحاسوب وأكتفي بتصفح كتابات الأصدقاء ورسائلهم فأراها منقوعة بالدم كذلك، ولا أمل بالخلاص قريبا من فظاعة هذا الكابوس الجهنمي.

أتامل الشاشات العربية، وكل منها حريص على انتهاج خط سياسي صارم لا يحيد عنه.. وكم أشعر بعتاب شديد يقارب اللوم لتلك الفضائيات، فليس فيها غير مشاهد الدم والجثث أيضا.. وأيضا، وكأن المشرفين عليها لا يشاهدون الفضائية السورية وأفراحها اليومية الزاهية.. ولا يتأملون المسيرات المليونية التي يهتف أصحابها 'بالروح بالدم' فداء لسيدهم القابع في قصره، مكتفيا بمشاهدة فضائية 'الدنيا'، أي 'جيهان' بالفارسية! وهذه الترجمة ضرورية تمهيدا لافتتاح ألعوبة الكلمات.

ولأن الناس على دين ملوكها، الدين السياسي طبعا وليس أي نسخة أخرى، سواء كانت صناعة شبه وطنية أو مستوردة، فالواجب والمطلوب أن تجري الألاعيب تحت سقف الوطن، كما يقولون. ولا أدري أي نوع من السقوف يقصدون: من قش أو خشب؟ من إسمنت مسلح؟ من دم ورصاص؟.. أم لعله صفحة السماء التي تحتضن كل البشر، ومنهم أبناء سورية المنكوبة بسلطة القمع والفساد منذ عشرات السنين. وانطلاقا من أن اللعب بالكلمات ارتقى إلى أعلى المناصب، فليس أمام الكاتب إلا أن يواصل التفكر في مشاهد وفصول من هذه الألعوبة، وهذه لا علاقة لها بلعبة الكلمات المتقاطعة، وإن قاربتها.

وفي هذا السياق الطريف، يسوق الجاحظ في بخلائه حكاية عن شيخ من خراسان، نعم خراسان ذاتها، أوجزها بما يلي: كان الشيخ يتناول طعامه بجوار جدول ماء، فمر به عابر سبيل وألقى عليه السلام. رد الرجل السلام وأردف: 'هلم عافاك الله!'. فلما رأى الخرساني أن العابر يهم باجتياز الجدول، صاح به: 'مكانك، إن العجلة من عمل الشيطان!' أجاب العابر: 'ألم تدعني إلى الطعام؟'. قال البخيل: 'قلنا لك: هلم.. فتقول: هنيئا، فيكون كلام بكلام.. فأما كلام بفعال، وقول بأكل، فهذا ليس من الإنصاف'!

ويبدو أن جنرال عملية الإصلاح في دمشق يقتدي بشيخ خراسان. وكلمة إصلاح مطاطة وملتبسة، وهي مشحونة بضروب من الخوف والتمويه والارتياب، والمطلوب أن نستعيض عنها بكلمة: تغيير. لكن عملية التغيير تتحول في بلادنا إلى خطة للترقيع، خمسية أو عشرية، لذلك لا بد من التأكيد على التغيير الشامل الذي ينبغي أن يؤدي إلى إنهاء هيمنة عصابات القمع والفساد.. والانطلاق في بناء الحريات الديمقراطية، ولا مجال لأي شيء آخر.

وهكذا.. طارت كلمة إصلاح ولا جدوى من تكرارها إلا إذا أزلنا زخارف القشرة عنها حتى تبدو على حقيقتها، أي 'انسلاخ'! وهذا يعني أن يخرج المسؤولون من جلودهم الحزبية وسطوتهم القيصرية وينسلخوا عن ماضيهم جملة وتفصيلا، فهل بالإمكان الانسلاخ عن الأفكار والعادات والامتيازات، قلبا وقالبا، واقعا وتاريخا ومستقبلا؟ هذا ما يعيدنا إلى ضرورة التأمل في ألعوبة الكلمات. إن عملية الإصلاح، لو جرت فعلا، ستؤدي بأصحابها إلى الانسلاخ الأكيد، لذلك لن يتحقق منها أي شيء، ولن يسيروا خطوة واحدة في طريق التغيير، فليس في ذاكرة التاريخ من حكم على نفسه بالإعدام، والانتحار حالة فردية يائسة تظل خارج السياق.

إن السلطة الغاشمة لم تفهم من بيان اجتماع دمشق الاستشاري إلا أنه ألعوبة كلمات، لا أكثر! لذلك جيَّشت المسيرة المليونية طمعا في كسب مزيد من الوقت، وأملا بأن تنجح كتائب القنص والاغتيال بإنهاء عملياتها وتنجز مهامها الإجرامية باستكمال تصفية الموج الشعبي الهادر في الشوارع وإطفاء زخمه المتصاعد. لكن الأدهى أن الشعب الثائر في نظر الأساتذة المحللين ليس أكثر من 'حثالة.. ورعاع'.

هناك فائدة إضافية لهذا النهج الدموي، وهي لجوء بعض المفجوعين بأعزائهم إلى انتقامات فردية أو عائلية أو حتى عشائرية.. وبذلك يرى العالم نماذج من 'المندسين والمتآمرين' جهارا وبالعين المجردة. إن سلطة الاستبداد، بدءا من تونس ومصر.. وليس انتهاء باليمن وليبيا وسورية، لم تفهم.. ولن تفهم بالكلام المنطقي المعروف بين البشر، ولا يعنيها من عبارة 'الحوار الوطني' إلا اغتنام الفرصة لمزيد من الألاعيب اللفظية وكسب الوقت.. وسوف تستمر في هذه اللعبة عسى أن يداهمنا زمهرير الشتاء باكرا ويضع حدا لمظاهرات الاحتجاج.

ومن يعرف العقلية البعثية، وإن صار البعث مجرد قناع مسرحي، يدرك أصول اللعبة ودهاليزها ومآلها. إن المسؤولين يعيشون على التقارير الحزبية والأمنية منذ عشرات السنين، وهم معزولون في مكاتبهم المغلقة، وكثير منهم يقوم بإعداد القهوة بنفسه مخافة أن يكون الحاجب مندسا.. أو أن يكون أحد المندسين قد اشتراه أو لعب بعقله وتسلل إلى جيوبه.

أذكر أني قمت في أوائل الثمانينات، وقبيل أحداث حماة، بزيارة وزير الإعلام. رن الهاتف فرفع السماعة وأجاب: 'أهلا، أبو جمال'! أدركت أنه يتحدث مع السيد عبد الحليم خدام، وزير الخارجية يومئذ، لكني استغربت كيف تابع الحديث أمامي بصوت مرتفع، وكان يردد كلمات زميله البعثي العتيق وكأنه يريد عامدا أن أسمع القصة، قال: كنت واثقا أنهم سيخرجون من عندك مسرورين، أبو جمال له رصيد كبير بين أشقائنا في لبنان، نعم يريدون أن يعرفوا رأينا بخلافاتهم، ماذا قلت لهم؟.. نعم مشكلتهم سياسية بالتأكيد وليست أمنية، هذا هو الجواب الشافي: نعم، نعم، روحوا حلوا خلافاتكم السياسية أولا واتفقوا جميعا.. لكي تريحونا ونخرج بقواتنا المجمدة... ثم قال ضاحكا: نعم، ليتفقوا أولا.. ولو بعد مئة سنة!

هاتان النقطتان لا يمكن أن أنساهما: الأولى أن المشكلة سياسية وليست أمنية، والنقطة الثانية أنهم لن يتفقوا قبل مئة سنة، وهذا يعني أن وصاية الباب العالي لن تزول قبل مئة سنة!

.. هذه مسطرة من العقلية البعثية، إنها ترى أن مشكلة الآخرين سياسية، أما مشكلتها مع شعب سورية فهي أمنية ولا علاقة لها بالسياسة، وإلا ما معنى أن يستمر سفك الدم في الشوارع وتستمر الاعتقالات، رغم الادعاء بإلغاء قانون الطوارئ؟ هل يمكن أن نفهم ذلك إلا في ضوء الاستمرار بألعوبة الكلمات؟

إن ما يصدر على الورق أو تذيعه الفضائيات المدجنة هو مجرد كلام بكلام. أما كلام بفعال، فهذا ما أنزل الله به من سلطان! ولعل المشهد الأخير في هذه الألاعيب أن نتأمل المعارك الكلامية الدائرة عبر الفضائيات، على اختلاف ميولها وأغراضها. والسؤال الذي يخطر في البال: هل يستطيع المال السعودي إنهاء الصراع في اليمن، دون أن يلتف على ثورة الشباب ويسعى إلى إحباطها؟ وبالمقابل، هل تستطيع الحنكة التركيية أن تسهم في وضع حد لسفك الدم السوري، بعيدا عن تدخل حلف الأطلسي؟ وهو تدخل مرفوض بكل الذرائع والمعايير. إن غدا لناظره غير قريب.. ولكن واشنطن تمسك بجميع الخيوط الرسمية، وهي ضد كل ثورة شعبية/ ديمقراطية. وربما ترى في كل ما يجري جزءا من الفوضى الخلاقة! وفي الختام لا نملك إلا أن نضع أيدينا على قلوبنا خوفا على ثورة مصر، نعم ثورة مصر- قدوتنا الرائدة

=================

سورية... بين معارضة الداخل والخارج

الاربعاء, 06 يوليو 2011

عبدالرحمن الخطيب *

الحياة

لم يحسب الرئيس السوري حافظ الأسد حساباً أن خليفته باسل ربما يقضي قبله، فحين توفي ابنه باسل كان همه الأكبر من سيخلفه في الحكم. كانت هناك ضغوط عائلية كبيرة عليه، تمثلت في خلاف بين سيدتين من أسرة مخلوف، والدته التي تميل إلى ترشيح أخيه رفعت أو جميل، وزوجته التي لم تكن لتقبل إلا بابنها بشار؛ لأن أخيه ماهراً كان صغيرا آنذاك، فهو من مواليد 1966. وبعد وفاة والدته مالت الكفة إلى ترشيح بشار.

الحقيقة التي يعلمها الشعب السوري أن حزب البعث، والقيادتين القومية والقطرية ليست إلا واجهة كرتونية لحكم الأقلية الطائفية، ولكن حافظ الأسد أراد الدخول من خلالها لتوريث ابنه بشار. ولكي يهيئ الجو سياسيا لهذا الشاب الذي لا يزال في مقتبل العمر، وليس له أي دراية في السياسة وإدارة الحكم. أراد الأسد الأب أن يدخل بشار من نافذة حزب البعث، فعينه مسؤولا كبيراً فيه، ودعا إلى المؤتمر القطري التاسع الذي لم يجتمع أعضاؤه منذ 15 عاماً. وللتحضير لما يسمى بالديمقراطية الحزبية، ولإيجاد بدائل موالية لابنه، قام حافظ الأسد بقصقصة أجنحة الحرس القديم، وطرد العديد من الضباط والسياسيين؛ مما زاد من عدد المعارضين للعائلة الأسدية حتى من الطائفة نفسها.

إن للمعارضة السورية في الداخل والخارج تاريخاً عريقاً لا يخفى على أحد. ففي الخارج كان من أوائل المعارضين للحكم جماعة الإخوان المسلمين، التي طاردها النظام في الداخل؛ بل وفي الخارج، حين أرسل حافظ الأسد مخابراته لقتل عصام العطار، فقتلوا بالخطأ زوجته بنان الطنطاوي، ابنة الشيخ علي الطنطاوي. وما زالت هذه الجماعة تزعج النظام طوال أربعة عقود مضت. ثم توالى بعدها هروب بعض الشخصيات المعارضة للنظام إلى الخارج، ممثلة في القوميين العرب، والناصريين، والشيوعيين، بل من البعثيين على اختلاف مذاهبهم وتوجهاتهم، مثل: حمود الشوقي الذي كان سفير سورية في الأمم المتحدة، وأحمد سليمان الأحمد، وشبلي العيسمي، ومحمد الجراح، وأحمد محفل. ثم لحق بهم في ما بعد الكثيرون، منهم: رفعت الأسد، شقيق الرئيس حافظ الأسد، وعبد الحليم خدام نائب رئيس الجمهورية، والدكتور برهان غليون، والدكتور هيثم مناع، وعبد الرزاق عيد رئيس المجلس الوطني لإعلان دمشق، والدكتور رضوان زيادة.

المعارضة الداخلية ليست أقل حظاً مما نالته المعارضة الخارجية من قمع، واضطهاد، وكتم لحرية الرأي. فقد عانت تلك المعارضة من بطش النظام لهم، وسجنهم لسنوات طوال بسبب آرائهم السياسية. فبعد ما سمي ربيع سورية اعتقل النظام العديد منهم، مثل: المحامي هيثم المالح عميد المعارضة السورية، وابن الطائفة العلوية الدكتور عارف دليلة، وميشيل كيلو أحد المشاركين في صياغة إعلان دمشق، وفايز سارة القيادي في تأسيس لجان إحياء المجتمع المدني، ومأمون الحمصي عضو البرلمان السابق، ورجل الأعمال رياض سيف.

بعد اندلاع الثورة الشعبية في 15 أذار مارس من هذا العام، بدأ الخلاف بين معارضة الداخل والخارج يطفو على السطح. فمعارضة الخارج ترى أن لها الأسبقية في رسم الحركة السياسية لمستقبل سورية، على اعتبارها الأقدم في معارضة النظام. بينما يرى المعارضون في الداخل أن لهم الأحقية في إدارة المرحلة الانتقالية، لأنهم كانوا أكثر معاناة من معارضة الخارج، فبقوا في سورية ولم يهاجروا، ودخلوا السجون وتحملوا التعذيب والاضطهاد اكثر من أقرانهم في الخارج.

الشهر الماضي حين اجتمع بعض معارضي الخارج في مدينة أنطاليا التركية، كانت نتيجة الاجتماع في الحقيقة رمادية وضبابية، فالغالبية صوتت على إسقاط النظام، ولكنهم لم يتفقوا على شيء آخر غيره. ثم جاء الاجتماع الثاني لمن يجتمع في الأول في مدينة بروكسل ليؤكد على إسقاط النظام، مع طرح بعض الأفكار التي تؤسس للمسيرة الديمقراطية. ثم تكررت التجربة الثالثة في إسطنبول لاختيار أعضاء المؤتمر الوطني. ولكن هذه الاجتماعات الثلاثة أجلت بوضوح حقيقة الخلافات الآيديولوجية والعقدية.

معارضة الداخل لم تتمكن طوال الشهور الثلاثة الماضية من أن تسجل أي حضور لافت، خلا بعض المداخلات مع بعض القنوات الفضائية لدقائق معدودة. قبل أسبوعين، وتحت الضغط الدولي على النظام، وفي محاولة منه للهروب من هذا الضغط، أوعز النظام إلى بعض المعارضين له باعتدال بالاتصال ببعض رموز معارضة الداخل للاجتماع في دمشق، تحت عنوان «تحت سقف الوطن»، أي برعاية النظام، وكأن الديموقراطية هبطت على النظام فجأة كالوحي. بدا من الاجتماع أن تركيبة الذين حضروا هم من لون أيديولوجي واحد تقريبا، وهو اللون اليساري الاشتراكي. كان بعضهم، قبل أسبوع واحد فقط، قد خرج على القنوات الفضائية السورية مؤيداً للنظام، ومتهماً المتظاهرين بأنهم حثالة. ومنهم من كانت وجوههم مجهولة جهلاً تاماً، خلا بعض الممثلين والفنانين. وتم تطعيم من حضر بمعارضين معتدلين؛ لأن المعارضين الحقيقيين مثل الدكتور عارف دليلة وحسين هويدات وغيرهم رفضوا الحضور.

المعارضون المعتدلون لم يتجرأ أحد منهم على التصريح بإسقاط النظام؛ بل اتهم بعضهم معارضة الخارج بالعمالة، وبأنها تمثل أجندة أجنبية. والحقيقة أنه كان واضحاً أن اجتماعهم كان غطاء شرعياً لإنقاذ النظام من أزمة التدويل، ففي بيانهم الختامي ركزوا على رفض التدخل الأجنبي. وقد تعمد النظام أن يكون هذا الاجتماع في اليوم نفسه الذي التقى به بشار الأسد مع عضو من الكونغرس الأميركي، وعضو في البرلمان البريطاني، مما عدّه الكثير أنه ليس إلا مسرحية هزلية تُعرض للضيفين. ورأى بعضهم أن هذا الاجتماع لا يخلو من بعض الإيجابيات، منها: التأكيد على دعم الانتفاضة الشعبية السلمية، التي تنادي بانتقال سورية إلى دولة ديموقراطية تعددية، والمطالبة بإنهاء الخيار الأمني، وسحب القوى الأمنية من المدن والقرى، وتشكيل لجنة للتحقيق في قمع التظاهرات السلمية المناهضة للنظام، والدعوة إلى ضمان التظاهر السلمي، وإطلاق جميع المعتقلين السياسيين.

تعليق المعارضة في الخارج لم يتأخر، فقد صرح بعضهم أن هذا الاجتماع لا يمثل معارضة الداخل في غياب التمثيل الحقيقي لجميع أطياف ومذاهب الشعب السوري. في إشارة منهم إلى غياب تمثيل جماعة الإخوان المسلمين وممثلين عن تنسيقيات الثورة الشعبية. هذا الأمر زاد هوة الخلاف بين معارضة الخارج ومعارضة الداخل، فكان المستفيد الوحيد من هذا الخلاف هو النظام نفسه.

* باحث في الشؤون الإسلامية.

=================

عيّنة المجتمع... الفرد

.خالص جلبي

تاريخ النشر: الأربعاء 06 يوليو 2011

الاتحاد

يذكرنا ما تكرره بعض الإذاعات العربية في مواجهة التظاهرات في بلدانها، بكلمات فرعون في مواجهة خروج بني إسرائيل من العبودية: "إنهم شرذمة قليلون وإنهم لنا لغائظون وإنها لجميع حاذرون". وهذا يعني أن جوهر الصراع بين موسى وفرعون يعيد دورته التاريخية، وإن بأشكال مختلفة، وهذا هو المغزى العميق من ذكر موسى في القرآن أكثر من مائة مرة.

وعندما يحلل المؤرخ "توينبي" ظاهرة انبثاق الحضارة، يرى أنها "الاستجابة الملائمة للتحدي"، فيقول إن الموت وضع يده الباردة على المجتمع الفرعوني عندما انتقل التحدي من "الطبيعة" إلى "النفس"، فعجزت الحضارة الفرعونية عن مجاراة ذلك التحول، حيث كان المجتمع قد دخل ليل التاريخ، وفقد الطاقة الإبداعية، وتكسر إلى شرائح من المستضعفين والمستكبرين.

وكانت مهمة موسى محصورة في خطة ثلاثية المراحل: الخروج بجيل "الخوف" من مصر، ثم دفن جيل "التيه" في الصحراء، وأخيراً خروج جيل "الحرية" إلى العصر الجديد.

ولا توجد قصة مشروحة بتفصيل، مع رسم كل المشاعر الدقيقة وخلجات النفوس والتعبيرات، كما هي قصة مواجهة موسى لأعظم حضارة على ظهر الأرض يومها، لكنها كانت قد أصبحت حضارة شائخة، إذ ارتفعت فيها الأصنام والهياكل ومات فيها الإنسان. وبينما كانت ترفع الأهرامات كمدافن لأشخاص زائلين، كانت عظام أمم كاملة تطحن في مقابر جماعية.

إن بني إسرائيل نجحوا في عبور البحر تحت مظلة المعجزة، لكن لم يكن من أمل في جيل تركت السياط في ظهره أنفاقاً.

وعند المرور على قوم يعكفون على أصنام لهم، قفزت مجموعة لتقترح على موسى أن يجعل لهم "إلهاً كما لهم آلهة". وعندما رجع بالألواح ليرسي التشريع في المجتمع، كان القوم يعبدون عجلاً جسداً له خوار. وفي النهاية، وأمام تحدي دخول الأرض المقدسة، دعا موسى ربه أن يفرق بينه وبين القوم الفاسقين، إلى أن يخرج جيل جديد يعشق الحرية. ومن ذلك يستنبط ابن خلدون دورة الأجيال.

إن مرض "بني إسرائيل" كان "ثقافياً" وليس جينياً (وراثياً)، وما من أمة محصنة ضد الإصابة به.

والأمر شديد الدلالة في قصة بني إسرائيل هو الوحي والمعجزة والقيادة المبدعة، أي العناصر الثلاثة التي يفتقدها المجتمع العربي حالياً، والتي يمكن أن تشكل مخرجاً من هذا الاستعصاء التاريخي.

إننا نتمتع بميزة فريدة، فبينما عمل الأنبياء السابقون من داخل قانون المعجزة، عمل نبينا صلى الله عليه وسلم على سنن تغيير المجتمع داخلياً، فلم يدمر مجتمع قريش بالطوفان أو الزلزال أو الجراد والقمل والضفادع والدم، بل بالمراهنة على أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله. وقد تحقق التحول في نصف جيل. لكن ميزان الزمن انقلب اليوم، فعوضاً عن خروج بني إسرائيل من الأرض الظالمة، يتم اختراق حزام دول التيه والخوف من كل مكان؛ بالإنترنت، والمحطات الفضائية، والكلمات المنقوشة في الهواء على ثبج البحر الأخضر الإلكتروني.

إن التحول هنا، كما يقول "توفلر"، يحد دون نقلة جغرافية. والمراهنة هي على ارتفاع مستوى الوعي عند جيل "التيه" كي يزول الخوف.

ويروي مالك بن نبي عن جيلين من الصينيين اجتمع بهما في باريس، أن الأول كان يلتفت حوله وحينما ينطق يرتعش من الخوف، والثاني كان يتحدث بقوة ويعبر بصراحة؛ فالفرد عينة من المجتمع مثل عينة الدم من الجسم، قد تكون سليمة وقد تكون مصابة.

=================

الإصلاح والدم والسقوط

تاريخ النشر: الأربعاء 06 يوليو 2011

عبد الوهاب بدرخان

الاتحاد

في الأسابيع الأخيرة أرسل الزعيم الليبي إشارات كثيرة تنمُّ عن استعداد للتنحي، مع شروط متدرجة. استخدم قنواته الإفريقية، وحاول إقحام فرنسا. جعل أفراداً من عائلته مروّجين لحصول تفاوض مباشر وغير مباشر مع المعارضة. كان يمكن لهذا التحرك أن يفلح لو أنه نجح في تزويد الوسطاء بأي ضمان يثبت أنه جاد هذه المرة. كان يبحث فقط عن أي وسيلة تؤخر أو تحول دون إصدار مذكرة توقيف عن المحكمة الجنائية الدولية. أخفقت المناورة فأخرج تظاهرة حاشدة في الساحة الخضراء في طرابلس، لكنه منع الصحافيين الأجانب من الاقتراب، أرادهم أن يروا المشهد من بعيد وألا يختلطوا بالمتظاهرين لأسباب غير مجهولة.

كان الخطاب الصقري المرافق لصور الحشد واضحاً في إظهار غضب القذافي وتعبه وسأمه. إذ خسر أخيراً إمكان الحصول على أي استثناء من الملاحقة في حال قرر لاحقاً الرحيل إلى منفى ما، أو حتى لو قبل بالاحتجاب في منطقة معزولة داخل ليبيا. أصبح رجلاً ملاحقاً ومدعوّاً إلى المساءلة والمحاكمة. وفي ذاك الخطاب أعاد استخراج كل الأوراق التي لوّح بها في الأسبوع الأول للأزمة: الحوار من خلال اللجان الشعبية، والإصلاح من خلالها أيضاً، النفط للشعب، والسلطة له أيضاً، مع الحرص الدائم على التبرؤ والتخفف بل التعفف عن أي منصب حالي أو سابق أو لاحق... كل ذلك فقد قيمته، ولم يعد صالحاً لصنع أي حل سياسي.

مشكلة القذافي أنه كان مكشوفاً ومفضوحاً إلى حد لم يتصوره أبداً. إذ لم يكن أحد يجهل أنه الحكم والحكم هو، أمناً وسياسة ونفطاً، ولم يترك مجالاً لنشوء مؤسسات حقيقية. أما مستقبل الحكم فكان موضوعاً محتكراً داخل أسرته أو في الحلقة الضيقة جدّاً من الأنسباء. لذلك لم يكن مستغرباً أن أحداً لم يصدقه أو يصدّق نجله -الوريث المفترض سابقاً- عندما تحدث عن "إصلاح" لم يكن أصلاً في قاموسهما.

في اليمن وسوريا، كما في ليبيا، وقبلهما في مصر وتونس، وقع النظام أولاً في فخ قوته وصلابته فاستهزأ بالشارع، وعندما أقلقه خروج الناس وهتافهم ضده استدرج نفسه إلى الفخ التالي، وهو سفك الدماء. وإذ زاد القلق وزاد القتل ارتسم الفخ الثالث وهو السقوط الذي لا مناص منه. وبمعزل عن الوتيرة والقدرة على مقاومة الضغوط والفائدة ألمرتجاة من إطالة الأزمة، فإن كل ما بذل ويبذل لتفادي السقوط لم يكن واقعيّاً سوى محاولات إما لإيجاد تسويات تبقي بعضاً من "إنجازات" العهد السابق، أو البحث عن مخارج مشرِّفة. من ذلك، مثلاً، إصرار الرئيس اليمني على إكمال ولايته بأي صيغة. ومثله إصرار القذافي على تفاوض يؤكد أنه لن يشترك فيه. وكلاهما يشير إلى السند القبلي الذي يتمتع به، علماً بأن هذه الدعامة لم تعد على التماسك الذي يدّعيانه. ومن ذلك، أيضاً، اتباع الرئيس السوري منحنىً جدليّاً تجريبيّاً في سعيه إلى رسم خريطة طريق للخروج من الأزمة.

الملاحظ أنه حيثما بقي شيء ولو هزيل من المؤسسات بالمعايير الصحيحة، أمكن الحديث عن إصلاح. هذا ينطبق إلى حد ما، ونظريّاً، وبكثير من التحفظات، على الوضع اليمني. ومع ذلك، لم يقتنع أحد بأن تلك "المؤسسات" كافية ومؤهلة لتصفية كل إرث الحكم الفردي المتلاعب بالمؤسسات والقوانين، وخصوصاً للتعامل مع "المؤسسات" الموازية التي أقيمت أساساً لحماية الحاكم والنظام أكثر مما استهدفت أمن الدولة والشعب. ولقائل أن يقول إن في سوريا مؤسسات، لكن الواضح أنها انكشفت في غمرة الأزمة ولم تبدُ قادرة على التعامل معها. ذاك أنها مؤسسات صورية تستخدم لتلميع صورة النظام، وهي مهمة انتهت بها الأحوال إلى العجز عن القيام بها.

رأينا في هذه الأزمات أن النظام أصبح طالباً للحوار وملحّاً عليه، وأن الشعب يرفضه. هذه السلبية هي الرد التاريخي على عقود طويلة اختار خلالها النظام أن يصمّ آذانه. وعموماً، أي حوار يراد منه إبقاء النظام واستخدام الثورات لتجميله لن يؤدي إلى هذه النتيجة. الحلول السياسية السلمية تبدأ في الوقت المناسب، وليس بعد انفجار الغضب، لكنها تأتي خصوصاً إذا لم يسفك دم الشعب.

=================

لن يربح "نظام الأسد"... ولن يربح أخصامه!

سركيس نعوم

النهار 6-7-2011

لا يزال الإصلاح الجدي ممكناً في سوريا لأسباب عدة اهمها اثنان. الاول، عدم نزول غالبية الشعب السوري الى الشارع بمئات الآلاف والملايين على رغم ضرورة عدم الاستهانة باحجام التظاهرات التي سارت في شوارع المدن وضواحيها والقرى حتى الآن. وهي احجام تتطور تصاعدياً. والثاني، استمرار سيطرة النظام السوري على البلاد بسبب استمرار ولاء الاجهزة الامنية له والقوى العسكرية وما تبقى من حزب "البعث" و"حلفائه". علماً ان ذلك لا يعني ان "الفرار" من المؤسسات المذكورة لم يحصل. لكنه لا يزال خجولاً. إلا انه قد لا يبقى كذلك على رغم الصعوبات المعروفة وفي مقدمها التركيبة المعقّدة لقيادات هذه المؤسسات وهوية الجهات المسيطرة عليها. لكن تنفيذ الإصلاح المشار اليه اعلاه يقتضي توافر ارادتين فعليتين مخلصتين وصادقتين. الاولى، ارادة الرئيس بشار الأسد ومن يمثّل وما يمثّل، وهي مهمة، لأن الاصلاح الجدي لا بد ان يؤدي الى تداول في السلطة اي الى كسر احتكار عائلة او فئة او حزب لها. وما يرتبه ذلك على المواقع والاحجام والحقوق في بلاد متخلِّفة بل في منطقة متخلِّفة، كبير ومعروف. والثانية، ارادة الشعب وتحديداً ارادة غالبيته التي تعتبر انها قُمعت وقُهرت عقوداً اربعة على الاقل بسبب انتمائها الديني لا بل المذهبي. وإرادة الجماعات الديموقراطية والليبرالية واليسارية. وهي على وجودها المتنوع لا تشكّل حتى الآن سوى أقلية وإن مهمة شعبياً. وتعني الارادتان المتكاملتان هاتان قبول إصلاح يحقق العدل والمساواة ويؤمِّن الحريات ويحمي حقوق الانسان ويرسي اسس الديموقراطية الفعلية أي لا يؤسس نظاماً جديداً مشابهاً كثيراً لنظام الأسد والبعث و"الفئة"، من حيث القمع والاستئثار والهيمنة والفساد وغياب الديموقراطية، لكن هذه المرة بذريعة الدين وليس بذريعة مواجهة اسرائيل.

هل تتوافر الارادتان؟ لا احد يمتلك جواباً عن هذا السؤال. ففي معسكر النظام لا احد يعرف اذا كان الرأي واحداً في ما يتعلق بالإصلاح، باعتبار انه واحد وإن اضطراراً في حال المواجهة. ولا احد يعرف اذا كان حلفاؤه الاقليميون يرون في الاصلاح نكسة لاستراتيجيتهم. اما في معسكر المعارضة فالآراء متنوعة، منها تصالحي مع النظام ومتمسك بالاصلاح، ومنها موال ضمناً للنظام ويعمل لاحتواء المعارضة باصلاح سطحي. ومنها رافض في المطلق استمرار النظام إما لأنه لا ديني ولأن حكم الشرع يجب ان يسود، وإما لأن لا ثقة كاملة بنياته الاصلاحية.

انطلاقاً من ذلك لا يمكن القول ان الدولة المدنية او العلمانية الديموقراطية الحرة لا تزال حلاً ممكناً للوضع السوري المأزوم. فالسوريون ومعهم العرب كلهم يعيشون مرحلة "الاسلامية" التي قامت على انقاض القومية والاممية غربية كانت أو شيوعية. وهذه المرحلة لا تزال في صعود عند السنّة في حين انها قد تكون بلغت القمّة عند المسلمين الشيعة وبدأت تتحسّب للإنحدار. لكن ما يمكن قوله هو ان تغييراً ما سيحصل في سوريا. لكن احداً لا يعرف موعده. ففي ظل ميزان القوى الداخلي حالياً لن يستطيع الرئيس الاسد القضاء على "الثورة" على رغم امكاناته العسكرية لأن العالم لا يسمح بذلك حليفاً كان او عدواً، ولأن تطور وسائل الاتصال لم يعد يسمح بإخفاء الحقائق الدموية على الارض. ولن يستطيع الثوار قلب الأسد ونظامه وربما الفئة التي ينتمي اليها، وإن صاروا بالملايين، وإن ازداد كثيراً عدد الفارين من الجيش والقوى الامنية، لأن نتيجة ذلك ستكون قطعاً حرباً اهلية نظراً الى التركيبة المعروفة للشعب السوري، والى المذهبية الحادة على رغم تعمّد الجميع عدم الكلام عنها. وفي حرب كهذه قد تتوحّد الغالبية وهي كبيرة، لكن "الاقلية" المعنية قد توحّد الاقليات الاصغر وخصوصاً بعدما اصابتها التطورات الجارية منذ 15 آذار الماضي بالخوف. كما ان دولاً عربية عدة واقليمية واجنبية فضلاً عن العدو الاسرائيلي قد تتحرك "لإذكاء النار بدلاً من اطفائها". وما يجب الانتباه اليه هنا ليس فقط المواقف السلبية لعدد من الدول من نظام سوريا بسبب امتناعه عن الاصلاح وتهرّبه منه على مدى 11 سنة، بل ايضاً مواقف الدول التي يفترض انها حليفة لسوريا الأسد او صديقة مثل روسيا والصين وتركيا. فهذه الدول تحاول حماية "سوريا" هذه، لكنها تقول لها علانية ان ذلك صعب اذا لم تنفّذ اصلاحات جدية.

ماذا يُسيِّر هذه الدول مصالحها أم قيمها؟ وما هو مستقبل الوضع السوري في رأي اصدقائها والحلفاء؟ وهل من عبرة للبنان ولغيره في هذه المنطقة في كل ما تشهده سوريا؟

==================

المعارضة السورية والفخ الأميركي

الاربعاء, 06 يوليو 2011

محمد صفري *

الحياة

ينقسم المشهد السوري في الوقت الراهن الی تيارين، الاول مؤيد للرئيس بشار الاسد، والثاني معارض له. ويبدو أن التيار الاول أوسع من الثاني، على رغم ان اعداد المعارضين لا يستهان بها. وعلى خلاف حوادث مصر وتونس واليمن وليبيا، وشعوب الدول هذه أرادت اسقاط روساء هذه الدول، تؤثر حوادث سورية تأثيراً مباشراً في المعادلات السياسية بالمنطقة. وتؤثر في ايران من جهة، وفي تركيا من جهة اخری.

فتركيا تريد بعث مجدها التاريخي، اثر بلوغ السلطة الحكومية صبغتها الاسلامية. وهي تسعى في لعب دور اكبر في القضايا الاسلامية. ولذا، تتوجه الانظار الى اللاعب التركي في المنطقة. واصطفت أنقرة الی جانب السياسة الاميركية والغربية من سورية. وهي رأس الحربة في هذه التطورات. وخير دليل على الدور هذا الديبلوماسية التركية الفعالة، وزيارة رئيس الوزراء التركي، رجب طيب اردوغان، الدول التي شهدت ثورات شعبية مثل مصر، وزيارات وزير الخارجية عدداً من الدول ومنها ليبيا.

ولا يستهان بأهمية التطورات السورية. فقائد الثورة الاسلامية في ايران يميز بين ما جری في تلك الدول وما يجري في سورية. وهو أوضح ان الولايات المتحدة تسعی لاستنساخ حوادث مصر وتونس واليمن وليبيا لتطبيقها في سورية، واستهداف خط المقاومة.

وحريّ بالمعارضة السورية ادراك ان حكام مصر وتونس واليمن كانوا غارقين في المستنقع الاميركي، وأن شعوب تلك الدول طالبت بإطاحة هؤلاء الحكام جزاء علاقاتهم الاميركية. ولكن هل الحكومة السورية هي حكومة عميلة للولايات المتحدة والصهاينة؟ فسورية تصدت لتهديدات الكيان الصهيوني، ودفعت ضريبة وقوفها في خندق المقاومة. ووقفت الجمهورية الاسلامية الايرانية الی جانب الحكومة والشعب السوري. وعليه، يفترض بالاوساط المعارضة في الشعب السوري ان تدرك حقيقة ثورات الشعوب العربية الموجهة ضد الولايات المتحدة والصهيونية.

ولا ننكر أن مطالب المعارضة السورية مشروعة. ولكن المعارضة هذه مدعوة الى الابتعاد عن الاهداف الاميركية والصهيونية التي تسعى الى اركاع سورية وضمها الى مشروعها ومخططها. وهذا يتعارض مع ما تنادي به الشعوب العربية الاخری.

ونرى أن الرئيس السوري بادر الى خطوات اصلاحية تحاول الاستجابة لمطالب الشارع المعارض. ولذا يجب منح الخطوات هذه الفرصة لاحباط المؤامرات الخارجية وتلبية المطالب الشعبية.

وعلی المعارضة ان تفكر بمستقبل البلد اذا سقط الحكم؟ فهل ستسمح الولايات المتحدة والصهيانة للسوريين بتقرير مصيرهم؟ وهل هم على ثقة أن حرباً أهلية لن تقع؟ وهل يأمنون أنهم لن يقعوا فريسة الجيش الاميركي وحلف الناتو؟ ان الحكومة السورية مدعوة الى ان تكاشف شعبها بمثل هذه الامور وأن تحذرهم من أخطار التطورات.

* صحافي، عن «سياست روز» الايرانية، 5/7/2011، اعداد محمد صالح صدقيان

=================

السوريون فيما يسبق «الحوار الوطني»

فايز سارة

الشرق الاوسط

6-7-2011

لعله لا يحتاج إلى تأكيد القول: إن فكرة الحوار الوطني باتت الفكرة الأكثر حضورا في ظل الأزمة السورية، على الرغم من تناقضات المواقف التي تحيط بالفكرة، وهي تناقضات لا تستند إلى معارضة السوريين لفكرة الحوار الوطني، التي كثيرا ما أظهر السوريون ميلا إليها، حيث القطاعات الأكبر من السوريين مؤمنة بأن الحوار ليس سبيلا لمعالجة المشاكل، ومنها الأزمة الراهنة فحسب، بل طريقة لعيش السوريين، وللتفاهم فيمن بينهم، وهم الذين كانوا وما زالوا يشكلون تلوينات متنوعة عاشت في هذه البقعة، وسوف تعيش.

إن الأساس في تناقضات الموقف من فكرة الحوار في اللحظة الراهنة إنما يستند إلى طبيعة التطورات الجارية، التي باتت تقسم السوريين إلى ثلاثة مواقف مختلفة بصدد الحوار. أول هذه المواقف يتمثل في موقف المعارضة السورية، سواء الجماعات السياسية أو الشخصيات الوطنية، وكلها تجمع على تأكيد فكرة الحوار باعتبارها الطريق نحو خلاص سوريا من أزمتها الراهنة، بل إن هذا النسق من السوريين يعتبر أن الحوار هو الطريق الأمثل من أجل فهم سوري أوضح لطبيعة الأزمة وأسبابها، وأشكال الخروج منها.

غير أن موقف المعارضة في موضوع الحوار تأثر، على نحو واضح، بمجريات الأزمة نتيجة انخراط السلطة في المعالجة الأمنية العنيفة للأزمة وذهابها إلى الأعمق في إطلاق الرصاص على المتظاهرين، وشن حملات الاعتقال والمداهمات ومطاردة الناشطين، ثم الذهاب إلى الأبعد في إدخال الجيش إلى معالجات الأزمة، مما دفع المعارضة إلى المطالبة بوقف مسار الحل الأمني، واتخاذ خطوات إجرائية بينها إطلاق المعتقلين والسماح بالتظاهر السلمي والآمن إلى جاب خطوات سياسية، تشمل إعلانات لإصدار قانون ينظم عمل الأحزاب السياسية وآخر للإعلام، الأمر الذي يعيد بناء الثقة، ويسهل الدخول في عملية حوار، تقود إلى حل الأزمة وفق جدول موضوعي وزمني، يتم الاتفاق عليه عشية بدء الحوار.

وفي مقابل قبول الحوار من جانب المعارضة ووسط مطالبتها بتوفير بيئة للحوار، اتخذ الشارع السوري مسارا هو الأكثر تشددا في موضوع الحوار. وبخلاف ما كان ظاهرا في الأسابيع الأولى من حركة الاحتجاج والتظاهر في الميل إلى الحوار مع المسؤولين ورجالات السلطة، والرغبة في التفاعل مع حلول ممكنة للمشاكل المطروحة، فقد أخذ رفض الحوار ولقاء المسؤولين يصعد، والسبب، كما يبدو، مستمد من أمرين اثنين، أولهما: عدم جدية أو جدوى الإجراءات الرسمية الهادفة وعدم قدرتها على تهدئة الشارع، ومثال ذلك: أن حالات العفو عن السجناء والمعتقلين لم تكن عامة وشاملة، أو أن رفع حالة الطوارئ لم يتجسد عمليا بصورة تبدل حياة الناس وعلاقتهم بالأجهزة الأمنية، والعامل الثاني في تصعيد موقف الشارع من الحوار أساسه ذهاب السلطات إلى الأبعد في إجراءات الحل الأمني من خلال استمرار إطلاق النار والقتل والاعتقالات، واقتحام المدن والقرى، مما أدى إلى تزايد الغضب في أوساط المحتجين والمتظاهرين.

وإذا كانت تطورات موقفي المعارضة وحركة التظاهر من فكرة الحوار قد تأثرت بموقف السلطات وممارساتها العملية، فإن ذلك لا يعني أن السلطات كانت لديها فكرة عن الحوار، أو أنها كانت عازمة على الذهاب إليه، وأن فكرة الحوار كانت موضوعا داخليا بقدر ما كانت خطابا موجها للخارج؛ إذ إنه، طبقا لما جرى القيام به، فإن الأزمة في سوريا، كما بدت للنظام وأجهزته، ليست أكثر من قضية أمنية فيها محتجون متظاهرون وبعض «المسلحين»، ويمكن معالجتها بإجراءات أمنية تتواصل، ستؤدي إلى وقف حركة الاحتجاج، ولو بالترافق مع استجابة لطلبات تتعلق بالعمل والخدمات في بعض المناطق لتحسين مستويات حياة الناس في مناطق الاحتجاجات، وربما القبول بخطوات إجرائية ذات طابع سياسي، منها: رفع حالة الطوارئ، وإصدار عفو عام في إطار حركة إصلاحية، كانت السلطات السورية، تحدثت عنها وحولها في الأعوام العشرة الماضية.

لقد عكست هذه السياسة في التعامل مع الأزمة في سوريا استهانة بما حدث ويحدث، وفي الأبعد من ذلك عكست ضعفا في تقدير الوضع القائم، وما يمكن أن يتطور إليه الحال، وهو ما قاد إلى تجاهل الأزمة، بل إن الوزير المعلم في مؤتمره الصحافي الشهير تساءل عن الأزمة، بمعنى أنه كان ينكرها، على الرغم من أنه في المؤتمر ذاته تكلم عن الحوار وإمكانيته بالمساعدة في التوصل إلى حل يعالج الوضع القائم.

إن فكرة الحوار في جانبها الداخلي من الناحية الرسمية كانت أكثر تبسيطا مما هي عليه لدى المعارضة أو لدى شارع المحتجين؛ إذ هي تتضمن تقديم آراء واستشارات للسلطة حول ما يمكن القيام به من خطوات على طريق معالجة الوضع الحالي، وهذا يعني أن السلطات غير ملتزمة بما يمكن أن يفضي إليه الحوار من نتائج، ولأن الوضع على هذا النحو في الفهم الرسمي لفكرة الحوار ونتيجته، فقد بدا من الطبيعي استمرار تفاعلات الحل الأمني في الوقت الذي يجري فيه الحديث، وتتم الاستعدادات لإقامة أولى جلسات الحوار.

خلاصة الأمر: إن السوريين مستمرون في دورانهم حول فكرة الحوار والالتباسات المحيطة به، بمعنى أن المعارضة مستمرة في مطالباتها ببيئة الحوار والمتظاهرين في رفض الحوار، والسلطات في استمرار خيارها الأمني بالتزامن مع الكلام عن الحوار، وكله يدفع لسؤال أساسي عما يمكن أن يفضي إليه الحوار السوري إذا حصل!

===================

كيف وُلد جيل سوري جديد؟

وائل مرزا

waelmerza@hotmail.com

العرب 3/7/2011

عندما تشتدُّ حُلكة ظلام الليل السوري الطويل إلى هذا الحدّ، وعندما تزيد مساحة الرَّقع على الرّاقع حتى يصبح مستحيلاً تغطية السّوءات التي تظهر من تحتها، وعندما ينتفخ الجرح ويمتلأ بالقيح والصديد والدم الفاسد إلى هذه الدرجة، وعندما تتصلّب المفاصل من جرّاء إصابتها بصدأ مزمن ليس له دواء، وعندما يكون حجم الاهتراء واسعاً وشاملاً وطاغياً على الشكل الذي نراه جميعاً هذه الأيام.. يُصبح طبيعياً أن نتوقع مرحلةً قادمةً، يتكوّن فيها جيلٌ سوريٌ جديد يخرج من رحم المعاناة والآلام والمأساة بكل تجلياتها الظاهرة والخفية..

هذا ما توقّعهُ واستقرأهُ وتحدّثَ عنه كثيرٌ من الأدباء والمفكرين والمؤرخين والمثقفين على مدى التاريخ، عندما مرّت أممهم وشعوبهم بظروف مماثلة. وهذا ما حدثَ فعلاً مع كثيرٍ من الشعوب والأمم، وما تكرر في كثيرٍ من الحضارات، ليس لأن أولئك المفكرين والمثقفين كانوا منجّمين أو عرّافين أو من قارئي الغيب في فناجين الخرافات وكفّ الأوهام، وإنما ببساطة لأن هذا يمثل قانوناً من قوانين الاجتماع البشري، وسنةً من سنن وجود الإنسان على هذه الأرض.

وهذا الجيل السوري قادمٌ لأن جملةً من الملابسات التاريخية اجتمعت وتجتمع في سماء بلادنا كما لم يحدث من قبل. وهي ملابساتٌ تفرض قدومه لا محالة.

فهذا الجيل الجديد قادمٌ أولاً، لأن كل وجودٍ سياسيٍ واجتماعيٍ وثقافيٍ واقتصادي يحتاج إلى مشروعية، والواقع الذي عشناه ونعيشه في سورية، والسياسات التي شهدناها ونشهدها، والممارسات التي أبصرَها ويُبصرها المواطن السوري، تسحب مُجتمعةً بساط المشروعية من تحت أقدام نظامٍ لن يجد تدريجياً أرضاً صلبةً يقف فوقها بأمن واستقرار.. صحيحٌ أن الكثيرين لا يفهمون حساسية مسألة المشروعية ولا يُدركون أبعادها وطبيعتها، وصحيحٌ أيضاً أن الكثيرين لا يستطيعون فهم ارتباطها الحتمي بالوجود والبقاء والاستمرار، ولكن هذا كلّهُ لن يُغيّر شيئاً من صيرورة الأوضاع، لأن الأمر مرهونٌ أصلاً بالسنن والقوانين، وليس بعلم الناس أو جهلهم. بل إن هذا الجهل في حدّ ذاته يُعتبرُ علامةً من علامات انتهاء تاريخ صلاحية الوجود والبقاء والاستمرار.

وهذا الجيل الجديد قادمٌ ثانياً، لأن ثورة المعلومات والاتصالات اكتسحت العالم العربي ومنه سورية، وكسرت كلّ أنواع الحواجز والحدود التي كانت تقف عائقاً أمام عالَمِ الأفكار على مدى عقود بل قرون عديدة. ووحدهم الذين يعرفون ما الذي يفعله عالم الأفكار بالبشر وبالشعوب وبالحضارات، هم الذين يدركون ما تعنيه هذه الكلمات.. أما الآخرون، فسيكون الجواب ما سيرونه في المستقبل القريب لا ما سيسمعونه الآن.. سيّما وأن تلك الثورة سحبت من الأيدي الغليظة كل أدوات الكذب، وكل وسائل التزييف، وأسقطت كل الشعارات المبنية على الخداع والتزوير.

وهذا الجيل الجديد قادمٌ ثالثاً، لأن العالم تغيّر من حولنا بشكل جذري، ولأن قوانين اللعبة فيه اختلفت إلى حدٍ كبير، وإلى درجة لا يمكن لمثل هذا النظام استيعابها، لأن ثقافته وقناعاته وأدواته تنتمي كلها إلى العالم القديم في حقيقتها، ولو حاولت التزيّن أحياناً ببعض مظاهر الحداثة والمعاصرة.. وحتى إذا امتلك البعضُ فيه شيئاً من القدرة على استيعاب المتغيرات العالمية، فإنه إما أن يفتقد الجرأة والشجاعة المطلوبة لممارسة النقلة التي يتطلبها الوضع، أو أن يفتقر إلى الأدوات العملية التي تُمكّنه من الانتقال، لأنه حاصر نفسه منذ زمن بعيدٍ بهياكل معينة باتت تستعصي على الزحزحة أو التغيير.. وفي الحالتين، فإن الواقع الجديد سيُظهر انتهاءَ صلاحيته للبقاء، لأن كل شيءٍ في بقائه يتناقض مع كل مكوّنات ذلك الواقع الجديد.

وهذا الجيل الجديد قادمٌ رابعاً، لأن أداء النظام أدى فقط إلى تراكم الفشل السياسي والاجتماعي والثقافي والتنموي، ونحن إذا نظرنا من وجهة نظر حضاريةٍ عامة، فإننا نجد أن هذا الفشل يشكلُ في نهاية المطاف نوعاً من الفراغ الحضاري.. والحياةُ بطبيعتها لا تقبل وجود الفراغ، وإنما لا بد من وجود عنصرٍ يملأ الفراغ فيها بشكلٍ أو بآخر.

وهذا الجيل الجديد السوري قادمٌ خامساً، لأن لكل شيءٍ وظيفةً، ولأن لكل شيءٍ غايةً وحكمةً من وجوده. والواضح أن كتلة النظام بكل مكوناتها استنفدت قدرتها على أداء وظائفَ إيجابية في هذا الواقع الجديد. فالشعوب والأمم تمرُّ بفتراتٍ من تاريخها تُعتبر فترات امتحان وتمحيص لأفكارها ونُظمها ووسائلها، وهي فتراتٌ ربما تقترن بواقع الهزيمة والتبعية والتخلف والفساد على كل صعيد، لتَظهَرَ من ذلك الواقع على وجه التحديد الحاجةُ الماسّةُ للتغيير في تلك الأفكار والنظم والوسائل.. وقد رأينا بالوقائع والشواهد كيف تمَّ تصنيع الهزيمة والتبعية والتخلف والفساد في سورية، وبالمقابل كيف يمكن تجاوز كلٍ منها والتغلب عليه، في بلدٍ مجاورٍ مثلاً مثل تركيا.. ولولا الفشل الذي أظهره النظام لما أمكن رؤية المفارقة بهذا الوضوح، فالضدُّ يُظهرُ حُسنهُ الضدُّ كما يقولون في العربية.. من هنا يأتي الاعتقاد بانتهاء الوظيفة وبافتقاد الغاية والحكمة من وراء وجوده، ومن هنا يأتي اليقين بضرورة قدوم جيلٍ جديد يتصدى لأداء الوظائف الجديدة المطلوبة في هذا الواقع الجديد.

ولهذا كله يمكن الحديث عن ظهور جيلٍ سوريٍ جديدٍ قادم، لن يتنزّل حتماً من السماء، ولن يهبط من المرّيخ، ولن يأتي إلى هذه الأمة على حصان أبيض. وإنما سيخرج تدريجياً كما يخرجُ النهارُ من الليل، وكما يخرجُ الحيُّ من الميت، من عمق المعاناة ومن عمق الأزمات من ناحية، ومن عمق العِبَر والدروس التي ترتّبت عليها من ناحية ثانية، ومن عمق التغيير الذي يحصل في هذا العالم من ناحية ثالثة. وإذا كان العقل العربي المأزوم قد غفا على الواقع الراكد زمناً في بلدٍ مثل سورية، فإنه ربما يُفيق من غفوته عن قريب ليرى مصداق قوانين وسنن الاجتماع البشري وهي تنطبق على السوريين، كما انطبقت وتنطبق على غيرهم من الأمم والشعوب والحضارات.

* كتبتُ الكلام السابق في زميلةٍ أخرى منذ سنوات.. وأستميح القراء

و «العرب» الغراء بنشره بتصرفٍ بسيط يقتضيه المقام، لنفكر جميعاً في قوة تلك القوانين والسنن، وكيف تفرض نفسها على الناس وواقعهم في نهاية المطاف.

=====================

كيف يضمن النظام السوري اندحاره؟

بيتر هارلينغ وروبرت مالي

المصدر: الشرق الأوسط

نقلاً عن شبكة سورية الحرة

06/07/2011  

في سعيه المحموم للبقاء مهما كلفه الأمر، يبدو أن نظام بشار الأسد - بدلا من ذلك - قد عقد العزم على حفر قبره بنفسه. ولم يكن هذا الطريق محتوما، فرغم أن حركة المظاهرات قوية وتزداد قوة، فإنها لم تصل بعد إلى الكتلة الحرجة التي تضع الأمر على طريق اللاعودة. ولا يزال الخوف يساور كثيرا من السوريين حيال إمكانية الانزلاق إلى الفوضى وتفكك البلاد، ومع ذلك يتصرف النظام كما لو أنه ألدّ أعداء نفسه، حيث يعزل نفسه عن أعمدة الدعم المحورية له: قاعدته الاجتماعية بين الفقراء، والغالبية السورية الصامتة، بل وربما قواته الأمنية أيضا.

 

من جانبها تزعم السلطات السورية أنها تحارب عصابات إجرامية وحركة تمرد إسلامية ومؤامرة عالمية، وهي ادعاءات تحمل بعض الحقيقة، ذلك أن العصابات الإجرامية مستشرية بالفعل في البلاد، وتضم الثورة تيارات إسلامية، إلا أن هذه العناصر ليست نتاجا لأعداء النظام، وإنما هي وليدة عقود من سوء الإدارة الاجتماعية - الاقتصادية. والملاحظ أن غالبية الصدامات وقعت في مناطق حدودية، حيث ازدهرت شبكات الاتجار على علم وتواطؤ من قوات الأمن الفاسدة. في تلك الأثناء يعكس صعود الأصولية الدينية إهمال الدولة التدريجي لمسؤولياتها في مناطق كانت من قبل معاقل للحزب البعثي.

 

على امتداد الجزء الأكبر من الأحداث الأخيرة تورط النظام في حرب ضد الشريحة الاجتماعية المؤيدة له. جدير بالذكر أنه عندما تولى حافظ الأسد، والد بشار، السلطة طرح حزبه، الذي تهيمن عليه الطائفة العلوية، باعتباره ممثلا عن الريف المهمل وفلاحيه والطبقة الفقيرة المطحونة. واليوم نسيت النخبة الحاكمة جذورها، وقد ورثوا السلطة ولم يحاربوا من أجلها، ونشأوا داخل دمشق ليحاكوا أسلوب حياة الطبقة الحصرية الراقية التي اختلطوا بها، وقادوا عملية تحرير للاقتصاد على حساب الأقاليم.

 

الملاحظ أن بعض المتظاهرين يبدون سلوكا طائفيا عنيفا أقرب للسلوك البلطجية، إلا أنه عند النظر إلى بلطجية القوات الأمنية العلوية والعنف الذي تمارسه - في صورة اعتقالات واسعة وتعذيب وعقاب جماعي منذ اندلاع الثورة مطلع هذا الربيع - نجد أن رد الفعل الشعبي أبدى درجة مذهلة من ضبط النفس. ويسلط متظاهرون شباب الضوء على هذا الأمر عبر تداول صور لهم وهم يقفون مثل الإرهابيين المسلحين حاملين باذنجانا وقاذفات صواريخ مقلدة تطلق خيارا.

 

ويأمل النظام في الاعتماد على «الغالبية الصامتة»، وهم الأقليات، خصوصا العلويين والمسيحيين الذين يساورهم القلق إزاء إمكانية سيطرة الإسلاميين على السلطة، والطبقة الوسطى (المؤلفة من موظفي الدولة)، وطبقة رجال الأعمال التي تنبع ثرواتها من قربها من النظام. ولن تستفيد أي من هذه الفئات حال صعود طبقة فقيرة من الأقاليم، ويرون في العراق ولبنان ثمن الحرب الأهلية في مجتمع مقسم طائفيا، إلا أنه كلما طال أمد الاضطرابات تضاءلت صورة النظام كممثل للاستقرار، خصوصا وأن ادعاءه بأنه الضامن لهذا الاستقرار تدحضها أفعاله يوميا، وهي مزيج محير من الوعود بالإصلاح والمناشدة للحوار والقمع المتطرف المجنون. ومع استشراء القلاقل يتداعى الاقتصاد، مما يثير سخط طبقة رجال الأعمال.

 

ويعتقد كثير من المراقبين أن الأصل الجوهري الذي يتمتع به النظام هو أجهزته الأمنية، وليس الجيش، الذي لا يوليه النظام ثقته، ويعاني منذ أمد بعيد من تراجع الروح المعنوية في صفوفه. وتنصبّ ثقة النظام على وحدات بعينها مثل الحرس الجمهوري وفصائل من الشرطة السرية تعرف باسم المخابرات. وتتألف هذه الوحدات في معظمها من علويين. ويبدو أن النظام يؤمن بهذا الأمر أيضا، ويعتمد بالفعل على هذه الفئات لاحتواء الأزمة الراهنة، بيد أن هذا الأمر قد يأتي بنتائج عكسية، ذلك أن العنف فشل في وقف الطوفان المتصاعد من المظاهرات، وحتى بالنسبة لمن يرتكبون العنف لا يبدو أنه يخدم هدفا دفاعيا أو يترك تأثيرا ملموسا. إن شن الحملات القاسية ضد الجماعات الإسلامية المسلحة هي مهمة ربما بمقدور قوات الأمن تنفيذها إلى الأبد، لكن مطالبتهم بالتعامل مع إخوانهم المواطنين كأعداء أجانب أمر مختلف تماما وتبريره أصعب بكثير.

 

ولا يزال نظام الأسد يعول على غريزة البقاء الطائفية، مبديا ثقته في أن القوات العلوية - رغم ما يتعرضون له من أعباء كبيرة وما يتلقونه من رواتب ضئيلة - ستقاتل حتى النهاية المريرة. لكن الغالبية ستجابه صعوبة في تحقيق ذلك، فبعد ما يكفي من العنف الأخرق ربما تدفع هذه الغرائز القوات لاتجاه معاكس لما يأمله النظام. وبعد معاناتهم قرونا من التمييز والاضطهاد على أيدي الغالبية السنية، ينظر العلويون إلى قراهم الواقعة داخل مناطق قبلية يتعذر الوصول إليها نسبيا باعتبارها الملاذ الوحيد الحقيقي لهم. وتلك هي المناطق التي أرسل الضباط السوريون أسرهم إليها بالفعل. ومن غير المحتمل أن يرى هؤلاء أنهم في أمان داخل العاصمة (التي يشعرون فيها بأنهم ضيوف مؤقتون)، حيث تحميهم قوات نظام الأسد (الذي يعتبره شذوذا عن القاعدة التاريخية) أو مؤسسات الدول (التي لا يثقون بها). وعندما يشعرون أن النهاية اقتربت لن يحارب العلويون حتى آخر رجل فيهم داخل العاصمة، وإنما سيفضلون التوجه إلى مسقط رأسهم. إلا أن النظام لا يزال يحظى بتأييد المواطنين المذعورين من مستقبل يكتنفه الغموض وقوات الأمن التي تخشى من انهيار النظام، وإن ظلت هناك مخاطرة أن يؤيد ذلك لإقناع القيادة المعتدة بنفسها أنه يكفي للخروج من الأزمة الراهنة إقرار مزيد من الإصلاحات المتذبذبة وشن مزيد من الجهود لكسر حركة المظاهرات بلا هوادة. في الواقع، هذا لن يسفر سوى تقريب المسافة من نقطة الانهيار الأخير.

 

وحتى في هذه اللحظة من الصعب تقييم ما إذا كانت غالبية واضحة من السوريين تأمل في الإطاحة بالنظام، لكن الواضح أن غالبية داخل النظام تعمل بمرور الوقت على الإسراع من اندحاره.

-----------

* هارلينغ مقيم في دمشق كمدير مشروع العراق وسوريا ولبنان لدى مجموعة الأزمات الدولية، ومالي مدير برنامج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا لدى المجموعة.

------------------------

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها

 

 

أعلى الصفحةالسابق

 

الرئيسة

اطبع الصفحة

اتصل بنا

ابحث في الموقع

أضف موقعنا لمفضلتك

ـ

ـ

من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ