ـ

ـ

ـ

مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وقولوا للناس حسنا

اتصل بنا

اطبع الصفحة

أضف موقعنا لمفضلتك ابحث في الموقع الرئيسة المدير المسؤول : زهير سالم

السبت 14/05/2011


أرسل بريدك الإلكتروني ليصل إليك جديدنا

 

واحة اللقاء

 

التعريف

أرشيف الموقع حتى 31 - 05 - 2004

ابحث في الموقع

أرسل مشاركة

J

 

سوريا تدخل مرحلة "ما بعد تعثّر إستراتيجية التخويف"

بقلم : سعد محيو – بيروت

swissinfo.ch

12-5-2011

هل خسر النظام السوري رِهانه على عامِليْ الخوف والزمن؟ سنأتي إلى عامل الخوف، الذي كان أحد الركائز الرئيسية للنظام الذي نسَج خيوطه الرئيس حافظ الأسد قبل أربعة عقود، بكثير من الدِّراية والدقّة، بعد قليل.

أما بالنسبة إلى عامل الزّمن، فالخسارة لهذا النظام تبْدو مؤكّدة وعلى المستوييْن معاً: الداخلي والخارجي. ففي الداخل، بات عامِل الزمن يعمَل لغيْر صالح النظام، حيث كل يوم يمُر، يحمِل معه مخاطِر جمّة جديدة، خاصة بعد أن اختار الرئيس بشار الأسد أسوأ "الكوكتيلات": تبنّي فكرة الإصلاح، ثم قمع وقتل واعتقال كلّ من يُطالِب به، وإلغاء حالة الطوارئ ثم تطبيق إجراءات أسوأ منها بكثير.

وعلاوة على كل ذلك، عدم التَّأقلم مع الوقائع التي تُشير إلى أن النظام "لم يعُد مرتبطاً بشكل وثيق بمعتقدات الشعب السوري"، كما أبلغ الأسد "وول ستريت جورنال" قبل أيام من اندلاع الانتفاضة الشعبية في 15 مارس الماضي.

استمرار الانتفاضة وانتشارها

المستقبل الآن بات وراء الحُكم السوري، إلى درجة بات الحديث فيها عن "مسألة فقدان السيطرة" شِبه يومي، حتى لو بدا أن دَرْعا وبقية غالبية المُدن والدساكر السورية، أصبحت أشبه بكانتونات أمنية وعسكرية. فهذا التطوّر الأخير، دلالة ضُعف لا قوّة، وهو يكشف بشطحة قلم، أن ما كان جائزاً وممكناً في عام 1982، لم يعُد جائزاً ومُمكناً الآن.

في عام 1982، حين وقعت كارثة حَماة، التي قُتل فُيها ما يتراوح بين 20 إلى 30 ألف شخص وسُوّيت خلالها هذه المدينة بالأرض، كانت خطوط المعركة واضحة: نظام شِبه عِلماني خارج لتَوّه من معارك مواجهة مع إسرائيل عامي 1973 و1982، يخوض صِدامات مع منظمة أصولية متطرِّفة، هي جماعة الإخوان المسلمين، التي تريد فرْض صيغة مُغالية ومرفوضة من الإسلام، على كلٍ من الأقليات المسيحية والعَلَوية والدُّرزية والإسماعيلية، وعلى الغالبية السنُية في آن، وهذا ما لمّ شمْل الجميع آنذاك في صفّ النظام، على رغم إبداء التقزّز والاشمِئزاز من مستوى العُنف والقمع والعقاب الجماعي، الذي مورس ضدّ المدينة.

هذا كان في عام 1982، أما في عام 2011، فالمجابهة هي بيْن نظام بات أكثر طائفية وأقلّ عِلمانية، وبين معارضة شعبية لا رأس لها، حريصة كل الحِرص على رفْع الشعارات الوطنية، لا الدِّينية (من قبيل "لا سُنّية ولا عَلوية: وِحْدة وطنية" و"الشعب السوري، شعب واحد" و"الله، سوريا، الحرية")، وتتحرك وِفق قانون البالُون المُمتلِئ بالماء: كلّما دُسْت عليه أكثر، كلَّما انتشر فيه الماء أكثر. وفي الحالة السورية، ترجم هذا نفسه طيلة الشهريْن الماضيين كالتالي: كلّما ازاد قمْع النظام، كلما انتشرت الإنتفاضة إلى أماكن أخرى.

الزمن لم يعُد يلعَب لمصلحة النظام من زاوية أخرى أيضا: التراجع التّدريجي لتماسُك مؤسسة الجيش، ما عدا الفِرقة الرابعة والحرس الجمهوري، اللذين يقودهما ماهر، شقيق الرئيس الأسد وآصف صِهره. حتى الآن، لا تزال الإنشقاقات في الجيش محدودة، حيث تحدّثت الأنباء عن إعدام بضعة ضبّاط برتبة لواء وعقيد وعشرات الجنود، لرفضهم تنفيذ الأوامر بإطلاق النار على المتظاهرين.

لكن استمرار الإنتفاضة الشعبية وانتشارها، سيضعان الجيش كمؤسّسة، عاجلاً أم آجلاً، أمام خيار من إثنين: إما انقلاب عسكري يقوده ضباط عَلويّون كِبار (على نمَط العقيد غازي كنعان)، لإنقاذ النظام من داخله والإشراف على مرحلة انتقالية إلى ديمقراطية موجّهة، كما الأمر الآن في مصر وكما كان قبلها في تجارِب تركيا وإندونيسيا والبرتغال وتشيلي، أو تفكّك الجيش على أسُس طائفية واندِفاع البلاد إلى حَمأة حرب أهلية، على النَّمط الليبي.

الأمور لم تصِل بعدُ إلى هذه المرحلة. فالثورة الشعبية السورية لم تحُرّك بعدُ "الكُتلة الحرجة" (critical mass) ، التي دفعت مئات الآلاف إلى الشوارع في مصر وتونس واليمن، بَيْد أن طبيعة التطورات المتسارعة، تشي بأن الأوضاع تتّجه بالفعل نحْو هذه المرحلة، وهذا ما سيجعل الضغوط لا تُطاق على الجيش.

والخارج يتحرّك

هذا على الصعيد الداخلي لمفاعيل الزّمن، أما على المستوى الخارجي، فلا تبدو الصورة أقَل قتامة للحُكم السوري، إذ أن الإتحاد الأوروبي، الذي فرض قبْل أيام عقوبات على 13 شخصية أمنية وسياسية سورية، بدأ يتحرّك بسرعة وقوة لإسقاط الشرعية الدولية عن النظام، سواء في المحافل العالمية أو حتى في محكمة الجنايات الدولية. والخطر هنا، أن فرنسا، أي الدولة الغربية التي أخرجت النظام السوري من عُزلته الدولية التي فُرضت عليه منذ عام 2005، هي بالتحديد مَن يقود الآن هذا التحرّك، ما يشي بأن الحكم السوري ربّما خسِر أهَم داعم دوليّ له في الساحة الدولية.

والإدارة الأمريكية، وبعد امتناع طويل عن اتخاذ مواقف جادّة ضد القَمع في سوريا، بسبب ما يقال عن علاقات تاريخية متينة، وإن خفِية، مع الأنظمة البعثية، بدأت تسير هي الأخرى باتِّجاه تبنِّي مواقف أكثر صرامة مع دمشق. معالِم هذا التوجّه بدأت تترى مع تواتر الحديث عن إستراتيجية أمريكية جديدة تُدير الظهر لأولوية تغيير سلوك النظام (خاصة ما يتعلق بروابطه مع إيران ومفاوضاته مع إسرائيل) وتضع مسألة تغيير النظام نفسه كهدف، سواء عبْر الإنقلاب العسكري أو الثورة الشعبية.

والأهم، أن تركيا - أردوغان، التي باتت تلعَب دوراً إستراتيجياً كبيراً في الشرق الأوسط، تبدو هي الأخرى وكأنها فقَدت الأمل في إقناع الرئيس الأسد بتزعّم المرحلة الانتقالية إلى الديمقراطية، وهذا ما قد يدفعها في قادِم الأيام إلى ممارسة ضغوط قوية وشديدة على النظام السوري، وهي ضغوط تخشاها دمشق بقوّة، كما هو معروف، بسبب عوامل الجغرافيا والتاريخ والإستراتيجيات.

إسراتيجية الخوف

هذا على صعيد الزّمن، أما على صعيد الخوْف، فقد دلّت مُظاهرات "جمعة التحدّي" (6 مايو)، أن إستراتيجية التخويف التي أراد النظام إحياءها في دَرْعا، عبْر تحويل هذه المدينة إلى "فزّاعة جماعية"، لم تعُد تُجْدي نفعا.

فالمحتجّون في بانياس، وبدلاً من أن يرهبهم مشهَد الدبابات والمدرّعات، التي تقتحم الأحياء السكنية وأجهزة المخابرات التي تعتقِل مئات الشبان في دَرْعا، شكَّلوا سلاسل بشرية للتصدّي للدبابات. والمتظاهرون في حمص، قدّموا 12 قتيلاً. والمتظاهرون في دمشق (على قلّة عددهم)، هتفوا بشِعار ذي مغزىً كبير: "الملايين تريد الشهادة". وحتى في دَرْعا المحاصَرة بالدبابات والقنّاصة الذين يمنعون أي تحرّك في الشوارع، كان المتظاهرون يلجؤون إلى أسطُح المنازل ليهتفوا من هناك ضد النظام.

كل هذا عنى أن حاجز الخوف سقَط بالفعل، وهذا أخطر ما يُمكن أن تتعرّض إليه الدّولة الأمنية أو البوليسية، التي تعتمد على سايكولوجيا الخوف للبقاء على قيْد الحياة ولإحْكام قبضتها على المُجتمعيْن، المدني والسياسي.

المعركة من الآن فصاعداً، بين المعارضة الشعبية وبين النظام، ستكون على استِمالة الطبقة الوُسطى السورية (على اعتبار أن الطبقة العُليا بمعظم أطيافها الطائفية لها مصالح مع النظام). فهذه الطبقة، هي التي ستكون "بيضة القبّان"، التي ستقرِّر لِمَن سيُكتَب له النصر بين الطرفيْن.

النظام من جهته، سيُواصل الرِّهان على أن "كوكتيل" التخويف والقمْع، سيُقنِع أعضاء الطبقة الوسطى (وغالبيتهم من صغار التجار والموظفين) بالبقاء في منازلهم ورفْع لواء الأمن والاستقرار.

والمعارضة، بقوّة تضحياتها وإصرارها، ستعمل على إفهام هؤلاء بأنه لم تعُد ثمّة عودة إلى الوراء، أي إلى ما قبل الانتفاضة، وأن الطريق الوحيد للإستقرار، هو إقامة نظام ديمقراطي جديد، هذا ما يُسمّى الآن في أدَبيات عِلم السياسة، "معركة الكُتلة الحرجة": مَن يربحها، سيربح الحرب، ومن يخسرها، يخسر كل شيء، وهي معركة طويلة ومريرة وخطرة.. إلا بالطبع، إذا ما تحقّق سيناريو تغيير النظام من داخله، إذ حينها سيعمل الزّمن لصالح هذا الأخير ومن دون ضرورة أو حاجة لتطبيق إستراتيجية الخوف.

===================

الكاميرا المحمولة أصدق إنباءً من الثابتة

المصدر: زياد عبدالله

التاريخ: 12 مايو 2011

الامارات اليوم

حين تصنع فيلماً وتريد له أن يكون أقرب ما يكون إلى الواقع أو الإيهام بالواقع لتكن الكاميرا محمولة، دع للمشاهد أن يعيش اهتزازات الكاميرا كما لو أن ما نشاهده ليس إلا توثيقاً، والشخوص التي أمامنا خارجة من رحم الواقع وهناك من يصورهم بكاميرا منزلية، هذا ليس بجديد! ويمكن تتبعه على سبيل الأمثلة القريبة في فيلم إسكندر قبطي «عجمي»، حيث التوثيق واحد من الخيوط الكثيرة المتشعبة في الفيلم التي تجتمع لتوثيق حياة «عرب 48» في ذلك الحي الحيفاوي، وصولاً إلى آخر ما شاهدت مع فيلم الأميركية فيكتوريا ماهوني «صراخ إلى السماء» والعوالم السفلية لنيويورك، الأمر تسرب أيضاً إلى الأفلام التجارية مثلما حصل مع أورين بيلي في«نشاط خارق» حيث الرعب مضاعف لا لشيء إلا لحضور الكاميرا المحمولة أو كاميرا التصوير المنزلي التي تمنح الخوارق حضورها الأشد وقعاً.

التعامل مع ما تقدم معبر إلى ما نشهده في عالمنا العربي، أو ما يشاهده المواطن العربي على شاشات التلفزة والإخبارية منها تحديداً، إذ تشكل الكاميرا المحمولة مصدراً رئيساً لنقل الأخبار والمعلومات وتوثيق الأحداث، ما يقود أيضاً إلى تتبع ما يحدث في نقل حي ومباشر، وعليه يمكن الوصول إلى فكرة مفادها أن هذا النوع من النقل الذي يتم من قبل أناس عاديين يحتل يكون الجزء الوثائقي من الحدث، بينما تأتي الرواية الرسمية كما لو أنها فيلم روائي له أن يتحلى بالكثير من الخيال، ومعه بالتأكيد رصانة الصورة، صرامتها وانعدام اهتزازها، والتي ستكون مصورة من قبل طاقم عمل متكامل.

للتوضيح أكثر فإن ما تشهده سورية حالياً صالح تماماً لهذا التقسيم، وتحديداً في ظل التعتيم الإعلامي المطلق لما يحدث ومنع أي وجود لوسائل الإعلام العربية والأجنبية، بمعنى أن مصدر المعلومات غير الرسمية آت على الدوام من الكاميرا المحمولة وهي غالباً كاميرا الهاتف النقال، التي تنجح أو لا تنجح في نقل ما يحدث، لكنها بالتأكيد تكون قادرة على نقل الأجواء، الصرخات، اهتزازها بشدة حين يجابه من يصور حالة عنف شديد، أو أن يتعرض هو نفسه لهذا العنف، بما يدفع أحياناً للتفكير أيضاً: كم من المشاهد صورت ولم تصل أيضاً.

بينما يقودنا الانتقال إلى شاشة التلفزيون الرسمية إلى ما له أن يكون فيلماً روائياً بامتياز، كل شيء مرصود وفق سيناريو معد سلفاً، وكل المقابلات والاعترافات التي يقدمها تمضي في غاية واحدة، وهنا يتجسد تماماً فعل مجابهة الروائي مع الوثائقي، والاستعداد النفسي للتلقي، الحقيقة العارية المأخوذة من الشارع أمام الحقيقة المصنّعة، وما بينهما يحضر السؤال الأكبر حول التصديق، فالوثائقي لا حاجة له بتهيئة المشاهد وبناء جسور من الاتفاق معه، بينما الروائي فله أن يكون مصاغاً بناء على رغبة من يرى، المشاهد الذي يصادق قبل أن يشاهد.

===================

رحلة عابرة في معتقل سري سوري

مارتن فلتشر صحافي في « ذي تايمز »

ترجمة: عوض خيري

التاريخ: 12 مايو 2011

الامارات اليوم

كان يقلني «تاكسي» في مدينة حمص السورية، اعتقلني الجنود في إحدى نقاط التفتيش في المدينة، واقتادوني داخل قبو في معتقل سري مركزي في المدينة، أجلسوني في الممر فاسترعى انتباهي أكوام من أحزمة «البناطيل» الملقاة على الارض وأربطة الاحذية، ولم أكتشف السبب إلا بعد ان أمر حراس المعتقل سائق التاكسي بأن ينزع حزام بنطاله ورباط حذائه، ثم دفع به الحراس الى بوابة ذات قضبان حديدية تمتد حتى السقف، وخلال برهة وجيزة أجلت النظر في الغرفة أمامي، كانت تغص بالشباب الجالسين على الارض، ففي محاولة منه لسحق الانتفاضة في حمص عمد النظام الى اعتقال أي شخص تقع يداه عليه قادراً على القتال.

وبما أن نظام الرئيس السوري، بشار الاسد، حظر على الصحافيين الأجانب دخول سورية منذ اندلاع الانتفاضة، لم أتمكن من دخول البلاد إلا تحت غطاء سائح، ركبت حافلة من العاصمة دمشق الى حمص بحجة زيارة قلعة الحصن الموجودة في التلال المجاورة للمدينة. كنت السائح الوحيد في الفندق وربما الأجنبي الوحيد في حمص، كانت المدينة متوترة، فقد لقي 16 متظاهراً حتفهم السبت الماضي خلال التظاهرات، بينهم طفل (12 عاماً)، خلال تشييع الجثامين. وفي اليوم الاول من وصولي قتلت السلطات 12 عاملاً سورياً في كمين استهدف حافلتهم في الطريق من دمشق، ظناً منها انهم من المحتجين.

ولكي أتجول عبر المدينة أقنعت احد سائقي التاكسي بأخذي في جولة في افقر الاحياء واكثرها احتجاجاً، ورأيت ان كل تقاطع رئيس تحرسه أربع دبابات، وعلى جانب الطريق المؤدي شمالاً الى خارج حمص أحصيت اكثر من 100 دبابة جاهزة للتدخل في حالة تفاقم الوضع. كان الوضع شديد التوتر في حمص للحد الذي لا يستطيع فيه أي مواطن المخاطرة بنفسه والتحدث الى أجنبي، إلا ان القليل منهم يغامرون في التعليق بلهجة إنجليزية ركيكة. نصحني أحدهم بألا اغادر فندقي بعد السابعة مساء، وقد كان صادقاً، فقد تم إيقاف سيارة الاجرة في إحدى نقاط التفتيش وتفحص الجنود جواز سفري ورأوا أختاماً حديثة تشير الى دخولي ليبيا ومصر، وأخبرهم سائق التاكسي بأنني طلبت منه ان أريه الدبابات على الشوارع وفي الحال اتصلوا بالضابط المسؤول، ركب رجل يحمل بندقية من طراز «ايه كي 47» التاكسي وأمر سائقه بالتوجه الى طريق بالقرب من محطة القطارات المحاصرة، توقفنا في ساحة كبيرة محاطة بمجموعة من الشقق، اقتادوني الى قبو من دون نوافذ وأمروني بالانتظار في الممر الذي يمر عبره ايضا بعض الرجال في سترات جلدية تتدلى من «بناطيلهم» المسدسات، ربما كانوا من الاستخبارات او الشرطة، استجوبني رجلان بشكل مهذب ولكن بإلحاح بلغة انجليزية ركيكة، أحدهم اكثر شباباً الا ان هيأته تثير الخوف اكثر من الآخر، بحثوا في هاتفي الجوال عن صور فيديو لكن لم يجدوا شيئا ثم فتشوا كاميرتي التي عبأتها لحسن الحظ بصور السوق والآثار الرومانية في بصرة.

اخيراً ادركوا أنني اتحدث العربية لكنني أتظاهر بعدم معرفتها، ووضع أحد الضباط سوطا مصنوعا من اسلاك الكهرباء امامي على الطاولة لكنني أصررت على روايتي، وبوصفي معلماً للتاريخ والسياسة في إجازة جامعية أستطيع ان احس بالمناطق الخطرة وأحب زيارة المواقع التاريخية، ولا أعتقد أنهم صدقوا روايتي لكنهم في الوقت نفسه لم يستطيعوا دحضها، ولحسن الحظ لم يعثروا على كراستي الموجودة في قاع حقيبتي.

وكلما مرت الساعات يصل الى مركز الاعتقال مجموعات من الشباب بعضهم يرتجف من الخوف، والآخرون يمشون بتحد. قبل الحادية عشر مساء بقليل أمرني احد المحققين ان أقف، وقال انه ينبغي علينا ان «نقابل الجنرال». أخذني الى الاعلى ثم دفع باباً تدفق منه هواء بارد بفعل المكيفات الهوائية، ورأيت على الحائط خريطة كبيرة توضح المناطق الساخنة في حمص، وفي الطرف القصي من الغرفة يجلس رجل يبدو عليه التعب والاجهاد أمامه بندقية من طراز «ايه كي 47» ومجموعة من الهواتف التي ترن باستمرار، ويصرخ الرجل في الهواتف مصدراً تعليماته، لم يقدم لي نفسه لكنه صافحني بيده وقدم لي قهوة واعتذر عن اعتقالهم لي، وحدثني قائلاً: ان سورية أصبحت هدفاً للمؤامرات، والشعب السوري يحب رئيسه إلا ان هناك حفنة من الراديكاليين المندسين الذين تمولهم قوى أجنبية، والذين يحاولون الاطاحة به لأنه وقف في وجه إسرائيل والولايات المتحدة. ويواصل الضابط حديثه: هؤلاء النفر يقتلون المتظاهرين لاستخدامهم كدعاية من قبل تلفزيون الجزيرة، ويقتلون الجنود الذين يحاولون حفظ النظام، ويدعي هذا الضابط أنه فقد في ذلك اليوم خمسة من رجاله.

كنت أومئ برأسي موافقاً على حديثه وأظهر تعاطفي وطلبت منه الإفراج عن سائق التاكسي، وقد تم في ما بعد.

أوصلوني الى فندقي عبر طرق مهجورة. كنت أكثر حظاً من كثير من السوريين الذين تم اعتقالهم في ذلك القبو. ولكي أحافظ على غطائي كسائح زرت في اليوم التالي قلعة الحصن، وشاركتني في تلك الزيارة بعض السحالي وصمت يقطعه الأذان في بعض الأحيان.

===================

عزمي بشارة وقطر... و"الريموت كونترول"

النهار

غسان الحجار

12-5-2011

كان عزمي بشارة بطلاً قومياً تقدمياً، تستقبله دمشق بالأحضان ومعها كل القوى اللبنانية التي تصف نفسها ب"الوطنية". كذلك كانت "الجزيرة" القناة الأقوى والأكثر تعبيراً عما كان يسمى "المعارضة" اللبنانية، أي قوى 8 آذار، لكن الأمور تبدلت ما بين ليلة وضحاها. فها هو غسان بن جدو يستقيل من ادارة مكتب بيروت للمحطة ويخرج من صفوف القناة التي "تحاملت" على النظام السوري، و"تراجعت" بل "تواطأت" في الملف البحريني. وها قوى لبنانية تعتصم أمام مقر "الجزيرة" في بيروت رفضاً لموقفها من سوريا، بعدما كانت قبل أسابيع أيدت الموقف من النظام المصري، وأيضاً من التونسي وكذلك من الليبي.

وها هو عزمي بشارة، النائب السابق في الكنيست الإسرائيلي والذي استقال بعدما اتهم بدعم المقاومة اللبنانية خلال حرب تموز 2006، وبأنه نقل معلومات الى "حزب الله" وساعده في توجيه صواريخه الى مواقع اسرائيلية استراتيجية، ها هو المفكر العربي القومي "البطل" يتحول عميلاً بعدما رفض ممارسات النظام السوري بحق مواطنيه، وقد قرأت عنه بالأمس الآتي: "لبس رجل الأقنعة قناع المفكر القومي فأقنع بعضنا بثوريته وعدائه لإسرائيل، احتضنته نخبة الحكام والمثقفين التقدميين، فكانوا كمن يضع الأفعى في حضنه. خدعنا واختار الإقامة في امارة الحاخامات. (والمقصود هنا قطر) وفي الخطة المطلوبة، صهيونياً وأميركياً، بث من شاشة الجزيرة السموم".

هل تبدل عزمي بشارة وصار خائناً لمجرد انه أيد الثورة في سوريا وتحدث عن التوريث في الحكم وعن الفساد المستشري في النظام وقال بأحقية مطالب أهالي درعا وغيرهم بإصلاحات سياسية وبالعيش بحرية؟

وهل هي قطر التي أعادت اعمار قرى الجنوب بعد عدوان تموز 2006، واستقبلت الأحزاب "الوطنية" وزير خارجيتها، في قلب الضاحية قبل وصول أميرها وحمله على الراحات في كل قرية ومدينة؟ وهل هي نفسها "الجزيرة" التي كانت "القوى الوطنية" تواجه بها قناة "العربية" السعودية والمتهمة بالعداء لسوريا وإيران و"حزب الله"؟

ترى ماذا يجري؟ كيف تتبدل المعايير؟ والمواقف؟ انها الريموت كونترول حتماً.

===================

مقايضة الغرب بأمن «إسرائيل»!!

ياسر الزعاترة

الدستور

12-5-2011

الملياردير رامي مخلوف (41 عاما) يشير إليه السوريون بوصفه عنوان الفساد في البلاد (الفساد الاقتصادي بالطبع). ويبدو أن النظام السوري لم يشأ أن يبعث برسائله الإشكالية عبر واحد من رموزه الكبار، فتكفل بها صاحبنا الملياردير، لا سيما أنه كان واحدا من الشخصيات التي فُرضت عليها العقوبات الأوروبية، ما قد يتسبب بأضرار لبعض استثماراته، ونقول بعض، لأنه يركز استثماراته داخل سوريا، مع أن أمثاله لا حدود لأعمالهم.

رسالة النظام عبر رامي مخلوف جاءت من خلال مقابلة مع صحيفة «نيويورك تايمز» الأمريكية، وكانت كالتالي: «إذا لم يكن هناك استقرار داخلي هنا (في سوريا)، فمن المستحيل أن يكون هناك استقرار في إسرائيل. لا توجد طريقة ولا يوجد أحد يضمن ما الذي سيحصل بعد إذا لا سمح الله حصل شيء لهذا النظام».

وردا على سؤال إن كان يعني التهديد أم التحذير قال «لم أقل حربا. ما أقوله هو: لا تدعونا نعاني، لا تضعوا الكثير من الضغوط على الرئيس، لا تدفعوا سوريا إلى فعل شيء لا ترغب في فعله».

ليس ما قاله رامي مخلوف بدعا من الكلام بالنسبة للحكام، ذلك أن جميع الأنظمة العربية تعلم تماما أن لا شيء يحرك قلب أمريكا والغرب كما تحركه مصالح الدولة العبرية في هذه المنطقة، وقد سبق لمعمر القذافي أن قال مثل هذا الكلام من أجل مساومة أمريكا والغرب، لولا أن ليبيا بعيدة عن حدود الكيان الصهيوني، مع أن واشنطن تحديدا لم تحسم إلى الآن موقفها من العقيد لاعتبارات كثيرة من بينها موقف تل أبيب.

تأتي تصريحات مخلوف على خلفية الجدل الذي يندلع في الدولة العبرية حول ما يجري في سوريا، وإن كان ينطوي على بعض المخاطر عليها أم لا، وهنا بالطبع تنهض جملة من المقاربات، من دون أن نعثر على مقاربة واضحة ومحسومة تُجمع عليها الدوائر السياسية والأمنية والعسكرية، لكن بروز مخاوف إسرائيلية من قيام النظام بمغامرة ما حيال «إسرائيل» من أجل التخلص من وضعه في الداخل هي التي دفعت رامي مخلوف إلى إطلاق هذه التصريحات، مع أننا نشك كثيرا في قابلية النظام لفعل ذلك، لا سيما أن شيئا كهذا لن يدفع السوريين إلى تجاهل مطالبهم في التغيير، حتى لو أجلوها بعض الوقت تبعا تلك المغامرة.

الجزء الآخر من الجدل الإسرائيلي يتعلق بالبديل المحتمل للنظام الحالي، وحيث يختلف الإسرائيليون هنا أيضا، ويميلون إلى أن النظام التالي لن يكون أفضل من النظام الحالي لجهة سياسته الخارجية، مع احتمال أن يكون أسوأ، وبالطبع لأن السوريين في مجملهم يميلون إلى المواقف القوية حيال دولة الاحتلال الإسرائيلي، وبالتالي فإن دعم التغيير في سوريا يشكل مغامرة في سائر الأحوال، وعموما يقول لسان حال الإسرائيليين إن نظاما تعودنا عليه خير من نظام مجهول الهوية قد يكون أسوأ في حال كان ديمقراطيا يعبّر عن مواقف شعبه.

كل ذلك يؤكد أن النظام لم يكن مخلصا في مقاومته وممانعته، بقدر ما كان يعبر عن مصالح نخبته الحاكمة التي رأت أن كلفة المقاومة والممانعة أقل من كلفة الاستسلام كما كان يردد الرئيس السوري نفسه، الأمر الذي كنا ندركه بالطبع، من دون أن يدفعنا إلى التردد في مديح تلك المواقف قياسا بمواقف أنظمة أخرى كانت تذهب في الاتجاه الآخر، ومن أجل مصالح نخبها الحاكمة أيضا.

اليوم تبدو تصريحات رامي مخلوف محرجة إلى حد كبير للتيارات التي تدافع عن النظام وتقف معه في معركته مع شعبه، وفي مقدمتها حزب الله ومن يدور في فلكه، فضلا عن جحافل من القوميين واليساريين الذين لا يستحون من دفاعهم عن قتل النظام لأبناء شعبه، فضلا عن ترديد حكاية المؤامرة الخارجية، لكأن النظام هو وحده عنوان الوطنية والقومية، بينما السوريون مجرد جحافل من العملاء والمأجورين.

إنه منطق النخب الحاكمة التي تعلن استعدادها لحرق الأخضر واليابس من أجل مصلحتها بعد أن جمعت الثروة مع السلطة، وفي هذا الصدد يقول مخلوف في ذات المقابلة إن النخبة الحاكمة في سوريا قد تكاتفت أكثر بعد الأزمة (لا يريد الاعتراف بأنها ثورة مع أن كلامه يعكس ذلك)، مضيفا القول «نؤمن بأنه لا استمرارية من دون وحدة، وكل شخص منا يعرف أننا لا يمكن أن نستمر من دون أن نكون موحدين. لن نخرج ولن نترك مركبنا ونقامر. سنجلس هنا، نعتبرها معركة حتى النهاية». وفي النهاية يعود إلى الدولة العبرية ليقول للغرب «يجب أن يعلموا أننا حين نعاني، فلن نعاني وحدنا».

تلك هي رسالة النظام عبر مليارديره المدلل، فهل يستمع إليها الغرب؟ ثم هل سيكون بوسعه (أي الغرب) الحيلولة بين الشعب السوري وبين نيل حريته؟ ألم يحاولوا ذلك مع نظام مبارك ففشلوا، مع أنه كان الأكثر حرصا على مصالح الكيان الصهيوني؟!.

===================

مثقفو سورية وفنانونها أمام لحظة الحقيقة

أمجد ناصر

2011-05-11

القدس العربي

تعتقد الأكاديمية الأمريكية ليزا وادين، التي وضعت كتاباً مهمَّاً عن حكم الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد، أنَّ أعمال الكوميديا التي يعرضها التلفزيون الرسمي تمثل نوعاً من 'المقاومة' المخاتلة للنظام. مقاومة تحاول الوصول إلى هدفها من طرق جانبية أو التفافية. ففي ظل نظام يفرض رقابة صارمة على حريات القول والتعبير لجأ الفنانون السوريون إلى الكوميديا التلفزيونية والمسرحية لنقد أوجه القصور والخلل في الحياة العامة السورية من خلال حكايات واسكتشات عن واقع الحال المحلي والعربي. وترى ليزا وادين أن هذه الأعمال 'تبرز الفجوة بين الخطاب الرسمي والحياة السياسية المعاشة لأغلبية السوريين'. ففيما 'يتحدث الخطاب الرسمي عن الوحدة العربية ويمجد الناس العاديين ويدافع عن حكمة قادة النظام وشجاعتهم تُظْهر هذه الأعمال الكوميدية الانقسام العربي وتبيِّن درجة انكسار الروح المعنوية للمواطنين بسبب ممارسات النظام، وتكشف فساد مسؤولي النظام وقسوتهم وتهزأ من تعسف مؤسسات الدولة'.

وللتدليل على قولها هذا تضرب الأكاديمية الأمريكية، مؤلفة كتاب 'السيطرة الغامضة' الذي صدرت ترجمته العربية حديثاً عن دار رياض الريس، مسرحيات دريد لحام وأعمال ياسر العظمة التلفزيونية مثالاً.

لكنَّ الأكاديمية الأمريكية التي أقامت في سورية فترة من الوقت لإعداد كتابها الجامعي هذا وتحدثت إلى عدد كبير من السوريات والسوريين تستبق ميلها إلى اعتبار هذه الأعمال (إضافة إلى رسوم الكاريكاتير والنكات) نوعاً من المقاومة غير المباشرة للنظام ككل ولظاهرة 'تقديس' الرئيس الراحل حافظ الأسد بالقول إن ثمة من يرى في هذه الأعمال الكوميدية نوعاً من 'التنفيس' الذي تشرف أجهزة النظام على ضبط وتيرته، وليس شكلاً من أشكال المقاومة المراوغة.

جاءت اللحظة التي ثبت فيها خطأ تقدير الأكاديمية الأمريكية وتأكدت صحة من قالوا لها إنَّ كلَّ تلك الأعمال (وما يشبهها وهي كثيرة في سورية) مجرد 'صمام أمان' يعمل على 'تنفيس' الاحتقانات التي تمور في أحشاء المجتمع السوري وليست، كما يتضح لنا الآن، أعمال مقاومة للنظام وهيمنته المطلقة على مختلف مناحي الحياة السورية.

الواقع هو المحك الفعلي لاختبار الأقوال والنوايا. وها هو الواقع السوري الدامي يأتي لكي يختبر 'مقاومة' الكوميديا، بل سائر أشكال التعبير في سورية، على أرض الواقع. ليس في التلفزيون. ليس في مسرح الدغدغات العاطفية. ليس في الكتابة التي تتحدث عن كلِّ شيء ولا تتحدث عن شيء بعينه، ليس في القصائد التي تهجو الجنرال ولا تسميه، بل أمام الدبابات وهي تطوِّق المدن وتدخلها، القناصة وهم يقنصون أرواح مواطنيهم من على أسطح البنايات، 'الشبيِّحة' وهم يبطحون الرجال المقيّدين على الأرض ويدوسونهم. هذا هو المسرح الفعلي لاختبار كلِّ ما قاله الفنانون في مسرحهم وما كتبه الأدباء في نصوصهم، وما تشدَّق به أشباه المثقفين في المقاهي والحانات.

لا يفوت ليزا وادين أن تورد آراء مختلفة في الظواهر الفنية التي تشبه ظاهرة الكوميديا السورية و'نقدها' للنظام، من ذلك 'أن هذه الممارسات النقدية المسموح بها تعمل على إدامة السيطرة القمعية للنظام بدل تقويضها'. هذا، في الواقع، ما فعلته الكوميديا السورية ورسوم الكاريكاتير التي تسمح الصحف السورية بنشرها، فهي تعمل على تنفيس احتقانات المواطنين، وتوحي، في الوقت نفسه، بوجود فسحة نقدية في المنابر العامة للاعتراض على الأداء الحكومي وبعض الفساد المالي والإداري، والكثير من الهجاء للتخاذل العربي حيال العدو الاسرائيلي، ولكنها ليست، بالتأكيد، مجالاً ل 'الحيوية السياسية السورية حيث يزدهر النقد والوعي المعارض' كما تقترح الأكاديمية الأمريكية.

إنَّ 'خط التماس' بين الحاكم والمحكوم لا يتم 'التفاوض' حوله من خلال هذه الأعمال التي انتجتها جهات رسمية سورية، أو حتى خاصة، وسمحت السلطات ببثها على الجمهور العريض من خلال التلفزيون. فسلطة قمعية، بالمطلق، مثل السلطة الأمنية في سورية لا تتساهل مع أعمال تشتغل على تقويض خطاب 'تطويع' المواطنين وقهرهم. فتهديد 'الخطاب' هو تهديد، بالعمق، لوجود السلطة نفسها.

في أوقات استرخاء السلطة وعدم شعورها بالتهديد الوجودي يُسمح لأشكال من 'النقد' أن تشيع وتنتشر، فذلك دليل على قوة السلطة وتمكّنها، لكن المقياس هو العكس: لحظة الخلخلة أو التهديد. وها نحن نشهد أكبر لحظة تهديد تعرفها السلطة الأسدية في تاريخها. هنا لم يعد التسامح الشكلي مع النقد ممكناً. هنا يتم الحشد والتجييش والفرز. هنا يستدعي النظام احتياطيه من كل نوع: السلاح والكلام والمخاوف والوجوه والأغاني والأكاذيب. في لحظة كهذه، لحظة التهديد الكلي للنظام، تختصر الوجوه بوجه واحد (وجه الرئيس) ويختصر الوطن بالنظام وتختصر العواطف بالولاء. لكنَّ لحظة تهديد النظام هي لحظة دم كذلك. دم المواطنين. لحظة حصار مدن وتجويع'أطفال واعتقال آلاف من الأبناء والبنات. أمام هذه اللحظة، لحظة الوطن وهو يحطم قضبان سجنه، لحظة الشبان وهم يخرجون إلى موت معلن ومؤكد تختبر الكلمات والنوايا. أمام هذه اللحظة سقط، للأسف، معظم منتجي 'المقاومة' الكوميدية، أو الدرامية، نجوم الشاشة السورية من حالق.

' ' '

لم تشتغل ليزا وادين على مواد أدبية سورية بوصفها 'مقاومة' للنظام، فاقتصرت بحثها الجامعي الرزين على مجالات المسرح والتلفزيون والكاريكاتير والنكات. لو أنها اقتربت من الكتابة الأدبية لوجدت صورة أوضح لتلك 'المقاومة'. صحيح أن لدريد لحام وياسر العظمة (ومن هم في منزلتهما من ممثلين وممثلات) قدرة على التأثير في الشارع السوري أكبر من قدرة الكلمة المكتوبة، ولكن الصحيح أيضاً أن 'الساحة' الثقافية السورية، وربما جمهرة المواطنين، لا تأخذانهما مأخذ الجد. لا زلنا، كعرب، نولي للكلمة اعتباراً أكبر من الصورة والموسيقى والرسم، وهذا موضوع آخر.

وعندما قلت 'مأخذ الجدّ' فأنا أعني في لحظة راعفة كهذه. هذه لحظة جدّ، بل لحظة جدّ كبرى. وفي لحظة جدّ كهذه يلتمس الناس مواقف الأدباء، اولئك الذين طالما كتبوا عن الثورة والحرية والحلم والعدالة والكرامة الانسانية. وفي سورية من هؤلاء كثيرون. ولكنَّ معظهم، يا للعجب، لم يطلعوا أفضل من فناني الكوميديا ونجوم التلفزيون الذين يتناوبون على الشاشات السورية في حملة ولاء مخجلة للرئيس 'القائد'. فبعد الأسبوع الثامن من حملات القتل والاعتقال والترويع التي تقوم بها القوات العسكرية والأمنية السورية ضد المدن والبلدات التي قرَّرت أن تهتف للحرية لم نسمع لهم صوتاً. لم نقرأ لهم بياناً، ناهيك عن أن نراهم في طليعة التظاهرات.

فما الذي يجري فعلا؟

لِمَ صَمَت معظم أدباء سورية في الداخل؟

هل هو الخوف؟

الخوف ممكن بالطبع. الخوف شعور إنساني مشروع ولكن ليس بعد أن تخرج مدن وبلدات وقرى أمام البنادق مطالبة بالحرية. ليس بعد أن سال دم كثير. ليس بعد أن تحولت سورية إلى معسكر اعتقال كبير.

هل يتعلق الأمر بتصديق رواية النظام عن 'إمارات سلفية'؟

ولكن هل يعقل أن تقوم 'الإمارات' السلفية، فجأة ومن دون سابق انذار، في معظم محافظات سورية إن لم يكن كلها؟ أين كان كل هؤلاء السلفيين من قبل وكيف لم يرهم أحد وهم يقيمون صروح إماراتهم في بلد يحكمه ستة عشر جهاز أمن؟

لا يعقل أن يكون أدباء سورية بهذه السذاجة. لا يعقل أن يصدقوا كذبة كبيرة كهذه. فأين الخلل إذن؟

قد يكون الخلل سابقا على هذه اللحظة. إنه في السؤال الذي طرحته الثورات العربية المتنقلة من تونس الى سورية مرورا بمصر، وغيرها من البلدان التي تشهد حراكا شعبيا لم يرق بعد الى مستوى الثورة الشاملة، عن دور المثقفين في المجتمعات العربية المعاصرة. فكما غاب الدور القيادي للمعارضات العربية المنظمة عن هذه الثورات، في بداية انطلاقتها، ها نحن نرى غياب دور المثقفين الذين يوصفون، عادة، بأنهم ضمير الأمة ومنتجو الأفكار وطارحو الأسئلة.

ليست المفاجأة، على الأغلب، هي التي أخرست أصوات كثير من المثقفين العرب، فالمفاجأة قد تشلَّهم في بداية الأمر ولكن لا يعتم الدم المسفوك أن يحدد مواقف الناس وليس المثقفين فقط. علينا أن نعترف أن الأنظمة العربية تمكنت، عبر عمرها الطويل، من استقطاب معظم المثقفين العرب من خلال توظيفهم في مؤسساتها الاعلامية والثقافية ومرافقها العامة، وليست الحالة السورية استثناء. وأياً يكن السبب الذي حال دون أن نسمع صوتاً واضحاً وقوياً لمثقفي سورية وأدبائها في الداخل فهم، اليوم، أمام لحظة الحقيقة. لن يكون هناك اختبار لصدق كلماتهم وجدواها أكبر من هذا الاختبار. ربما لم يفت الأوان بعد على أن نسمع صوت أدباء ومثقفي سورية في الداخل يقول للنظام: كفى.

===================

الأزمة في سورية تهزّ المشرق

الخميس, 12 مايو 2011

بول سالم *

الحياة

بعد فترة من الهدوء في الأشهر الثلاثة الأولى من الربيع العربي، دخلت الاحتجاجات في سورية أسبوعها الثامن. وقد قُتل حتى الآن المئات وجُرح الآلاف. وتقول السلطات السورية إنها حسمت الأمر لمصلحتها في الأيام الأخيرة، إلا أن أيام الجمعة أصبحت تعج بمفاجآت وتحديات متكررة.

في البداية بدا النظام وكأنه يقتدي بالنموذج الجزائري، من طريق السعي إلى إحداث توازن بين وعود الإصلاح وبين ممارسة أعمال قمع محدودة. بيد أن ردّ الفعل المُفرط لمسؤولي الأمن في درعا على ما كان في البداية مجرد خرق طفيف من جانب فتية يافعين من المدينة، أدّى إلى انتفاضة شعبية هناك، ومن ثَمَ أدّت الأحداث في درعا إلى احتجاجات متعاطفة في أنحاء البلاد، وأصبح فتية درعا الذين تعرّضوا للتعذيب على أيدي قوات الأمن المحلية «محمد بوعزيزي سورية»، فيما أصبحت درعا «سيدي بوزيد».

أطلقت أحداث درعا – كما هو الحال في بلدان عربية أخرى - العنان للاحتقان المكبوت منذ فترة طويلة ضد القمع، والفساد، وغياب الديموقراطية، والأوضاع الاجتماعية والاقتصادية الصعبة لشرائح واسعة من السوريين. وبصرف النظر عن كيفية تطوّر الأمور ومآلها، لن تعود الظروف في سورية إلى ما كانت عليه منذ أشهر. وعلى الحكم في سورية، كيفما تتطور ذلك الحكم، أن يأخذ في الاعتبار المطالب - التي أصبحت عربية شاملة - الخاصة بإقامة حكومات أكثر مساءلة وديموقراطية، ومجتمعات أكثر حرية، وسياسات اجتماعية واقتصادية أكثر عدالة.

وإذا ما تعلمنا شيئاً من الانتفاضات العربية، فهو أن من الصعب التنبؤ بمساراتها. إذ فاجأ الناس حكوماتهم كما فاجأوا أنفسهم، كما تختلف ظروف كل بلد عربي. ومع ذلك تتبادر إلى أذهان المتابعين الشأن السوري سيناريوات عدة:

أولاً: إن محاولة النظام ترويض الاحتجاجات بالقوة قد تنجح لفترة ما، كما هي الحال في إيران منذ انتخابات عام 2009، لكن هذا التعاطي الأمني لا يحلّ المشكلة في شكل جذري أو نهائي، بل هو يؤجّل فقط موعد التعامل مع القضايا السياسية الأساسية التي أثارتها الاحتجاجات.

السيناريو الثاني: هو أن بعد هذه الموجة من الاشتباكات الدامية، قد يعود الرئيس الأسد إلى ما كان قد تحدّث عنه في وقت سابق في شأن تنفيذ رزمة متكاملة من الإصلاحات السياسية. وإذا ما فعل - بما في ذلك الإفراج عن السجناء السياسيين، وإطلاق الحريات المدنية والصحافية، والتعددية السياسية، وإجراء انتخابات حقيقية، والتي هي من بين المطالب الرئيسة للمعارضة - فقد يمثّل ذلك مخرجاً حقيقياً وطريقاً إلى الأمام.

يتمثّل السيناريو الثالث، في حال فشل المقاربة الأمنية واستمرار الاحتجاجات في التصاعد، في أن يواجه النظام لحظة مثل تلك التي واجهها النظامان في كل من تونس ومصر، حيث قرّرت قيادات ومؤسسات داخل النظام أن من أجل إنقاذ النظام لا بد من التضحية بعناصر أساسية منه. في مثل هذا السيناريو، قد يتحرّك قادة في القيادة السياسية و/أو الأمنية و/أو الحزبية سعياً لإزاحة شخصيات رئيسة مرتبطة بالقمع والفساد، ويقدمون إلى الشعب السوري عقداً سياسياً جديداً، مشابهاً لذلك الذي قُدّم في مصر وتونس، يقوم على إصلاح دستوري وانتخاب سلطات مدنية فاعلة، جنباً إلى جنب مع استمرار دور للقوات المسلحة.

السيناريو الرابع، وهو الأخطر، يتمثّل في تصاعد دوّامة الاحتجاجات والقمع والتحوّل إلى الاستقطاب على أسس طائفية وعرقية، ما قد يُفضي إلى حرب أهلية ممتدّة وانهيار الدولة. مثل هذه التطورات حدث في السابق عند جيران سورية، العراق ولبنان، وهو احتمال يلوح في الأفق بالنسبة إلى سورية.

لقد ألقت الأزمة في سورية بظلالها الكثيفة على المشرق. ففي لبنان، تسبّب عدم اليقين في شأن المسار المستقبلي للأحداث في سورية بمزيد من التأخير في عملية تشكيل الحكومة، بحيث أصبح توازن القوى بين فريقي 8 و14 آذار (مارس) موضع شك. ويشعر حلفاء سورية الذين سجّلوا أخيراً انتصاراً عبر إسقاط حكومة سعد الحريري في كانون الثاني (يناير) الماضي بخطر تعثّر القوة السورية. وتشعر حركة 14 آذار التي أدركت قبل بضعة أشهر بأنها مُنِيت بهزيمة نكراء، بأنها صارت أكثر تمكّناً. ومع ذلك، ثمّة مخاوف من أن إذا تم إضعاف الحكومة السورية فإن «حزب الله» - بدلاً من حشره في الزاوية - قد يستخدم قوته لحسم الوضع الداخلي لمصلحته. القلق الأكبر في لبنان يتمثّل في خطر نشوب حرب أهلية في سورية، التي إذا ما بدأت فقد تمتد إلى لبنان، مع ما لذلك من عواقب وخيمة على البلد بشرائحه وطوائفه كافة.

في هذه الأثناء، تدهورت العلاقات بين سورية وتركيا. إذ كانت تركيا قد استثمرت كثيراً في علاقتها مع الحكومة السورية، ورأت في سورية بوّابتها إلى العالم العربي. وقد أعربت الحكومة التركية في وقت مبكر عن تأييدها الرئيس الأسد، لكنها حضّته على تنفيذ إصلاحات كبيرة. وعندما لم تتم رزمة الإصلاحات وحلّت المقاربة الأمنية محلّها، أعربت أنقرة عن خيبة أملها.

من جهة أخرى، اشتكت الحكومة في دمشق، من أن تركيا كانت تتصرّف بطريقة متعالية وتُملي على سورية سياستها. كما شعرت بالغضب على وجه الخصوص بسبب اجتماع المعارضة السورية الذي استضافته تركيا في اسطنبول، وضمّ «الإخوان المسلمين» فضلاً عن جماعات إسلامية ومعارضة أخرى. واتّهم بعض المعلّقين المقربين من سورية حزب «العدالة والتنمية» التركي الحاكم بأنه يحاول بناء نفوذه في سورية ومصر من طريق دفع «الإخوان المسلمين» إلى لعب أدوار قيادية في تلك البلدان، وهدّدت دمشق أيضاً بأنها يمكن أن تُشجّع اضطرابات الأكراد والعلويين في تركيا، في حال أصرَّت أنقرة على تشجيع «الإخوان المسلمين». والواقع أن هذه التوتّرات قد تخرّب العلاقة السورية - التركية التي تم بناؤها بشِقّ الأنفس خلال العقد الماضي بعد قرن تقريباً من العداء.

وأرسلت دول مجلس التعاون الخليجي مبعوثين عدة إلى سورية، مُعربة عن «دعمها أمنَ سورية، ومسيرةَ الإصلاحات بقيادة الرئيس بشار الأسد». وهذا يعكس على الأرجح امتنانها لدعم سورية – في تعارض مع الموقف الإيراني – لما قامت به دول مجلس التعاون في البحرين، وقلقها العام من أن الموجة الثورية قد تنتشر من تونس ومصر باتجاه المشرق العربي والخليج. وفي الواقع، نحن ربّما ندخل الآن مرحلة مشابهة لمرحلة الخمسينات والستينات عندما كانت مصر ودول الخليج تمثّل أنواعاً مختلفة من الأيديولوجية والأنظمة السياسية.

أثّرت الأحداث في سورية كذلك في الفلسطينيين، حيث إن «حماس» امتنعت عن اتخاذ موقف من المواجهات السورية، ومضت قدماً في التوصل إلى اتفاق بوساطة مصرية مع حركة «فتح» من دون التنسيق مع دمشق. وقد كسبت «حماس» صديقاً في مصر الجديدة، وربما تقلّص علاقتها مع دمشق في المرحلة الحالية.

وفي الوقت نفسه، يشعر الأردن بالقلق إزاء ما يجرى في سورية، خوفاً من الانجرار إلى سفك الدماء وعدم الاستقرار في الجوار، وهو يأمل في أن تتمكّن الحكومة من احتواء الأزمة، ليس فقط من خلال المعالجة الأمنية بل من طريق المضيّ قدماً بإصلاحات ضرورية لبناء استقرار فعلي ومستدام.

وتبدو إسرائيل والولايات المتحدة متردّدتين. فهما ليست لديهما صلة خاصة بالحكومة السورية التي تمانع الاحتلالات الإسرائيلية وسياسة الولايات المتحدة في المنطقة لسنوات، لكنهما تخشيان أيضاً من تحوّل إسلامي في سورية في حال انهيار النظام الحالي. وقد أعربت واشنطن عن سرورها إزاء موقف سورية في شأن البحرين، ولا تزال وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون تأمل بأن يتمكّن الرئيس الأسد من تنفيذ إصلاحات سياسية. لكن موقف الإدارة الأميركية قد يتبدل تحت ضغط الكونغرس والرأي العام إذا تجدّدت المواجهات الدامية.

من الواضح أن الأزمة كلّفت سورية حتى الآن ثمناً باهظاً من حيث الخسائر في الأرواح والإصابات، والاستقرار الداخلي والازدهار، وأضرّت أيضاً بعلاقات البلاد الخارجية.

إن السيناريو الأمثل هو قيام الرئيس السوري بتنفيذ الإصلاحات السياسية التي وعد بها وأصبحت مطلب الرأي العام السوري والعربي. فهذا سيوفّر وسيلة إيجابية للخروج من الأزمة الراهنة ويشكل ليس فقط صيغة جديدة للحكم والمشاركة والاستقرار والعدالة في سورية، بل أيضاً حلاً وضمانة للمجموعات والشرائح التي تدعم النظام خوفاً على مصيرها إذا أتى التغيير عشوائياً.

ليست هذه هي المرة الأولى في التاريخ العالمي الذي يضغط فيه شعب على نظامه ليصبح أكثر ديموقراطية، إذ مرّ معظم ديموقراطيات العالم في هذا المنعطف التاريخي. لكن بالإمكان تحقيق التغيير من دون سفك دماء وعبر إدراك ضرورة التطور ومجاراة التحوّل التاريخي. لا أحد يريد لسورية مزيداً من التأزم، لكن المواطن العربي الحديث يريد لها المضي قدماً في بناء الشراكة السياسية والاجتماعية الحقيقية التي نادت بها انتفاضات تونس ومصر ويستحقها كل عربي. ولأن سورية طالما اعتزت بأنها قلب العروبة النابض، فإن هذا القلب ينبض اليوم بمطالب الحرية والمشاركة والعدالة. أملنا في أن تساهم سورية في بناء المستقبل العربي الجديد، لا أن تكون خط الدفاع عن أنماط وأساليب الماضي.

* مدير مركز كارنيغي للشرق الأوسط في بيروت.

=======================

..عن مسيحيّي سوريّا

حازم صاغيّة

 لبنان الآن 9/5/2011

هناك اليوم مَن يستخدم "تأييد المسيحيّين السوريّين لنظام الأسد" حجّةً تُدان بها الانتفاضة السوريّة، ومن خلالها يُصار إلى توكيد "دور الإسلاميّين والسلفيّين" في الانتفاضة، وإلى توكيد "علمانيّة النظام" في المقابل.

وبالطبع، ليس لدينا ما يؤكّد أو ينفي هذا "التأييد" وحدوده. لكنّ وجوده، في حال صحّته، ليس سوى دليل آخر على ما زرعه نظام البعث منذ قيامه في 1963، ولا سيّما منذ "حركته التصحيحيّة" في 1970، وعلى ما تجنيه سوريّا اليوم.

فأن يكون خوف المسيحيّين هو ما قادهم إلى ما انقادوا إليه، فهذا إنّما ينمّ عن حجم التخريب الذي ألحقته العقود البعثيّة بالنسيج الاجتماعيّ السوريّ، بحيث باتت الجماعات لا تتبادل في ما بينها إلاّ الريبة والخوف، ولا ترى في المستقبل إلاّ حقول القتل المفتوحة.

وتقضي الأمانة القول إنّ الطائفيّة ومخاوف الأقليّات ليست بالطبع من إنتاج البعث وحكمه. فهي تضرب في تاريخ الملل والنحل وفي التراكيب والثقافات العصبيّة التي ازدهرت في منطقتنا. مع هذا يصعب القفز فوق ذاك الواقع المرّ القائل إنّ 48 سنة من سلطة "الوحدة والحريّة والاشتراكيّة" أطلقت هذه المشاعر وفاقمتها، بدل أن تحدّ منها وتحاصرها.

وما يمكن استنتاجه تالياً أنّ المزيد من حكم البعث هو مزيد من التفتّت الاجتماعيّ والمجتمعيّ، ومزيد من مخاوف الأقليّات التي تطالب الحاكم ب"حمايتها"، بل مزيد من مخاوف الجميع حيال الجميع.

فإذا صحّ أنّ المسيحيّين "يؤيّدون" نظام الأسد، صحّ القول إنّهم يخطئون لأنّهم، بهذا، يؤسّسون لأوضاع أسوأ ترتدّ عليهم في مقبل الأيّام. أمّا مخاطر الانتقال، ويمكن أن تكون هناك مخاطر فعليّة على الأقلّيّات وأيضاً على الأكثريّات، فوجهها الآخر هو التأسيس لبدايات جديدة. وتبقى أكلاف عدم التسامح المصحوب باحتمالات التحوّل أقلّ من أكلاف عدم التسامح المثبّت والمكرّس والمغلق والمتعاظم.

لقد قيل سابقاً إنّ مسيحيّي العراق يؤيّدون صدّام حسين ونظامه لأنّه "يحميهم". وهذا، أيضاً في حال صحّته، دليل على الدور الذي تلعبه الأنظمة البعثيّة في تفتيت النسيج الاجتماعيّ لبلدانها وفي مقايضة ولاء الجماعات الأقليّة بحمايتها، بدلاً من تحكيم معايير المواطنة بديلاً عن ثنائيّ الخوف والحماية. ألم يكن عهد صدّام حسين، بتمييزه وبكبته المديدين، هو نفسه السبب وراء انفجار الأحقاد الدمويّة والمتعصّبة التي تبادلها العراقيّون بعد إطاحة صدّام؟.

إنّ أنظمة كهذه تنهض على نوع من عقدة استوكهولم، حيث يقع السجين في حبّ سجّانه. يكفي السجّان، في هذه الحالة، ألاّ يقضي على حياة السجين كي يبدو هو من يمنحه الحياة. والمسيحيّ السوريّ، بل أيّ كائن انسانيّ، يُفترض به أن يكون أذكى من ذلك وأعرف.

====================

النظام السوري و"عسكرة" الانتفاضة الشعبية      

ياسر الزعاترة

12/5/2011

المصدر: الجزيرة نت

لم يكن بوسعنا أن نتورط في مستنقع الازدواجية في المحطة السورية، ولن نقول مثلما قال الأمين العام حسن نصر الله في معرض تعليقه على الحراك الشعبي البحريني إن الموقف في حالة دول المقاومة والممانعة قد يختلف عما عداه (لم يتحدث للأمانة عن تجاهل المطالب الشعبية، بل عن البحث عن مقاربة سياسية معقولة، مع أن تعاطي الحزب مع الأحداث لا يعبر عن هذا التوجه).

وعموما لم نقتنع يوما بأن بالمقاومة والممانعة تقف حائلا دون منح الناس حريتهم، ومن يعتقد أنه يلبي بالفعل أشواق الناس في العزة والكرامة ومواجهة الأعداء لن يخشى الاحتكام إلى صناديق الاقتراع إلا إذا كان دكتاتورا في الداخل، بل إن مسار المقاومة والممانعة يغدو أكثر قوة حين يكون المقاومون والممانعون أحرارا وليسوا عبيدا لفرد أو نخبة معينة.

كنا ندافع عن النظام السوري تبعا لمواقفه المتميزة في دعم المقاومة في فلسطين ولبنان، وموقفه من العراق ودعمه للمقاومة وصولا إلى إفشال المشروع الأميركي الذي كان يخطط لإعادة تشكيل المنطقة.

ولعلنا نشير هنا إلى ما كنّا نلاقيه من صعوبة في إقناع السوريين بحقيقة مواقف نظامهم المشار إليها، الأمر الذي يبدو مفهوما إلى حد ما، لأن من الصعب على المظلوم أن يرى خيرا في من يدوس على حريته وكرامته.

من هذا المنطلق تحدثنا في البداية عن الإصلاح، وليس عن التغيير الجذري، وهو ما تردد أيضا في الساحة الشعبية السورية، لكن الرئيس لم يقابل مطالب الإصلاح السورية الشعبية إلا بالسخرية كما في خطابه أمام مجلس الشعب، مع أن السخرية لم تعهد عنه، ولا نتجاوز الحق إذا قلنا إن خطابات المديح لسيادته التي سمعناها تتردد في المجلس قد أشعرتنا بالخجل كعرب ومسلمين.

دعك من الأسباب التي قادت إلى انفجار مدينة درعا، وهي أسباب لا داعي للتفصيل فيها، لكنها تعبر عن العقلية الأمنية التي تحكم البلد، بدءًا باعتقال طبيبتين والإمعان في إهانتهما، لمجرد قول إحداهما لصديقتها "عقبال عنا" في التعبير عن فرحتها بما جرى في مصر، وليس انتهاء بموقف المحافظ من توسط وجهاء المدينة من أجل الإفراج عن الأطفال الذين اعتقلوا بسبب كتابتهم على الحيطان ضد النظام احتجاجا على ما وقع للطبيبتين، وهو موقف طاعن في الازدراء كما روى القوم.

عندما خرج الناس يطالبون بالإصلاح والحرية، ردّ عليهم الرئيس بالخطاب الساخر إياه، ثم رد تاليا بالرصاص الحي، وعندما انتفضت المدن الأخرى وتواصلت عمليات القتل خرج بإصلاحات شكلية مثل إلغاء قانون الطوارئ ومحكمة أمن الدولة، وذلك بدل الحديث عن إصلاحات دستورية ذات معنى.

ومع تواصل مسلسل القتل، ومعه التشويه الإعلامي للانتفاضة الشعبية والحديث عن مندسين وإرهابيين، تطورت المطالب الشعبية من إصلاح النظام إلى إسقاط النظام، الأمر الذي كان طبيعيا من دون شك، ولو اختلفت الاستجابة وتقدم النظام بإصلاحات حقيقية لاختلف الموقف

بعد اتساع نطاق الاحتجاجات وتوحد مطالب الناس في شعار إسقاط النظام، تفتق ذهن النظام عن خطة لعسكرة الانتفاضة، وذلك بأن يجري تحويلها من انتفاضة سلمية إلى تمرد مسلح، وبالطبع من خلال فبركات أمنية من جهة، ومن خلال مجموعات سلفية جهادية مخترقة من جهة أخرى، ونعلم أن للنظام خبرته الطويلة في التعامل مع هذه المجموعات اكتسبها خلال عمله معها في السياق العراقي، مع أنه ما لبث أن انقلب عليها بعد الضغوط الأميركية ووضوح فشل مشروع الاحتلال لحساب الحضور الإيراني، مع إعلان النوايا الأميركية بالانسحاب.

ونعيد التأكيد على أننا نتحدث عن اختراق، إذ لا يعتقد أن التيار المذكور يمكن أن يفكر بمثل هذا المسار، وقد ذهب أحد أهم منظري هذا التيار (أبو محمد المقدسي) إلى الاحتفال بالثورة الشعبية للسوريين.

الطرف الآخر المتهم بحمل السلاح من قبل النظام هو الإخوان، وهنا لا تنطلي اللعبة على أحد أيضا، ليس فقط لأن الإخوان هم الأكثر حرصا على سلمية الثورة بعدما رأوا ثمارها في تونس ومصر (دعك من مرارة تجربتهم الماضية)، بل لأنهم لا يملكون القدرة أيضا، من دون أن يقلل ذلك من دورهم وحضورهم كجزء من الشعب السوري، هم الذي دفعوا أثمانا باهظة في مواجهته طوال العقود الثلاثة الماضية.

يخطئ الرئيس السوري إن اعتقد أن هذه اللعبة (لعبة عسكرة الانتفاضة) ستكون مجدية في مواجهة الانتفاضة الشعبية، في استعادة للمواجهة التي خاضها نظام والده مع الإخوان المسلمين مطلع الثمانينيات، والتي انتهت بمجزرة حماة الشهيرة التي راح ضحيتها عشرات الآلاف من الناس الأبرياء.

يخطئ في هذا التقدير لجملة من الأسباب، أولها أن ما جرى في مواجهة نظام الأب كان تمردا مسلحا بالفعل، وكان يتلقى دعما ما من بعض الدول العربية، بل كان يُسمح له بجمع التبرعات حتى في أميركا والدول الغربية، وإن تم ذلك لأغراض ابتزاز النظام وإضعافه وليس إسقاطه واستبداله بإسلاميين راديكاليين، أما اليوم فهناك إصرار على نبذ العنف، حيث يهتف الناس في الشوارع "سلمية سلمية"، أما قصص السلاح فلا يبدو أنها تمر على الناس، بما في ذلك تمثيليات الجنائز التي تبث كل يوم على تلفزيون السوري (يذهب سوريون إلى أن بعضها لعناصر من الجيش والأمن رفضت إطلاق النار على المتظاهرين).

هناك ثانيا ما يتعلق بالوضع الدولي، ففي الحالة السابقة كانت هناك الثنائية القطبية، أما اليوم فالمشهد مختلف كما يعرف الجميع، ولن يكون بوسع روسيا أو الصين الدفاع عن قتل الناس الأبرياء في الشوارع، بدليل موقفهما في السياق الليبي حيال قرار مجلس الأمن رقم 1973.

هناك ثالثا ما يتعلق بالوضع الإعلامي، وهذه نقطة بالغة الأهمية، إذ إن ثورة المعلومات والاتصالات لم تعد تسمح لأحد بقتل الناس في السر، وزمن الهواتف المحمولة ذات الكاميرات وزمن اليوتيوب يفضح كل شيء، وبالتالي يستثير الرأي العام دولا وجماهير.

الأهم من ذلك كله هو ما يتعلق بالموقف الشعبي، ففي مطلع الثمانينيات لم يكن ثمة إجماع على الثورة على النظام، أما اليوم فالإجماع شبه متحقق إلى حد كبير، وحتى الحديث عن انحياز الطائفة العلوية للنظام لا يبدو محقا، لأن جزءا كبيرا منها ليس مع النظام، مع أن جرّ الكثير من أبنائها في معركة الدفاع عن النظام لا يبدو مستبعدا، وقد رأينا كيف تم تسليح الأقلية العلوية في مدينة بانياس التي كانت الأكثر تعرضا للقمع بعد درعا، ولا قيمة للقول إن أعداد المتظاهرين ليست كبيرة مثل مصر واليمن، لأن الخوف من دولة أمنية قمعية هو السبب، وينطبق ذلك على تردد بعض المناطق عن المشاركة، الأمر الذي لن يلبث أن ينتهي لينخرط الجميع في الثورة.

في هذه الأثناء برزت مفاجأة في منتهى الإثارة تمثلت في التصريحات التي أدلى بها رامي مخلوف، المليادرير (ابن خال الرئيس)، لصحيفة نيويورك تايمز، والتي قال فيها "إذا لم يكن هناك استقرار داخلي هنا (في سوريا)، فمن المستحيل أن يكون هناك استقرار في إسرائيل"، ما يذكرنا بتصريحات مشابهة للقذافي.

كل ذلك يؤكد أن النظام لم يكن مخلصا في مقاومته وممانعته بقدر ما كان يعبر عن مصالح نخبته الحاكمة التي رأت أن كلفة المقاومة والممانعة أقل من كلفة الاستسلام كما كان يردد الرئيس السوري نفسه، الأمر الذي كنا ندركه بالطبع، من دون أن يدفعنا إلى التردد في مديح تلك المواقف قياسا بمواقف أنظمة أخرى كانت تذهب في الاتجاه الآخر، ومن أجل مصالح نخبها الحاكمة أيضا.

اليوم تبدو تصريحات رامي مخلوف محرجة إلى حد كبير للتيارات التي تدافع عن النظام وتقف معه في معركته مع شعبه، وفي مقدمتها حزب الله ومن يدور في فلكه، فضلا عن جحافل من القوميين واليساريين الذين لا يستحون من دفاعهم عن قتل النظام لأبناء شعبه، فضلا عن ترديد حكاية المؤامرة الخارجية، لكأن النظام هو وحده عنوان الوطنية والقومية، بينما السوريون مجرد جحافل من العملاء والمأجورين.

 

إنه منطق النخب الحاكمة التي تعلن استعدادها لحرق الأخضر واليابس من أجل مصلحتها بعد أن جمعت الثروة مع السلطة، وفي هذا الصدد يقول مخلوف في ذات المقابلة إن النخبة الحاكمة في سوريا قد تكاتفت أكثر بعد الأزمة (لا يريد الاعتراف بأنها ثورة مع أن كلامه يعكس ذلك)، مضيفا القول "نؤمن بأنه لا استمرارية من دون وحدة، وكل شخص منا يعرف أننا لا يمكن أن نستمر من دون أن نكون موحدين. لن نخرج ولن نترك مركبنا ونقامر. سنجلس هنا، نعتبرها معركة حتى النهاية". وفي النهاية يعود إلى الدولة العبرية ليقول للغرب "يجب أن يعلموا أننا حين نعاني، فلن نعاني وحدنا".

في ضوء هذه المعادلة، يمكن القول إن النظام قد قرر الذهاب بعيدا في منظومة القمع، كما يؤكد من جهة أخرى أن الانتفاضة الشعبية في سوريا قد تجاوزت فكرة الإصلاح، الأمر الذي يدركه النظام الذي أخذ يهرب إلى الأمام بتعزيز منظومة القمع والقتل، بدليل الدبابات التي أدخلها إلى مدينة درعا وبانياس وحمص ومدن أخرى، ويتوقع أن يدخلها إلى سائر المدن المنتفضة بالتدريج.

في هذا السياق جاء تحذير رئيس الوزراء التركي (أردوغان) من مغبة تكرار "حماة" أخرى، مع أن الأمر لن يكون بهذه السهولة، لكن أنقرة التي خاب أملها بسلوك النظام لم تجد غير هذا الكلام المتشدد لكي تعبر من خلاله عن مخاوفها مما يجري، وهي التي اتهمت طوال أسابيع بمحاباة النظام تبعا للعلاقة المتميزة معه، ويبدو أنها أدركت أن الشعب هو الأبقى، وأن النظام في طريقه إلى الزوال ولا يواجه أزمة محدودة النطاق وحسب.

من الصعب الحديث عن مآلات الانتفاضة الشعبية السورية بعد دخول العامل الدولي على الخط، ولا شك أن التدخل الغربي لا يمكن استبعاده، لكن الشعب السوري لن يقبل على الأرجح تكرار السيناريو الليبي، حتى لو سكت على عقوبات تطال رموز النظام.

لكن تعويل النظام على تحويل الانتفاضة الشعبية إلى تمرد مسلح، ومن ثم إصراره على هذا المسار على نحو غير مقنع للداخل والخارج، مع تصعيد آلة القمع قد يسهل لعبة التدخل، لا سيما أن أطرافا في المعارضة السورية في الخارج قد لا تجد في الأمر غضاضة بسبب قناعاتها الخاصة، ومواقفها من النظام.

 

هل فات أوان الإصلاح؟ من الصعب حسم جواب السؤال، وسيعتمد الموقف على ماهية الإصلاح المطروح وتطور الموقف الشعبي، إذ إن إعلان النظام عن خطوات إصلاحية حقيقية تفكك النظام الأمني، وتشمل تعديلات دستورية تطال المادة الثامنة من الدستور، وصولا إلى دستور جديد يؤسس لديمقراطية حقيقية وليس ديكورية على النمط السائد في مصر وتونس واليمن قبل الثورات، هذا الأمر قد يفضي إلى توقف الثورة في انتظار انجلاء الموقف.

لكن هامشية هذا الاحتمال، بل استحالته في واقع الحال، معطوفا على الإسراف في سفك الدماء كما وقع إلى الآن ويتوقع أن يتواصل خلال الأيام والأسابيع المقبلة، سيجعل هدف إسقاط النظام هو الوحيد المتاح.

ويبدو أن لدى الشعب ما يكفي من الجاهزية والإصرار على هذه المعركة، وهو مستعد لدفع أثمانها الباهظة. ويبقى موقف الجيش الذي نتوقع منه أن لا يقل انحيازا للشعب من موقف الجيش التونسي والجيش المصري.

============

«الربيع العربي» يعيد خلط الأوراق التركية

الجمعة, 13 مايو 2011

إسطنبول – راغدة درغام

الحياة

يجد رئيس وزراء تركيا رجب طيب أردوغان نفسه مطوّقاً بين صداقاته مع القيادات العربية والإيرانية المرفوضة شعبياً اليوم وبين تأهب الرأي العام في الدول التي تعبر الى الديموقراطية لتوجيه اتهام الازدواجية إليه إذا بقي قابعاً في خانة التردد والانتظار. إنه يدرك أن لا مناص من إعادة صوغ هوية ونوعية الدور الإقليمي الذي أرادت تركيا أن تلعبه، لكنه ليس واثقاً من مجرى التطورات في سورية أو ليبيا أو إيران، ويتمنى لو كان في وسعه تأجيل اتخاذ القرار. فأردوغان، والرئيس التركي عبدالله غل، ووزير الخارجية داود أوغلو، يراقبون «الربيع العربي» الذي أوصل التغيير الى السياسة الخارجية التركية، والى إعادة النظر في العقيدة التي اعتنقها الرجال الثلاثة والقائمة على علاقات مع الجيرة الإسلامية خالية تماماً من أية مشاكل أو صداقات حتى درجة «الصفر». فمعطيات إعادة رسم السياسة التركية الإقليمية والدولية مختلفة تماماً عما كانت عليه عندما كانت بيئة الجيرة التركية راكدة في «استقرار» تضمنه السلطوية والاستبداد. حينذاك كان في وسع القيادة التركية غض النظر عن تجاوزات أصدقائها في الحكم في ليبيا وسورية وإيران، باسم الاستقرار. وكان في وسع أردوغان التمتع بركوب الموجة الشعبية بطلاً تحدّى الغطرسة الإسرائيلية وعوّض عن تقصير القيادات العربية. اليوم يجد أردوغان نفسه مخيّراً بين ارتباطه الشخصي والسياسي بالقيادات السلطوية وبين الشعوب التي تنتفض على تلك القيادات وتطالبه جهراً بأن يكف عن لعب الدرع الحامي لها. في ليبيا، أوضح أردوغان نفسه بعد التردد والانتظار، فاتخذ إجراءات وطالب العقيد معمر القذافي بالتنحي. في سورية، بدأ أردوغان بإرسال المؤشرات المهمة، لكنه ما زال متردداً ينتظر ما سيحدث على الساحة وماذا سيفعل الآخرون. والآخرون ليسوا فقط العرب أو إيران، وإنما أيضاً الدول الأوروبية والولايات المتحدة وكذلك الصين وروسيا. فالذي يحدث في الشرق الأوسط نتيجة «الربيع العربي» أعاد خلط الأوراق التركية شرقاً مع الدول العربية وإيران وإسرائيل، وغرباً مع إدارة باراك أوباما ومع الاتحاد الأوروبي أيضاً. وقد يكون ذلك في المصلحة التركية وليس فقط في المصلحة العربية. فلقد كانت سياسة حزب «العدالة والتنمية» الحاكم في تركيا بُنِيَت على أسس تتناقض مع مبادئ دعم الديموقراطية وكانت وصلت الى حدود الإفراط بالثقة وبالفوز وبالنفوذ وبالتأثير. وكاد ذلك يدفع بها الى شبه غطرسة على الصعيد الداخلي ربما تزعزعت لاحقاً لأن الشعب التركي منقسم نحو إيديولوجية الحزب الحاكم وغاياته البعيدة المدى.

داخلياً، هناك تململ من شبه الانقلاب على العلمانية في تركيا. هناك ثقة بأن الانتفاضة على العلمانية لن تتحول الى انقلاب عليها، ليس فقط لأن تركيبة الشعب التركي لا تسمح بذلك ولا لأن الجيش التركي لن يدعم «جمهورية إسلامية» في تركيا كما في إيران.

فالموقع الجغرافي لتركيا درعٌ لها من الأصولية لأنها في حاجة الى الغرب كما الى الشرق. نموذج إيران ذات الأوتوقراطية الدينية ليس مُغرياً للأتراك الذين يعتزون بالديموقراطية في بلد مسلم. تركيا مرتاحة ببعدها الأوروبي كما ببعدها الآسيوي. وحكومة تركيا اليوم تريد تصدير النموذج الديموقراطي الإسلامي وكأنه بضاعة ثمينة قابلة للتسويق. ثم هناك عنصر الانتخابات التي ستُحسم في الشهر المقبل، والحزب الحاكم يخشى المفاجآت الآتية من «الربيع العربي» أو المقاومين له في سورية وليبيا بالذات. ذلك أن فوزه شبه مضمون وآخر ما يحتاجه هو ما يعكّر عليه ذلك الفوز المضمون.

والكلام ليس فقط عن «تعرية» مواقف ومبادئ أو إحراق العلم التركي كما حدث في بنغازي قبل اتخاذ حكومة أردوغان أخيراً قرار إغلاق السفارة في طرابلس ومطالبة القذافي بالتنحي. الكلام أيضاً يصب في الخانة الاقتصادية وخسارة الأموال الباهظة في ليبيا وربما في سورية، الى جانب ضرورة «شد الأحزمة» الى حين عبور المنطقة العربية المرحلة الانتقالية الصعبة. ثم هناك ناحية السباق مع دول مثل فرنسا كي لا تصبح «الكعكة» ملكاً لها حصراً، في ليبيا أو غيرها.

الصادرات التركية الى ليبيا كانت وصلت الى بليوني دولار سنوياً وكان هناك حوالى 20 ألف تركي ناشط في مشاريع البناء بموجب عقود مع حكومة القذافي. هذه خسارة تريد الحكومة التركية التعويض عنها مع الحكومة الجديدة ما بعد القذافي. المشكلة ليست فقط في عدم معرفة «متى» ستتم تنحية القذافي – وبأية كلفة – وإنما المشكلة أيضاً في منافسة شرسة من فرنسا التي تريد ألا تخسر نصيبها من كعكة ليبيا كما خسرت في العراق حين استبعدتها إدارة جورج بوش واستفردت. فأنقرة تشعر أنها أولى بالانتفاع من فرنسا لكنها تخشى أن يكون ترددها أدى الى توطيد فرنسا قدميها في ليبيا، فيما كان أردوغان وحكومته يناقشان جدوى الوقوف ضد القذافي مع الثوار.

نسبياً، يجد أردوغان نفسه في موقع أسهل في شأن الوضع الليبي مما هو في شأن الوضع السوري. فهناك إجماع دولي ضد معمر القذافي، وحلف شمال الأطلسي (ناتو) يخوض معركة عسكرية ضده. كما أن الدول الخليجية العربية وجامعة الدول العربية كانت البادئة في التحرك مما أدى الى مواقف صارمة من مجلس الأمن الدولي. وحتى مع هذه الظروف، كان أردوغان متأخراً في حسم أمره مع أن عبدالله غل كان واضحاً وجاهزاً منذ البداية، كما أفادت المصادر.

حيرة أردوغان في أمره من كيفية التصرف مع الرئيس السوري بشار الأسد واضحة. نعم، لقد بعث إليه أكثر من رسالة علنية بأنه يخطئ وبأن تركيا لن تتمكن من توفير الغطاء له إذا استمر البطش بالمتظاهرين. ونعم، أبلغ أردوغان أكثر من مسؤول عربي وغربي أن الكيل طفح معه من عدم استعداد أو عدم قدرة بشار الأسد على الإصلاح الضروري أو على احتواء التظاهر عبر تنازلات وليس عبر القمع الدموي. وبالتأكيد، إن أردوغان يود لو أفلح في إقناع صديقيه، القذافي والأسد، إما باستباق الأمور وإصلاح سياساتهما بشمولية، أو بفهم الأمور واتخاذ قرارات ضرورية إما بالتنحي أو بشراكة في الحكم – إن لم يكن فات الأوان.

الآن، ليس في جعبة أردوغان أدوات سحر تغيّر عقلية أصدقائه من الحكام بما يتمنى. لذلك يجد نفسه مُحبطاً لكنه ليس في وضع يعطيه رخاء الوقت إما للتملص من اتخاذ القرار أو لركوب موجة. ف «الشارع» الذي دب فيه زخم القيادة التي ينشدها هو «الشارع» نفسه الذي يراقبه بل يضعه تحت المحاسبة. فليس كافياً اليوم أن يرفع أي زعيم إقليمي راية التحدي والعداء لإسرائيل ليعوّض عن قصوره داخلياً كما يفعل الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد، أو ليحصد شعبوية تمكنه من الزعامة الإقليمية. فالأولويات مختلفة الآن حتى وان كانت القضية الفلسطينية يقظة في الذهن العربي. ومقومات الحكم على الرجال الساعين وراء القيادة باتت مختلفة أيضاً.

أردوغان وأركان القيادة التركية يدركون ذلك، ولذلك هناك مؤشرات مهمة على تغييرات هنا بعض بوادرها وبعض عناوينها الرئيسية:

* رئيس الحكومة التركية كان من أوائل، إن لم يكن أول من استعجل تنحية الرئيس حسني مبارك في خطوة اعتبرها البعض مثال الجرأة وحسن قراءة الخريطة السياسية، فيما اعتبرها البعض الآخر خطوة سياسية لاستغلال الفراغ في القيادة الإقليمية مع تغييب مبارك عن الحكم.

* مهما كان، أتى «الربيع العربي» في مصر بصفحة جديدة في العلاقة التركية – المصرية لعلها ساهمت في النصيحة التركية والمصرية لحركة «حماس» بأن تسير في طريق المصالحة مع «فتح» والعمل مع السلطة الفلسطينية نحو استراتيجية إقليمية ودولية جديدة.

* النصيحة التركية والمصرية ما كانت لتلقى الترحيب من «حماس» لو لم يأتِ «الربيع العربي» الى سورية ويبيّن لكل من «حماس» وتركيا أن انزلاق القيادة في دمشق بدأ ولن يكون في الإمكان إيقافه. فالنظام في دمشق اختار «السلطة» على «الإصلاح» وعقد العزم على الاعتقاد بأن «الربيع العربي» مجرد فصل عابر.

* رجب طيب أردوغان ذاق طعم حدود النفوذ مع كل من القذافي والأسد. فهم أخيراً أن من الصعب التحدث بلغة الديموقراطية مع الأصدقاء الذين ترعرعوا على الديكتاتورية. فهم أيضاً أن كلفة علاقاته مع القيادات السلطوية في زمن مطالبة الشعوب بالديموقراطية سيكون مكلفاً له ولحزبه ولتركيا.

* أردوغان ذاق أيضاً طعم سوء الاعتماد على أدوار إقليمية له عبر البوابة السورية. فهو استمر في صداقته الحميمة مع الأسد عندما كانت سورية في حالة عزلة تامة في أعقاب الغزو الأميركي للعراق وفي أعقاب اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري. مد أردوغان الى الأسد حبل الإنقاذ وعكف على إخراجه من العزلة حتى على حساب العراق ولبنان. ثم راهن على دور الوسيط بين سورية وإسرائيل، قبل أن يقرر أن الأفضل له لعب الورقة الفلسطينية لما تنطوي عليه من حصاد شعبوي على صعيد الشارع العربي.

* علاقة أردوغان بسورية تشكل امتحاناً كبيراً له ولحزبه بمعزل عن العلاقة التركية – الإسرائيلية. ففي المحطة السورية يقع اختبار التزام تركيا وحزبها الحاكم بالديموقراطية. وفي المحطة السورية يتم امتحان مدى صدق العلاقة بين أردوغان والشعب العربي وذلك «الشارع» الذي كان مهمشاً أثناء العلاقات الوطيدة بين الحكّام، وبات اليوم رأياً عاماً يُؤخذ في الاعتبار وينصب شبكات الرقابة. وفي المحطة السورية هامش لإعادة صياغة العلاقات مع تركيا وأوروبا، وليس فقط في المحطة الليبية.

* ترميم العلاقة مع إسرائيل وارد في ذهن تركيا إنما ليس عبر خلع المبادئ الرئيسية. فالحكومة التركية تدرك أهمية العنصر الإسرائيلي في علاقاتها مع الولايات المتحدة، لكنها تدرك أيضاً الأهمية المكتسبة للدور التركي الإقليمي وتأثيره في العلاقة التركية – الأميركية. فهناك مؤشرات على رسائل مشتركة الى إسرائيل، إقليمية وأميركية ودولية، فحواها ليس المواجهة وإنما سياسة المضي الى الأمام بها أو من دونها. وهذه رسالة فائقة الأهمية.

* دور تركيا الإقليمي اليوم ليس عبر البوابة السورية – الإسرائيلية ولا هو عبر تحدي إسرائيل للاستيعاب المحلي أو عبر شراكة تركية – سورية – إيرانية لدفع «حماس» الى الممانعة. أنقرة تدرك انه دور جديد يتطلب منها تمزيق الكثير من الأوراق التي كانت أساسية في العقيدة التركية كما شاءها حزب «العدالة والتنمية».

* العلاقة مع إيران الحكومية وإيران الشعبية جزء من المعادلة الجديدة. فلقد حرص أردوغان في الماضي على إعطاء إيران فسحة التذرع والتملّص والحماية من الضغوط والاستحقاق. اليوم الوضع مختلف. فهناك مؤشرات على ربيع آخر على الساحة الإيرانية. وأنقرة تحاول الاستعداد لمفاجأة أخرى قد تنسف قاعدة سياستها القديمة.

================

 سورية والشراكة الإيرانية

الجمعة, 13 مايو 2011

وليد شقير

الحياة

عندما يحذّر رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان أكثر من مرة من أن تتكرر في سورية مجزرة حماه وحلبجة وينبه الى ان المجتمع الدولي سيكون له موقف في هذه الحال، وتركيا ستكون منسجمة مع المجتمع الدولي، فإن زعيم حزب «العدالة والتنمية» يتوقع الأسوأ مما يجري في أرجاء سورية.

بعد أن أطلق أردوغان تحذيره الأول جاءت العقوبات الأوروبية على 13 مسؤولاً من النظام الحاكم. وبعد أن أطلق تحذيره الثاني الثلثاء الماضي أخذت الإدارة الأميركية تسرّب انها تتجه الى اعتبار النظام السوري «فاقداً للشرعية»، وأعلنت مفوضة الشؤون الخارجية في الاتحاد الأوروبي كاثرين أشتون أن الاتحاد قد يوسع عقوباته لتشمل الرئيس بشار الأسد.

وعندما يعاكس أردوغان الرواية الرسمية السورية حول قتل المحتجين للعسكريين من الجيش السوري، ويقول ان أكثر من ألف قتيل سقطوا من المتظاهرين المدنيين المطالبين بالإصلاح (في وقت تتحدث مواقع المحتجين عن رقم يراوح بين 650 و800 قتيل)، فإن هذا يؤشر الى ان المعطيات التركية عن المواجهة الدائرة بين النظام وبين الحركة الاحتجاجية في سورية، قد تقود الى ما يشبه أحداث حماه في الثمانينات من القرن الماضي. وليس التعتيم الإعلامي على تفاصيل ما يحصل من قمع في المدن والبلدات السورية، هو الذي يرفع وحده درجة المخاوف من تكرار التجربة الدموية التي حذّر منها أردوغان، في ظل تناقص الصور التي يرسلها الناشطون خلال الأسبوعين الماضيين عن حال القمع والتحركات، بعد حملة الاعتقالات بالآلاف. بل ان ما يصرّح به أركان النظام، عن نيتهم مقاتلة من يعتبرونهم السلفيين «حتى النهاية»، هو الذي يؤشر الى تعميم هذا التعريف، إضافة الى وصم المحتجين بالمجموعات الإرهابية، بمن فيهم العزّل والعلمانيون، لتبرير استخدام البطش من دون رحمة نتيجة الخوف من الإصلاح الحقيقي وقبول التعددية السياسية والحريات...

وحين لا يأبه قادة النظام في سورية الى خسارة أصدقاء مثل أردوغان، الذي تحوّل شريكاً قوياً في المرحلة السابقة، والرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي، وأمير قطر الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني، ورئيس لجنة العلاقات الخارجية في الكونغرس الأميركي جون كيري، وعندما لا يهتمون بعودة حكومات بريطانيا وألمانيا وإيطاليا عن سياسة الانفتاح مع دمشق، ولا يأخذون بنصائح الدول الخليجية، من موقع الحياد، حيال ما تشهده سورية، بضرورة الإصلاح وأخذ مسافة عن السياسة الإيرانية، فإن هذا لا يعني إلا ان حكّام دمشق قرروا ان يقفوا وظهورهم الى الحائط لمقاومة أي تغيير يمكن القيام به بقرار من داخل النظام، من دون ان يقيموا وزناً للعزلة الجديدة التي ستعود إليها سورية إقليمياً ودولياً. وسياسة إدارة الظهر الى الحائط في وجه المجتمع الدولي سبق لدمشق ان اتبعتها إزاء القرار الدولي 1559 عام 2004 معتبرة إياه «غير موجود وتافه». وهي سياسة أنتجت قرارات دولية أخرى من رحم هذا القرار، وبالعودة إليه كمرجعية، كان لبنان موضوعها وسورية هدفها. إلا أن تلك السياسة استندت الى ورقة التحالف الى حد الالتصاق مع إيران، واستفادت من السياسة الأميركية الخرقاء في العراق وفلسطين والفشل في أفغانستان والإخفاق الإسرائيلي في لبنان، لتستعيد من بعدها سورية دورها الإقليمي.

هل تصح هذه السياسة الآن، فيما العام 2011 هو عام الانسحاب الأميركي من العراق، وفي وقت يتغيّر الواقع الفلسطيني، وحصول المصالحة بين «فتح» و «حماس» عامل أساسي من وقائع هذا التغيير؟

وهل تصح هذه السياسة في وقت تحوّلت تحديات سورية من مواجهة مع الخارج وحول نفوذها في لبنان، شكّلت إيران شريكاً مقاتلاً في التصدي لها، الى مواجهة في الداخل مع أطياف المعارضة المنبثقة من الشعب السوري؟

في المرحلة السابقة، شكلت الشراكة مع تركيا معبراً للخروج من العزلة، والشراكة مع طهران معبراً الى امتلاك أوراق إقليمية. أما في المرحلة الحالية فإن دمشق برفضها الشريك التركي الناصح، تتجه الى الالتصاق مع إيران لتصبح الأخيرة شريكاً في قرارها الداخلي في مواجهة المعارضة السورية، في زمن تحوّل رصيد نفوذها في لبنان الى طهران.

================

سورية وتركيا: من التحالف الاستراتيجي الى القطيعة

رأي القدس

2011-05-12

القدس العربي

في غضون اقل من شهرين انتقلت العلاقات السورية التركية من التحالف الاستراتيجي المطلق الى قطيعة شبه كاملة، والسبب في ذلك التناقض الواضح في نظرة القيادة في البلدين الى الانتفاضة الشعبية المندلعة حالياً في العديد من المدن السورية للمطالبة بالاصلاحات الديمقراطية والسياسية منها خاصة.

قبل الانتفاضة، كانت العلاقات التركية السورية تمر بشهر عسل طويل، حتى بات السيد رجب طيب اردوغان الشخصية الأكثر شعبية، ليس في سورية فقط وانما في جارتها لبنان، لدرجة ان زياراته ووزير خارجيته السيد داوود اوغلو للعاصمة السورية دمشق كانت شبه شهرية، بل اكثر من زياراته لاستانبول نفسها.

فما الذي نقل العلاقات من مرحلة فتح الحدود واقامة مناطق حرة على جانبيها، والسماح لمواطني البلدين بالتنقل بالبطاقة الشخصية، وزيادة حجم التبادل التجاري بأرقام قياسية، الى توتر غير مسبوق مصحوب بحملات اعلامية شرسة من الجانب السوري على الأقل؟

السلطات السورية تريد من تركيا، والسيد اردوغان على وجه التحديد، الوقوف الى جانبها في مواجهة الانتفاضة الشعبية، لأن المشاركين فيها ينفذون اجندات خارجية تريد هز استقرار البلاد تحت عناوين الاصلاح السياسي، ولذلك شعرت بالحنق الشديد من جراء وقوف السيد اردوغان الى جانب الانتفاضة، ومساندته للاصلاحات، بل وانتقاده للرئيس بشار الاسد لعدم الاقدام على تنفيذها مبكراً لتجنب الانفجار الاحتجاجي الحالي، وبلغ الغضب الرسمي السوري ذروته عندما استضافت انقرة مؤتمراً للمعارضة السورية.

السيد اردوغان يرى ان لا خيار امامه غير الوقوف الى جانب المطالب الشعبية بالاصلاح السياسي، وكشف في اكثر من مقابلة صحافية كان آخرها يوم امس مع محطة تلفزة امريكية، انه عرض على الرئيس بشار استضافة كوادر سورية لتدريبها على كيفية الانتقال الى الحكم الديمقراطي، وادخال الاصلاحات السياسية.

صحيفة 'الوطن' السورية المقربة من النظام عكست الغضب الرسمي السوري في افتتاحية نشرتها في عدد امس هاجمت فيها بشراسة السيد اردوغان وحنينه الى احياء العثمانية، ولم توفر في الوقت نفسه وزير خارجيته داوود اوغلو منظر هذه العثمانية، واعادت نبش التاريخ الاستعماري التركي للدول العربية، وحملته مسؤولية التخلف الذي يعيشه العرب حاليا.

مثل هذا الهجوم غير المسبوق يعكس تحولاً في السياسات السورية تجاه الجيران، فالاعلام الرسمي السوري كان يلجأ دائماً الى الابتعاد عن مثل هذا الاسلوب بتعليمات من القيادة العليا التي تفضل ايكال هذه المهمة الى صحف او شخصيات لبنانية مقربة منها، فما الذي تغير الآن بحيث يتم التخلي عن مثل هذا التوجه الذي ميز سورية واعلامها في محيطها العربي؟

المؤكد ان القيادة السورية تعيش حالة من القلق والارتباك نتيجة الضغوط الداخلية والخارجية المتعاظمة ضدها، ورجحان كفة الصقور داخلها، وهي معذورة في ذلك، ولكن النتائج قد تكون على غير ما تشتهي، والثمن ربما يكون باهظاً للغاية. فخسارة تركيا، الجارة الاقوى لسورية التي تشاركها حدوداً يزيد طولها عن ثمانمئة كيلومتر، ويمكن ان يكون لها دور مؤثر في تطورات الوضع داخل البلاد سلباً او ايجاباً.

فعندما يقول السيد اردوغان انه ينظر الى الاوضاع في سورية من منظور نظرته للاوضاع الداخلية التركية ويذهب الى درجة القول بان الاوضاع في سورية هي شأن داخلي تركي تقريباً، فان هذا يعني تحذيراً لا يجب الاستهانة به من قبل القيادة السورية.

لا نعرف رأي الدبلوماسية السورية وزعيمها وليد المعلم حول هذه المسألة بالذات، ولماذا توارت عن الانظار، فسورية هذه الايام بحاجة ماسة الى الكثير من الدبلوماسية والقليل جداً من الحلول الامنية والهجمات الاعلامية اذا ارادت ان تتجاوز أزماتها.

================

استقالة يازجي وطوابير الفنانين الموالين: انجازات كبيرة للمخابرات السورية!

توفيق رباحي

2011-05-12

القدس العربي

آخر أخبار سورية متمنيا أن لا يخرج عليّ أحدهم ويصرخ في وجهي: وأنت اش دخلك فينا؟ أو ما يشبه هذه الجملة العابرة للقارات: استقالة المذيعة زينة اليازجي من تقديم الأخبار في قناة 'العربية'.

دعوني أقول إن هذه السيدة هي أولى الضحايا الذين يوصفون ب'الخسائر الجانبية' في الحرب التي تخوضها الحكومة السورية داخل (وعلى) غرف الأخبار بالمحطات الفضائية العربية والناطقة بالعربية.

إذا أراد أحدكم أن يعتبرها آخر الضحايا والقائمة مفتوحة، فله ذلك طبعا.

الأسبوع الماضي كتبت عن السيدة اليازجي بهذه الزاوية وقلت إنها 'عميلة' لأنها لم تنفذ (بعد) وعدها بالاستقالة من قناة 'العربية'، فراسلتني تنفي أن تكون قد روجت خبر استقالتها، ثم شرحت أنها تتعرض لضغوط هائلة بسبب موقفها ووضعها المهني، مفضلة عدم الخوض في التفاصيل.

لم ينقض أسبوع حتى أتت الضغوط أكلها واستقالت السيدة اليازجي بعد أن وصلت الى ما لا قدرة لها على تحمله، كما يبدو.

قبل أربع وعشرين ساعة من إعلان استقالة السيدة اليازجي كان زوجها الممثل عابد فهد في التلفزيون السوري يدافع عنها وعن حملة 'النجمة الصفراء' ممن سُحلت كرامتهم وجنسيتهم ووطنيتهم في الأرض.

بيد أن صرخته المسكين لم تنفع، وأخشى أن القادم أسوأ.

لا أعرف هل سيحتفل تجار الوطنية، بالجملة والتفصيل، بهذه البشرى السارة. يجب فقط أن نقول هنيئا لأصحاب دكاكين تسويق الوطنية والانتماء في سورية وغيرها لأن استقالة السيدة اليازجي ستكون نموذجا يحتذى في مدارس الدعاية والضغط النفسي على الخصم (أو 'العملاء' من أبناء الوطن).

في بعض المواقع هناك من طالب بنزع الجنسية عن هذه السيدة اليازجي لأنها 'عميلة' تشتغل في قناة فضائية 'مأجورة' ضد بلدها ومصالحه، مثلها مثل بقية الصحافيين والمذيعين الذين لم يستقيلوا بعد، والذين أجدد دعوتي لهم بأن يضعوا نجمة صفراء على صدورهم كي يتسنى للناس معرفتهم وتصنيفهم.

هذا زمن أغبر فعلا. أتمنى أن لا تنفتح شهية أصحاب الدكاكين فيطالبون بمحاسبة السيدة اليازجي أو على تأخرها في الاستقالة المشؤومة التي تتجاوز حدود الفرد وعلاقته بالجهة التي توظفه الى ما يشبه محاكم التفتيش.

لم نسمع أن مخابرات الحكومة الليبية أو التونسية أو اليمنية أو غيرها فعلت هذا مع مواطنيها.

صدق من أصدقائي وزملائي من جادلوني مرارا بالقول إن ما تفعله مخابرات الأسد يتجاوز 'زنقة زنقة.. ودار دار' وأن 'بابا معمر' أرحم.

2

عدد سكان سورية 23 مليونا. ومع ذلك تتجند كتيبة من السياسيين والصحافيين اللبنانيين للدفاع عن النظام السوري في الشاشات، وخصوصا في التلفزيونات السورية.

تبدو مسألة بديهية للوهلة الأولى، لكنني أجدها لافتة للانتباه تدعو الى تأمل هذه العلاقة السحرية بين سورية وقطاع من الساسة والإعلاميين في بلد الأرز، التي تجعل أناسا ينعمون بكل أنواع الحرية في بيروت والمدن اللبنانية الأخرى، يستخسرون في السوريين قليلا من الحرية والهواء النقي.

ربما هناك اعتقاد أن الدفاع عن نظام الأسد، عندما يأتي من غير سوري، يلقى صدى أكبر ومصداقية أفضل.

يشبه هذا استعانة أنظمة الحكم العربية بصحافيين غربيين لإيصال رسائل الى الرأي العام الداخلي والخارجي. لكن يبدو أن النظام السوري 'قتلته الغربة' فقال: أعمش أفضل من أعمى! في غياب الغربيين من الأفضل الاكتفاء باللبنانيين.

3

أعود الى موضوع طرقته الأسبوع الماضي أيضا، أقصد دور الفنانين في ما تعيشه سورية. يوميا، بين التاسعة والعاشرة بتوقيت لندن يبث في الفضائية السورية برنامج مباشر يحضره فنان من نجوم الدراما السورية ليدلي بخطاب الولاء للنظام ويعلن براءته الأزلية من الإرهابيين السلفيين المخربين المأجورين.

أين الحكومة؟ أين وزير الخارجية؟ فاروق الشرع؟ السفراء؟ الدبلوماسيون؟ أين الناس الآخرون غير 'فحول' و'حريم' باب الحارة؟

تشعر كأنهم يقفون في طابور كلُ في انتظار دوره لأداء الواجب. واحد في كل مرة من فضلكم لأن المكان لا يتسع ونحتاج للاستماع بوضوح وبدون تداخل أصوات أو صدى كلام.

الذي لا يعرف يقول إن هذا البلد يحكمه فنانون ومثقفون وشخصيات تلفزيونية، وليس حزب البعث والأسد والعائلة والأقربين.

قرأت مرارا أن كثيرين في سورية، يتقدمهم مسؤولون حكوميون وناطقون باسمهم، يعتبرون الدراما السورية 'خطا أحمر' مثل القسم والعلم والرموز السيادية الأخرى، لا يجوز الاقتراب منها بالنقد أو التهجم لأنها تمثل سورية في الخارج.

عندنا في الجزائر مثل شعبي جميل يقول 'اللي كلا دجاج الناس يسمّن دجاجه'. الآن، كما يظهر، دقت ساعة الحساب للفنانين وصنّاع الدراما.

4

أبلغني زملاء سوريون بأن قناة فضائية سورية تخرج الى الشارع لاستطلاع آراء الناس العاديين في ما يحدث ببلدهم، وعليهم أن لا يخرجوا عن سياق المؤامرة والسلفيين الارهابيين والامبريالية.

هذا هو المأمول من استطلاع كهذا في الزمان والمكان والظروف التي تعرفون، ولا شيء غيره. لهذا قررت المحطة، حسب بعض الزملاء، أن تقيد أسماء كل من أدلوا بكلام مخالف ويتحدث عن الحرية والديمقراطية وإسقاط النظام، لتسليمه الى.. الجهات الأمنية (مع احتفاظ القناة بعدم بث ما ترى أنه لا يتماشى مع المصلحة الوطنية العليا والذوق العام).

وعليه، قولوا معي: عاش التعاون التلفزيوني  الأمني  العربي السوري  السوري العربي.

5

نفس الأسباب تؤدي الى نفس النتائج: عندما تتشابه الديكتاتوريات، تتشابه معها الرغبة في الانعتاق، ويتشابه القمع. وعندما تلتقي هذه المتشابهات تتوج بتشابه الخطاب الإعلامي والتلفزيوني.

الانسان العربي هو ذاته، في سورية كان أو في ليبيا أو اليمن. صدّقوا أن رجلا تابع مسؤولا حكوميا يمنيا يتحدث في فضائية عربية فاعتقد أنه يقصد سورية. كان لا بد أن يستمع عدة دقائق ليتأكد أن الرجل يتحدث عن اليمن وليس سورية.

كان الرجل يستعمل الخطاب نفسه عن 'المخربين' و'المأجورين' و'دعاة الفوضى' و'السلفيين' وغيرها. وكان يمارس نفس أساليب الدفاع عن نظام حكم بائد بائس لن يرى التاريخ اسوأ منه.

هو الخطاب ذاته بدأ قبل شهرين ونصف الشهر في ليبيا عن الإرهابيين و'القاعدة' و'إمارة درنة' على لسان القذافي الأب والابن.

احتاج الليبيون الى أكثر من شهر لكي يتأكدوا أن العالم لم يصدّقهم وأن عليهم أن يغيّروا الرواية فغيّروها، فهل يحتاج السوريون الى مدة أطول؟

تبدو الفضائية السورية ثابتة وواثقة من نفسها وهي تتحدث عن 'المجموعات الإرهابية المسلحة'، من دون المغامرة في التفاصيل حتى إذا قال قائل ان قلتم مرارا لا إرهابيين ولا قاعدة عندنا، قالوا: لم نقل يوما إنها 'القاعدة'!

* كاتب صحافي من أسرة 'القدس العربي'

toufik@alquds.co.uk

================

جمعة التحدي أسقطت النظام

مها بدر الدين

الرأي العام

13-5-2011

عاش السوريون جمعة أخرى دامية سميت بجمعة التحدي كان عنوانها مطابقاً لواقعها، ولأن لكل مسمى من اسمه نصيباً، كان للجمعة الماضية كل النصيب من اسمها، فقد تحدى السوريون الثائرون بسلميتهم وشجاعتهم وبسالتهم جميع القيود التي يريد أركان النظام فرضها على الشعب السوري، فقد تحدى شباب سورية الأحرار أنفسهم أولاً عندما تغلبوا على مشاعر الخوف المعتقة منذ أعوام داخل أفئدتهم الصغيرة التي عمل النظام «البعثي» على تكريسها خلال العقود الماضية من خلال ممارسات عملية استهدفت على مر الأعوام تدجين المواطن السوري وتحويله من منارة للفكر والمعرفة والثقافة إلى مغارة للجهل والتخلف والخنوع.

وتحدى السوريون أيضاً جميع أجهزة الأمن السوري السبعة عشر التي استنفرت بكل قوتها وتفننت بشتى أساليب القمع للقضاء على بذور الثورة السورية التي زرعت في مختلف المدن السورية ورويت بدماء الشهداء فأنبتت تطلعات ومطالبات شعبية موحدة وأثمرت فكر جديد حول سورية عصرية وحديثة، وبانتظار موسم الجنى خرج الآلاف من المتظاهرين موزعين على رقعة جغرافية واسعة لم تسبقها إليها أي من الثورات العربية الأخرى وبأعداد تزداد طرداً مع العنف الأمني الرامي إلى وأد الثورة في مهدها، فكلما زادت أجهزة الأمن وعصاباته قمعاً وقتلاً واعتقالاً كلما زادت رغبة المكويين بناره من التخلص منه مهما كان الثمن غالياً.

كما تحدى شباب الثورة الإعلام السوري المضحك المبكي الممثل الأمثل للآلية التي يعتمدها النظام بمؤسساته المختلفة والمتخلفة في إدارة البلاد، فالرواية السورية في الإعلام الرسمي المرئي والمسموع والمقروء حول الوضع الراهن في البلاد تثير الضحك أحياناً من هزلية الطرح وسذاجة الإنتاج وبدائية الإخراج، وتبكينا أحياناً أخرى من استخفاف هذا النظام وهذه الآلة الإعلامية بعقول المواطنين السوريين ومشاعرهم وقدرتهم على تحريك المياه الآسنة في الشارع السياسي السوري، فقد اكتسب هؤلاء الشباب خبرة واسعة في التصوير الفوتوغرافي والفيديو لضرورة توثيق الأحداث بدمويتها وآنيتها وليفوت الفرصة على الإعلام السوري طمس الحقائق وتشويهها خصوصاً بعدما ترددت معلومات حول سيطرة أجهزة المخابرات على كل مؤسسات الإعلام السوري وإدارتها، وأصبحت صورهم أكثر وضوحاً ودقة في النقل والتوثيق كما تحولوا إلى مراسلين إعلاميين من الطراز الأول غطوا إعلامياً جميع مناطق التظاهر بإمكاناتهم البسيطة والضغوط الأمنية القاهرة التي يتعرضون لها.

لكن التحدي الأكبر كان تحدياً للأساليب القمعية التي يتبعها النظام في معالجة الأوضاع المتصاعدة في الساحة السورية، فالدبابات والمدرعات العسكرية لم تثن زهور الياسمين في بانياس على الوقوف بوجهها المخيف وتشكيل درع بشرية لمنعها من دخول البلدة وترويع أهلها والتنكيل بهم، ولم يمنع استشهاد أربع زهرات منهن وإصابة العشرات من استمرار مقاومتهن للآلة العسكرية، فسجلن لهذه البقعة الصغيرة من الوطن تاريخاً كبيراً يتغنى ببطولة الثائرات الصغيرات، ولم تكن نساء دير الزور ودرعا وغيرها من المناطق بأقل شجاعة من أخواتهن في بانياس فخرجن يساندن أحباءهن من شباب ورجال الثورة ويطالبن بحق أبنائهن في مستقبل جديد يستنشقون به هواء الحرية، بعد أن تحركت اللبؤة في صدورهن وانتفضت لتدافع عن وجودها وامتدادها، ولعله الأسد هو الأكثر علماً بدوافع وأفعال اللبؤة عندما تزأر.

وقد سجلت جمعة التحدي بما شهدته من مجازر مروعة بحق الشعب السوري سقوطاً مستحقاً لشرعية النظام الحاكم وبطلاناً مؤكداً لشرعيته. ألا تعتبر خيانة عظمى عندما لا تتسع معتقلات الوطن لأبنائه المعتقلين فيزج بهم في المنشآت الاقتصادية الخاصة بشخصية اقتصادية مقربة من النظام ويعمل بهم تعذيباً وتنكيلاً، ألا تعتبر خيانة عظمى أن يفاوض الأمن السوري أهل الشهداء على تسليمهم جثث أبنائهم مقابل توقيعهم على إقرارات ترجع استشهادهم إلى العصابات الإرهابية؟ ألا يعتبر خيانة عظمى أن يستشهد أكثر من ثمانمئة مواطن سوري يطالبون بالحرية بكل تحضر وسلمية ويعتقل الآلاف منهم ويبرر النظام ببساطة شديدة هذا التصرف على أنه تصرف فردي لبعض أفراد الأمن متدنيي المستوى التعليمي والثقافي؟

فإذا اعتبرت كل هذه الجرائم خيانة عظمى أليس هذا إسقاطاً لشرعية النظام حسب الدستور السوري، أم اننا نحتاج لخيانة أعظم وأدمى ليحق لنا محاسبة الجلاد؟

كاتبة سورية

------------------------

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها

 

 

أعلى الصفحةالسابق

 

الرئيسة

اطبع الصفحة

اتصل بنا

ابحث في الموقع

أضف موقعنا لمفضلتك

ـ

ـ

من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ