ـ

ـ

ـ

مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وقولوا للناس حسنا

اتصل بنا

اطبع الصفحة

أضف موقعنا لمفضلتك ابحث في الموقع الرئيسة المدير المسؤول : زهير سالم

الاثنين 11/04/2011


أرسل بريدك الإلكتروني ليصل إليك جديدنا

 

واحة اللقاء

 

التعريف

أرشيف الموقع حتى 31 - 05 - 2004

ابحث في الموقع

أرسل مشاركة

J

 

أنظمة متشابهة... ثورات متشابهة

شاكر الأنباري

المستقبل - الاحد 10 نيسان 2011

العدد 3965 - نوافذ - صفحة 11

الثورات الشعبية في البلدان العربية تعطي الانطباع بأن ثمة مشتركات كثيرة بينها، سواء بشعاراتها أو مطالبها أو الفئات التي تشارك فيها. ذلك يدلل على أن هذه الحركات هي مظهر لتيار شامل يعم المنطقة. وهي تواجه قوى، سلطوية، متشابهة هي الأخرى، بشعاراتها وخطابها وآليات عملها. اي اننا امام خطابين متناحرين: خطاب سلطة وخطاب ثورة. هذان الخطابان كانا يتصارعان بخفوت احيانا او بحدة احيانا أخر منذ عقود، حتى وصل الأمر الى نقطة الفراق. الحياة او الموت. اي لا يمكن لهما التعايش بعد اليوم على الساحة ذاتها. درجة الصراع تتراوح بين العنف الشديد، كما يحصل في ليبيا، او الهزيمة السلسلة للنظام امام شباب الثورة كما حصل في تونس ومصر. ومواصفات القوة التي وسمت الانظمة العربية تتجلى في أكثر من محور على رأسها ممارسة العنف ضد المعارضين، بالعنف تسكت الأصوات المعارضة والرافضة، والمحتجة. يبدأ العنف من الشارع لينتهي في زنازين مظلمة تشرف عليها مخابرات النظام وهي تستخدم كافة الوسائل لانتزاع شهادات، ومعلومات، وادعاء بارتكاب جرم، وتشويه لحقائق. ويتبع العنف مستويات أخرى من وسائل القوة والهيمنة، كالديماغوجيا الاعلامية، وتشويه الحقائق، ونقل الحدث بصورة مزوقة، وفبركة الحقائق لتحسين صورة النظام، والترويج لأشخاص مسؤولين هم بالأساس عديمو الكفاءة، ولصوص، ومرتشون، وظالمون.

الاستحواذ كان بارزا على مفاصل الدولة، ووضعها بيد حزب السلطة او عائلة الرئيس او المسؤول خاصة الأجهزة العسكرية والأمنية، اضافة الى المفاتيح الاقتصادية في البلد، وخلق طبقة فاسدة وثرية ومرفهة لكنها من نتاج النظام. تقوم هذه الطبقة بتخريب ذائقة المجتمع، وتشويه قيمه، وتفريق وحدته بهذه الطريقة او تلك. كما يعتمد النظام على وجود عدو خارجي، وهنا يمكن ان تكون قضية فلسطين، او الغرب وأميركا باعتبارهما يتآمران على البلد المعني، وقيمه الدينية والاخلاقية. عدو خارجي كأن يكون القاعدة كحركة عالمية متطرفة، والأصولية في أشد تمظهراتها عنفا وتخلفا. وابتكرت بعض الانظمة المتهاوية بعبع الحرب الاهلية، فإما بقاء النظام او الحرب الأهلية، وهذا ما طرحه النظام اليمني، وهو يسوغ بقاءه ويسوغ شرعيته، وكأن الحروب الأهلية ليست صنيعة سنوات من الممارسات الخاطئة لتلك الأنظمة، واعتمادها على هذا الطرف من المجتمع او ذاك في بقائها. اما اسرائيل فكانت الشماعة الضخمة التي علقت عليها الأنظمة العربية أخطاءها وكوارثها تجاه شعوبها منذ ما يزيد على نصف قرن، رغم انها، أي تلك الأنظمة، في كثير من الحالات لم تعمل اي خطوة حقيقية لدعم حق الشعب الفلسطيني في نيل حقوقه ومنه اقامة دولته المستقلة.

كان العنف هو الرافعة لكل تلك الأساليب السلطوية طوال عقود، وقد مورس بشتى الطرق. مذابح جماعية، تشريد مئات الآلاف، ابادة مدن، شن حروب، تدخل بشؤون الدول الأخرى، عدا عن ممارسة افظع انواع التعذيب في المعتقلات الرهيبة، والتجسس على الشعوب. هذه باختصار الأسس التي جعلت تلك الأنظمة تحافظ على وجودها كل تلك العقود. لكن الحياة تغيرت، والأحداث العالمية سارت في اتجاهات مغايرة، بعد انهيار المنظومة الاشتراكية وتفكك الاتحاد السوفيتي وسقوط زمن الآيديولوجيا، سواء كانت يسارية او يمينية، قومية او دينية. كانت هذه بديهية سهلة وواضحة مثل الماء، لكن الأنظمة لم تستطع هضمها أو رؤيتها على الأقل. الشعوب العربية عاشت عقوداً تحت هيمنة وسطوة انظمة مثل تلك، ولدت اجيال جديدة في ظل فضاء اجتماعي آخر، وفي ظل حراك عالمي لم يكن مألوفا، لعل ابرز ما فيه وضع الديمقراطية كمفهوم، وآليات، وممارسة، يافطة عالمية راحت تلف قارات العالم أجمع. النظام الديمقراطي المتمثل بشكل أساس بتعدد الأحزاب، وحرية الصحافة والاعلام، وقدسية حقوق الانسان والانتخابات والبرلمان واستقلالية القضاء والحق بالتظاهر وابداء الرأي والسفر والعقيدة، وما الى ذلك من مقومات حضارية راحت جميع الشعوب تمارسها يوميا او تطمح الى ممارستها. والجيل الشاب من الدول العربية ليس بعيدا عن هذا الفضاء العالمي وحراكه الاجتماعي والسياسي وهو ينتقل بخطوات نوعية الى مرحلة بشرية تختلف كليا عما كان قبل عقود. الجيل العربي الجديد يطمح الى السلم، لذلك رفعت معظم التظاهرات والاحتجاجات شعار: سلمية.. سلمية، سواء في طرابلس او القاهرة او دمشق او صنعاء او بغداد. الاحتجاجات السلمية تعطي شرعية لحركة الجماهير الغاضبة هذه، كونها تطمح الى اصلاح الوضع او تغييره سلميا بنبذ لغة العنف والسلاح والقتل، وهذا ما يسحب البساط من تحت ماكنات الأنظمة العسكرية التي تدربت على القتل والمواجهات العنيفة، وينزع الشرعية عن اي نظام يستخدم العنف في قمع تظاهرة سلمية مثل تلك.

ومن ابرز المشتركات بين تلك الثورات ان الشباب اتكأوا على الثورة التكنولوجية في مجابهة السلطات، عبر الموبايل والفيسبوك والتويتر والبريد الألكتروني، حتى ان تلك الوسائل كانت اشبه بالحزب الجديد القائم على تنظيم المواعيد، وتبادل الافكار والحوارات، وايصال الرسائل بين شخص وآخر، اضافة الى نشر الوثائق البصرية كالأفلام والمشاهد عبر اليوتيوب، والوثائق الورقية التي تدين السلطة وممارساتها عبر توثيق يومي لما يجري في المجتمع. كما سهلت الثورة التكنولوجية وجود اعلام مضاد لإعلام السلطة، يعتمد المصداقية وشمولية نقل الحدث، حتى صار الفرد يطّلع على ما يجري في اي زاوية مهملة او زقاق او منطقة، في المدن والقرى والشوارع والجامعات والمعسكرات. وهو ما خلق اعلاما مضادا جبارا لم تستطع معظم الأنظمة العربية الوقوف امام مده الزاخر. لم يبق سوى وسيلة واحدة الا وهي غلق مصادر الاتصال تلك وايقافها. فتم ايقاف الموبايل والفيسبوك والانترنيت وملحقاتها في عدد من البلدان التي حصلت فيها التظاهرات السلمية تلك. لكن هذا الحل يعني في النهاية تعطيل الحياة برمتها، وبذلك حكمت تلك الأنظمة على نفسها بأنها ضد الحياة وخارج التاريخ، لأن مهمتها هذه مستحيلة وغير منطقية. وتقودنا هذه الحقيقة الى ان من يستخدم ثمار التكنولوجيا في الثورة هم جيلها بالتحديد. الغالبية من المتظاهرين هم من جيل الشباب، الجيل الذي لم يلوث بالآيديولوجيا.

جيل نشأ بعيدا عن جعجعة الشعارات الكبيرة التي سادت في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي. وهو الجيل الذي نشأ في احضان الحداثة، لا على صعيد التكنولوجيا فقط بل ايضا الملابس، الموضات، الفيديو كليب، الحلم بالسفر الى العالم، تعلم اللغات الأجنبية. الجيل الذي يكاد يشارك البشرية بانتمائها الى كوكب الأرض، لا الى بقعة جغرافية صغيرة فقط، او هوية دينية بعينها او ارث حضاري بائد. جيل الانفتاح او الطامح الى الانفتاح. ترتب على حقيقة الانفتاح ان هذا الجيل يؤمن بالهوية الوطنية العابرة للقبائل والطوائف والأديان، كما حدث في مصر واليمن وتونس، وهو توجه يرعب السلطات الحاكمة التي كانت تستخدم هذه الأوراق لتمتين بقائها في سدة السلطة.

والشباب في تلك البلدان مشغولون ايضا بالهم اليومي، بالخدمات، بالاصلاح للحياة التي يحيونها. اصلاحها بتوفير العمل، والتعليم، والصحة، والمشاركة في صناعة مستقبلها، وهذا ما شاهدناه في لافتاتهم وشعاراتهم ونداءاتهم. لقد تجاهلت الشعارات القومية الكبيرة، ومحاربة الاستعمار، والقضاء على اسرائيل، والدعوة لحروب التحرير وغيرها من شعارات سادت قبل عقود. وكان شعار الشعب يريد الاصلاح شعارا مشتركا بين مدن عربية كثيرة، من شمال افريقيا وحتى الخليج. فالسكوت على نمط الحياة المتكلسة لم يعد ممكنا، والتعطش الى ان يعيش الفرد كغيره من شبيبة العالم الحر المتحضر همّ يشترك به الجميع في أرض العرب. من هنا ليس من المبالغة القول ان المنطقة تعيش تحولات تاريخية كبرى، قد تغير الخارطة في مساحات شاسعة، اجتماعية وسياسية وثقافية، وهذا هو بالتأكيد، جوهر الحداثة المعاصرة.

===================

سوريا.. وأصحاب الجوارب البيضاء!

طارق عبدالواحد

السبت, 04.09.2011

في رواية "رجال في الشمس" يخبئ سائق الصهريج أبو الخيزران ثلاثة فلسطينيين داخل الخزّان، تمهيداً لتهريبهم من الأردن إلى الكويت، بحثاً عن فرص العمل، بعدما ضاقت الحياة الرحيبة في وجوههم. وعندما يتأخر السائق في مكاتب المداخل الحدودية، يموتون من شدة الحر وضيق التنفس. تحرقهم جهنم الصحراء، يشويهم الحديد على نار هادئة، وهم قابضون، حتى آخر نفس، على حلم اجتياز الحدود. ولكنهم يموتون. في تلك الرواية.. يصرخ غسان كنفاني بحرقة وألم وقهر: لماذا لم يدقوا جدران الخزان؟؟

ولماذا لم يدق السوريون جدران الخزّان الرهيب، طوال أربعين عاماً، وهم يحرقون، على نار هادئة، لماذا؟

يقول خبراء الرياضات العنيفة: إن الملاكمة أخطر من "الكيك بوكسينغ" ذات العنف الواضح والمدمي، والسبب.. هو القفازات. فالألم الذي تسببه القبضات والأقدام العارية في "الكيك بوكسينغ" يخلق استجابة سريعة عند اللاعب، فيقرر.. إما المتابعة أو التوقف عن اللعب. أما في رياضة الملاكمة، فإن القفاز يمتص تأثيرات اللكمات وقوتها آنياً، ولكنها تعمل على تخزين الآثار الهائلة في جسد اللاعب وجهازه العصبي، وهذا ما حصل مع محمد علي كلاي.

والنظام السوري الذي أدخل السوريين إلى الحلبة منذ أربعين عاماً، والذي يوصف بالنظام صاحب "القبضة الفولاذية والقفازات الحريرية"، هزم الشعب بضربة قاضية في مجازر حماة، التي ذهب ضحيتها عشرات الآلاف، ومايزال يعمل على إطالة زمن النزال، وهزيمتهم بالنقاط، وإنهاكهم وملاحقتهم وقمعهم وسجنهم وإهدار كراماتهم، ناهيك عن كمية الآلام والأوجاع التي تثقل ذكرياتهم وحياتهم وأحلامهم.

سورية هي البلد الذي وصفه أحد الصحفيين المتابعين للأحداث الأخيرة ب"جمهورية الخوف"، والذي وصفه صحفي آخر "بالبلد الذي يحكمه الرجال.. ذوو الجوارب البيضاء"، في إشارة إلى أجهزة المخابرات التي تتحكم بكل مفاصل الحياة في سوريا. والنظام السوري لم ينجح وخلال أربعين عاماً من الحكم إلا بتصدير ملايين العمال إلى البلدان العربية طلباً للعمل، ولم ينجح إلا بإشاعة صورة الإنسان السوري بين العرب على أنه "مخبر" أو "مرتبط مع المخابرات" أو مشبوه، حتى جاء مسلسل "باب الحارة" وحوّل صور السوريين إلى "عكداء" وقبضايات، وحوّل السوريات إلى ربات منازل يحفرن الكوسا، ويطخبن اليبرق.

حتى السوريين المغتربين الذين تركوا أوطانهم يتجنبون الحديث في السياسة، أو العمل السياسي، أو انتقاد الأداء الرسمي، خوفاً من بطش الأجهزة الأمنية، بعد أن نجحت سياسات النظام في زرع الشكوك بينهم وعدم الثقة بين الأخوة والأقارب. هكذا صار الخوف السوري.. ماركة مسجلة. خوف.. عابر للأزمنة والقارات، فمن يصدق أن السوريين في أميركا، لا يجرؤون على الهمس فيما بينهم. من يصدق ذلك؟

وفي آخر بهلوانيات النظام السوري، هاهي القيادة السياسية الأمنية تعمل على إلغاء قانون الطوارئ، بعد نصف قرن من إعلانه، وإحلال قانون مكافحة الإرهاب مكانه. وفق القانون القديم كان جميع السوريين تحت الشبهة والتهمة، ووفق القانون الجديد، سيصبح جميع السوريين إرهابيين.

وكثيرة هي المرات، التي رأينا فيها الدبلوماسيين السوريين وهم يدعون الأميركان إلى الاستفادة من التجربة السورية في مكافحة الإرهاب (!)، ولكنهم الآن، في رسالة غزل واضحة للأميركيين والغرب، يقولون أنهم استفادوا من قوانين مكافحة الإرهاب في أميركا وأوروبا خلال الإعداد للقانون السوري الجديد.

وماذا عن قانون الأحزاب وقانون الإعلام ومسائل الحريات المدنية والعامة، ولماذا لا يستفيدون من التجارب الأميركية والغربية الأخرى في سن هكذا قوانين. سياسة الكيل بمكيالين.. هي عند الجميع. إنهم يعملون على ذر الرماد في العيون، والخداع المكشوف، والتشاطر، والحرتقة الحقيرة، في إيصال رسائل سياسية لأصحاب النفوذ والتأثير في العالم، ولكن السوريين.. دقوا جدران الخزان وحطموها وخرجوا.. إلى الهواء الطلق، وما من قوة قادرة بعد الآن على إعادتهم.. إلى داخل القنينة.

إن نظاماً، كالنظام السوري، يعتبر وجود آلات صرف نقدية في ثلاث أو أربع مدن في القرن الواحد والعشرين دليلا على الانفتاح الاقتصادي، هو نظام مفلس، وخارج التاريخ. ومن يصدق أن سوريا كانت في الخمسينات ثاني قوة اقتصادية في آسيا، بعد اليابان، بحسب إحصائيات الأمم المتحدة.

الشعب السوري الذي رفع في البداية شعاراً أخلاقيا "الشعب السوري ما بينذل"، يرفع الآن شعاراً سياسياً: "الشعب يريد إسقاط النظام".

==================

"الإصلاح" في سورية بين الوهم والحقيقة!

2011-04-10

جواد البشيتي

jawad.bashiti@alarabalyawm.net

العرب اليوم

الرئيس السوري بشار الأسد هل يمكن أنْ يَشُذَّ عن القاعدة (في موقف الرؤساء والحُكَّام العرب من الانتفاضات والثورات الشعبية الديمقراطية في بلادهم) فيتشرَّف بلقب القائد للإصلاح السياسي والديمقراطي (السلمي والأبيض) في سورية, ويكفي شعبه وبلده شرور "الدفاع عن الكرسي حتى آخر رصاصة, أو آخر قطرة دم"?

نتمنَّى ذلك; مع أنَّ نَيْل الإصلاح السياسي والديمقراطي الحقيقي, وفي بلد مثل سورية, هو أمْرٌ إنْ تحقَّق فلن يتحقَّق إلاَّ بما يؤكِّد (أو يعيد تأكيد) أنَّ نَيْل المطالب لن يتأتى من طريق التمنِّي; ومع أنَّ "الكهانة", وبما أُوتي المشتغلون بها من سعة صَدْر, وضيق أُفْق, غير قابلة للتحوُّل إلى "سياسة".

إنَّ الدكتاتور, ولو كان الدكتور بشار الأسد, هو, في المبتدأ من تعريفه, شخص, أو إنسان, تخلَّق, ولو مُكْرَهاً, بأخلاق الدكتاتورية, التي يتصدَّرها خُلْق "التضحية (أو الاستعداد للتضحية) بكل شيء من أجل إنقاذ كرسيِّه ونظام حكمه", فالشعب نفسه, وبمصالحه وحقوقه, ليس بالشيء الذي يَسْتَصْعِب الدكتاتور التضحية به, إنقاذاً لنفسه, ولنظام حكمه; ولم نرَ في تاريخ أنظمة الحكم الدكتاتورية دكتاتوراً أراه الله الحق حقَّاً, ورَزَقَه اتِّباعه, فَنَزِل عند إرادة شعبه, ولبَّى له مطالبه, مضحيِّاً بكرسيِّه, وبالامتيازات التي يتمتَّع بها مع شركائه وأعوانه في الحكم.

والدكتاتور لو وطَّن نفسه على أنْ يأتي بمعجزة جَعْل هذه الوهم (وهم التنازل عن السلطة للشعب) حقيقة فإنَّ شركاءه في الحكم من ذوي النفوذ الأمني والعسكري والسياسي والاقتصادي الكبير لن يسمحوا له بذلك; وربَّما يُضطَّروا إلى التخلُّص منه في طريقة ما; فإذا هُمْ لم يدافعوا عن امتيازاتهم هذه فَعَمَّا يدافعون?!

ولنظام الحكم الدكتاتوري (وللعربي منه على وجه الخصوص) تناقضه الخاص به; فالرئيس (مع حزبه الذي هو ظاهراً "الحزب الحاكم", وباطناً "حزب الحاكم") لديه من تأييد وولاء وحب (وعبادة) الشعب له ما ينبغي له أنْ يَحْمِله على أنْ يُسْبِغ على شعبه نعمة "الديمقراطية الخالصة المُطْلَقة", وليس "الديمقراطية" فحسب; فَلِمَ يخشى جَعْل سورية "مثلاً أعلى للديمقراطية (والحرِّية)" للعالم أجمع, وللغرب الديمقراطي على وجه الخصوص, وهو يتمتَّع بِحُبٍّ شعبي يحسده عليه الأنبياء (لا بل الآلهة)?!

إذا أردنا للوهم الإصلاحي أنْ يستبدَّ بتفكيرنا وقولنا, فإنَّنا ندعو الرئيس بشار الأسد إلى مخاطبة شعبه بلغة سياسية جديدة, تخلو تماماً, هذه المرَّة, في مفرداتها وعباراتها, من "الوعود", ومن "السِّين" و"سوف", ومن "تأليف اللجان" التي تتوفَّر على البحث والدراسة وإعداد التقارير لرفعها, من ثمَّ, إلى مقامه السامي, وتُشْبِه كثيراً لغة الطب التي لم ينسها بعد, فيُشخِّص الأمراض التي تعاني منها كثيراً علاقة الحاكم بالمحكوم في سورية, حتى يُحْسِن وصف الدواء, الذي لا يَدْخُل في تركيبه أي عنصر من تلك العناصر الدوائية التي ألمح إليها في خطابه الأخير (الذي كان كجَبَلٍ تمخَّض فولد فأراً) إذ لم يُسَمِّ الأشياء بأسمائها الحقيقية, ولم يَصِف ما حدث بأوصافه الحقيقية.

ندعوه إلى إلقاء خطاب جديد, يلقيه بصفة كونه الحاكم الذي يملك حُصَّة الأسد من السلطة الفعلية والحقيقية, ويُعْلِن فيه إنهاء "حالة الطوارئ (المعمول بها منذ عشرات السنين)" فوراً, و"دسترة" هذه الحالة كما هي "مدسترة" في الدول الديمقراطية, والتخلِّي عن السعي إلى إحلال قانون لمكافحة الإرهاب محلها, وحل "مجلس الشعب" الذي يمثِّل الرئيس لدى الشعب, وحل الأجهزة الأمنية (المتخصِّصة في قمع وإرهاب الشعب) بصفة كونها الحارس الأمين والقوي للدكتاتورية من أجل إعادة بنائها بما يجعلها حارساً أميناً وقوياً لأمن الشعب وللديمقراطية, وتخليص الدولة من قبضة حزب البعث, والفصل التام بينه وبين الدولة, مع تجريده من كل امتيازاته, وجعله حزباً عادياً كسائر الأحزاب, وإنهاء العمل بالدستور الحالي, وإخلاء السجون من كل السجناء السياسيين وسجناء الرأي, وإقرار حق الشعب والمواطنين في التمتُّع بكل الحقوق الديمقراطية والسياسية المعمول بها في الدول الديمقراطية, وانتخاب جمعية تأسيسية, في نهاية مرحلة انتقالية كافية, لوضع دستور جديد (ديمقراطي عصري) للبلاد, تُجْرى بعده, وبموجب قانون انتخابي يقوم على "التمثيل النسبي", انتخابات برلمانية, تنبثق منها حكومة الغالبية البرلمانية, لتمارِس "السلطة التنفيذية" كاملةً; ثمَّ تُجْرى انتخابات رئاسية (مبكرة) يحقُّ للرئيس بشار الأسد أنْ يرشِّح نفسه فيها, على ألاَّ يحقُّ للرئيس البقاء في الحكم أكثر من ولايتين اثنتين, وعلى ألاَّ يتمتَّع بسلطات وصلاحيات لا يحتاج إليها منصب الرئيس الذي يتَّسِم برمزية تجعله شبيهاً بعَلَم الدولة.

وإنِّي لأتساءل, في دهشة واستغراب, قائلاً: هل في هذا الإصلاح السياسي والديمقراطي الذي يعلنه ويقرِّره ويقوده بشار الأسد نفسه ما يلحق الضرر بسورية, شعباً ودولةً ودوراً, عربياً وإقليمياً, ويخدم مصالح وأهداف قوى الأعداء (وفي مقدَّمهم إسرائيل) التي تتربَّص بسورية الدوائر, وتكيد لها, وتتآمر عليها, وتسعى في النيل من قوَّة جبهتها الداخلية?!

إنَّ من يخشى شعبه, ويخشى عواقب التحرير الديمقراطي لشعبه, لا يمكنه أنْ يكون صادقاً في زعمه أنَّه يخشى على سورية من الأعداء الخارجيين, ومن العدو الإسرائيلي على وجه الخصوص; وليس أدل على ذلك من أنَّ نفي الديمقراطية, وتثبيت الدكتاتورية, وإدمان الحكم بقانون الطوارئ, قد نزل على هؤلاء الأعداء برداً وسلاماً, وجَعَل الأمن القومي لسورية ضعيفاً, يزداد ضعفاً, وعُرْضَةً لمخاطر جمَّة.

ويكفي أنْ يبدي الرئيس بشار الأسد (في خطابه الأخير) استعداداً للبحث في أمر إلغاء حالة الطوارئ (قبل انتهاء النزاع مع إسرائيل) حتى يتأكَّد ويَثْبُت أنَّ تلك الحالة المزمنة لم تكن سلاحاً يستخدمه نظام الحكم البعثي في سورية في مواجهة ما يتعرَّض (أو يمكن أنْ يتعرَّض) له الأمن القومي السوري من مؤامرات العدو الإسرائيلي (وغيره من الأعداء الخارجيين).

ولن يَصْلُح ردَّاً على ذلك زَعْمٌ من قبيل أنَّ البديل من قانون الطوارئ, ألا وهو قانون "مكافحة الإرهاب", يمكن أنْ يُعوِّض هذه "الخسارة" التي سيتكبدها الأمن القومي لسورية; فقانون "مكافحة الإرهاب", وبحكم تعريفه ومنطقه ومحتواه, ليس بذي أهمية تُذْكَر في مواجهة العدو الإسرائيلي, و"الدول المعادية".

لقد انتظر السوريون على أحرٍّ من الجمر الخطاب الأخير للرئيس بشار الأسد, فسقف التوقُّع كان عالياً, وساهم في إعلاء هذا السقف المستشارة الإعلامية للرئيس السوري الدكتورة بثينة شعبان, تصريحاً أو تلميحاً; فهل من تعليل وتفسير لِذِهاب الخطاب بهذا التوقُّع?

سأفترِض أنَّ الرئيس بشار الأسد كان عازماً على أنْ يُضمِّن خطابه من القرارات (الإصلاحية الجريئة) ما يجعل هذا الخطاب على مستوى التوقُّع الشعبي; لكنَّ شركاءه في الحكم من ذوي النفوذ الأمني والسياسي والاقتصادي الكبير منعوه من ذلك, دفاعاً عن مصالحهم وامتيازاتهم الشخصية والفئوية الضيِّقة; لقد منعوه فامتنع, عن اقتناع أو عن إكراه.

وربَّما اطمأن الرئيس بشار الأسد (قبل إلقائه الخطاب) إلى قول إدارة الرئيس أوباما إنَّ الولايات المتحدة لن تكرِّر في سورية ما قامت به في ليبيا (ضد نظام حكم العقيد معمر القذافي) فما كان منه إلاَّ أنْ أعاد كتابة خطابه بما يتَّفِق مع هذا المعطى الجديد.

ويمكن أنْ نضيف إلى ذلك أنَّ نظام الحكم في سورية قد توصَّل إلى استنتاج مؤدَّاه أنَّ الولايات المتحدة (وغيرها من الدول الغربية والأطلسية) غير قادرة على أنْ تتدخَّل الآن عسكرياً في سورية كما تدخَّلت في ليبيا.

ولا أستبعد أنْ يكون نظام الحكم السوري قد فرض على الولايات المتحدة (وغيرها من الدول الغربية) مهادنته بأنْ هدَّدها بسيطرة "حزب الله" على لبنان, وبإشعال فتيل حرب جديدة بين هذا الحزب وإسرائيل, إذا ما سعت في ممارَسة ضغوط غير عادية عليه.

وأتوقَّع أنْ يكون نظام الحكم في سورية قد أحسن الإفادة من تقرير "فيلكا إسرائيل", الذي فيه أماط هذا الموقع الإلكتروني الاستخباراتي الإسرائيلي اللثام عن تفاصيل "خُطَّة مُحْكَمة", قال إنَّ بندر بن سلطان وضعها (سنة 2008) بالتعاون مع "صديقه" سفير الولايات المتحدة السابق في لبنان جيفري فيلتمان, وتستهدف إطاحة نظام الحكم في سورية; لكن في طريقة تُعيد سورية إلى "العصر الحجري".

هذا التقرير خدم نظام الحكم السوري كثيراً إذ صوَّر الحراك الشعبي السوري ضده على أنَّه ثمرة مؤامرة لأعداء خارجيين, وتستهدف سورية نفسها, وليس نظام الحكم فيها فحسب.

ويتوقَّع نظام الحكم في سورية أنْ ينال نشر هذا التقرير, وتصديق المواطنين السوريين له, من قوَّة الحراك الشعبي السوري ضده, وأنْ يجعل قمعه أسهل من ذي قبل.

ومن دون أنْ أستبعد هذه التفسيرات والافتراضات, أو أقلِّل من شأنها, أقول إنَّ الخطاب الأخير للرئيس بشار الأسد, وإنْ خلا من كل ما كان يجب أنْ يتضمَّنه, وفق التوقُّع الشعبي السوري, لم يَخْلُ من الذكاء في صراع نظام الحكم السوري ضدَّ الحراك الشعبي السوري المناهض له; فالرئيس السوري عَرَفَ وأدرك أنَّه لو ضمَّن خطابه جملة من الإصلاحات السياسية والديمقراطية لاكتشف سريعاً أنَّ الشعب يريد أكثر, ويريد لهذا الأكثر أنْ يتحقَّق على نحو أسرع.

الذكاء كان في قول الرئيس الأسد في خطابه الأخير إنَّ إصلاحاً (سياسياً وديمقراطياً) كبيراً يلبِّي حاجات ومطالب الشعب السوري هو أمْرٌ قد تقرَّر من قبل; لكن التنفيذ لن يكون على الفور, وإنَّما تدريجاً, ومن غير تسرُّع.

وَلْنَفْتَرِض الآن أنَّ الضغط الشعبي الثوري قد استمرَّ وتعاظَم حتى أصبح نظام الحكم السوري مضطَّراً إلى تقديم بعض التنازلات, كإلغاء حالة الطوارئ.

عندئذٍ, يستطيع الرئيس بشار الأسد أنْ يزعم أنَّه قد نفَّذ من تلقائه بعضاً من "خطَّته للإصلاح", ولم يُقدِّم, من ثمَّ, أي "تنازل" تحت الضغط الشعبي.

وقد يُصدِّق هذا الزَّعم بعض المواطنين فيتساءلون, من ثمَّ, عن دواعي الاستمرار في الحراك الشعبي الثوري (من أجل الإصلاح السياسي والديمقراطي) ما دام الرئيس يُنفِّذ من تلقائه "خطَّته للإصلاح" شيئاً فشيئاً!

ولو كان الأمر بخلاف ذلك لأعلن الرئيس بشار الأسد بنود "خطَّته للإصلاح" بنداً بنداً, مُضمِّناً هذا الإعلان "جدولاً زمنياً" للتنفيذ.

==================

ماوراء الأخبار.. الأمن أولاً

دمشق

صحيفة تشرين

رأي تشرين

الأحد 10 نيسان 2011

عزالدين درويش

بعد هذا الذي جرى في بعض المدن السورية على هامش التظاهرات المطلبية من إزهاق للأرواح البريئة، وإسالة للدماء، وتخريب لممتلكات عامة وخاصة، حان وقت العقل والتعقّل، ودقت ساعة الوقوف أمام الحقيقة، والتعامل معها كما يجب انطلاقاً من المصلحة العامة.

فالمطالب المحقّة التي نادى بها المتظاهرون نُفّذت أو هي في طريقها إلى التنفيذ وفق برنامج زمني قصير الأجل يعدّ بالأيام، والقيادة أكدت انفتاحها على الشعب وبرهنت أن ما يريده الشعب هو دائماً قرارات، وقد حدث ذلك فعلاً فيما يخص محافظتي درعا وحمص على سبيل المثال، وليس هناك من حدود يمكن أن تفصل بين الإرادة الشعبية والسياسة الحكومية. ‏

هذه حقائق لم تعد بحاجة إلى براهين، فلماذا إذاً الإصرار على التظاهر والإفساح في المجال أمام المخربين والمغرضين والمندسين كي ينفذوا مآربهم، وبشكل أدق كي ينفذوا ما أمروا به بقصد الإخلال بالأمن الوطني وضرب الاقتصاد، وإحلال الرعب في نفوس عامة الناس. ‏

وللتوضيح أكثر، كيف يمكن أن تستقيم أمور متظاهرين على سبيل المثال لا الحصر عندما يطالبون باستيعاب العاطلين عن العمل في مؤسسات ودوائر القطاع العام، ويقومون في الوقت نفسه بإحراق هذه المؤسسات والدوائر التي يفترض أنهم سيعملون بها؟ ألا يعني ذلك أن ما يظهره هؤلاء غير ما يبطنون؟. ‏

ويمكن إيراد الكثير من الأمثلة في قضايا أخرى مشابهة يتبناها بعض المتظاهرين، وتنتهي بقتل الناس، وإحراق الممتلكات، وترويع الآمنين، واستفزاز القوى الأمنية المكلفة حماية المتظاهرين دون أن تمتلك قرار إطلاق النار حتى دفاعاً عن النفس. ‏

على هذا الأساس كانت المطالبات والمناشدات الشعبية الشاملة بوسائل متعددة كي تمارس القوى الأمنية دورها في حماية الوطن والمواطنين، وردع المخربين والمجرمين وأدوات الفتنة، وبث الطمأنينة بين الناس، فهذا حق للمواطن وواجب على القوى الأمنية، والعكس ترفضه قوانين الدول وشرائع السماء والأرض. ‏

ولا مجال في هذا السياق للمفاضلة، فأمن الوطن والمواطن أولاً، وبعد ذلك يمكن الحديث عن مطالبات كالتي يتبناها المتظاهرون بطرق سلمية وليس بالرصاص والسكاكين والإطارات المشتعلة، وبإحراق وتكسير الممتلكات، وبث الرعب في النفوس. ‏

==================

مذبحة دير ياسين كما تتذكرها إحدى الناجيات

كرم فواز الجباعي

البعث

10-4-2011

إرهاب صهيوني لم ينج منه كبير ولاصغير

كانت مذبحة دير ياسين واحدة من أكثر المجازر التي ارتكبتها العصابات الصهيونية وحشية وبشاعة، ففي فجر التاسع من نيسان 1948، وفي القرية الوادعة القريبة من القدس سجلت عصابتا الارجون وشتيرن صفحة دموية مروعة في سجلهما الحافل بالقتل والإرهاب، دخلت قوات عصابة الارغون من شرق القرية وجنوبها، فيما دخل أفراد عصابة شتيرن من الشمال، لحصار القرية من كل جانب، عدا الجانب الغربي، وليفاجئوا السكان وهم نائمون.

ولمواجهة مقاومة الأهالي تمت الاستعانة بدعم عصابات البالماخ التابعة للهاغاناه، وبسادية مرعبة تم قتل معظم أهالي القرية (حوالي 400 شخص) العزل بدم بارد، راح بعدها قادة العصابات يتبادلون التهنئة على ارتكاب المذبحة، التي قال فيها الإرهابي مناحيم بيغن: « لولا دير ياسين ما قامت إسرائيل»، مؤكداً أن وجود إسرائيل وتاريخها مرتبطان بالجريمة.

 

الحاجة شفيقة تتذكر

 لم تكن الحاجة شفيقة، وهي من الناجين القلائل من المذبحة، وأهالي قريتها المقدسية الوادعة دير ياسين يدركون قبل ساعات من الجريمة أنهم سيكونون ضحايا واحدة من أبرز جرائم الإرهاب الصهيوني التي عرفها التاريخ.

خلدوا إلى النوم تلك الليلة، ليستفيقوا في الثالثة فجراً على صوت رصاص وبساطير تلك الأقدام المجرمة، التي ارتكبت مذبحة لا مثيل لوحشيتها.

 في منزلها، تجلس الحاجة شفيقة التي يتحلق حولها ابنا إخوتها محمود وعبد اللّه اللذان ناهزا السبعين هذا العام، تأبى ذاكرتهما نسيان أحداث ذلك اليوم الأسود رغم سنواتهما الغضة حينها.. أحجمت عن الحديث بداية، ارتسم على محياها خوف لا يقل وطأة عما خالجها ذلك اليوم في دير ياسين، اعتذرت قائلة «يا ابني دير ياسين ما راحت ولا يوم من بالي.. ليالي طوال ما بنام، وذكريات يومنا الأخير هناك بتنعاد قدام عيني.. مش قادرة أحكي»، بعدما انسحبت من الحديث، نهضت ببطء شديد، بينما هي تحدق في صورة على جدار الصالة تتوسط فيها زوجها وأخيها اللذين استشهدا، مع من استشهد يومها في دير ياسين.

 استهل محمود حديثه بابتسامة مريرة أعقبها سيل ذكريات أليمة عارم، قائلاً: كنت أبلغ من العمر أربعة أعوام، لربما لا يتذكر الإنسان الكثير من وقائع ذلك العمر، ولكن ما رأيته لا ينسى ولا يمحى من ذاكرتي، وكأنه حدث في الأمس القريب، يكمل: «كنت نائماً ليلتها في بيت جدي لأمي، أفقنا على طرقات باب مرتعبة أنذرتنا بانقضاض الصهاينة على قريتنا، يطل من ركن الصالة القصي صوت الحاجة شفيقة التي لم تحتمل بدء الحديث عن ذلك اليوم من غير أن تبوح بمأساتها التي وقعت، بصوت مرتجف تقول: كان الحاج عبد المجيد سمور هو اللي على الباب عند الساعة الثالثة فجراً، قال: اليهود كاعدين بحشدوا قواتهم وبلشوا يتسللوا على القرية».

« أنا كنت يومها ببيت أهلي، كنت بنام فيه لأسابيع لأنه بيتي في طرف القرية، ولخشية أهلي علي من العصابات اليهودية جابوني عندهم»، تستحضر تلك اللحظات المرعبة، تقول فجأة صار واحد من القرية اسمه محمود سارة يصرخ: «يا أهل البلد اليهود جوا القرية، تسللوا من الليل ودخلوا الحواكير، الرجال طلعوا بسرعة عشان يقاتلوا، والنسوان أول ما سمعوا إطلاق النار طلعوا برة البيوت عشان يشوفوا شو صاير»، يمثل رعب تلك اللحظات في عينيها، بنبرة مرتعدة تقول جاء أخو زوجي وطلب منا ندخل ونسكر علينا باب الحديد، زوجة أخوي من الخوف ادخلت بنتي الصغيرة ونسيت ابنها طه اللي عمره سنة وثمانية أشهر خارج البيت، تطرق برأسها برهة، لتردف بينما تتراكض أنفاسها كما في ذلك اليوم، قائلة: كنا متخبيين بالغرفة ومسكرين باب الحديد، وزوجة أخوي مثل المجنونة من خوفها على ابنها طه، كنا نسمع صوت الرصاص والصراخ وبساطير اليهود وهم بدوروا حول البيت ومش عارفين إنا داخله»، يربت محمود على كتف الحاجة شفيقة لمواساتها في لحظات إعصار الذكريات الأليمة، يتلقف الحديث منها كي يريحها ولو للحظات من تسارع نبضها الخائف، يقول ظلت أم طه تبكي، وفي النهاية لم تحتمل صراخ ابنها الذي أصيب بثلاث رصاصات لا تزال بادية على ذراعه حتى اليوم، بينما كان صوت آلامه وعويله يطرق مسامعنا، ضحت بأي احتمال لاكتشاف أمرنا، عندما كنا نتكدس في الغرفة، فتحت الباب وسحبته من شعره، وعادت فأقفلت الباب بإحكام، تلتهب آلام تلك اللحظات المرعبة في قلب الحاجة شفيقة أكثر فأكثر، تعاجل القول انتبه اليهود، إنه الطفل اللي كان يبكي وينزف اختفى فجأة، عرفوا أن في الغرفة أحداً ما، صاروا يضربوا باب الغرفة بقوة ببساطيرهم .

 يسود المكان صمت لا يشقه غير شهقات بكاء الحاجة التي لم تستطع احتمال ذكريات تلك اللحظات، بينما دموع تترقرق في عيون من حولها آبية أن تنهمر كي لا تنهار قواها، تكمل بينما ترتسم في عينيها تلك اللحظات المرتعبة بأدق تفاصيلها، تقول «تحدثت من ورا الباب بفتحلك بس احلف بالعشر كلمات المقدسة عندكم أنك ما بتقتلنا، قال: افتخ افتخ أنا ما بدي أكتلكم بس إذا في رجل عندكم رح أكتله، فتحت الباب ورفعنا أيدينا مستسلمين وقلوبنا وقفت من الرعب، وبعدها حكالنا: كلكم.... اطلعوا برة البيت، واحنا طالعين»، تجهش في بكاء مرير يصل صداه إلى دير ياسين المغتصبة منذ عام 1948..

 تمضي دقائق قبل أن تتمالك صوتها لينطق بهول ما رأته عندما خرجت ومن معها من غرفة البيت، بنبرة بالكاد تظهر ملامح كلماتها بين شهقات الدموع، تقول «لما طلعنا من الغرفة اللي كنا فيها التفتت على الغرفة الثانية ولكيت أمي وابن أخوي مكتولين على فراشي»، تنهار قواها، تبكي بحرقة دير ياسين برمتها، يأتي صوتها المنهك من ألم الذكريات ضعيفاً غارقاً في عويله، تقول «كانت أمي (مكتولة وهي كاعدة وفي حجرها ابن أخوي)، اسم أمي فضية محمد الشيخ، وابن أخوي خليل، كان مطلوباً مني أشوف وأسكت، ما احتملت، ركضت على أمي بدي على الأقل أمددها وهي ميتة وأودعها، مسكني واحد من الجنود وقال: إذا بتكربي جنبها بكتلك فوكها، تغرق من جديد في دوامة نواحها المرير»..

يريحها محمود من عناء الحديث الأليم متابعاً: «عندما دخل اليهود غرفتنا واعتقلونا كان الوقت عصراً، وكان هناك أمر بوقف إطلاق النار، وإلا كنا لحقنا بمن استشهدوا منذ الصباح، كنا نسألهم: أين تذهبون بنا، وكانوا يردون بينما يضحكون ساخرين: عند مفتيكم أمين الحسيني في البلدة القديمة أي القدس، عدا عن كونهم عندما دخلوا غرفتنا التي كان معلقاً على جدارها صورة للحاج أمين الحسيني أطلقوا عليها ثلاث رصاصات».

يكمل محمود قائلاً: « بعدما حملت أم طه طفلها المصاب خبأت في قميصه 15 جنيهاً فلسطينياً، وفي رغيف خبز خبأت 215 جنيهاً فلسطينياً أيضاً، ولكن اليهود أمسكوا بالنقود وصادروها»، تعود حرارة الجرح وذكرى الألم العميق لتنطق صوت الحاجة شفيقة المضرج بدماء ذلك اليوم، تقول: «لما طلعونا من البيت شفنا اللي ما ممكن حدا يشوفه، شفنا جثث أهلنا وناسنا، شفت جثة الخباز وابنه عبد الرؤوف ووحيد الشريف، وعائلة زهران اللي فيها 27 نفراً مستشهدين كلهم، وعائلة ثانية اسمها عائلة علي مصطفى كلهم مستشهدين حتى بنتهم الرضيعة اللي كان عمرها 40 يوماً، كمان شفت معلمة القرية واسمها حياة البلابسة اللي كانت مستشهدة بثوبها الفلسطيني وهي بتحاول تسعف الجرحى، تنهمر دموعها بلا توقف».

 «لا أنسى عندما أخرجونا من البيت، منظر جثة عمي الغارقة في دمائها، لم يكن مسموحاً لنا أن نودع حتى شهداءنا الذين تناثروا على أرض القرية».

بصوت يستحضر لحظات الفجيعة بأدق تفاصيلها، تعاود الحاجة شفيقة الحديث الحديث: «شفنا اليهود عم بنهبوا كل شي، الفلوس والذهب والفرشات والنحاسيات وحتى الأثواب الفلاحية بحملوا فيها من البيوت وبهربوا، كنا نمر بين الجثث ونحاول ألا ندوس عليها، ونحن عارفينهم كلهم، كانوا رجال ونساء وشيوخ وأطفال ورضع، وكانوا اليهود يسحبوا لحف من البيوت ويغطوا وجوه الجثث عشان ما حدا يعرفهم».

تبكي من جديد، بينما تتساءل: «بتعرف خنساء فلسطين؟ لتردف عنها اسمها حلوة زيدان، هي واحدة من قريتنا اجاها ابنها مصاوب براسه، لفت راسه بقماشة وطلبت منه أن يرجع للجهاد مع أهل القرية، ولما طلع قنصه يهودي واستشهد، جاء أبوه بدو يسعفه قنصه اليهودي واستشهد، راحت  تزغرد لاستشهادهم، قنصها اليهودي ووقعت فوكهم، كل العيلة، راحت في غمضة عين»، ألحت عليها جراح تلك اللحظة من الألم، وعادت تجهش في بكائها من جديد، ليكمل محمود قائلاً: «عندما فرغ الرصاص من بنادق المجاهدين، عاد منهم والدي محمد سمور شحادة، وزوج الحاجة شفيقة واسمه سليم جابر، وابن خالي حسين سمور، ورجال من القرية أسماؤهم: جميل عيد وعلي عيد وعيسى عيد، عادوا وكان اليهود لهم بالمرصاد، إذ اعتقلوهم ولا نعلم عنهم شيئاً حتى الآن».

عادت الحاجة شفيقة لتقول« صاروا يطلعوا فينا في سيارة نقل كبيرة ويسبوا علينا: يا أولاد كلبة اطلعوا احنا مش حمير أنتو عرب، وبعدها أخذونا على مستعمرة جفعات شاؤول اللي جنب دير ياسين.. تنأى بوجهها بعيداً بينما تنهيداتها المتألمة تملأ المكان».

 يقول محمود «عندما وصلنا إلى جفعات شاؤول أنزلونا وبدؤوا بتفتيشنا، لم يتركوا معنا أي شيء حتى خواتم النساء صادروها، بعد ذلك أقلونا في سيارة نقل كبيرة أخرى، ومن ثم بدؤوا يقولون لنا: احنا بدنا نوخذكم أنتو على مذبحة، بدنا نذبح أنتو، كنا في مرحلة من الصدمة والهلع إلى حد فغرنا فيه أفواهنا من غير أن نملك القدرة حتى على البكاء» ، ويقول «لا أنسى ما حصل بعدها ما حييت، بعدما مضت بنا سيارة النقل تلك، استمر الصهاينة في إخافتنا وإسماعنا ألفاظاً يندى لها الجبين، ومن ثم تحلق اليهود في مستعمرة جفعات شاؤول على طول الطريق، بينما كانوا يهتفون فرحين، وهم يروننا مأسورين، لقد أسموا يوم دير ياسين الأسود بيوم النصر».

تعود الحاجة شفيقة من تأملها لتلك الصورة المعلقة على جدار صالتها، بينما دموع مآقيها لم تجف طوال الحديث، تقول بصوت تخنقه الدموع: «تعطلت عجلات سيارة النقل اللي طلعونا فيها، رمونا منها وكملنا مشي على المسكوبية وبعدها على باب الخليل في القدس، كنا ننوح ونلطم ونصيح وفزعولنا المقادسة رغم أنه الدنيا صارت نص الليل، وأسعفوا الجرحى من النساء والأطفال، ناس منا بعدها طلعوا على منطقة الدباغة، وناس على المزرعة الشرقية، وناس على المخماس، وناس على كوبر، أنا رحت على سلوان مع ناس من القرية، وهناك عاملونا مثل المهاجرين والأنصار، كل عيلة أوت عيلة».

إن ما فعله الصهاينة بأهالي دير ياسين كان فظيعاً ولا يصدقه عقل، كل واحد من الناجين القلائل في دير ياسين يملك قصة بتفاصيل أليمة أكثر من الأخرى، ولكن ما يجدر تذكير العالم به هو أن مذبحة دير ياسين وتهجير أهلها القسري حدث إبان الانتداب البريطاني على فلسطين، والذي انتهى رسمياً بتاريخ 15/5/1948، وكان من مسؤولية الدولة المنتدبة حفظ الأمن في فلسطين، لكن حكومة الانتداب لم تلق بالاً لما يحدث في دير ياسين التي تبعد حوالي ستة كيلومترات عن مدينة القدس.

==================

أميركا والديمقراطية الحقيقية

تاريخ النشر: الأحد 10 أبريل 2011

الاتحاد

هل سيتمكن العرب من تكوين ديمقراطيات حقيقية؟ هذا سؤال كثيراً ما يتم طرحه هذه الأيام. وبعد مجادلات مع الذين يوجهون إليًّ هذا السؤال، توصلت إلى خلاصة مفادها أنهم عندما يوجهون هذا السؤال، يكون لديهم في أعماق تفكيرهم رؤى مسبقة عما تكون عليه الديمقراطية الحقيقية وفهم ساذج نسبياً، لا تاريخياً حول الطريقة التي نشأت بها الديمقراطيات والطريقة، التي تطورت بها وتعمل بها في الواقع يمكن بيانها كما يلي:

أولا، الديمقراطيات تعني ما هو أكثر من الانتخابات علاوة على أن الانتخابات الأولى ليست هي التي تهم، وإنما الثانية والتي تليها والتي تليها.

في عام 1993، دُعيت لليمن لإلقاء محاضرات عن الديمقراطية والانتخابات، وكانت البلاد في ذلك الوقت على وشك عقد أول انتخابات برلمانية بعد التوحيد وكان الجو ملبداً بالتوقعات السياسية تماماً مثلما أن الحوائط كانت مغطاة بالملصقات التي تعكس تلك التوقعات. وعندما زرت المقار الرئيسية للأحزاب المتنافسة في ذلك الوقت، واستمعت منهم عن الاستراتيجيات التي ينوون اتباعها في الانتخابات، وتلك التي سيتبعونها إذا فازوا في الانتخابات والتي تتعلق بمستقبل البلاد كما استمعت إلى شكاواهم بشأن العملية الانتخابية برمتها ومنها على سبيل المثال أن أنصار الحزب الحاكم كانوا ينزعون الملصقات الخاصة بمرشحي الأحزاب الأخرى، أو أنهم يدفعون رشاوى للناس لدفعهم للتصويت للحزب.

ونظراً لأني كنت منخرطاً في السياسة والانتخابات منذ نعومة أظفاري، لم يكن ما قالوه جديداً بالنسبة لي حيث كنت أعرف أن مثله يحدث في الولايات المتحدة وأن حزبنا الديمقراطي قد تعرض له كثيراً في الانتخابات، التي كانت قد جرت في العام السابق.

بسبب هذه الملاحظات تعرضت للانتقاد من موظف في وزارة الخارجية الأميركية كان موجوداً عندما أدليت بها، وهو ما رفضته قائلاً له إنني لا أستطيع أن أتظاهر بأن ديمقراطية الولايات المتحدة تخلو تماماً من العيوب، لأن تصوير أنفسنا على أننا أرفع قدراً في الديمقراطية عما نحن عليه بالفعل ليس فعلًا زائفاً فحسب، وإنما يضع السقف عالياً جداً، وأعلى من قدرة أي أحد على الوصول.

في الانتخابات التي جرت في اليمن بعد ذلك، أصبح النظام الانتخابي أقل انفتاحاً عما كان عليه في المرة الأولى، وهو ما قوض ثقتنا في العملية السياسية في ذلك البلد بشكل عام والعملية الانتخابية بشكل خاص.

ثانياً، الديمقراطيات لا تولد من فراغ، وإنما تتكون تدريجياً بمرور الوقت: في بداية الولاية الأولى للرئيس الأسبق بيل كلينتون، دعيت لدار الوثائق الوطنية لسماع خطاب من الرئيس عن خططه " لإصلاح" وليس "لإنهاء" نهجنا الإيجابي في التعامل في مجال السياسة الخارجية، وعندما وصلت إلى الدار ذات البناء الفاخر والمظهر الباذخ، قرأت على جدرانها مقتطفات من أقوال الأباء المؤسسين للولايات المتحدة، والذين كانوا كلهم من البيض ومن كبار الملاك والرأسماليين ومن يقتنون العبيد، كانت العبارات رائعة ومحكمة، ولكن راودني سؤال: هل كان هؤلاء الآباء يدركون حينما قالوا تلك الأقوال المأثورة أن الديمقراطية التي خططوا لها في الولايات المتحدة سوف تمضي على النحو الذي خططوا له.

علينا أن نتذكر أن الديمقراطية لم تكن في تطورها بالعظمة التي صورتها تلك الشخصيات العظيمة، وأن معظم الامتيازات كانت للبيض الأثرياء وليس البيض في عمومهم، في حين حرم منها السود، وأن الأمر قد استغرق سبعة عقود كاملة حتى تمكنت البلاد من إلغاء الرق على يدي إبراهام لنكولن، وستة عقود بعد ذلك التاريخ لمنح المرأة حقوقها المشروعة، وزمنا أطول بكثير لمنح الأميركيين من أصل أفريقي

(بعد أن كان يطلق عليهم الزنوج)، كافة المزايا والحقوق التي كان يحظى بها البيض في شتى المجالات. واستطيع في هذا المقام أن أسرد العديد من أمثلة المعاملة التميزية والعقبات الكؤود، التي عاني منها الأميركيون من أصل أفريقي حتى بعد أن حصلوا على حقوقهم في التصويت، وكذلك العديد من الأمثلة على السياسات الاستئصالية المخجلة التي عانى منها سكان الولايات المتحدة الأصليون من الهنود الحمر، والعديد من الأمثلة على المؤامرات القذرة التي استخدمت لإرهاب الأميركيين من أصل لاتيني لمنعهم من الخروج بأعداد كبيرة للإدلاء بأصواتهم في الانتخابات لتقديم نماذج تثبت أن ديمقراطيتنا لم تبدأ كديمقراطية خالية من العيوب، وإنما كان بها من العيوب الكثير، ولكن من المهم جداً لنا أيضاً، أن نتذكر كيف نمت تلك الديمقراطية وتوسعت تدريجياً.

والأمر لا يقتصر على الماضي، فلا زلنا حتى اليوم نواجه تحديات تؤثر على ديمقراطيتنا، وتستدعي منا الكثير من الجهود والعمل الشاق في الوطن.

لذلك فإننا قبل أن نفكر في التفلسف وإعطاء الدروس للآخرين بشأن الديمقراطية وقبل أن نحكم مسبقاً على ديمقراطية الآخرين، علينا أن نتحلى بقدر كبير من التواضع، وأن نحاول قراءة صفحات التاريخ لاستخلاص العبر ومعرفة التطور التاريخي لديمقراطيتنا.

ثالثا، أفكار ختامية: بعد كل ذلك هناك ملاحظتان يتعين عليّ الإدلاء بهما هما:الملاحظة الأولى: في حين أن شكل وإيقاع الديمقراطيات الجديدة، التي قد تبرز في البلاد العربية سوف يختلف طبقاً لعادات وتقاليد كل دولة، فإن الاختبار الخاص بحيوية تلك الديمقراطيات وسلامتها سوف يكمن في قدرتها على تصحيح نفسها، وقدرتها على التغير والتوسع أيضاً.

الملاحظة الثانية: في حين أن الانتخابات والمشاركة الديمقراطية أمران مهمان، إلا أنه من المهم أيضاً بالنسبة للحكومات أن تحترم الحقوق الإنسانية لمواطنيها وحرياتهم الأساسية، فإذا فعلت الديمقراطيات الجديدة ذلك، فإنها ستمضي قدماً في مشروعها الديمقراطي كما مضينا قدماً في مشروعنا الديمقراطي...أما الباقي فسوف يسلتزم عملاً شاقاً. وإن كان الأمر يتمنى ألا يستغرق ذلك قروناً كما حدث معنا.

==================

الثورات العربية: المدنيون والإسلاميون

تاريخ النشر: الأحد 10 أبريل 2011

الاتحاد

بدأت تحليلات طويلةٌ عريضة بشأن هوية بعض المشاركين في "التمرد" بليبيا، وذلك عندما خرج كهلٌ مُلْتحَ على إحدى القنوات فقال إنه من "القاعدة" وقد قاتل بأفغانستان والعراق، وهو قادمٌ الآن للجهاد بليبيا ضد القذافي. وما كاد القاعديُّ المُزيَف ينتهي من تصريحه، حتى صرَّح مسؤول عسكري جزائري بأنّ "القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي" بدأت تستفيد من الأسلحة التي وصلت إلى المتمردين بليبيا، فقد جاءت مجموعةٌ منهم من الصحراء فاشترت صواريخ سام من"الثوار" ثم عادت إلى قواعدها بمالي! ولا شكَّ أنّ الكهل الذي صرَّح بأنه من "القاعدة"، هو من عملاء السلطة الليبية، وقد أُرسل لكي يقول هذا الكلام والذي كان القذافي قد أَنذر به الأميركيين والغربيين، بل واتهم الثوار علناً بأنهم أهل "القاعدة" وأهل التحشيش والهلوسة! أما الجزائريون، والذين تشتدُّ المتاعب لديهم بالداخل، فيقال إنهم يُساعدون القذافي سراً وعلناً.

لكن بغَضِّ النظر عن الشائعات التي يثيرها القذافي والآخرون، ما حقيقة العلائق بين الإسلاميين والثورات التي اندلعت في أربعة أو خمسة بلدان عربية، وتوشِكُ أن تنالَ من أكثر الدول العربية؟ وما علاقات الإسلاميين الحزبيين بهذه الثورات، وقبل ذلك: مَنْ هم "الإسلاميون" المقصودون؟ المقصود بالإسلاميين الذين يخافُهُمُ الأميركيون، المتطرفون الذين يرون ممارسة العنف لإسقاط السلطات أو نشر الفوضى. وقد تكون لبعض هؤلاء صِلاتٌ غير مباشرةٍ بالجماعات المسلَّحة المتطرفة. أما ذوو العلاقة المباشرة، فهم لا يطمعون بإثارة الاضطراب، لأنه لا شعبية لهم عند الجمهور، وأكثر هؤلاء إمّا في السجون أو خرجوا منها بعد مصالحاتٍ مع السلطات، وهم تحت الرقابة الشديدة. وما دام الأمر كذلك، فبالقطع لا علاقة لهذه الفئة بما جرى في كلّ الدول العربية حتى الآن، بل إنّ ما جرى بمصر وتونس على الخصوص لا يثير دعم المتطرفين ولا استحسانهم، بسبب الطابع" المدني" الذي ساد تلك الثورات، والذي لا يختلف في مُعاداته للتطرف عن السلطات السابقة، بل قد يكون أشدّ. أمّا الفئةُ الثانيةُ من الإسلاميين والتي تُثيرُ حساسية الأوروبيين (أكثر من الأميركيين)، والسلطات العربية، فهم "الإخوان المسلمون" ومتفرعاتهم. وهؤلاء لا يقولون بالعنف في مواجهة السلطات، ولديهم تنظيماتٌ متماسكة حتى الآن، ومشروعة في بعض البلدان، مثل الأُردنّ واليمن، ونصف أو رُبع مشروعة في بلدانٍ أُخرى مثل الجزائر والمغرب. هذه الفئة من الإسلاميين، سواء أكانت على علاقة حسنة بالنظام أو سيئة خلال العقود الماضية، أثارت دائماً قلقاً حقيقياً لدى السلطات بسبب حُسْن التنظيم وربما الانتشار. وقد تصارع هؤلاء مع السلطات وقاموا بتمرداتٍ وقُمعوا بقسوةٍ، وصاروا فئةً وازنةً شعبياً وانتخابياً في اليمن والأردنّ والمغرب. وقد قلتُ إنّ هذا النوع من المعارضين الإسلاميين يثير قلق الأوروبيين بالإضافة إلى السلطات، لأنهم يعرضون نموذجاً آخر للدولة يعتبره الأوروبيون ثيوقراطياً أو غير مدني. ثم إنهم معروفون (في شعاراتهم على الأقل) بالمعاداة الشديدة لإسرائيل، كما عمدوا في العقد الأخير للتواصل مع إيران، وقد ناصروا "حماس"، وأيَّدوا "حزب الله" في قتاله لإسرائيل، وما عارضوا استخدامه للسلاح في الداخل اللبناني. ولا يثير هؤلاء قلقاً كبيراً لدى الأميركيين، لأنهم (أي الأميركيون) تواصلوا معهم منذ التسعينيات وإنْ بطرائق غير مباشرة، ثم تواصلوا معهم بشكلٍ منتظمٍ منذ عام 2007. ولا ننسى أنّ الأميركيين أدخلوهم في السلطة منذ اللحظة الأُولى بالعراق، لافتقارهم (أي الأميركيين) آنذاك إلى طرفٍ سنيٍ وازن، ولأنّ "الإخوان" العراقيين قبلوا المشاركة في العملية السياسية. وليس معنى ذلك أنّ الأميركيين يستحسنون شعارهم (الإسلام هو الحل)، ولا إعلاناتهم عن تحرير فلسطين، لكنهم يقبلون التزامهم بالعمل من داخل النظام، والدخول في العملية السياسية بالشروط المتعارَف عليها في الدول الديمقراطية.

وبعد هذا الاستطراد نقول أيضاً: إنّ "الإخوان المسلمين" أو تنظيماتهم ما أسهمت في الثورات العربية، ولا دخلتها في أسابيعها الأُولى. وهم شأنهم في ذلك شأن الأميركيين كانوا يعتمدون على ضمانات الجيش (وبمصر وتونس على الخصوص) أن لا يُمكِّنوا مبارك وبن علي من التجديد أو التمديد، وأن تكون نهايةُ مدة كلٍّ منهما إيذاناً بتحولٍ ديمقراطي سلمي ومتوسط المدى لتغيير النظام باتجاه الانفتاح والحرية، دونما عنفٍ أو فوضى. وفي الوقت نفسِه كان الأميركيون وبعض الأوروبيين يُراقبون تطور أنشطة جماعات المجتمع المدني وحقوق الإنسان والتواصل الإلكتروني فيما بين الشباب والوسائل الأُخرى للفعالية، إذ لاحظوا هم وفئات الشبان المتعلِّمين تعليماً عالياً، والذين يتعاملون مع الأسواق العالمية، الدور الذي لعبتْه هذه الوسائل الاتصالية في حركة الاحتجاجات الإيرانية الشابة على نتائج الانتخابات الرئاسية عام 2009. ولا شكَّ أنّ هذه "التداخُلات" أثارت حفيظة الأنظمة، فشدَّدت من إجراءاتها الأمنية. بل إنّ تلك السلطات ربما قامت ببعض الاستثارات للاستدراج (مثل تفجير الكنيسة وأماكن أُخرى)، وضرب المحتجين، والقبض على ناشطين في التحشيد بالحجة نفسها. وهكذا فإنّ التدخلات الأمنية لإحباط التحركات أثارت تلك التحركات أو عجّلت بحدوثها. وعندما فشلت القوى الأمنية في ضرب الموجات الأُولى، لأنّ الجيش لم يساعدْها، بدأ رأسا النظامين يتنازلان، فاكتشف الشبان المحتجون قوتهم الجديدة، وصاروا عشرات ألوفٍ ثم ملايين! وفي هذه المرحلة (الثانية في مصر، والثالثة في تونس وأماكن أُخرى)، تدخل الإسلاميون المنظَّمون، كما تدخل اليساريون والفوضويُّون، بل وتدخَّل "السلفيون" الامتثاليون الذين اكتشفوا فجأةً أنّ مُنافسيهم من "الإخوان" صاروا ذوي حيثية، وأنّ لهم اتصالاتٍ بالأميركيين وبالقيادة العسكرية، بل وببعض رموز النظام والسلطة.

إنما الذي وصل إليه الحالُ الآن أنّ النجاحات الأَوَّلية في تونس ومصر، شجّعت القوى المدنية في كثير من الدول العربية على التحرك على الشاكلة ذاتها، أي للمطالب المعيشية أولاً، والسياسية ثانياً، والدعوة لسقوط النظام ثالثاً، وآخِرُ الدول التي اندلع الاضطراب فيها هي سوريا.

وفي سوريا، بعكس الأردنّ ومصر من قبل، ما سارع النظام إلى اتهام "الإخوان"، ومنهم عشرات الأُلوف في السجون، بل حذّر بدايةً من التدخلات الخارجية من الأردن ولبنان، وحذَّر من المؤامرة الرامية لإحداث فتنةٍ طائفية (بين السنة والعلويين)، وحذّر أخيراً واتّهم "الملثَّمين" الذين يقتلون الناس بطرائق القنص للإساءة إلى قوات الأمن. وليس هناك دليلٌ حتى الآن على مشاركةٍ ملحوظةٍ ل"الإخوان" المنظَّمين في الاحتجاجات، بل إنّ التحركات كانت مطلبيةً في درعا وبانياس ودوما، ثم صارت سياسية، مع خصوصيةٍ نسْبيةٍ لتحرك الأقلية الكردية.

وفي المحصِّلة؛ فإنّ التحركات الاحتجاجية والثورية العربية، هي تحركاتٌ شعبيةٌ عامةٌ يبدؤها الشبان غير الحزبيين، ثم يدخل فيها الجميع. وعندما يحصل التحول، لا شكَّ أنّ الإسلاميين سيكونُ لهم دورٌ ومشاركةٌ وفعاليةٌ بسبب حُسْن تنظيمهم، ولأنّ لهم تاريخاً نضالياً يحترمه الناس، لكنّ الأنظمة الجديدة لن تكون حزبيةً؛ إسلاميةً أو غير إسلامية.

=================

سوريا بين المواجهة والحريات الديمقراطية

الأحد ,10/04/2011

علي جرادات

الخليج

القمع الدموي المرعب لبدايات الحراك الشعبي السوري، ووصمه بالمؤامرة الأمريكية الصهيونية، أمر مثير للدهشة والاستغراب، خاصة أن مطالبه لم تتجاوز تنفيذ إصلاحات سياسية واجتماعية واقتصادية، أقرّ النظام بمشروعيتها، وكان قد وعد بتحقيقها منذ زمن طويل، علماً بأنها حق للشعب السوري، وليس مِنّةً يمنحها النظام أو تنازلاً يقدمه . فمطالب إلغاء قانون الطوارئ، وإنهاء هيمنة “الحزب الواحد القائد للمجتمع والدولة”، وسن قانون عصري يتيح تشكيل الأحزاب وتنافسها الديمقراطي، وإطلاق حريات الصحافة والتنظيم والتظاهر السلمي، ومحاربة الفساد والبطالة والفقر والثراء الفاحش، هي مجرد الحد الأدنى من متطلبات النظم الديمقراطية، وبات حرمان الشعوب منها من مخلفات ماضٍ تجاوزها التاريخ والعصر . بل إن خصوصية سوريا المتمثلة في استمرار المواجهة مع الكيان الصهيوني وتدخلاته المسنودة أمريكياً، تقتضي التسريع في تطبيق هذه الإصلاحات، لا القفز عليها أو التسويف بشأنها والتحايل عليها، أو تقنينها وإعطاؤها بالقطارة، ذلك للأسباب التالية:

1- مع الإقرار بأن التآمر الصهيوني الأمريكي على سوريا ما زال قائماً، بل، وملموساً، خاصة من خلال العبث في خاصرتها اللبنانية، إلا أن اتهام بدايات الحراك الشعبي السوري بالتآمر الخارجي، يعد تجنياً لتبرير المعالجات الأمنية القمعية القاصرة، فضلاً عن أنه بات اتهاماً عتيقاً، ولم يعد ينطلي على كل من له عقل يستخدمه، أو على كل من له عينين يشاهد بهما صوراً تبثها شاشات الفضائيات ومواقع النشر الإلكتروني العصرية السريعة والعصية على التحكم، هذا ناهيك عن أن بدايات الحراك الشعبي السوري تأتي في سياق حراك شعبي عربي واسع، أخطأ النظام السوري في الاعتقاد أنه استثناء على هذا الصعيد .

2- إن تحقيق الإصلاحات الديمقراطية في سوريا كما في غيرها من الأقطار العربية، هو السلاح الأمضى لتعرية التدخلات الأمريكية بذريعة نشر الديمقراطية والحريات، فيما الهدف تعميق التبعية ونهب المقدرات وتدمير الدول وضمان تفوق الكيان الصهيوني على ما عداه من قوى المنطقة ودولها . وهنالك درس كبير في استخدام تغييب صدام للحريات الديمقراطية في العراق ذريعة لتدميره كدولة، لا كنظام وسلطة فقط . وللأسف أن تسير ليبيا الدولة هذه الأيام نحو المصير ذاته، بفعل شن القذافي للحرب على شعبه، الذي صبر على ويلات غرائب نظام حكمه وعجائبه أربعة عقود ويزيد .

3- في أقله، فإن الشعب السوري ككل الشعوب، ليس أقل وطنية وقومية من نظامه، ومن شأن حصوله على حقه الطبيعي في الحريات الديمقراطية أن يعمق انتماءه المعهود للوطن والأمة واستعداده للذود عنهما في وجه التهديدات والمؤامرات الخارجية، القائم منها أو القادم . وحجة باطلة، وافتراض مفتعل، القول إن الشعوب لا تتشبث بقضاياها الوطنية والقومية إلا إذا كانت مقموعة وخاضعة وجائعة، فإن العكس هو الصحيح وفقاً لشواهد التاريخ .

4- إن إطلاق عنان الحريات الديمقراطية للشعب السوري من شأنه أن يعزز منعة الدولة السورية في مواجهة الكيان الصهيوني وتحالفه الأمريكي الاستراتيجي، ذلك أن حصر قياس منعة الدول بما تمتلكه أنظمتها من عوامل قوة عسكرية وأمنية، هو قياس ميكانيكي لا يعي، أو لا يريد أن يعي، أن القياس الأعمق والأدق والأشمل لمنعة الدول يشتمل أيضاً على ما تمتلكه من عوامل قوة سياسية واجتماعية واقتصادية وعلمية، كعوامل لا يحققها إلا إطلاق الحريات الديمقراطية للشعوب .

وهنا تحضرني مطالعة كان قدمها المرحوم الدكتور جورج حبش في أواسط ثمانينيات القرن المنصرم، وتم نشرها في كراس تحت عنوان “نحو فهم أعمق وأدق للكيان الصهيوني”، أكد من خلالها عدم دقة قياس عوامل قوة هذا الكيان الغاصب بما يمتلكه من عوامل قوة عسكرية وأمنية وحسب، وأشار إلى ضرورة احتساب ما يمتلكه من عوامل قوة أخرى، تتيح له تفجير كامل طاقاته، وتسخيرها في صراعه الخارجي، بدءاً بإشراك المرأة في المواجهة وعدم حبسها في البيت والمطبخ، مروراً بإعلاء شأن البحث العلمي ودعمه بموازنات خيالية، وتحويل إنتاجه النظري إلى تطبيقات عملية في كافة المجالات العسكرية والأمنية والصناعية والزراعية إلخ . . . وعرج على تجنيد حريات الصحافة والتنظيم والمعتقد والتفكير والتنوع والتعدد في معارك المواجهة الخارجية، وصولاً إلى استعمال الديمقراطية السياسية الليبرالية والتداول السلمي للسلطة، كوسيلة لمنع تفجر تناقضاته الداخلية، وما أكثرها، بل وتحويلها من عامل ضعف كامن إلى عامل قوة في ما قام عليه من تطهير عرقي قل نظيره، وفيما شنه، ولا يزال، من حروب لتكريس كيانه الاستعماري الاستيطاني الاقتلاعي الابتلاعي .

قصارى القول، إن على النظام السوري أخذ ما تقدم في الاعتبار، ذلك لأن إطلاق الحريات الديمقراطية لا يتعارض مع الموقف الوطني، بل يعد شرطاً لازماً لتعزيزه ودعمه، وهذا لا يتيحه إلا أن يكون الشعب هو من يعطي السلطة ويراقبها وينزعها بشكل دوري، بعيداً عن صيغ “الحزب الواحد” و”القائد الأوحد”، وما تفضي إليه من تعفن واحتقانات تلد كل أشكال التفتيت السياسي والطائفي والمذهبي والإثني، وتشكل تربة خصبة للاستثمار الخارجي وتدخلاته، فمن داخلها تُقتحم القلاع . وبالملموس على حصان غياب الشرط الديمقراطي الداخلي ركبت بدعة الفوضى الأمريكية “الخلاقة” لكل أشكال الفتن السياسية والطائفية والمذهبية والإثنية في الوطن العربي، وهو ما لا نتمناه، كما لا يتمناه أي مواطن عربي لسوريا . ففي نهاية المطاف تبقى سوريا الدولة أهم وأبقى من تبدلات نظامها وسلطتها وأحزابها ورئيسها، إذ في أقله قيل “لا حرب من دون مصر”، و”لا سلام من دون سوريا” . وبكلمات نقول “عمار يا سوريا يا درة الشام” .

====================

بعضهم دعا إلى أن يتغيّر الشعب نفسه قبل تغيير حكامه

المستقبل - الاحد 10 نيسان 2011

العدد 3965 - نوافذ - صفحة 11

دلال البزري

هناك مثقفون لم تنْعم عليهم الثورات العربية بأي إرباك، أو اضطراب، أو إزعاج ل"فكرهم"، أو بالأحرى لعادتهم في "التفكير". هلّلوا لها بأعمّ ما يمكن من العبارت، وكالوا لها القصائد والكلمات الفخيمة، كما يعتقدون بأن على المثقف ان يفعل. لكن عندما طالت الثورة بلادهم، عادوا يغرفون من "فكرهم" الماضي ما يعينهم على صفّ كلمات تودّ لو تعيق انطلاقتها.

ليس مفهوما بالضبط ما ينطوي عليه جمود "فكر" هذا الصنف من المثقفين، ولا هي معروفة الأسباب العميقة المتربصة بأية حركة ل"فكرهم"، بأي انحراف عن صراطه. هناك تخمينات فقط: منها العادة نفسها بال"تفكير"، عادة قديمة تمدّها السنوات بالرسوخ. هي ليست تماما عملية تفكير بذاتها، أي إعمالا حقيقيا للعقل، بقدر ما هي إجابات جاهزة منذ سنوات على أسئلة يطرحها الواقع. من عادات التفكير الاوتوماتيكي عندنا مثلا، ان نفرح اذا قلقت اسرائيل، أن نلفظ الغث والنفيس من اعمال الغرب الخ. اما في حال مثقفينا اولئك، فان هذه العادة تقوى وتصبح شبه دوغما عندما ينبني "مجدهم" على تكرارها. وفي هذه الحالة بالذات تتحول العادة إلى طقس في التكفير، تدعم هذا "المجد" وتملي فراغاته بالكلمات المنتفخة، المتحذلقة، المزركشة. ويصعب في هذه الحالة ان يؤثر على مثقفينا هؤلاء أي حدث، أو يتأثرون به. فما بالك بثورة؟ انها تأتي دائما لتؤكد صحة تفكيرهم الاوتوماتيكي، كيفما اتفقت حججهم أو براهينهم.

اما الأخطر من بين الاسباب العميقة للتشبّث بال"فكرة" أو "الأفكار"، فهي تلك التي تتعلق بشبكة المصالح والامتيازات والتسويقات التي قد يكون مثقفينا قد نسجوها مع أوساط بعينها، حيث قد يكون تمّ التطابق بين تطلّعات هذه الشبكة وبين الرؤى و"الافكار" التي "بناها" مثقفونا لبنة لبنة طوال سنوات. هل نجد خلف جمود بعضهم واحدة من هذه الاسباب أم كلها مجتمعة؟ وهل تختلف درجة رسوخ "الافكار" مع زيادة الأسباب، أو نقصانها؟ تساؤلات برسم الاجابات.

من بين هؤلاء المثقفين واحد اعتاد على "التفكير" سلبياً في ما يخص العرب وانتاجهم، لكن جمّد هذه العادة عندما طالت الثورة بلدانا بعيدة... وعندما طرقت الثورة أبواب بلاده، استعادها بمهارة العازفين، تطريباً، على لازمات النَغَم ذاته. ماذا قال؟

جهّل الفاعل في معرض وصفه لما بلغه العرب من عموميات في التخلف. وعندما احتاج إلى بعض الدقة، قال انهم "أهل اليسار والثورة". هل يعني بذلك أن نظام الحكم الذي هو بصدده قبض عليه أعضاء في أحزاب "ثورية ويسارية"؟ وما هي يا ترى؟ اليس معروفا جدا ذاك الحزب، المحتكر قانوناً للسلطة، الذي يفترض شاعرنا الكبير انه يتناوله، ، والواضح في عنوان مقاله؟ على العموم، ماذا فعل هؤلاء: "أهل اليسار والثورة"؟ خلاصة افعالهم انهم "أقاموا ولم يبنوا مجتمعا".

ثم بعد ذلك، هان عليه الأخذ بتجربة العراق، ليدلّ على انه لا يكفي اسقاط الديكتاتور، اذ "لا يتغير المجتمع بمجرد تغيير حكامه".

فيما نحن بصدد اسقاط ديكتاتوريتين، التونسية والمصرية، وعلى الطريق مع الباقيات، لم يجد شاعرنا الكبير "تجربة" يعتمد عليها في محاججته غير "التجربة العراقية". ماذا "تعلّم" منها؟ اولا، انه "لا بُد في تغيير المجتمع من الذهاب إلى ما هو أبعد من تغيير الحكّام، وأعني تغيير الأسس الاجتماعية، الاقتصادية، الثقافية". ننقل هذا "الدرس" حرفيا، لأنه مثل العاب السيرك، لا تفهم إلى أين طارت الكرة ولا أين اختفى الأرنب. هو درس، في أفضل الاحوال، عن الطريقة التي تصبح فيها اللغة أداة تمويه ومادة تلاعب. لكن معنى "الدرس" الاول لا يكتمل الا بما يليه "الدرس" الثاني: "دونَ ذلك"، أي دون "تغيير المجتمع" ماذا يحصل؟ "ستتحول المشروعات السياسية في البلدان العربية، من مشروعات لبناء المجتمع والدولة، إلى مشروعات تُستعاد فيها القبائل وانتماءاتها، والمذاهبُ الدينية وتناقضاتُها".

وبما ان "المذهب" المدني هو الذي صنع "فكرة" شاعرنا الكبير، فهو يشترط على الثورة القائمة في بلاده ان "تقيم القطيعة الكاملة، نظراً وممارسة، مع منطق الحِلف الظاهر الفعّال بين الدين والسياسة، (وبينهما المال)، الثاني هو ضرورة التوكيد، جهراً، على بناء المجتمع العربي المدني، والدولة المدنية". اذ يطلق شاعرنا الكبير رصاصة الرحمة، أو هكذا يعتقدها، على الثورة المندلعة في بلاده، يقول: كلّ "معارضة" أو كلّ "ثورة" لا تَجْهر بضرورة قيام الدولة المدنية، والمجتمع المدني، والثقافة المدنية، لن تكون إلا شكلاً آخر لما "تعارضه" أو "تثور" عليه، ولن تكون إلا استمراراً في "مستنقع الفساد". ثم ينهي "درسه" العراقي بوصفته الخاصة في تغيير الانظمة: "هكذا، يجب أن يتم تغيير الأنظمة الراهنة في ترابطٍ عضوي مع التغيير، مدنياً، على نحو جذريّ وشامل. دون ذلك نخاطر في ألاّ يكونَ تغيير الأنظمة إلاّ نوعاً من التغيير "المَسْرَحيّ" - الشَّكليّ"".

من السهولة بمكان الردّ على شاعرنا الكبير بأن المثل العراقي لا يصحّ على هذه الثورات. نهاية الديكتاتور العراقي تمت على يد الاميركيين. فيما نهاية الأنظمة الراهنة يصنعها الشعب، بيديه العاريتين. ومن الأسهل الكشف عن تشابه إلصاقه صفة "الفتنة" للثورة كما يلصقها الديكتاتور... فيما التظاهرات المطاِلبَة بنهايته ترفع الشعارات التي تحضّ على الوحدة وتؤكد عليها عبر المواثيق وتثبّتها في النصوص.

بقية البهلوانات الفكرية، المتجاهلة لمقومات الثورة في بلاد شاعرنا، تبقى هي العصية على الفهم والاستيعاب. في خضم معركة شعبه من اجل حريته، بوجه الرصاص الحيّ، يطالب شاعرنا شعبه بأن يتغير؟! ألم يتّضح له ان الشعب قد تغير لمجرّد انه يعيش حالة شبه روحية، عميقة، من رفض الديكتاتورية والانتفاض لكرامته؟ ألم ينتبه ان هذا الشعب لم يَعُد ذاك الخائف الخانع الخاضع المستسلم لحبه للديكاتور، المؤمن بأن الديكاتورية باقية إلى الأبد، إلى ما بعد الأبد؟ ألم يدخل إلى وعيه أن هذا الشعب الذي بات لا يطيق حاكمه صار شعبا آخر؟ اذا لم تكن هذه الوثبة الثورية غيرت الشعب، فكيف تتغير الشعوب اذن؟

لكن أبعد من الشعب؛ ان التفويت الفكري الذي أصاب شاعرنا، تلك الحالة من إنفلات الحاضر من بين يدين المرء، هذا التفويت هو أعمق من تأجيله لثورة الشعب بحجة ان على الشعب ان يتغير اولا، قبل ان يطالب بتغير حكامه. الامر أبعد من مجرد تعال على مجتمع يريد شاعرنا ان يسير على وصفاته "المدنية" المفخّمة، البائتة والباهتة. قد تكون جاذبية شاعرنا للسلطة واحترامه لأبهتها خلف هذا الدفاع الضمني عن وجودها في وجه شعوب همجية متخلفة لا تعرف معاني "المدنية". (المشكلة طبعا ليست في مفهوم "المدنية" ذاته، بل في جهوزيته وخشبية لغته، وفي المزايدة به في وجه شعب لم يعد يطيق السجن الذي بنته انظمة تدّعيها، تدّعي "المدنية").

خلف هذا التعالي، هناك إدراك قاصر. فشاعرنا، بممارسته عادة التفكير ذاتها، لم يعد يدخل إلى عقله، أو انه دخل ولا يود الافصاح عنه، ان هذه الثورة العربية الراهنة لها خصائص واضحة: انها يقظة روحية، فرصة تاريخية، تسللت بغفلة من الزمن في الضمير العربي الواسع الحدود، عالم اللغة العربية الواحدة القادرة على بث مضامين هذه اليقظة وتعميمها. ليس من قبيل الصدف ان لا يلتقط نفس هذه اليقظة "الكبار" من بين مثقفينا. فهم من الضفة الاخرى، وان تسلّلوا أحياناً إلى ضفاف مختلفة، تبييضاً لصفحتهم. فاليقظة جاءت من تحت، من الشعب، فيما هم فوق.... فوق؛ في غيوم الامتيازات والتسويقات والجوائز والتواجد والبروز، الاعلامي خصوصا. لن تطالهم رياح الثورة الا عندما تختم نهاية الديكتاتور. ساعتها، سوف يهرعون إلى الإثبات بأن نجاح الثورة كان من بين توقعاتهم، بدليل تلك المقالات التي تشبه توقعات العرافين متوسطي الموهبة: تصحّ في زمان الثورة وقبلها وبعدها.

==================

مؤامرة خارجية

د. محمد حسين اليوسفي

التاريخ: 10 أبريل 2011

البيان

تكررت وتتكرر تهمة «المؤامرة الخارجية» كمحرك للثورات العربية وظاهرة الاحتجاجات التي عمت ربوع الوطن العربي الأربع! فالقوى التي تريد السوء بنا هي التي تحيك مؤامرة لزعزعة تقدمنا، وهي التي تهدف وضع العصا في سكة تطورنا، وهي التي تخطط ليل نهار للنيل من مكتسباتنا!!

هذه «الصيغ المكررة» التي تتواتر هنا وهناك، من هذا النظام العربي أو ذاك، بتنا نسمعها منذ أن تحرك الشعب العربي في أكثر من قطر للمطالبة بحقوقه المشروعة، بحركة جماهيرية قل نظيرها، حيث باتت نموذجاً للتحرك الشعبي في عصر العولمة، يقلده كثير من الشعوب؛ من مدن الصين المكتظة وغيرها من الدول التي ما زالت متمسكة بالنظام القديم، إلى تلك الشعوب التي حصلت على حقوقها الأساسية منذ مدة طويلة كالشعوب الأوروبية والأميركية، وهي تخرج للتظاهر رغبة لتحسين أوضاعها وليس لإسقاط النظام، كما فعل المتظاهرون الذين خرجوا في إحدى المدن الأميركية وهم يحملون يافطة كتب عليها باللغة العربية «ارحل» لمحافظهم!!

أما حجة «المؤامرة الخارجية» فتشير ضمناً  كما نقول إن المعنى في قلب الشاعر  بأن الأوضاع كانت وما زالت على ما يرام، وليس بالإمكان أحسن مما كان، وإن وجدت مثالب فهي من طبيعة الحياة وليس ثمة نظام كامل، فالكمال لله وحده سبحانه وتعالى.

ثم إن تلك المثالب والسلبيات لم تكن بعيدة عن نظر الحكومة ولم تكن غافلة عنها، فقد وضعت «لجاناً» لدراستها، وقد عاجلتها موجة التظاهرات وأخذتها على حين غرة، قبل أن تقدم تلك اللجان توصياتها بإصلاح ما أفسده الدهر! ومن المحتم أن الأعداء والمتآمرين الخارجيين كانوا على علم بعدم انتهاء تلك اللجان من عملها، فقرروا أن يحركوا الشارع «بريموت كنترولهم» الخارجي، «ليتعشوا بالنظام» قبل أن «تتغدى» إصلاحات النظام بتحركهم!!

إن بيوتنا من حديد، يا أيها المتآمرون الذين تريدون زعزعة أركانها، فمواطنونا متساوون كأسنان المشط، بل ليس هؤلاء وحدهم المتساوين، وإنما من حلوا في ضيافتنا ممن جاؤوا من كل فج عميق ليكسبوا الرزق الحلال. ونحن «دولة قانون ونظام»، فلا تمتهن كرامة أي شخص  مهما انحدر مقامه وتواضع  إلى درجة أنه في مخافرنا وأقسام شرطتنا، نخاطب المقبوض عليهم ب«طال عمرك» و«سعادتك»، ونخيرهم في التحقيق بين الدفاع عن أنفسهم أو طلب محام!!

إن دعايتكم المغرضة، يا عناكب الليل، بأن أنظمتنا مبنية على الطائفية والقبلية والمناطقية، ما هي إلا افتراء من نسج خيالكم المريض، فالتعايش قائم بين مكونات المجتمع عندنا منذ قرون، ونظمنا الحديثة تقوم على المواطنة والولاء للدولة.

وبالتالي لا يهمنا إلى أي فريق أو مذهب أو دين أو قبيلة أو منطقة ينتمي هذا المواطن أو ذاك حينما نقوم بالتوزير، أو بتنصيب القيادات العليا في القوات المسلحة والأجهزة الأمنية وغيرها من المناصب الحساسة، فما دام الكل في ولاء وطني تام للدولة، فلا خوف من هذه الفئة أو تلك ولا هم يحزنون على أمن الدولة!!

ثم يا من ترموننا بحجر وبيوتكم من زجاج و«تأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم»، ألا نظرتم إلى ما تعاني دياركم من أزمة اقتصادية وبطالة وكساد؟ فإن كان عندنا بعض الجموع العاطلة فقد أوجدنا لها عملاً «بجرة قلم»، فهل يستطيع كائن من كان من رؤسائكم، حتى لو كان أوباما «بجلالة قدره»، أن يوفر ولو وظيفة واحدة لأي أميركي؟! ثم هل يستطيع زيادة المرتبات والأجور، ويجزل بها العطاء، ثم يتبعها بتوزيع «التموين» مجاناً سنة كاملة، حتى سميت 2011 ب«سنة الطفحة»!!

وإنكم لقائلون إن جموع الشعب ليست معنا وهم ليسوا في صفنا، وخدعتكم تلك الأعداد المحتشدة، في ميادين التحرير وغيرها من ميادين مدن هذا الوطن العربي الشاسع، وظننتم أن من خدعتموهم «بفضائياتكم» وبتصريحات مسؤوليكم، وبمنظمات حقوق الإنسان التي أصبحت أبواقاً لكم، أن هذه الأعداد المحتشدة  مهما كبرت  إنما هي «غيض» من «فيض» أولئك المواطنين الصالحين القابعين في بيوتهم.

والذين لم ينطل عليهم خداعكم وزعيقكم الإعلامي، فهؤلاء مع النظام قلباً وقالباً. أما أصحابكم ومريدوكم، فهم ثلة قليلة من الشباب المخدوع، الذي لا هم له سوى تصفح «الفيس بوك» و«التويتر» والعيش في عالم خيالي افتراضي من صنعكم!!

كفوا أيديكم عنا، وألجموا ألسنتكم عن أن تلوك في خصوصياتنا، واتركونا وشأننا، ولا تضللوا شبابنا، فنحن «بنعمة وخير» و«الله لا يغير علينا»، وحالنا على أحسن ما يرام، وإن سكتت أبواقكم الدعائية فلن تجدوا أحداً عندنا ينبس ببنت شفة أو يتلفظ بكلمة، اللهم إلا بالدعاء إلينا.

ولأمثال هؤلاء ومن يتحججون بهذا المنطق، نقول كما أنشأ شاعرنا العربي: يا أمة ضحكت من جهلها الأمم!!

==================

مالك قناة اورينت :غسان عبود: استُقبلت في سورية استقبال الأبطال... وبعدها بدأت الشتائم والتهديدات وحفلات التشويه

القدس العربي

السبت 09/04/2011

تاجر ورجل أعمال عصامي يعتز بالجانب الحضاري للتاجر في بلاد الشام، ولكنه إعلامي من طراز فريد لا يقبل المهادنة وأنصاف الحلول، وإن كان لا يحب السياسة كما يعترف. في طريقته الإعلامية شيء من المغامرة، لكنه يقول ويؤكد أن الشهيد محمد البوعزيزي كسر جدار الخوف عنده وعند الملايين في الشارع العربي، ولا يمكن أن نعود إلى الوراء، إلى عصر العبودية.

 

الشعب يطالب بالحرية والكرامة وإنهاء الاستبداد، ولا يمكن الرجوع عن هذه المطالب المبدئية السامية. الأستاذ عبود هو أول إعلامي يدلي برأيه لقراء "القدس العربي" في أحوال الثورة العربية التي تتخذ أشكالاً متعددة، لكن الهدف واحد. سيرى القارئ أن درجة حرارة الحوار عالية، لأن الجراح كبيرة والآمال أكبر.

 

* مشروع محطة فضائية، كيف جاء التفكير بقناة المشرق "أورينت" هذا المشروع الإعلامي؟

 

* "الحقيقة أهم دافع للمشروع الإعلامي هو وجود المال والقدرة على الاستثمار فيه. وقد رأيت، بعد أن نزلت قيمة الاستثمار الفضائي، أن إنشاء مؤسسة إعلامية فضائية ممكنة لرجل أعمال من الطبقة ما فوق الوسط، بعد أن كان حكراً على ميزانيات دول. وهذا أصبح يشجع كثيراً من المستثمرين للدخول في مجال الإعلام. طبعاً، الجانب الثاني هو الجانب الحي في طبيعتي، هذا الجانب الذي رفض أن يموت. أنا خريج إعلام وصحافة، وإن كانت الدنيا أخذتني على مدار 16 سنة في مجال "البزنس" وإدارة الأعمال والتجارة والاستثمار حتى في المجال الصناعي والزراعي. لكن هذا الصحافي ظل ساكناً في داخلي وظل الهاجس الأساسي له، الهم العام وما يحدث حولنا في المنطقة. من هذا المنطلق نبعت فكرة أن يكون لي مشروع إعلامي. وهناك أيضاً سبب آخر هو إحساسي بغياب الصوت السوري الحيّ، لأن وسائل الإعلام الحكومية للأسف كانت تصور الأمر كما لو أن الشعب السوري والناس في سورية مجندون على خط النار ولا يجيدون لغة غير ثقافة القتال والإشكاليات مع الجوار وغير الجوار. فأنا بدأت من منطلق: نعم نحن شعب مقاوم، لكن أيضاً لديه طموحات، مظلوم ولديه أرض محتلة من قبل دولة معادية، إلا أنه شعب حي، شعب يجيد الفن والرقص، ويجيد الرسم ويحيا حياة كاملة. وهؤلاء الناس ليسوا فقط كما يريد التلفزيون السوري أن يصور- يلبسون بدلة العسكرية والفتوة وكأننا نحيا في خندق النار من الصباح إلى الصباح. من هنا نبعت فكرة أن أعمل مشروعاً إعلامياً يصل للآخرين الذين هم الشعب السوري في كمه الحضاري، الموجود بجودته من 8000 سنة وليس فقط هذا الشعب الذي لا يجيد من الحياة إلا الخطاب".

 

* ما هي المعوقات التي وجدتها في البداية، خاصة مع وجود منافسة قوية في الساحة الإعلامية؟ هل عملت حساباً للمعوقات؟

 

* "عملت حساب المعوقات، أولاً: هي عدم وجود كوادر إعلامية سورية تلفزيونية متخصصة، بكل بساطة، لأنه لم يكن في جامعاتنا كليات تخرج إعلاميين، كانت النظرية قائمة على التجييش الثوري داخل الإعلام وتحويله من إعلامي مهني إلى منظّر، هذه هي المشكلة الأساسية. أيضاً عدم وجود قناة تلفزيونية سورية جعل هناك ندرة في الكوادر المتخصصة، سواء من الناحية الإعلامية وحتى من الناحية الفنية، هذه كانت أكبر مشكلة واجهتنا في البداية، لكن انتصرنا عليها بالتدريب وبروح الشباب السوري الذي كان يريد دائماً أن يتعلم ويستفيد، جعلنا نقطع هذه المشكلة بسرعة، وإن كنا ما زلنا نعاني منها".

 

واضح أنك عنيد!

 

* هذه الانطلاقة القوية والتي كانت موفقة، بعدها فجأة ظهرت صعوبات، وقد تحدث عنها الإعلام، هل يمكن أن نسمعها منك؟

 

* "نعم سأتحدث لك بصراحة لأن هذا الزمن زمن الحرية، أرجو من"الجمهور أن يعذرني عن لقاءاتي الصحافية السابقة، فأنا مثلهم شخص يخاف أيضاً، لديه ما يخاف عليه، لديه نفسه، وأنا أيضاً ابن الخوف، تربيت في تربة الخوف، لم يأتني هذا الإحساس بالحرية إلا بعد أن حرق محمد بوعزيزي نفسه، هذا هو الذي أعطاني روح الحرية وكسر كل جدران الخوف بداخلي، والله العظيم هذا هو أنا اليوم. الذي حدث أنه مع انطلاق قناة المشرق الفضائية في 2/2/2009 وخلال أقل من شهرين استطاعت أن تصل إلى قلوب الناس في سورية، بكل بساطة، لأنها الصوت الوحيد المختلف وليس لأنها شاشة رائعة، لأنه كانت لدينا مشاكل سواء أكاديمياً أو فنياً، لأن الكادر السوري غير كاف، ولا يمكن أن تأتي بكوادر من الغير لئلا تظهر القناة بنفس غير سوري. بالتالي الناس تريد أن ترى نفسها على شاشة إعلامها، تريد أن ترى أبناءها يعملون في إعلامها. الذي حدث أننا قمنا بمجموعة من البرامج المنوعة التي صورت الشرائح السورية بمختلف طوائفها وقومياتها وانتماءاتها حتى في مهنها، وكشفنا عن الآخر، لأن الثقافة الأولى أنك عندما لا تعرفين ما هو داخل بيت جارك فإنك ستخشينه دائماً، نحن فتحنا البيوت على بعضها، جعلنا جميع الطوائف تعرف ماذا تفعل كل طائفة ليس هناك شيء مخفي، ومن هنا تولّد حب لهذه القناة، لأن سورية في عهدة البعث تم إلغاء الخصوصيات للمجموعات البشرية ومحاولة جعلها نسخة واحدة "أن يكون المواطن سورياً وبعثياً هذا الشيء ترفضه النفس البشرية، لأن النفس البشرية لها خصوصيتها حتى يمكن أن تقول الزوجة لزوجها: أولادي أحسن من أولاد أخيك. هنالك خصوصية أو روح التفوق، يجب أن لا تلغى ولا يمكن أن تلغى أساساً لأنها قاعدة بشرية. لكن أن نحيا جميعاً في هذه اللغة، ليس هناك مشكلة، على أن لا تكون لغة قتل ودم ولغة رفض الآخر. رفض الآخر يأتي على طريقة كما قال الكاتب المصري لطفي السيد (من جهل شيئاً عاداه). رفض الآخر يكون عندما تجهله، هذه النقطة التي حاولنا أن نفتح البيوت على بعضها، تقبلها الشعب السوري، شاهدها الجميع، ثم بدأت المضايقات تحدث من المتنفذين في سورية، طبعاً بالأول قدم لي كما يسمى العسل، استقبلتني في سورية بعض الجهات استقبال الأبطال والفاتحين وكأني طارق بن زياد، عملوا معي مقابلات بالإذاعة السورية، وبعض الصحف كتبت: هذا الرجل المهاجر الذي"يعشق الوطن. هذا كلام صحيح، أنا أعشق وطني، لكن ليس على طريقتهم! وضعوا أغاني "ايد اللي تعمر الله يحميها"، وكأنهم يقولون لي: هكذا أنت إذا كنت معنا، أما إن لم تكن... الآن سآتيكم على "إن لم تكن". لم يمر شهران ونصف الشهر على إطلاق تلفزيون قناة (أورينت) حتى طلب مني السيد رامي مخلوف أن أقابله في دمشق، طبعاً أنا سوري وأعلم من هو رامي مخلوف، ولم أقل إني لم أصب بالذعر لأني أعرف سياسة هذا الرجل كيف. ذهبت إلى سورية وقابلته في مكتبه، دام اللقاء حوالي ساعتين ونصف الساعة، ولم أدخل الاجتماع إلا ومعي رئيس التحرير والمدير الإداري العام أيضاً حتى لا يكون لقاء مغلقاً، خلال الساعتين ونصف الساعة سمعت كلاماً من منطلق "أنا ربكم الأعلى" إن أردت أن تحيا فستحيا معي، وإن لم تكن معي فأنت تعرف العاقبة! حتى إنه استخدم مصطلح: "أنا زعلان على (أورينت) لأنها ستموت، يعني واضح أنك أنت عنيد"!. طبعاً في البداية، أنا أعرف ما كان يريد، وهو أن يكون شريكاً بنسبة تزيد عن نسبتي ليتحكم في المحطة! طبعاً أنا عندي وثائق، عندما يتطلب الأمر سأعرضها. بكل بساطة، عرض علي أيضاً أن أكون شريكاً معه في شركة إعلامية يريد أن ينشئها سماها (نينار) وهذه الشركة سوف تحتكر كل ما له علاقة بالعمل الإعلامي والتلفزيوني في سورية وأن ننشئها معاً. قلت له: أنا رجل لا أعيش حالياً في سورية، أنا لي عشرين سنة في دولة الإمارات، أنا تاجر ولست محتكراً، أفكر بعقلية التاجر ولا أعرف عقلية الاحتكار. المهم وصلنا إلى طريق مسدود. بعدها بدأت الأصوات تظهر في نهاية أيار/مايو 2009، بدأت مواقع كثيرة تقذفني بالشتائم على أني قادم لأبتز الحكومة السورية، وأن لي غايات! "كان قد أراني العسل، الآن سوف يفرجيني إذا لم أكن معه ماذا سيحدث". المهم دخلنا في حفلات تشويه كبيرة. لكن بقيت أراهن على الوقت، أن أعمل مواد من سورية، المكاتب تخدم في الإمارات، وهم يطلبون المراسلين إلى تغطية المؤتمرات سواء في القصر الجمهوري أو غيره إلى مؤتمرات وزارة الخارجية... كل ذلك كان يقوم وأنا ليس لدي مراسل، ولكن بناء على طلبهم. وعندي الوثائق التي تؤكد أنهم كانوا يرسلون الرسائل، لم يوافقوا على مراسل ولم يرفضوا، رغم أني بعثت لهم على طلب مراسل من شهر 8/2008 لم تأتِ الموافقة ولا الرفض، كان لدينا مكتب للخدمات الإعلامية يسمى "لايف بوينت"، هذا كان يخدم القناة، أما من حولها إلى مراسلين فكان بناء على طلبهم، قالوا: إلى أن يأتيك الكتاب نرجوك أن تغطي لنا الفعاليات، لدينا كتب رسمية بذلك وكما تعرفون بأنه لا يمكن أن يدخل أي مراسل إلى قاعة وزارة الخارجية أو القصر من دون موافقة. المهم زادت الضغوطات التي جاءت أولاً عن طريق أصدقاء بمعنى "تكسب، وتنحب، يصير عندك أشغال"، هكذا بدأت، ثم تطورت: إن لم تكن فسيكون.

 

اقتحام الأمن للمكاتب

 

لم أعط اهتماماً لذلك، لأني كنت أعرف أنها حفلة تشويه، إلى يوم 27/7/2010 اقتحم الأمن الداخلي المكاتب وطلب من الموظفين مغادرتها. لم يكسروا أشياء، وسمحوا لنا بإخراج جميع الأشرطة، هذا يوضح أن هناك من يريد أن يترك فرصة للحوار مرة أخرى، لأنهم كسروا الأشرطة والكمبيوترات مع أشخاص آخرين. طبعاً سحبنا الأشرطة بالكامل، وكتبوا على الموظفين تعهداً أن لا يشتغلوا مع تلفزيون "المشرق" إلا بطلب رسمي من وزارة الإعلام، طبعاً وزارة الإعلام متنحية للأسف، ليس هناك من وزارة إعلام وليس لها دور أبداً. اضطررنا أن نوقف الأخبار، توقفت الأخبار من يوم 18/8/2009 لم أعد إلى الأخبار حتى يوم 10/10/2010 توقفت عن الأخبار 14 شهراً، خلالها لم يتركوني يوماً. كان هناك دائماً متصل من أهل الإعلام أو المحللين السياسيين أو جهات المخابرات، والقصد أن يبقوني مشغولاً بهذا الموضوع، وكنت ملاحقاً يومياً، والهدف أن يبقى ذهني مشغولاً بهذه المصيبة التي ابتلاني بها الله. حاول رامي مخلوف مرة ثانية إرسال "الإعلاميين" عماد الشعيبي، وعلي جمالو وغيرهما للوساطة، ودائما كنت أرفض أن أشاركه.. إلى أحد أيام رمضان كان برنامجنا حافلاً، أوصلنا اسمنا إلى أرقام عالية في الإحصاء، قام مسؤولو الاعلام بالاتصال بجميع شركات الإعلان حتى لا تقوم بالإعلان لدينا 65 رداً إعلانياً كان موجوداً عندنا من كبار الشركات، للأسف منها شركات عالمية، ومن يريد أن يعرف الأسماء بإمكانه أن يرى كيف تعلن يوماً ثم تسحب إعلانك، كانت الرسالة الجديدة إذا كنت معنا هكذا يأتي الإعلان، أو ليس لديك إعلان. لكن كثيراً من الشركات لم تعط ذلك بالاً إلى أن أصدر رئيس مجلس الوزراء السابق ناجي العطري قراراً بمنع التعامل مع أورينت لأن لديها مخالفات قانونية، ولم تذكر هذه المخالفات القانونية إلى اليوم. طبعاً تكبدنا خسائر عالية، أكثر من ثلاثين مليون دولار صارت كلفة التلفزيون حتى الآن وهم يهددون المعلن بكثير من الأشياء. طبعاً الناس ليست مستعدة أن تدخل معارك ليست معاركها، وهذا حقها الطبيعي.

 

التأكد من مصدر التمويل!

 

عندما انتهى رمضان، اجتمع الرئيس الأسد بمجموعة من المنتجين السوريين وشكوا له بأنهم يجدون صعوبة بأن يروجوا للدراما السورية، ومن الأشياء التي طلبوها أن يسمحوا لقنوات تلفزيونية سورية تساهم بأن تكون سوقاً لهم، وقالوا له إن هناك كثيراً من القنوات تتعرض لمتاعب من قناة الشام التي أغلقت تماماً، إلى قناة أورينت، قال لهم بالحرف الواحد: إن كنتم تقصدون قناة أورينت، نحن ما زلنا نتأكد من مصدر تمويلها. تخيلي رئيس جمهورية بعد سنتين يريد أن يتأكد من تمويلها، وكأنني موجود في جزر بريطانيا العذراء ولست موجوداً في دبي، ومن يكون في دبي وهي مدينة عصرية، الإمارات تخضع لحكم القانون أيضاً لا يمكن أن تكون مصادر الأموال فيها إلا إن شاء الله من مصادر تجارية. المهم إن حديث الأسد شكل فارقاً ونقطة جديدة، فقبله كان رامي مخلوف يريد نسبة 55% وبعدها بدأ يتصل في ويطلب 92% ، وهكذا ولكي أثبت وطنيتي وولائي لبشار الأسد يجب أن أتنازل عن 92% ونصف. 25% للسيد مخلوف، أما الباقي فيأتي لي تسعة تجار من دمشق، من شركة شام القابضة وأنا العاشر، يعني من مالي يبقى لي سبعة ونصف بالمئة، هذا الطرح بدأ في الستة أشهر الأخيرة، كانوا يتصلون ويطلبون مني الحوار. لم أتصل يوماً بأحد منهم، أتحدى ذلك، هم يرفعون النسب، ويحاولون إشعاري بأنني أنا من أريدهم، لكن لدي الأدلة بالكامل، من إيميلات، وتسجيلات، والعقود التي أرسلوها حتى أوقعها. وصلتني تهديدات بأهلي، وبأرزاقي بسورية، ورفضت التوقيع وقلت والله لن يروا توقيعي لا قبل ولا بعد".

 

ثورة مصر والعصفور الطليق

 

* بعيداً عن الضغوطات، حالياً ومع بداية الثورات العربية كانت محطة "أورينت" وقد حازت جمهوراً كبيراً يتابعها لماذا تبنيتم خط الشارع والشباب قبل أن تنضج الرؤى؟

 

* "الذي صار معي بالضبط وآخر اتصال تلقيته كان من عماد فوزي الشعيبي كان يوم الخميس، قبل جمعة رحيل بن علي، بعدها لم يعد يتصل بي أحد. عرفت أن هؤلاء الناس بدأوا يلمّسون على رؤوسهم، كنت أتابع هذه الثورات، جاءت مصر وكنت أعرف أن مصر هي عربة الجر الأساسية. وهذه أول مرة يحدث في التاريخ أن تكون عربة الجر تونس، فكان هناك تشكيل في ذهني، أن تكون حالة واحدة خاصة حتى أتت مصر، مع تطور ثورة مصر كنت أشعر بنفسي مثل العصفور الطالع من الأسر، فعلاً شعرت باللحظة أنني تحررت من كل شيء من كل الضغوطات، من كل الخوف الذي شفته، من كل القتل الذي فرجوني إياه وأنا عمري 13 سنة في مدينتي في إدلب. تحررت من خوفي على أهلي، من خوفي على أموالي، فبدأت أواكب الثورات، وذكرت أني عدت وطلعت الأخبار في 10/ 10/2010، أول خبر كان: لماذا اعتقلتم طل الملوحي؟ هذا أول خبر كان بعد عودة الأخبار، لكن ناقشته بخوف شديد، ثلاثة محررين من سورية قدموا استقالاتهم واعتبروا حتى مناقشة هذا الموضوع من بعيد، هو انتحار سياسي. تخيلي ما الذي فعلوه بضمير الناس، جدران كبيرة من الخوف الداخلي وليس الخارجي. المهم بدأت أنقل عن الثورات وماذا يحدث، وبدأت أقدم رؤية الشباب في الثورات، إلى يوم انطلاقة الاحتفال في الانطلاقة الثالثة لتلفزيون أروينت في 2/2 /2011 أطلعت الجمهور على ما حدث معي من ضغوطات، ولم أكن قد أطلعتهم سابقاً، تناولت رامي مخلوف وغيره. صنعت قبل ذلك برنامج (البلد بارك)، لأرى مدى جدية الشعب السوري لتقبل الحوار والرأي المختلف قليلاً، وجدت أن طبقة كبيرة من المثقفين مستعدة لهذا النوع من الحوار، وأصبح هذا البرنامج (البلد بارك) حالة ثورية خاصة. عرفت أن هناك شيئاً ما ينمو، أو شيئاً ما يريد أن ينمو. في تاريخ 9/2 استقبلوني في تلفزيون (أورينت) كرجل أعمال يتحدث عن حالة اقتصادية، وهي تجارة إعادة التصدير، بما أن لدي مؤسسة رائدة في مجال إعادة التصدير التي تأسست في دبي بعد ما أغلقت "هونغ كونغ". عندما خرجت لأتكلم عن تجارة إعادة التصدير، تكلمت عنها لمدة سبع دقائق، لكنني فاجأت نفسي، وأنا أتحدث عن السلطة في سورية، وضرورة أن يفتحوا البلد. إننا شعب حي، شعب التجارة في العالم، إن طريق الحرير ليس مادة مسرحية ولا مادة شعرية، وإنما هو حياة شعب، وأن سورية لا يمكن أن تكون إلا في هذا المجال. لا نملك الإمكانيات لنكون دولة صناعية، لا نملك إلا أن نكون تجاراً بين دول العالم. هذه هي الحالة السورية تاريخياً، طبعاً إضافة إلى الزراعة التي أصبح وضعها صعباً كثيراً في العشرين سنة الماضية وهي غير قادرة على المنافسة عالمياً. وجدتني أطلب وأرد على بشار الأسد عندما قال في إحدى المقابلات إنه سيبدأ بإصلاحات، لكن لن تراها هذه الأجيال وإنما سيراها الجيل القادم! فقلت له: لو فتحت البلد في أربع سنوات وأسست لجان تصدير في هذه السنوات ستنمو ونرى الازدهار كما حدث في دبي وفي سنغافورة وفي مدن كثيرة تبنت اتجاه إعادة التصدير والتجارة البينية، وتحدثت عن موقعي. المهم انني طالبته بأن يكون مجلس الشعب مجلساً منتخباً وأن تكون هناك حكومة حقيقية، حكومة تكنوقراط بعيدة عن ضغط المتنفذين، أن تعود سورية إلى الحياة الدستورية التي كانت عليها قبل حكم البعث. صدقيني لم أكن أحضّر لهذا الكلام، لكن وجدت نفسي أنطلق هكذا، تركت موضوع إعادة التصدير ودخلت في هذه المطالب السياسية، مع أني لست سياسيا ولم أكن يوما سياسيا، لكن قلتها من وجهة نظر رجل أعمال. بعدها بدأت ما سماها الرئيس السوري حملة التحريض في خطابه الأخير، هي لم تكن حملة تحريض، لقد فهمها حملة تحريض، هي الرأي الآخر المرفوض بأي شكل من السلطة في سورية. ثم بدأت بمعالجة آثار قانون الطوارئ على الحياة السورية، كل يوم تقرير عن القضاء، عن الزراعة، عن الصناعة، آثاره السلبية بالكامل. إن ما وجدته أن أغلب الشعب السوري، بكل شرائحه حتى بالمهجر، كان يتابع العزف المنفرد الذي كان يقدمه تلفزيون "أورينت"، نعم عزف منفرد. كنت أقدم عن الآثار، عن السياحة، عن الغوطة وما جرى لها، عن الثقافة وتأثيرها على حياة الشعوب، أحسست أني قد وصلت إلى الناس. وللأمانة، هذه التقارير كنت أكتبها بيدي، لأن جدران الخوف عند الصحافي السوري لا تريد أن تسقط إلى اليوم. السلسلة الثانية كانت عن الحكومات الثورية وماذا فعلت بنا، نعم كانت عن كل الحكومات الجمهورية في الوطن العربي، لكن كان الحديث دائماً عن سورية، لأن الضيف كان دائماً سورياً، انتبه الناس وعرفوا ماذا يحدث في البلد. في نهاية كل تقرير، كنت أقول: يجب أن ننتبه إلى أن سورية لن تكون بعيدة عن خط التغيير في الوطن العربي القادم، كنت أحزر. لكن كان الرئيس السوري يفاجئني ويقول "نحن غير"، لكن في ما بعد تبين أنهم ليسوا غير، وأن الشعب العربي، وخصوصا في جمهوريات الظل قرر أن لا يكون غير، قرر أن يأخذ حقه بنفسه.

 

شحادين يا بلدنا

الحلقة الثالثة كانت، اسمها "شحادين يا بلدنا" قلنا له: "اجعلها لله وأعطنا حقوقاً دستورية حتى لا نقع في المحظور. قد نسامح على كل شيء، لكن لن نسامح على ما هو قادم". فاجأني أن الناس سمعت كل هذا الكلام، كل هذا الصراخ. المفاجأة الكبرى كانت أن يخرج عشرون شاباً وصبية في سوق الحميدية في دمشق وفي المرجة ويطالبون بالحرية، وقفت كما الصنم!. سورية بعد 25 عاماً لم تظهر فيها أي مظاهرة، 48 عاماً من الضغط والتحكم الأمني تخرج عشر شباب والله لو خرج رجل واحد لكان حدثاً على مستوى العالم. هذا الحدث كيف لقناة سورية إلا أن تقوله، فقررت أن أنقله فوراً، وأن أفتح الهواء لمدة ساعتين لأرى آراء الناس لما حدث في سوق الحميدية. إن عشرين شاباً ووجهوا ب500 رجل أمن يهتفون بالروح بالدم نفديك يا بشار، المشكلة أعتقد ان الخطأ الأكبر أن السلطة لم تستوعب الصوت الآخر، حتى وإن كان صغيراً، حتى حدث بعدها هذا الصوت الكبير. عندما فتحت الهواء خرج ناس يهتفون بالروح والدم نفديك يا بشار، وخرج ناس يقولون بدنا حرية بدنا كرامة، لم يقولوا بدنا وظيفة، كذب من يقول إنهم يريدون وظيفة، أو إصلاحاً مأجوراً، يريدون الكرامة والحرية، كان هتافهم: الله وسورية حرية وبس. كان واضحاً أن هناك من شعر بوطأة الاستبداد. بعد ذلك دخلت الأجهزة الأمنية على أعلى المستويات، وأنا أعرف أن من تدخل بذلك هو اللواء محمد ناصيف، قرر أن يتصلوا بكادر تلفزيون وموظفي أورينت ويهددوهم ويتوعدوهم بالعقوبات والخيانة العظمى، وبالضغط على أهلهم. طبعاً الناس، وهذا حقهم، ما زال لديهم الخوف من وطأة الإرهاب، خاصة في هذا الوقت. بدأ الناس يتسربون، في الأسبوع الأول فقدنا ثلاثة موظفين، الأسبوع الثاني وخلال عشرة أيام فقدنا مجموعة من الموظفين. وكما تعرفين، هذا يولد إشكالية في قناة كل موظفيها بحدود 150 شخصاً.

 

الشعب السوري صار كله مراسلين

 

ومع بداية اندلاع الثورة في درعا بسبب الغباء الذي تم التعامل به مع 15 طفلاً كتبوا: "الشعب يريد إسقاط النظام"، طبعاً أطفال يسمعون هذه الشعارات على مدار ثلاثة أشهر، تم التعامل معهم بقوة وعنف، وتم تهديد النساء وتهديد كبار أهل"درعا والجور عليهم. من هنا انطلقت بشائر الثورة، ومن بداية نقلي للأحداث بدأت عملية التشويش والضغط والإساءات والتخوين، لم تبق وسيلة لم يستغلوها، جعلوا مني قائد ثورة وأنا لست إلا إعلامياً أنقل الواقع كما حدث. إلى اليوم لم يستطيعوا أن ينقلوا عني خبراً كاذباً، لم ينقلوا عني صورة كاذبة، عندما كانوا يقولون ان ما قدم خبر كاذب، كنت أفاجئهم بعدها وأعطيهم الدليل عليه. وكما تعرفين لا يسمحون"بوجود مراسلين، لكن الشعب السوري أصبح كله مراسلين. في الأسبوع الماضي أرسلوا مجموعة من الشبيحة خربوا بيوتي وإحدى مزارعي، كسروا الأبواب والنوافذ، كما كنت استثمرت جزءاً من أموالي في سورية واشتريت أرضا كبيرة مساحتها 600 دونم استصلحتها وزرعت فيها 9000 شجرة زيتون فعلاً رعيتها بكل الحب. المخابرات كانت تسأل أول البارحة ما هي أحب الأملاك لغسان عبود، فقالوا لهم أراضي الزيتون. يوم أمس أرسلوا أربعين من "الشبيحة" وأطلقوا النار على المزارعين وهجروهم من الأراضي واستولوا على الأراضي وقسموها بين هؤلاء الأربعين. علماً أن لها ملكية، والملكية ليست فقط يحميها الدستور السوري، وإنما تحميها شرائع الأمم المتحدة، كل ذلك ليسكت هذا الصوت، وكل ما عندي ساعتا أخبار، وهم لديهم ماكينة إعلام، لكن للأسف إعلامهم لا يصل حتى إلى المناطق الإعلامية".

الوقوف مع المقتول ضد القاتل

 

* منذ الانتفاضة التي تحركت في سورية كان موقفكم متطرفاً مع الشباب هذا ما ظهر في إعلامكم، لماذا هذا التطرف؟

 

* "تبنيت حالة الوعي، في نشرة الأخبار وفي قضايا المشرق كنت وحيداً. الآن عندما خرج الشباب كان مطلوباً مني أن أتخلى عنهم، لقد أتى إلى هنا موفد منهم وقال لي بالحرف الواحد: بين يدي كل فرنك خسرته سنعطيك إياه، قلت له أنا لا أبحث عن فرنكات يا رجل، إذهب وتفاوض مع الناس الذين أصبحوا في الشارع. وبقي يومين في دبي ورفضت أن أقابله. وقوفي مع ثورة الشباب، لا ينبع فقط من ضمير وإنما هنالك موقف. لو كان النظام السوري يخوض حربا مع "إسرائيل" كان من واجبي أن أقف معه، لو كان يخوض حرباً إقليمية كان من واجبي أن أقف مع النظام السوري لكنني لم أستطع أن أقف مع القاتل ضد المقتول، القاتل مسلح والمقتول أعزل، والمقتول هو الشعب نفسه لا يمكن، هذا هو موقفي".

 

* ألا تحسب لمحاذير مستقبلية، في حالة إخماد حركة الشباب في المطالبة بحقوقهم وحريتهم؟

* "أولاً أنا متفائل جداً لأن الشعب السوري عانى كثيراً، ولا أعتقد أن هذا الشعب سيعود قبل أن ينجز الهدف، ولا يمكن مهما كان حجم الضغوط عليه، فهو لم يخرج بقرار حتى يعود بقرار. الاختلاف بين ثورة اليوم وثورة الإخوان المسلمين على النظام السوري، أن السابقة كانت ثورة منظمة لها قيادات تستطيع أن تخمدها وتستطيع أن تتآمر عليها، أما الآن من هم قواد هذه الثورة؟ الثورة بكل بساطة لا يمكن الإمساك بها، فهي ثورة هوائية ليست لها قيادات، هي ثورة الجائع إلى الحرية وإلى الكرامة، هي تشبه كرة الثلج، الواضح أن هذه الثورة تعامل بغباء شديد وعنجهية من النظام السوري. ولو  لا سمح الله - حدث شيء لي فمصيري ومصير هؤلاء الأحرار واحد".

 

شاهد العيان أصدق من المراسلين

 

* أستاذ غسان، إن مصادر المعلومات لديكم تأتي من شهود عيان، هل يشكل ذلك ثقة من حيث المصداقية الإعلامية لقناتكم أو لأي قناة أخبارية؟

 

* "عندنا مثل يقول: "شو اللي جابك عل المر، قله الأمر منه". لو كان النظام السوري قد سمح للكاميرات التلفزيونية ان تدخل وتصور ما جرى، لما كان أحد لجأ لشاهد العيان، ولا حتى لجأ لمراسلين هم عموم الناس، علما بأنه لو سمح ودخل الإعلام، ونحن نعرف أن معظم المراسلين لن يتجرأوا على تصوير الحقيقة كاملة، وإنما ستتبلور الحقيقة في استديوهات القنوات. لكن والله أقول لكم إننا كنا نحاول أن ندقق في الخبر ان كان صادقا. وقد حاول النظام السوري أن يبث لنا شهود عيان كثرا وأخبارا مزيفة كثيرة، لكننا نحن جميعا هنا سوريون، وقد استطعنا فعلاً أن نعرف أن شاهد العيان من المنطقة وفعلا موجود في المكان، وقد أثبت شاهد العيان أنه صادق أكثر منهم جميعا. ما يقوله اليوم ينشر غدا، تؤكده الوثائق والأفلام والناشطون، وفي ما بعد أصبح التلفزيون السوري الآن يؤكده. كنا فقط نحتاج إلى هذه المسافة، وقد أثبت شاهد العيان أنه أصدق بكثير منهم".

 

* هل كانت مصادر الأخبار لديكم تلم فعلاً بتفصيل ما حصل، أو كانت هناك فوضى في النقل وتوصيل المعلومة؟

 

* "أقول لك بكل وضوح، نحن لا نحرر الأخبار الآن، نحن ننقب عن الأخبار وعن الخبر الصحيح، نحاول أن نتصل بأكثر من عشرة بالمنطقة حتى نتأكد منه. لم يستطع النظام السوري أن يكذب خبرا أذعناه، عندما كان يكذّب نقول له في اليوم الثاني: هذا هو الدليل، والآن أصبح الدم واضحا، هناك أكثر من 200 قتيل، هنالك 300 شخص مفقودون من المشافي، والجرحى لا أحد يعلم عنهم ومعظم الناس تظن أنهم قتلى، وهم بالأسماء والأرقام. فأثبتنا في ال 15 يوماً الماضية أننا أصدق من كل ما قالوه. وهم يلجأون فقط إلى التخوين مع أورينت".

 

سؤال للاعلام العالمي

* لماذا لم يدخل الإعلام ويصور الأحداث حيث تقال الحقيقة؟

 

* "هنالك فارس اليوم يظهر على شاشات التلفزيون السورية والعربية، هو مكلف من السلطة، اسمه خالد العبود عضو مجلس الشعب، قالها بأعلى صوته: "وهذه بلدنا ونحن أحرار لن نسمح" يعني هذه مزرعته وهو حر. لكن نحن نقول له شكراً، فإن الشعب السوري أصبح كله مراسلين، دع كاميراتك مغلقة، لكن سنسأل سؤالاً معكوساً: لماذا لم يقم الإعلام العالمي بالتغطية لهذه الثورة وقد فقدت 250 قتيلاً حتى اليوم، في حين أن الثورة المصرية لم تفقد من أولها إلى آخرها 350 قتيلاً لأنه كان يغطيها بالكامل، لماذا في سورية يتوارون عنها؟ لن أقول أن هناك مؤامرة، لكن هناك سؤالاً كبيراً يجب الإجابة عنه، وربما الأيام القادمة كفيلة بأن تجيب عليه".

 

* هناك ما يقال حولك من البعض: إنك تقول أن ضغوطاً معينة عليك من أعلى سلطة في سورية، وربما من دبي، هل هذه الأخبار صحيحة وخاصة ما يتعلق بالتشويش على القناة في الأسبوع الماضي؟

 

* التشويش على القناة كان مصدره سورية، أما ضغوطات من دبي والله لم تحدث، لكن هناك ضغوطات من المنطقة الإعلامية في الفجيرة، أين مصدرها لا نعرف".

 

* هناك من يقول أيضاً: بأن غسان عبود لديه أجندة، هي أن يركب موجة الثورة للوصول إلى أهداف سياسية، يخص بها في حالة نجاح الثورة، أو العكس يسترضونك إن بقوا في السلطة؟.

 

* "هو أن لدي أجندة نعم لدي أجندة، أساساً هذه الثورة أجمل ما فيها أن كل من لديه أجندة ضد الظلم قد توحد مع الثوار أوتوماتيكياً بدون أي لقاء أو أي تنسيق، نعم لدي أجندة ضد الظلم، أما عن السياسة وغير السياسة فأنا الآن ومن هذا الموقع وهذا المكان لم أكن سياسياً يوماً، ولن أكون بأي شكل كان، أنا رجل أعمال وإعلام".

 

الناطق الوحيد

 

* استضفت على المحطة شخصيات مرموقة من سورية ثقافية وسياسية، البعض كان يطالب بالتغيير، والبعض كان موضوعياً تحدث عن الإصلاح، لماذا لم تستضف شخصيات مع النظام وتكون بذلك حققت فكرة الإعلام المستقل؟.

 

* "أولاً أنا كنت دائماً أحاول أن أستضيف شخصيات مع النظام ولا أزال، لكن المشكلة بأن قرار رئيس مجلس الوزراء السابق ناجي العطري، عندما قال بمنع التعامل مع "الأورينت" هو الذي جعل جميع الناس لا يظهرون، أنا أحاول الاتصال مع الجميع من المقربين من السلطة، الشخص الوحيد الذي يظهر معنا، هو أحمد حاج علي وهو يعتبر ناطقاً إصلاحياً، لكن الآخرين لا يقبلون".

* سؤالي لك كسوري: هل ما حصل انتهى أم أنها البداية؟

 

* "أعتقد أننا لم نبدأ بعد، وأن الشعب السوري لم يبدأ بعد، الشعب السوري سيبدأ عندما يقول الجميع كلمته الواحدة، بكل طوائفه وبكل قومياته، الآن الثورة مشتعلة في الجنوب وفي الخط الساحلي وفي المنطقة الشرقية، المنطقة الشمالية لم تقل كلمتها كاملة".

 

* هل صمت تركيا له تأثير على صمت حلب الشهباء؟

 

* "هذا أكيد ومؤكد تماماً، أنا ما زلت لم أنشر هذه الأخبار، لأنه من الصعوبة تأكيدها لكن هناك تدخلاً قوياً جداً سواء كان من السلطة أو من فعاليات تركية بمنع الشعب الحلبي من التظاهر. هنالك مظاهرات حصلت في السويداء، هناك بيان لنقابة المحامين، هناك مظاهرات خرجت في مدينة السلمية، أيضاً في حمص وضمت افراداً من الطائفة المسيحية، أيضاً هناك مشاركون من الطائفة العلوية أيضاً تظاهروا وشاهدناهم في الفيديوهات التي وصلتنا، لكنها الثورة لم تبدأ بعد، كل ما يحدث الآن هو الاستعداد للثورة، النظام أضعف من أن يستطيع أن يصمد لأنه قائم على التوازنات، هو يظن أنه سيصمد كما صمد في عام 2005 هكذا قال الرئيس في خطابه، لكني أقول للرئيس السوري "إن عام 2005 يختلف عن عام 2011. في ذلك الوقت كانت لديك مشاكل مع جهات متحزبة في لبنان، مع جهات إقليمية في الوطن العربي، مع جهات دولية، أما الآن مشكلتك مع شعبك، وبالتالي ليس هناك انضباط يضبطه، ليس هنالك قيادات تستطيع أن تتحاور معها أو كما يظهر لنا أنك تتحاور مع الإخوان المسلمين، حتى تقول إنها ثورة سنية برؤية سلفية، كما يقول البوطي بأنه سيعطينا قناة فضائية إسلامية. الثورة لن تخرج بهذه المطالب يا سيادة الرئيس". الثورة لها مطالب واحدة عندما رأت أن البنية التحتية منهارة تماماً، والآن تؤكدونها على تلفزيوناتكم. وأيضا طالب بالكرامة ومنع الاستعباد، وليس قناة تلفزيونية إسلامية. المشكلة أنك لن تستطيع، لا أنت ولا أي طرف دولي أن يقبض على هذه الثورة، هذا الذي حدث في مصر يحدث في سورية ثورة شعب يريد حرية، توازنات عالمية جديدة لن تستطيع أن تفعل شيئاً. وكما وقفت السلطة عاجزة في تونس ومصر الآن في سورية، أنصح نصيحة واحدة أن تكون المحاورة مع الناس ولا تضيع الوقت. الناس لها مطالب واحدة: "إنهاء الاستعباد، إنهاء قانون الطوارئ عودة الحياة الدستورية فوراً، لا أحد يأتمنك اليوم على يوم واحد إضافي. هذا الذي يجب أن يفهم عند ذلك نظن أنك سوف تستطيع التحاور". أما أن يقول بدنا نصلح، وعودة المنقبات، ومحطة إسلامية، هذه لم تكن أساسا من مطالب الثورة. الشعب يقول: "واحد واحد الله واحد سورية واحد". الشعب يقول: حرية.. كرامة، ومطالبه واضحة. لا أحد يستطيع أن يتجرأ على التلاعب بها، والوقت ليس في صالح النظام أبدا، وإنما هو لصالح الثورة لأنها كرة ثلج، وهذه ليست نظريتي بل هي اعتماد على التجارب التي شاهدناها. كل الدم الذي يسفكه القذافي لم يوقف الثورة ومطالب الشعب في ليبيا، كل الدول الإقليمية والدولية وقفت إلى جانب النظام في اليمن وما الذي يحدث؟ قريبا سترون هذا الرجل عبد الله صالح في خبر كان، وفي ذمة التاريخ. وكذلك كل نظام وقف أمام طموحات شعبه، مشاكلنا نحن الجمهوريات العربية واحدة، جمهوريات مستنسخة".

 

من يصنع الفتنة؟

* هل السوريون برأيك سينتزعون حريتهم، شاء من شاء أو أبى من أبى؟

 

* "صيرورة التاريخ تقول ذلك، لكن دائما السؤال الكبير: لماذا الشعب السوري، وهو شعب حر وهو شعب مدني منذ 8000 عام، لماذا قبل أن يحكم بهذه الطريقة 48 عاماً؟ هذا هو السؤال الكبير الذي يحتاج كثيرا من الباحثين ليعرفوا السبب. ليس فقط هو الخوف، لكن أعتقد أن الطوق كان كبيراً، ولا أستطيع أن أجيب على هذا السؤال. المستقبل كفيل بأن يجيب عن هذا السؤال: كيف قمعت تطلعات الشعب السوري المدني؟ وهو مدني وأبو المدنية في العالم. نحن لسنا شعوبا من الهمج. وأريد أن أقول كلمة أخرى إن الرئيس استخدم كلمة فتنة، عندما استلمتم السلطة في عام 63 لم يكن هناك فتنة، على الأقل اتركوها كما أخذتموها. لا أحد يهددنا بالفتنة، لا يمكن أن تحدث في سورية، لا أحد يراهن عليها. نحن مدنيون ولسنا وحوشا، لسنا شعبا متوحشا نحن مدنيون، نحن إلهنا واحد، إلهنا هو إله الحرية".

===============

ملاحظات من حافة الهاوية!

ميشيل كيلو

السفير

10-4-2011

ليست الأزمة التي تمر سوريا فيها اليوم غير النتاج المباشر لتأخر الإصلاح، أو بالأصح: النتيجة التي ترتبت على إصلاح جزئي وأعرج، أريد له أن يحرك الاقتصاد ويجمد السياسة، فكانت النتيجة تحول الإصلاح الاقتصادي إلى عامل أنتج جوانب إضافية وجديدة لأزمة عامة مزمنة، أضافت أليها بعدا اجتماعيا ظاهرا، بما ترتب عليها من تشوه إضافي في توزيع دخل وطني كان بحاجة إلى تصحيح هيكلي عميق، ومن إضرار بالقوى العاملة والمنتجة وبقسم واسع من أصحاب المرافق الصغيرة والمتوسطة، وكثير من الصناعيين والتجار، الذين وجدوا أنفسهم محاصرين بقدرة شرائية متناقصة إلى حد العوز في الداخل، وبمنافسة صينية وتركية، أو صينية/ تركية متعاظمة في الخارج، بينما حوّل انعدام التخطيط والتبصر سوريا من جديد إلى بلد مستورد للقمح (تستورد سوريا، البلد الزراعي، سلعا غذائية بقرابة مليار دولار أميركي سنويا، وتستورد الآن القمح بينما ينضب نفطها) وأدى تجاهل خطر الجفاف، الذي كانت الأمم المتحدة قد نبهت إليه في تقرير رسمي أصدرته عام 1981، قالت فيه أن المناطق الزراعية في بلدان الشرق الأوسط ستشهد تناقصا حادا في محاصيلها سيقارب النصف في بعض المناطق نتيجة موجات جفاف ستضربها، وإن عليها الاحتساب لذلك منذ الآن في ما يتعلق باستخدام المياه وطرق الزراعة وأنواعها، وأنماط التغذية والاستهلاك، والتخطيط الاقتصادي والاستثمارات (فهمت تركيا التحذير فبنت 32 سدا في مناطقها الجنوبية، التي تحولت إلى جنة زراعية!).

لم تفعل السلطات شيئا لدرء الخطر، بل إن الرجل الأول في الاقتصاد السوري الأستاذ عبد الله الدردري اعترف مؤخرا أن الزراعة ليست قطاعا مفتاحيا في اقتصاد السوق الاجتماعي (يسمونه في سوريا اقتصاد السوء الاجتماعي). لا عجب إذن إن كانت نتيجة هذا التطور تعميم البطالة وتوسيعها بدل تقليصها وتخفيضها، وتزايد نسبة الفقراء إلى حد الخطورة (إذا كان خط الفقر هو دولاران في اليوم، فنسبة الفقراء تبلغ قرابة 50 %، وإذا كان ثلاثة دولارات، فهي 37 % حسب محاضرة ألقاها الدكتور قدري جميل أمام جمعية العلوم الاقتصادية في دورتها الماضية.

بالمقابل، يقول الأستاذ الدردري: إن نسبة الفقراء في سوريا انخفضت إلى 9 %، في حين يقر الاتحاد الأوروبي إن نسبة الفقراء لديه تبلغ 13 %. هكذا تكون سوريا أفضل حالا بمرتين من الاتحاد الأوروبي!، لذلك بدأت منظمات تابعة للأمم المتحدة توزع الغذاء في منطقة الجزيرة، التي كان يقال إنها ستطعم سوريا وقسما من العالم العربي، بينما هاجر قرابة 300 ألف مواطن (يقول بعضهم إن الرقم يفوق المليون!) من هناك، إلى أحزمة الفقر والبطالة حول المدن الكبرى والمتوسطة، التي تعج بالسكن العشوائي والخدمات غير المنتظمة. وقد قال مكتب الإحصاء في دراسة رسمية إن الأسرة السورية التي تتألف من خمسة أفراد تحتاج إلى 32 ألف ليرة سورية شهريا كي تعيش حياة متوسطة المستوى، بينما هي تتلقى 14 ألف ليرة سورية في الشهر!.

كان يراد للاقتصاد أن يقنع الشعب بضرورة بقائه غائبا عن المجال السياسي، فإذا به يلعب دورا كبيرا في إجباره على العودة إليه .وكان يراد له أن يكون رافعة علاقة جديدة بين النظام والشعب، الحرية فيها اقتصادية واجتماعية (جزئيا)، فإذا «باقتصاد السوء» الاجتماعي يضيف جوانب مجتمعية لا تحتمل إلى أزمة عامة، لطالما أدارها النظام بدرجات متفاوتة من التمكن، بالتركيز على السياسة الخارجية كمكان لإنتاج الشرعية الوطنية، والاقتصاد كأداة إعادة توزيع دخل تفيد منه قطاعات كبيرة من سكان الأرياف. بما أن سكان الأرياف صاروا المتضرر الأكبر من السياسات الجديدة، فإن وقوع الاضطرابات في مناطقهم يبدو أمرا مفهوما.

في هذه الفترة عينها، تحولت السياسة الخارجية خلال الأعوام القليلة الماضية من التركيز على المجال القومي، حيث ساد اقتناع واسع، داخلي وعربي، بأن النظام هو آخر المدافعين عن الأمة، إلى الانخراط في حاضنة جديدة هي المجال الإقليمي، المتمحور حول ثلاث قوى غير عربية هي تركيا وإيران وإسرائيل، مع ما ترتب على الانتقال إليه من تخل عملي عن أولويات موروثة، قومية ووطنية، وارتباط بسياسات إقليمية فرضت على سوريا التزامات وواجبات حيال حلفائها الجدد هي بغنى عنها، دون أن يكون لها، بالمقابل، مشاركة حقيقية في رسم استراتيجيات هؤلاء (وتحديدا منهم إيران)، أو في التأثير على خياراتهم الكبرى، التي بنيت أساسا على ضعف أو إضعاف العرب، وعملت على اختراقهم وشحنت مجالهم القومي بعناصر تفتيت مختلفة، أخطر نتائجها تقدم توجهات مذهبية متنوعة وما نجم عنها من صراعات تمزيقية على مستوى النظم الحاكمة والقاع المجتمعي والشعبي وتراجع الفكرة القومية الجامعة ورابطتها العروبية.

بالوضع الذي أنتجه اقتصاد السوق الاجتماعي، والسياسات الخارجية الجديدة، نكون أمام عاملين مهمين يفسران جوانب من واقع الحال السوري الراهن، الذي أنتجته حقبة ما بعد حافظ الأسد، وعادت الأمور معه إلى نقطة أدنى وأكثر تعقيدا بكثير من تلك التي أريد للحل أن يبدأ منها ويتصدى لمشكلاتها، وكان النظام الحالي قد ورثها عن سابقه، لكنه فشل في الخروج منها وزادها تعقيدا بإضافة عناصر جديدة إليها، ظن أن فيها حمايته في الداخل ومن الخارج، وأنها تمكنه من تجنب الإصلاح الذي اقترحته عليه قوى وتيارات داخلية متنوعة، وجوهره المصالحة الوطنية وأولوية حل مشكلات البلاد، ووقف الصراع على السلطة، وبلورة عقد وطني/ اجتماعي جديد يأخذ سوريا إلى نظام انتقالي، هو مرحلة لا شيء يمنع من أن تكون مديدة نسبيا، إلى التعددية ثم الديموقراطية، فيه حماية البلاد والعباد واستقرارهما على أرضية حامل مجتمعي يضم أغلبية الشعب الساحقة، من شأن تشكله ككتلة تاريخية جديدة أن يعيد إنتاج الحياة السياسية على أسس سليمة، ويتيح لسوريا ممارسة دور قومي فاعل، بعد أن يضع حدا للانقسامات الداخلية إلى معارضة وموالاة، ويؤسس لنمط مغاير من العلاقات الوطنية، يتعاون من خلاله وطنيون سوريون متعاونون لحل مشكلات بلادهم وحماية وطنهم.

[[[

هذا هو المستوى الظاهري والمباشر من واقع الحال، أما خلفياته، التي أنتجت أزمة سوريا والنظام، العامة والدائمة، فهي مستوى أعمق وغير ظاهر ترتبت عليه خلال نيفٍ وأربعين عاما مشكلات لم يرغب أحد في حلها، كان إصلاح السوق الاجتماعي محاولة فاشلة للهرب من مواجهتها والالتفاف عليها. هذه الخلفيات هي باختصار:

1- قيام البعث بإنتاج الواقع انطلاقا من أيديولوجية قومية/ اشتراكية لا تملك أدوات ووسائل حل ما سببته فيه من أزمات وركود. هذه الأيديولوجية تخلى النظام عن جانبه الاجتماعي والاقتصادي، لكنه تمسك بالأبنية السياسية و«الفكرية»، التي ترتبت عليها. وبما أنه استعار سياسات وممارسات اقتصادية من خارج منظومته الأيديولوجية، استخدمها للحفاظ على أبنيته السياسية المتناقضة معها، فإن المرونة الاقتصادية والجمود السياسي لعبا دورا غير قليل في بلبلته ووضعه أمام تعقيدات عامة طاولت كل مجال وميدان، وخاصة علاقاته مع المجتمع، الذي وافق على «تحريره» اقتصاديا، لكنه كلف أجهزته الأمنية بالسهر على احتجازه السياسي الخانق، مما قوض شرعيته ووضع وعود إصلاحه في مهب الريح. بما أنه لم يعد بالإمكان جسر هذا التناقض، فإن ضبطه صار مشكلة وجدت لها حلال هو الأسوأ: تحالف أركان النظام مع فئات غنية جديدة، خرجت بين ليلة وضحاها إلى النور، ونأت بنفسها عن قوى العمل والإنتاج (بما في ذلك الصناعية والزراعية والتجارية منها)، وعزلت نفسها عن الناس.

لقد كلف قران عقد في مدينة اللاذقية، وحضره مسؤولون كبار، بين شاب وفتاة من أولاد هذه الطبقة مئة مليون ليرة سورية، بينما كانت أسر فلاحية تغادر الجزيرة هربا من الفقر والجوع!

أمعنت السلطة في التنكر لمشكلات وأوضاع أغلبية الشعب، وتجاهل الآثار التي أحدثها تقدم المجتمع الطبيعي في سائر الميادين، وما عرفه من تحولات نوعية في كل صعيد، بعيدا عن السلطة. لا عجب إن عجزت خيارات النظام عن وقف التدهور العام، وعن احتواء الأوضاع بالوسائل القمعية والعنيفة، وأن يترتب عليها تشتت وضعف مركز السلطة، وتزايد أخطائها، التي شهدنا مثالا عنها في درعا، حيث تسبب ضابط أمن كبير في تفجير وضع كان الراغبون في تفجيره لا يعرفون كيف يفعلون ذلك. صارت الأيديولوجية السائدة عاجزة وضارة، ولم يعد لها وظيفة غير التذكير بافتراق النظام عن أهدافه لأصلية: الوحدة والحرية والاشتراكية، بينما قوضت الوسائل المستعارة من عالم أيديولوجي مختلف، وأهمها سياسات اقتصاد السوق الاجتماعي، ما كانت تريد توطيده: الأمر القائم، بأن قلصت قاعدته وقلبته إلى نظام قلة منتفعة تضبط بوسائل غير سياسية، تقوم على التخويف والإكراه، شعبا يفقد أكثر فأكثر الأمل في حل مشكلاته من خلال السياسات المتبعة، وقللت ما كان متوفرا من إجماع عليه لدى أوساط كثيرة، ريفية ومدينية.

2- لعبت سيطرة الحزب، وهو تكوين جزئي، على الدولة، وهي كيان شامل ومجرد وعام، دورا هائل الخطورة في إنتاج أزمة هيكلية لم ينجح أحد في التخلص منها: في العالم وعندنا. بهذا التشوه، انقلب الشأن العام رأسا على عقب، وصار كهرم حلت قمته محل قاعدته، يقف على رأسه ويعيد إنتاج نفسه منه بدل أن يقف على قاعدته، على الشعب، ويقوم عل التراضي والقبول الطوعيين. كما غابت عن السياسة المفاهيم التي تأسست تاريخيا عليها، منذ أفلاطون وأرسطو إلى هيغل وماركس، وغاب نتيجة لذلك الواقع الحديث الذي يبنى عليها، وحل محل المواطنة والحرية وحقوق الإنسان والمساواة والعدالة والدولة المدنية والديموقراطية وحكم القانون واستقلال القضاء وحرية الصحافة واقع ارتكز على حالة الطوارئ (فرضيتها: السلطة وحدها تؤتمن على الوطن، أما الشعب فلا!) والأحكام العرفية، والقوانين الاستثنائية، فغدا كل شيء شكليا وفقد وظيفته، وخاصة المجلس الذي يذكر اسمه بالشعب، ووقع انتقال تدريجي في السلطة أخذها من الحزب إلى الجيش إلى الأمن، وجعلها نقطة انطلاق ومآل أية فاعلية عامة من أي نوع كان، حتى حلت أخيرا محل الوطن، أو صار الوطن تابعا لها، وغاب عن مصالح الدولة العليا كل ما يتعارض مع مصالحها، وتحول المجتمع المدني إلى خصم وعدو، بدل أن يكون الحامل السياسي والقانوني والشرعي للشأن العام، وتاليا للدولة.

المشكلة الكبرى هي أن السلطة تتمسك بهذا الوضع المشوه وتعتبره وضعا طبيعيا، وترى في نفسها المحل الوحيد لإنتاج السياسية والشرعية، وتعتبر أية مطالبة منظمة بأي شيء ينتمي إلى الحقل العام، مهما كان بسيطا وثانويا، عدوانا عليها وتهديدا لأمن الوطن. بما أن المشكلات تتزايد وتتعقد، ووسائل حلها تتناقص، فإن طابع السلطة الأمني يتعاظم، ودور أجهزتها القمعية يتوطد ويصير عاما وشاملا. بذلك تسهم هذه، من حيث لا تريد، في تعقيد وتفاقم الأزمة، وسد سبل حلها بوسائط السياسة وتوازناتها، السلمية والحوارية، ويتم إضفاء طابع أمني على مشكلات لا يحلها بالقمع، كمشكلة الحرية والعدالة والمساواة والمواطنة والحقوق العامة والخاصة، التي تحولها العقلية الأمنية إلى ألغام وتعامل مناصريها كأعداء، مع ما يؤدي إليه هذا السلوك من تحول نظام كان تقدمي الوعود إلى قوة محافظة هنا ورجعية هناك.

3- لعب التمسك بهذين التشوهين دورا حاسما في إحباط موجة الإصلاح الأولى، التي عرفتها الأعوام العشرة الماضية، وسيلعب التمسك بهما اليوم دورا مماثلا في إحباط موجته الراهنة، التي أقر النظام بشرعيتها ووعد بتحقيق مطالبها. لن ينجح أي إصلاح، مهما كان جزئيا ومحدودا، إذا لم يصحح هذا التشوهان الهيكليان. بقول آخر: هناك مستوى من الإصلاح يلامس سطح المشكلات، يستهدف إعادة إنتاج النظام الراهن في شكل جديد، لكنه يحافظ على أبنيته، يشبه محاولة الإصلاح الأول، التي تؤكد موجة الاحتجاج الراهنة فشلها. وهناك مستوى للإصلاح يأخذ بعين الاعتبار أسباب الأزمة العميقة، البنيوية، فيعالجها، بدل أن يتصدى لنتائجها: لمظاهرها السطحية، فيكون إصلاحا تقنيا أو برانيا كالإصلاح الحالي، الذي ينكر أهل النظام وجوده، كي لا يقروا بأنهم قاموا بإصلاح فاشل، أوصلنا إلى ما نحن فيه اليوم. في هذا المستوى المطلوب من الإصلاح، الذي سيتيح تنفيذه انتقال سوريا إلى طور سياسي جديد سيغير مفردات كثيرة في واقعها الحالي، لكنه سينقذها كوطن، بما سيقيمه من توازنات ومراكز سياسية مختلفة عن تلك القائمة اليوم على صعيدي السلطة والمجتمع، وسيحدثه من تبدل في طرق تفكير وأبنية وأساليب إعادة إنتاج سلطة عفا عليها الزمن ولم تعد صالحة لأي شيء غير إنتاج وإدارة الأزمات، وسيعيد إنتاجه من أوضاع تبرز أولوية الدولة كممثل للمجتمع على السلطة كمعبر عن النظام، وتضع الأخيرة في خدمة الأولى، بعد تحويل حزب البعث إلى تنظيم سياسي حقيقي يستعيد حريته بانفكاكه عن سلطة أتبعته بأجهزتها واخترقته، ففقد كغيره من تنظيمات السياسة مكانه الحقيقي من المجتمع والدولة، اللذين صارا فرعين منه بدل أن يكون هو فرعا منهما، وإعادة إنتاج المجال السياسي والشأن العام انطلاقا من حاملهما الرئيس: المجتمع المدني، مجتمع المواطنين الأحرار والمنتجين، المواطنة والقانون والدولة المدنية والعدالة والمساواة، والوحدة العربية وتحرير فلسطين .

4- هذه التشوهات المضاعفة، قضت على السياسة بمعناها العربي القديم: بوصفها فن تدبير مصالح الناس، وحولتها إلى ساحة عنف شحن علاقات المجتمع والسلطة بسمات تضمر عوامل التنافي المتبادل، الذي تجسد في استقرار اخترقته توترات معادية للسلطة، كامنة وخطيرة الطابع وقابلة للانفجار، وفي ملاحقة حثيثة وآنية لكل من هب ودب من الخلق، حتى أنه ليصعب أن يجد المرء يوما في تاريخ سوريا بعد 8 آذار عام 1963 يخلو من اعتقالات ومطاردات، وفي أحيان كثيرة: من عنف. ولعله من الضروري هنا التذكير بما كتبه أحد رؤساء فروع الأمن عام 2001 عن حراك المجتمع المدني، حين قال إنه «يجعل من الصعب على أجهزة الأمن احتواء المجتمع «!. هل يصدق أحد أن هناك جهاز أمن يجعل هدفه احتواء المجتمع؟

قال الرئيس بشار الأسد في خطابه الأخير: لا خلاف على الإصلاح، والمسألة هي: أي إصلاح نريد. هذا وصف دقيق للواقع. ليس كل إصلاح هو الإصلاح المنشود. ويؤكد فشل إصلاح ما بعد عام 2000، الذي حرك الاقتصاد ليبقى الحقل السياسي حكرا على حزب واحد، ويغطي الأزمة الهيكلية للنظام، حاجتنا إلى إصلاح من نوع مختلف، يجتث جذور الأزمة العميقة، غير الظاهرة، ولكن التي تحتجزنا وتضعنا على مشارف مآزق بالغة الخطورة، تكبح قدراتنا وتعرقل تطورنا، فرضت علينا عقلية أنتجت خيارات أوصلتنا إلى حيث نحن اليوم: على مفترق طرق خطير، لا يعرف أحد إلى أين سيقود البلاد، يؤكد حجم الاحتقان الوطني أنه قد يدمرنا جميعا: مجتمعا وسلطة ودولة، إذا لم نسارع إلى إرساء وجودنا العام على أسس وركائز تنتج علاقات جديدة بين هذه الأطراف جميعها، تغير جديا بنية السلطة وطابعها، وتعيد للدولة اعتبارها، وللمجتمع مكانه ودوره فيهما، وتقطع مع ممارسات سممت حياة سوريا، تارة بالرغبة في تحقيق المستحيل: احتواء المجتمع. وطورا في التعيش على تناقضات مفتعلة أثارتها في صفوفه تحرضه بعضه ضد بعض.

فاتت فرصة الإصلاح الأولى على يد تجربة فاشلة أملاها تصور أراد الحفاظ على نظام لم ينجح أحد في الحفاظ على ما يماثله في أي مكان من العالم. وها هي الفرصة تلوح من جديد لإصلاح يصحح خطأ الأمس الجسيم، فلا بد أن تكون مرجعيته مختلفة عن مرجعية الإصلاح الأول، الذي ألزم نفسه بنظام ألغى الدولة والمجتمع، فكانت النتيجة الأزمة الحالية، المفزعة. ترى، إذا ضيع النظام من جديد هذه الفرصة، هل سيبقى في سوريا أي شيء للحوار والتعايش والسلام الأهلي والوحدة الوطنية؟

==================

سوريا: لا عودة إلى الوراء

علي حماده

النهار

10-4-2011

اشتعلت الأوضاع مجدداً في أرض الشام بدل أن تهدأ قليلاً إثر مباشرة النظام في سوريا في اتخاذ قرارات "اصلاحية" تأخرت كثيراً. وسال دم المواطنين الابرياء العزل في جمعة الصمود، وازدادت الامور تعقيداً مع تطور العامل المخابراتي المحلي ودخوله في لعبة الدم التوريطية، من اجل حرف انتفاضة الحرية والكرامة عن مسارها السلمي للانقضاض عليها.

سال دم كثير برصاص النظام. وكل الاعذار والروايات التي تحفل بها وسائل الاعلام الرسمية لن تقنع عاقلاً ان "المؤامرة" المزعومة هي التي تقتل الناس في شوارع درعا وحمص ودوما واللاذقية وغيرها من ميادين الحرية والكرامة في سوريا.

تأخر الاصلاح، وعندما قيل انه انطلق، تحرك النظام محاولا تفتيت جبهة المطالب بمد جزرة التجنيس الى السوريين الاكراد من جهة، وبمد جزرة السماح للمنقبات بالعودة الى المدارس الرسمية من جهة اخرى، وفي النهاية لم ترفع حال الطوارئ، ولم يحصل اي تغيير حقيقي في معادلة الامن المتدخل في الحياة العامة والخاصة الى درجة ان سوريا الاسد من الاب الى الابن بقيت دولة امن ولا شيء سوى الامن. قد ادى ذلك الى اهدار كل الفرص التي اتيحت للرئيس بشار الاسد لأكثر من احد عشر عاما من الحكم، توهم خلالها ان الدور في الاقليم يتقدم على وجع الداخل، وعندما طفح الكيل ثار الناس لحريتهم وكرامتهم.

ان قتل الناس في الساحات والشوارع لا ينقذ الانظمة الامنية، وخصوصاً عندما تكون الموجة معاكسة. فكل قطرة دم تراق في هذه المرحلة ثمنها باهظ، ولن تبتاع سوى القليل من الوقت قبل ان تتفاقم الامور الى حد لن يعود في امكان الاسد الابن ان يقدم اصلاحات، لأن الاصلاح الوحيد الذي سيصبح مطروحاً إذذاك على الطاولة سيكون اسقاط النظام برمته. ومن هنا، فإن الرئيس الاسد مطالَب بثورة على الذات لأن الدماء التي تسيل في سوريا منذ ثلاثة اسابيع تسجّل عليه وعلى محيطه الاقرب، ولا مهرب. ولا عودة الى الوراء ولو قتل رجال الأمن الآلاف من اقصى البلاد الى اقصاها.

لا عودة الى الوراء. وعلى الحاكم ان يدرك ان من ذاق طعم الحرية ولو ممزوجا بالدم في الاسابيع الثلاثة الاخيرة لن يعود عنها أياً يكن الثمن.

==================

طاهر المصري في دمشق والكلام الذي سيقال للأسد!

ماهر أبو طير

الدستور

10-4-2011

يغادر وفد سياسي يضم نواباً واعياناً برئاسة طاهر المصري رئيس مجلس الاعيان الى دمشق في زيارة رسمية، وذلك في بحر يومين.

تأتي زيارة الوفد السياسي الاردني،في وقت يتعرض فيه الشعب السوري الى محنة كبيرة،أدت الى قتل العشرات وجرح المئات،وامتدت من «درعا» الى مدن سورية اخرى.

لااحد يعرف ماهو السر وراء توقيت الزيارة،هذا على الرغم من ان عمّان تقول انها ضمن سلسلة الزيارات البرلمانية التي يقوم بها النواب والاعيان في الاردن،غير ان ذلك لاينفي حساسية التوقيت، وقابليته للتأويلات.

لايراد للاردن ان يبدو في صورة الذي يدعم جهة ضد جهة في سورية،او كأنه يصطف مع دمشق الرسمية ضد الشعب السوري،ولذلك لابد ان يحمل الوفد رسالة الشعب الاردني الى دمشق،وهي رسالة تقول الكثير.

بما أن الوفد يمثل الشعب الاردني،عبر النواب والاعيان،فإن المخاوف تتبدى من استثمار دمشق الرسمية للزيارة، وكأن الشعب الاردني يقبل مايجري في مدن سورية،او يتضامن مع عمليات قهر المتظاهرين او قمعهم او اسالة دمهم.

لااحد منا ايضاً مع تخريب سورية وخرابها،او تعريضها لاي فتنة كبرى،غير ان هناك «خيبة امل» في نفوس كثيرين من اسلوب الرئيس بشار الاسد مع الشعب السوري في الاحداث الاخيرة.

الدم السوري عزيز.خيبة الامل تتعلق بالرئيس بشار الاسد الذي راهن عليه كثيرون بأنه سيكون مختلفاً،وقد بدأ عهده بجملة تحسينات على محاور كثيرة،غير ان التراجع للاسوأ تبّدى في الاحداث الاخيرة.

للشعب الاردني علاقة خاصة مع سورية،فهي جارة مركزية،ودرعا «حورانية الهوى» والجغرافيا،وتخصنا بكل تأكيد،لان شقيقتها الرمثا هنا،ولا يمكن ان نقبل تحت اي تفسير هدر دم السوريين وترويعهم.

يأتيك من يقول ان هناك مؤامرة على سورية،وان سورية تدعم المقاومة ويراد هدمها من الداخل انتقاماً لخطها،واذا كان هذا الكلام صحيحاً،فالاولى اذاً ترتيب البيت السوري،وحل مشاكله،لا ذبح الابرياء،بذريعة وجود مؤامرة!.

يتحّسس السوريون الرسميون من كل كلمة نقد في الاعلام،لانهم يريدون الناس،اما معهم واما ضدهم،ولايقبلون،الاراء الوسطية التي ُتقر الصواب وتقف في وجه الخطأ،دون اجندات مسبقة.

الوفد السياسي الذي يذهب الى دمشق في هذا التوقيت،عليه ألا يتورط في اي موقف قد يحسبه احد موجهاً ضد الشعب السوري، لصالح الاصطفاف مع المؤسسة الرسمية السورية،وان يكون معتدلا في طروحاته.

رسالة الاردنيين لبشار الاسد،التي على الوفد ان يحملها،وابلاغها للرئيس ان قابلوه او لغيره من مسؤولين، ان بالامكان اغلاق الباب في وجه اي مؤامرات يتحدثون عنها،وفي وجه اي اضطرابات،بالاستماع الى الناس،بدلا من الحل الامني الذي بات كارثياً.

امضت معظم الانظمة العربية عمرها وهي تدوس على شعوبها،تارة باسم تحرير فلسطين،وتارة باسم المؤامرة،وتارة باسم القمع المشهر،وتارة باسم الدين، وتارة باسم الوطن،وتارة باسم القومية، فدفعت الشعوب ثمناً مريعاً مقابل لاشيء.

شخصياً كنت أظن كغيري ان الرئيس الاسد اكثر ذكاء وألمع بصيرة، من هكذا حلول سطحية، مراهناً على قدرته وسماته بأن يعيد انتاج الداخل السوري،لان الاقوياء حقاً ينحازون الى شعوبهم، دون ان يبدو ذلك ضعفاً او تنازلا.

ان كانت هناك اطراف دولية واقليمية وعربية تريد تصفية الحسابات مع سورية الرسمية لاسباب كثيرة، فعلى دمشق ألا تنجر نحو الهاوية بهكذا ادارة دموية للداخل،وان تتوصل الى تسوية داخلية، تسد الباب في وجه تلك الاطراف.

..وليتذكر الوفد ان الشعبين الاردني والسوري يرقبان بذاكرة لاتنسى،ماسيقوله الوفد وماسيفعله!!.

=================

تركيا.. دور جديد وعلاقات جديدة

ابراهيم العبسي

Ibrahim.absi@yahoo.com

الرأي الاردنية

10-4-2011

لا حدود للغضب الاميركي على تركيا، سواء اكان هذا الغضب معلنا وصريحا احيانا، او مغلفا بالخبث والدهاء والديبلوماسية المراوغة احيانا اخرى. فمنذ صعود حزب العالة والتقدم الذي يتزعمه رجب طيب اردوغان الى سدة الحكم في انقرة وتراجع نفوذ المؤسسة العسكرية التركية تحت ضغط الشارع التركي، بدات صورة تركيا الجديدة تتبلور، اذ اندفعت انقرة بقيادة هذا الحزب الذي يمتلك قاعدة شعبية عريضة، لانتهاج مسار سياسي مستقل تماما، اّخذا بعين الاعتبار المصالح الوطنية العليا لتركيا وشعبها. تلك المصالح التي اقتضت منها ان تنأى بنفسها عن تحالفاتها السابقة خصوصا مع الولايات المتحدة واسرائيل، وتتجه نحو جذورها التاريخية والثقافية في المنطقة لتعود للعب دورها الذي يليق بها في محيطها العربي والاسلامي. فبعد ان كانت تقوم بدور التابع والمنفذ للسياسات الاميركية والغربية في المنطقة، اشتقت لنفسها دورا جديدا جوهره مناصرة القضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني، والدعم القوي للمواقف العربية التحررية، الامر الذي اثار حفيظة الولايات المتحدة واسرائيل اللتين حاولتا بكل السبل اثناءها عن هذا الدور ودفع المؤسسة العسكرية التركية لمعارضته والوقوف في مواجهته واعادة ربط تركيا بالاحلاف الاستعمارية المعادية لمحيطها العربي الاسلامي، ولكن الشعب التركي خرج ليرفض عودة هذه المؤسسة للتحكم بمصيره، بل ولانهاء دورها السياسي تماما في تركيا، وتأييد اردوغان وحزبه في انتهاج الدور التحرري المستقل والسيادي لتركيا الجديدة بقيادة حزب العدالة والتقدم الذي رفع صوت ومكانة تركيا عاليا في الساحة الدولية والاقليمية العربية والاسلامية بعد تغييبها وتهميشها زمنا طويلا والحاقها بالجبهة الامبريالية الصهيونية المعادية للقضايا العربية والاسلامية. لذلك يمكن القول ان صعود حزب العدالة والتقدم الى السلطة مدعوما بتأييد شعبي كاسح قد انتشل تركيا من القبضة الامبريالية الصهيونية، وانهى عهدا تركيا قديما تابعا، لتبدأ عهدا جديدا تماما، قوامه استقلالية القرار التركي في رسم العلاقات مع المجتمع الدولي والعالم. من هنا نجد ان صوت تركيا الذي لم نكن نسمعه الا منحازا ومؤيدا للسياسات الاميركية، اصبح صوتا مستقلا وحرا ومناهضا لسياسات واشنطن وتل ابيب خصوصا فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية والقضايا العربية التحررية ، كما اصبح هذا الصوت حاضرا بقوة في السياسة الدولية، يحسب له كثيرا. وما اضاف لتركيا دافعا قويا لان تعاود اكتشاف نفسها وفك ارتباطاتها بالمشاريع الاستعمارية المعادية للشعوب خصوصا الشعب الفلسطيني والامة العربية والاسلامية هو رفض انضمامها للنادي الاوروبي – الاتحاد الاوروبي _ كونها بلدا اسلاميا، مع انها عضو في حلف الناتو العسكري الذي يريد منها تنفيذ سياساته دون ان يسمح لها بالدخول في عضوية النادي الاوروبي، الامر الذي دفعها في نهاية المطاف لان تشق طريقها بنفسها وتنفتح على محيطها العربي الاسلامي وتبني علاقات سياسية واقتصادية قوية مع هذا المحيط ، وكذلك علاقات استراتيجية مع بعض دول هذا المحيط الامر الذي انعكس عليها اقتصاديا بمكاسب هائلة. ومن المنتظر ان يتعاظم دور تركيا في ترسيخ علاقاتها بالدول العربية ومساعدة هذه الدول على النهوض والتقدم،اضافة الى تعاظم دورها في مساندة ودعم القضية الفلسطينية التي يؤازرها الشعب التركي بقوة كبيرة.

تركيا الجديدة اذن لم تعد اداة منفذه وتابعة للامبرياليين والصهاينة، بل دولة ذات استقلالية في قراراتها مما اكسبها احتراما ومهابة في المجتمع الدولي، خصوصا وانها دولة قوية عسكريا لا تسمح لاية جهة بالتدخل في شؤونها.

===================

إيران الجارة والشقيقة المسلمة هل تغيّر مسارها؟

نصوح المجالي

الرأي الاردنية

10-4-2011

منذ الايام الاولى للثورة الايرانية بدأ الخميني الذي قضى قرابة عقد ونصف ضيفاً ولاجئاً في العراق قبل الثورة, برد الجميل بتحريك وتعبئة القوى الموالية لايران, سواء في صفوف الايرانيين المتجنسين في العراق, اوالعرب الشيعة, تمهيداً لتصدير الثورة وزعزعة الاوضاع في العراق, وقد شهدت مرحلة ما قبل الحرب العراقية الايرانية مناوشات واعتداءات حدودية وتفجيرات داخلية انتهت الى حرب طاحنة دامت ثماني سنوات وخسائر بشرية من الطرفين, زادت عن مليوني قتيل وجريح من الطرفين.

وكانت تلك الحرب مقدمة لجميع الويلات والعثرات السياسية والحصار والحروب التي شنت بعدها على العراق وصولاً الى غزو العراق الذي تعاطفت معه ايران وادى الى الحاقه عملياً بالنفوذ الايرانية.

فالنوايا الايرانية منذ البداية لم تكن سليمة تجاه الجوار العربي, الاستثناء الوحيد كانت العلاقة مع سوريا, التي رأت فيها ايران معبراً مهماً لاحكام السيطرة على لبنان, من خلال تعبئة شيعة لبنان وساحة مهمة للعب دور سياسي متقدم تحت عنوان مناصرة قضية فلسطين والدفاع عن القدس ومناهضة الاحتلال.

وقد قدم التحالف الايراني مع سوريا لايران المشروعية المطلوبة لمثل هذا الدور الذي تطور الى تأسيس قاعدة مسلحة موالية لايران في لبنان وميليشيات عسكرية اصبحت احدى الواجهات العسكرية النشطة في المنطقة والمقلقة لاسرائيل ودول الغرب والدول العربية.

ومنذ ذلك الحين تصاعدت عمليات التسلل السياسي والاستخباري الايراني وعمليات استعراض القوة في مياه الخليج وتجنيد الخلايا والانصار على امتداد الساحة الخليجية, فضلاً عن دعم وتمويل عمليات التشيّع على امتداد الساحة العربية.

وتحت عنوان مقاومة دول الاستعمار الغربي ادرجت ايران دول الاعتدال العربي تحت عنوان اعوان الغرب ومناهضي الثورة الايرانية.

ولم تخف ايران اطماعها في العراق ولا أطماعها في جزر موسى الاماراتية ولا اطماعها في البحرين ولم تؤد الثورة الايرانية الى أي تغيير في التعامل الدوني الذي طالما مارسته ايران تجاه الملايين من السنة الذين يعيشون تحت ولاية ايران في منطقة عربستان, وفاقم الامر المشروع النووي الايراني والسعي للتسلح النووي, مما اثار المخاوف ليس فقط في دول مجلس التعاون العربي وانما في كافة الدول العربية.

والحقيقة أن ايران تمارس سياسة دينية طائفية بنزعة فارسية, وتسعى لالحاق الساحات العربية تدريجياً تحت رواق السياسة الايرانية الباحثة عن دور اقليمي يجعل من طهران بوابة القرار والربط والحل, أو الممانعة والموافقة في كل شأن من شؤون الشرق الاوسط, أو النزاعات والصراعات والمصالح الحيوية المتنازع عليها في الساحة العربية.

لم تنجح لغة الحوار بين العرب وايران ولم يجد العرب وسيلة لتحييد العامل الطائفي الطاغي في السياسة الايرانية، ولم تأبه ايران للتعاون المثمر والبناء مع النظام العربي باستثناء سوريا.

وتأتي مسألة دعم الحوثيين الانفصاليين في اليمن وتثوير الطائفة الشيعية في البحرين والتجسس على الكويت وتعطيل الحلول في لبنان كدلالات بارزة على خيارات ايران ونهجها السياسي المقلق لدول الخليج ومعظم الدول العربية.

لقد ابدت دول الخليج في اعلان صريح وغير مسبوق قلقها الشديد لتجاهل ايران لليد الخليجية الممدودة بالصداقة والرغبة في التعاون مع الجارة والشقيقة ايران ودفع المنطقة الى الصراع والاستقطاب الطائفي على خلفية ما جرى في اليمن والبحرين والكويت.

وبالامس ندد سعد الحريري بما اسماه السياسة الايرانية الرامية لخطف المجتمعات العربية من خلال اختراق نسيجها الداخلي معتبرا ما حدث في لبنان تهديدا لوحدته وسيادته وامنه الوطني، مشيرا ومنبها الى خطورة سياسة الخطف المتدرج والمتعمد والمسيس للمجتمعات العربية لصالح ايران مما يهدد الهوية العربية ويدفع بالعامل القومي الفارسي كشريك للعرب في عقر دارهم وساحاتهم تحت عباءة الدور الاسلامي ونصرة القضايا الاسلامية، فالاعتداء على الهوية العربية والدور العربي والتمدد على حسابهما في الحالتين الاسرائيلية والايرانية رغم تناقض الدورين وطروحاتهما يعيدنا الى استذكار الوضع الذي كان فيه العرب عندما بزغ نجم الاسلام يوم كانت الساحة العربية ساحة للصراع والنفوذ بين قوى غربية تمثلها بيزنطة وقوى شرقية تمثلها فارس، مع اختلاف الادعاءات والايديولوجيات اليوم، لكن الساحة العربية هي التي تدفع الثمن عبر احتلال اطرافها ومصادرة دورها وهويتها والحاقها بنفوذ خارجي قادم من الغرب تارة او وافد من الشرق تارة اخرى، وتشابه الاوضاع يعيد ملامح الصورة التاريخية القديمة والاطماع التي لا تخفيها الايديولوجيات ولا السياسات الفعلية.

فتحديات الجوار تبقى احد الهموم الكبرى التي تقلق النظام العربي الضعيف فايران المسلمة نريدها عونا لنا على اعدائنا والمحتلين لبلادنا وليس عامل تفكيك واختراق في ساحاتنا الداخلية وتهديدا لنا، ولا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما في انفسهم، فهل تتغير ايران وتنأى بسياساتها عما يقلق جوارها العربي، ام تستمر في قرض جوارها العربي واختراقه والحاقه باهدافها كما تفعل الان.

==================

تحية حارة إلى زين العابدين بن علي وحسني مبارك

د. فيصل القاسم

الأحد, 10 نيسان 2011

السبيل

سيادة الرئيس الهارب زين العابدين بن علي، سيادة الرئيس المخلوع حسني مبارك. أعتذر منكما أولاً على مخاطبتكما بلقبي "الهارب" و"المخلوع"، فهذان اللقبان، على علاتهما، يبقيان معقولين مقارنة بالألقاب التي سيغدقها التاريخ على البقية الذين سيلحقون بكما قريباً إنشاء الله.

لا يسعنا يا سيادتي الرئيسين إلا أن نقف لكما إجلالاً وإكباراً على الطريقة التي هربتما وخلعتما بها، فمن نكد الدنيا على العرب أنهم أصبحوا مضطرين للمفاضلة بين من هو سيئ جداً من أمثالكما، ومن هو سيء جداً جداً جداً من أمثال الذين تريدهم شعوبهم أن يرحلوا، وهم يصرون على البقاء حتى لو أبادوا الملايين من مواطنيهم، وحوّلوا بلادهم عصفاً مأكولاً.

قد يبدو الأمر نكتة سمجة أن نقارن بين السيئ جداً والأسوأ منه بقناطير في عالمنا العربي، لكن، لا حول ولا قوة إلا بالله، فنحن غدونا مضطرين لأن نتبارك بحضرتي مبارك وزين العابدين، لا لشيء إلا لأنهما تركا الحكم بأقل قدر ممكن من الدماء.

يا الله كم كان هروب زين العابدين سلساً وطيباً. لقد قاوم الرجل لأربعة أسابيع تقريباً في مواجهة المنتفضين التونسيين، لكنه سرعان ما عبر عن تفهمه الكامل لكل شرائح شعبه قائلاً بلهجته التونسية "أنا فهمتكم.. فهمت الجميع: البطال والمحتاج والسياسي واللي طالب مزيد من الحريات، فهمتكم، فهمتكم الكل". ولم يكتف الرجل باعترافه بتفهم متطلبات شعبه كاملة، بل شعر بتأنيب ضمير عالي التوتر بعد ذلك بأيام قليلة، ففر هارباً من البلاد بعد أن وجد أنه لم يعد مرغوباً به أبداً من قبل الشعب التونسي الثائر. والشكر موصول هنا للجيش التونسي العظيم الذي نصح بن علي بأن الخروج من البلاد هو الحل الأمثل، لأن الجيش ليس مستعداً لإطلاق رصاصة واحدة على الشعب التونسي. وعندها هرع الرئيس إلى المطار بمساعدة شركة أمن إيطالية استأجرها بعد يوم من استيلائه على السلطة قبل ثلاثة وعشرين عاماً كي تهربه خارج البلاد في حال حدوث ثورة أو انقلاب عليه.

صحيح أن جماعة بن علي حاولوا القيام ببعض أعمال التخريب بعد رحيله بمساعدة زعران القذافي ومرتزقته، لكن الشعب التونسي وضع حداً سريعاً لحالة الفوضى لتعود البلاد إلى طبيعتها خلال أيام قليلة بأقل قدر من التخريب وسفك الدماء. والأجمل من ذلك، أن عملية الإصلاح بدأت بوتيرة عالية، وقطعت شوطاً كبيراً لتتحول تونس إلى مثل عربي رائع في التحول الديموقراطي الحقيقي.

صحيح أن الرئيس المصري المخلوع حسني مبارك أحرق أعصاب المصريين والشعب العربي عموماً بخطاباته التي كان يصر فيها على التمسك بالسلطة رغماً عن صيحات ملايين المحتجين في ميدان التحرير وغيره من المناطق المصرية، إلا أن الرجل، وبعد أن رفض الجيش المصري بدوره، أن يتحول إلى عصابة قتل تحت إمرة الرئيس، قرر مبارك التنحي. وصحيح أيضاً أن بلطجية الرئيس وحزبه عاثوا خراباً ودماراً في مصر أثناء الثورة، وصحيح أن المئات من المصريين قضوا نحبهم في خضم الاحتجاجات على أيدي أجهزة الأمن وبلطجيتها، إلا أن الأمر لم يطل كثيراً حتى بدأت الأوضاع تستقر شيئاً فشيئاً بأقل الخسائر. إنه شيء طيب للغاية أن لا يسقط من المصريين سوى بضعة مئات من الشهداء إذا ما قسنا الضحايا على عدد الشعب المصري الهائل. وها هي مصر العظيمة بعد مبارك تتحول إلى دولة ديموقراطية حديثة بسرعة البرق.

يا الله كم أنتما رائعان يا زين العابدين ومبارك مقارنة بالقذافي مثلاً، فبدلاً من أن يستمع هذا الطاغية إلى أصوات شعبه الثائر، راح يصف الثوار بالمهلوسين والجرذان والحشرات، وتوعد بملاحقتهم وسحقهم في كل زنقة فرداً فرداً. ولما وجد أن جيشه غير قادر تماماً على القيام بتلك المهمة القذرة، بدأ يستعين بألوف المرتزقة والمجرمين من أفريقيا كي يساعدوه على سحق شعبه والتنكيل به. لقد حاول الشعب الليبي أن يتشبه بالشعبين التونسي والمصري بأن تكون انتفاضته سلمية تماماً، لكن القذافي أبا إلا أن يحولها إلى انتفاضة عسكرية، فوجد الشعب الليبي نفسه مضطراً لحمل السلاح لمواجهة ذلك المجنون. وقد كانت النتيجة ألوفاً من القتلى والجرحى ودماراً رهيباً للمدن والقرى الليبية التي دفع عليها الشعب الليبي مليارات الدولارات كي يبنيها. لقد حوّل القذافي بلده إلى اثر بعد عين بترسانته العسكرية الرهيبة كي يبقى جاثماً على صدور الليبيين هو وعائلته. وليت الأمر بقي في إطار الدمار والخراب، بل ها هي ليبيا وقد أصبحت تحت انتداب عسكري دولي بسبب تعنت القذافي ومغامراته الطائشة، ويمكن أن تتفتت إلى دويلات. تصوروا أن ذلك النيرون توعد بتحويل بلاده إلى جهنم إذا لم يبق في السلطة، على مبدأ: أنا أو الدمار.

وها هو علي عبد الله صالح يسير على خطا صديقه اللدود القذافي، فبالرغم من أن الثورة اليمنية استنزفت البلاد مالاً وعتاداً ودماً واقتصاداً، إلا أن صالح ما زال يتمسك بزمام السلطة بأسنانه. وبدل أن ينفق على شعبه المنكوب راح ينفق الميزانية على تسيير مسيرات مؤيدة له، إذا أفادت التقارير بأنه كان يدفع ملايين الدولارات يومياً من أجل دفع الناس للخروج في مظاهرات تأييداً له. لا شك أن صالح حاول أن يورط شعبه في حرب أهلية كما فعل القذافي، لكن الشعب اليمني العظيم كان يترك أسلحته في المنازل ثم يخرج إلى المظاهرات كي تكون ثورته سلمية تماماً كما في تونس ومصر، وبذلك قطع الطريق على محاولات الرئيس طالح الزج بالبلاد في أتون حرب تأتي على الأخضر واليابس كي تمكنه من البقاء في السلطة.

ويبدو أن الكثيرين يفضلون الطريقة القذافية في التعامل مع الثورات الشعبية، فبدل أن يستجيبوا لمطالب الجماهير العادلة بالحرية والكرامة والعيش الكريم، فإنهم يخططون لإشعال البلاد ناراً ودماراً وخراباً انتقاماً من الشعوب التي ثارت على طغيانهم وفسادهم. فها هي جيوشهم وكلاب صيدهم التي استنزفت ثروات البلاد، ها هي وقد بدأت تتحضر لمواجهة كسر عظم مع الشعوب بكل أنواع الأسلحة. لا بل إن البعض مستعد لأن يحرق البلاد، ويقسمها إلى دويلات طائفية وقبلية وعشائرية من أجل البقاء في السلطة أو الثأر من شعبه الثائر. بعبارة أخرى هناك من هو جاهز للبقاء في الحكم على جبال من جماجم شعبه مردداً مقولة القذافي: "أنا أو جهنم"

لا أدري لماذا لا يحذو البقية حذو تونس ومصر، أم إن قدر شعوبهم أن تجرب كل شيء على جلودها.

ألم يكن أفضل للقذافي ومن يسير في ركبه ألف مرة أن يخرج من ليبيا كما فعل مبارك وزين العابدين؟ ألم يكن أحرى بالرئيس اليمني طالح أن يتنازل لشعبه الثائر؟ أليس من الأفضل بالنسبة للبقية أن يتقاسموا السلطة مع شعوبهم بدل حرق بلادهم انتقاماً وصلفاً؟ إن من يلجأ إلى الثأر والانتقام يجب أن يحفر قبرين أحدهما له وآخر لخصمه، كما يقول اليابانيون، فما بالك إذا كان ذلك الخصم الشعب بأكمله.

قد تطول وحشية القذافي وطالح وكل من لف لفهما بحق شعوبهم، لكن الشعوب ستنتصر في نهاية المطاف في القريب العاجل. وحتى لو لم تنتصر تماماً فإنها وضعت أساساً متيناً لثوراتها اللاحقة، خاصة وأنها تخلصت من أخطر قيودها ألا وهو الخوف، فأصبحت في غاية الشجاعة. وكما يقول أحد الفلاسفة فإن الشجاعة أعظم الفضائل، لأنه من دونها لا يمكن للمرء أن يستغل الفضائل الأخرى.

طوبى للشعوب الباسلة، مرحى لزين العابدين بن علي وحسني مبارك، تحية إجلال للجيوش وأجهزة الأمن العربية التي انحازت لشعوبها، ورفضت أن تكون رأس حربة في أيدي الطغاة، وسحقاً للذين يريدون أن يحرقوا أوطانهم من أجل البقاء في السلطة. نيرون مات ولم تمت روما بعينيها تقاتل.

==================

من هو المؤمن ومن هو الملحد حقاً؟

خالص جلبي

إيلاف 30/3/2011

المعركة الآن مستعرة في سوريا بين طاغوت وجبت من جهة، الطاغوت من يخضع الأمة بقوة السلاح للنظام السياسي، والجبت رجل الدين بعمة وطربوش ولفة وديكور بألوان شتى وغرابيب سود، وبزعم أن ما يجرى في الدم كريات حمر مختومة بختم النبوة.

وشباب ثورة بوعي يقدح بزناده ظلمات البعث..

وعلى الثورة أن تعرف صديقها من عدوها، وعليها أن تدرك أن المعركة هي متعددة الجوانب، جانب يقوده سجاح ومسيلمة كما فعل من قبل أحمد سعيد والصحاف لربهما المصدوم والمهزوم، يساند ذلك فتوى تقول أن المظاهرات لم يعرفها الصحابة والنبي ص وليس فيها آية وحديث، وأن المظاهرات حرام لأنها ممنوعة، وأنها ممنوعة لأنها حرام.

وبجانب ذلك قتلة ماهرة في ضرب الرأس إلى الناصية والجمجمة كما فعلوا منذ نصف قرن وما يزالون.

سؤال ما زال يلح علي بدون أن أعثر على إجابة؟

كيف يمكن رؤية هذا التناقض بين رياض الترك (الشيوعي) الذي نام في زنزانة انفرادية سبع عشرة عاماً من أجل أفكاره في الحرية، ويعتبر حسب لوغاريتم رجال الدين هرطيقا، وواعظ السلطان الذي أقسم أن ابن الطاغية الذي مات يطير في الجنة بجناحين؟

لقد كانت الكنيسة يوما تبيع تذاكر لدخول الجنة، وتعالج السعال الديكي بلبن الحمير، وتحرق الساحرات والكتب والقطط في الساحات العامة؟

وفي آشور كان الكهنة يتقنون الكتابة، ولكنها كانت حرفة للتضليل أكثر من بث الوعي.

واليوم يجتمع ثلاثي من (الكهنوت) و(الجبت) و(الطاغوت) في تجهيل المواطن العربي بالكتابة والفضائيات.

واجتماع ثلاثة لا يعني ثلاثة بل أكثر من ثلاثة. وكل له سلاحه الخاص. فال (الكهنوت) يغتال العقل بالوهم، و(الجبت) يغيب الوعي تحت غبار الكلمات، و(الطاغوت) يستعبد الناس بالقوة.

وهكذا يؤكل المواطن بالطول والعرض، فلا يبق منه مواطنا، بل مسكينا ويتيما وأسيرا، في سجن كبير اسمه الوطن.

(الكهنوت) هم وعاظ السلاطين ورجال الدين حيث لا رجال دين في الدين. ومفتي الجمهورية لا يختلف عن كهنة آمون في شيء سوى الاسم؟

أما (الجبت) فهم مثقفو السلطة المتأهبين لطلي مساحيق التجميل لوحش قاضم قارض، وتقديمه للجماهير أنه ملكة جمال العالم.

أما (الطاغوت) فهم رجال المخابرات والجندرما والحرس الجمهوري المسلحون حتى الأظفار والأنياب الجاهزون للقتل تحت إمرة فرعون. وكلاً من (الكهنوت) والكاهن، والجبت والمثقف، والطاغوت والمخابرات متفاهمون متعاونون.

وفي التاريخ كان فرعون وسيد الكهنة يخرجان على جمهور مخدر؛ فيوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا، أن فرعون من نسل الإله فتخر له الجباه ساجدين.

وفي البيان الذي أصدره الشيوعيون في مطلع القرن الفائت، تم التعبير بشكل فاضح، عن حقائق مغيبة، على شكل طبقات، تمنيت أن أرسل رسمه للإطلاع، فكل له وظيفته في سيمفونية التعذيب:

 السلطة تحكم بالسيف والسلسال والساطور. وهي في قمة الهرم.. على شكل ملائكي بملابس ملكية جدا وعطور مخملية..

 ووعاظ السلاطين يحللون الظلم بنصوص نزلت ضد الظلم، بلحى وقلانس وطرابيش وعمامات مختلفا ألوانها بيض وجدد حمر وغرابيب سود؟

 ومثقفو السلطة يخدرون الوعي، مقابل ثمن يقبضونه ومراكز يمنحونها. فمنهم وزير للسخافة والإفساد القومي ومنهم للتضليل الاشتراكي وآخر من شكله أزواج لا مرحبا بهم. إنهم صالوا النار.

 وعساكر وضباط وجندرما ومخابرات، مسلحون بالطبنجة والغدارة والخنجر والعصارة، مدربون على القتل والاغتيال، والتعذيب لدرجة القتل، من ملة الحجاج، يقتلون محافظة على النوم العام. في فروع تسع عشرة جهنمية من مخابرات جوية وبحرية وتحت أرضية وفضائية. لاشيء يعمل في البلد غير جهازهم، يسبقون دقة ناسا وإحصائيات الترند، يحصون دبيب كل نملة وطنين كل نحلة، ولاتاخذهم سنة ولا نوم..

 وفي أسفل الطبقات عمال وفلاحون يطعمون كل الطبقات الملكية على ظهورهم طبقا عن طبق.

(واعظ السلطان) يصدر الفتوى على المقياس، حسبما أصدرها رجال الحزب والزعيم الملهم.

وعلى المواطن دخول عصر المعلومات من ثقب أمني يتسع لدماغ قملة ودبيب نملة.

ومن يكتب يجب أن يقول قولا لا يوقظ نائما ولا يزعج مستيقظا.

ومن عاش في ظل النظام العربي؛ فيجب أن يفتح كتاب النبات فيحفظ (وظائف النبات) جيدا فهذا أسلم للعاقبة؛ فالنبات يتنفس ويتكاثر، ويمكن للمواطن العربي أن يتنفس وينجب أولادا للعبودية.

وفي عصر السلطان العثماني عبد الحميد كان من حرك العوام ضد جمال الدين الأفغاني (أبو الهدى الصيادي) مفتي الديار العثمانية.

وفي عهد نابليون الثالث فتح سجن في غوايانا الفرنسية أخذ اسم جزيرة الشيطان، وبقي السجن يعمل بكامل الطاقة، بعد أن مات نابليون الثالث بدهر فهذه هي مهزلة التاريخ، أن من يفتح ملفات الشيطان لا تغلق بعد موته.

وإذا دخلت الديكتاتورية بلدا فمات الديكتاتور فابنه جاهز وحفيده من بعده أجهز؟

 وأما (مثقف السلطة) فهو يؤكد أن الاعتقالات مؤشر صحة للأمة كما صرح بذلك الرفيق، لأنه دليل المقاومة؛ فلولا العافية في الأمة والاعتراض لما كان هناك سجون واعتقالات؟

وهذا يفيد أن كندا عقيمة سياسيا، لأنه لا يوجد سجون ومعتقلو رأي.

وهذا المثل يذكر بنكتة المجنون الذي سئل عن الجسر لماذا صنع فأجاب: من أجل أن يمر النهر من تحته؟

ومناقشة مثقفو السلطة عقيمة، ويذكر بالحوار الذي جرى بين المجرم الصربي (رادوفان كاراديتش) ومراسل مجلة (الشبيجل) الألمانية فعندما سألوه عن اغتصاب خمسين ألف امرأة على يد الصرب قال: من فعلها هم المسلمون؟

قالوا: فما بال القبور الجماعية؟

قال: هي جثث الصرب؟

وهو يعرف أن الجثث لا تتكلم؟

وفي معركة صفين ارتج معسكر معاوية بخبر مقتل عمار لوجود حديث يفيد أن عمار تقتله الفئة الباغية؛ فأنهى معاوية الجدل بسرعة، وقال: من قتله هو من أخرجه للقتل؟

ورياض الترك الذي خرج من مدفنه بعد دفن الطاغية، يرى أن النظام الشمولي الذي اشرف على بنائه مجرمون محترفون؛ "نظام غير قابل للإصلاح"؟!. وأن ما يحكم النظام الشمولي "توازن الضعف" فالحكومة ضعيفة عاجزة. والمعارضة مفككة. وكل تغيير وزاري هو (تقليع) موظف انتفخت جيوبه بالرشوة، إلى موظف جديد فارغ الجيب.

وأن النظام الشمولي ظاهره الرحمة وباطنه العذاب. فهو يلعن أمريكا جهرا بقدر ما يتعاون معها سرا...

والشعب ينتظر الخلاص بالدعاء واللعنات، مثل من يريد إطفاء حريق بانتظار سحابة صيف عابرة..

والمهم أن تبقى العصابة في الحكم بأي ثمن ولأطول فترة.

خرج جحا يوما على الناس بالسواد قالوا له خيرا من مات؟

قال: البارحة مات والد ابني تقبل الله عزاءكم؟

=================

المثقفون والثورات العربية

الأحد, 10 أبريل 2011

خالد الحروب *

الحياة

بين حدّي إضفاء هالة البطولة أو إلصاق تهم التخوين بهم من قبل الناس تتيه مجموعات المثقفين في كل حالة ثورية. البعض يعتبرهم أبطالاً أو شبه أنبياء يجترحون الخوارق. والبعض يخلع عليهم صفات المعرفة والسلطة الثقافية التي تمتلك شرعية توجيه المجتمعات والناس الغارقين في تساؤلات الحيرة والباحثين عن أجوبة وعمّن يأخذ بأيديهم نحو «الخلاص» المعرفي. استنزفت موضوعة المثقفين وتعريفهم، ودورهم أو أدوارهم، البحث والسجال والكتب الكثيرة. وربما لم تتبقّ فكرة في سياق استكناه ما يرتبط بهم من دون أن تتقلب على أوجهها كلها. مع ذلك لا تخفّ جاذبية الموضوع التي سرعان ما تعاود تلميع ذاتها كلما حلّ ظرف جديد استدعى إعادة النظر في النقاشات السابقة وقراءة المثقف وتموضعه في ظل ما استجد من ظروف لا سيما إن كانت جذرية.

الثورات العربية تعيد اليوم مسألة دور المثقف العربي في التغيير السياسي والاجتماعي والثقافي الذي يفرض نفسه على المنطقة وشعوبها. وجوانب التجديد التي يطرحها نقاش «المثقفين والثورة» بصورته التي تتشكل راهناً كثيرة ومختلفة عن جوانب النقاش في حقب سابقة. في نقاشات أدوار المثقف العربي والتعريف به (الطاهر لبيب، برهان غليون، غالي شكري، جورج طرابيشي، نديم البيطار، عابد الجابري، عبد الإله بلقزيز، وعشرات آخرون) احتل المثقف العضوي الغرامشي وتنويعاته المختلفة قلب المشهد الجدلي. المقاربات العربية والعالمثالثية لهذا المثقف اندفع الكثير منها من منطلقات أيديولوجية همها الأساس تغيير الوضع القائم، البائس داخلياً في المجمل، والتابع خارجياً لقوى هيمنة إمبريالية في الغالب الأعم. نُظر إلى المثقف بكونه الطليعي حامل الشعلة التي تكشف المسار ل «الجماهير»، وبكونه الأعمق ثقافة ودراية بالمآلات الكبرى للمجتمعات والمصالح الأنانية لنخبها الحاكمة. المثقف هو قلب العملية التنويرية والتعريفية بالاختلالات البنيوية التي تحتاج إلى معرفته العميقة وذكائه ثم شجاعته لكشفها وفضحها وحشد الجماهير ضدها وضد المنتفعين بها.

المثقف العضوي منتمٍ إلى مجتمعه وطبقته بلا تردد، ومدافع لا يهدأ عن مصالحها، وأحياناً كثيرة يقوده ذلك الدفاع إلى العماء عن عيوبها وفشلها الداخلي، لكنه يبرر ذلك بتقديم التناقض الرئيسي على التناقضات الثانوية، تاركاً العفن يأكل في عمق التكوين الإنساني والجماعي والفردي للمجتمعات. الثورات العربية قدمت نوعين آخرين من الفاعلين الثوريين: الشباب والإعلام الاجتماعي. كل من هؤلاء الفاعلين مندفع للتغيير وفضح الفساد وكشف ما يُراد له أن يظل بعيداً من عيون الناس، لكن في الوقت ذاته غير منخرط في مشروع أيديولوجي محدد القسمات. بهذا المعنى فقد دفعت الثورات العربية الناجحة وغير الناجحة، وفي ذرى فوراناتها، جدل السياسة والأيديولوجيا إلى أمدية صحية كبيرة، مقدمة تسيّس الشرائح الشبابية ووسائل إعلامها على أيديولوجيا المثقفين العضويين والشرائح الحزبية المؤدلجة والموغلة في الماضي، عمرياً وعقلياً. الشباب والإعلام الاجتماعي والفضائي (بحسب البلد المعني الذي تحدث فيه الثورة!). ولم نعد أمام الصورة الكلاسيكية للمثقف الذي يظنه الناس ممتلكاً الحقيقة حتى ولو كرر إعلاناته بخلاف ذلك، ولم يعد هذا المثقف المصدر الأساسي للمعرفة أو المعلومة أو منطلق التحريض والتعبئة. الشرائح الشبابية والإعلام المعولم احتلت هذه المكان باقتدار. كل ما صار يتمناه مثقف اليوم الغرامشي والعضوي أن تتاح له دقائق عدة على شاشات هذه الفضائية أو تلك كي يخاطب «الجماهير».

الأمر الجديد الآخر الذي يجلبه النقاش المتجدد حول المثقفين والثورة هو تعريف المثقف. وهنا نحن نواجه اليوم ميوعة مذهلة في تعريف مفهوم المثقف سببها الإعلام الفضائي على وجه التحديد والذي أنتج لنا المثقف الشعبوي (أو المثقف المهرج). كان تعريف المثقف يواجه دوماً صعوبات جمة ولم يكن من السهل «هندسة» قائمة من المؤهلات أو الإنجازات يتأتى لحاملها الاتصاف بصفة مثقف أو حرمانه منه (هذا فضلاً عن صعوبة الإجابة على سؤال من يمنح من؟). لكن على رغم تلك الصعوبات كان ثمة توافق أو افتراض ضمني على اشتراط قدرة معرفية متميزة، ليس بالضرورة خارقة أو إبداعية، لكنها تؤهل صاحبها أو صاحبتها للخوض في الشؤون العامة وتشخيصها والتجرؤ على اقتراح أفكار لمواجهة المآزق. اليوم ارتبك هذا التوافق أو الافتراض الضمني مع بروز المثقف الشعبوي الذي يستند على رافعة الإعلام المتلفز في شكل أساسي. شروط المثقف الشعبوي ليست سهلة أيضاً، لكنها لا تتضمن عمق المعرفة والثقافة الرصينة. ما تتطلبه هو درجات قصوى من الإثارة، في المظهر العام، في نبرة الصوت، في السبك اللغوي، في تكنيكات السجال والإفحام، في النزول إلى الحضيض إن لزم الأمر في حلبة النقاشات، في التنبه للمزاج الشعبوي السائد وركوبه وعدم تحديه، في توظيف مفاهيم المؤامرة، والضحية، والاستعمار وهكذا. هذا المثقف عضوي هو الآخر ولا يستطيع أحد أن ينزع عنه «عضويته» أو «غرامشيته» فهو مدافع صلب عن الثورة وجماهيرها، لكنه أيضاً مثقف «غزية»، يغزو حيث تغزو القبيلة، ويروح معها حيث تروح، لا ينتقدها ولا يرى فيها عيباً.

بيد أن المثقف العضوي بتنويعاته، الجادة أو الشعبوية، المدافع عن قضايا الشعب، ليس هو المثقف الوحيد الموجود في ساحة الثورة، أي ثورة. فهناك قائمة طويلة لأنواع أخرى من المثقفين وهم مثقفو السلطة والوضع القائم. هؤلاء يحتاجون أيضاً إلى إعادة نظر في مواقعهم وتنظيراتهم في ضوء الثورات العربية الحديثة. مثقفو السلطة (وهم غير الأبواق الإعلامية والصحافية الهشّة الثقافة والعمق) وجدوا أنفسهم في موقع صعب أيضاً. فهم بحكم ثقافتهم ودرايتهم التاريخية والعميقة يدركون حتمية التغيرات الواقعة في المنطقة العربية، ويدركون الفرق الجوهري بين العلاج الحقيقي والمسكن الموقت. والأهم من ذلك كله أن رزمة المسوغات التي كان جدلهم يقوم عليها لتسويغ الأمر القائم والانحياز للديكتاتوريات قد استنفدت أغراضها. لم يعد بالإمكان، على سبيل المثال، التذرع بمسوغ الحاجة إلى الوقت من أجل إحداث التنمية الاقتصادية التي يجب أن تسبق أي تنمية سياسية أو انطلاق نحو الحرية والديموقراطية. تبين لنا أن عقود التنمية التي أنفقتها الشعوب صابرة على حكامها لم تكن سوى عقود من الفساد والزبائنية البغيضة. وتبين لنا أن عقود «لا صوت يعلو صوت المعركة» لم تكن سوى عقود من الحكم الفردي التدميري الذي أعاد هذا البلد أو ذاك عقوداً طويلة إلى الوراء. وتبين لنا أن عقود «الخصوصية الثقافية» لم تكن سوى عقود الاختباء خلف تأبيد الاستبداد وفرض أشباه الثيوقراطيات على المجتمعات العربية بمسوغات ومبررات ثقافوية ودينية. وهكذا وصلت درجة التعفن الذي تراكم طوال تلك العقود تحت السطح تحت غطاء الاستقرار الظاهري الزائف إلى درجة الانفجار الوبائي التي لم يعد يصلح معها توظيف أي من تلك المسوغات أو غيرها لتسويف التغيير والإصلاح السياسي.

من جهة الأنظمة التي انهارت أمام الثورات أو تلك التي قيد الانهيار، فإن ثمة جوانب سوريالية تميز رد فعلها مقابل تلك الخاصة بتبدل جوانب من تعريف المثقف وأدواره. فهذه الأنظمة حاربت المثقف التقليدي العضوي وقمعته وسجنته وطاردته وفي ظنها انه هو قائد الثورة. ولأن هذه الأنظمة وعقلياتها ما زالت تنتمي إلى الماضي فإنها تخوض معارك الثورات ضدها بذهنية قديمة. لذلك ليس من الغريب أن يكون المثقفون والصحافيون ومن هم على شاكلتهم أول المستهدفين من قبل أجهزة القمع العربية. لكن علينا الاعتراف أن هذا القمع المنطلق من عقلية قديمة يحقق هدفاً، ربما لم يكن هو المقصود المباشر من قبل هذه الأنظمة، وهو إخراس جدل الثورة وحرمانه من التعولم. صورة الثورة تتعولم، ومطالبها تتعولم، لكن جدلها والتنظير لها غائبان.

* محاضر وأكاديمي - جامعة كامبردج، بريطانيا

==================

اليمن وسورية في زمن الثورة بين جمهورية الخوف وجمهورية القبيلة

الأحد, 10 أبريل 2011

خالد الدخيل *

الحياة

في شهرها الرابع أفرزت موجة الثورات الشعبية العربية نماذج مختلفة، منها النموذج التونسي المصري، والنموذج اليمني، فالليبي والسوري... إلخ. اختلاف النماذج يعكس اختلاف المجتمعات العربية وتجاربها التاريخية. تعكس هذه النماذج أيضاً طبيعة النظام السياسي في كل حالة، والأساس الاجتماعي الذي يستند إليه. لا يمكن تناول كل النماذج هنا بغرض المقارنة والتحليل. لا بد من الاختيار ونبدأ بسؤال: كيف تبدو الثورة في النموذج اليمني والسوري؟ لكن لماذا، ربما تساءل البعض عن اليمن وسورية تحديداً؟ والجواب عدا عن أن كلاً منهما يمثل نموذجاً للثورة مختلفاً عن الآخر، إلا أن كل نموذج منهما يضيء الآخر. ما بين هذين البلدين من فروقات، وما آلت إليه هذه الفروقات من نتائج بالنسبة للثورة في كل منهما يجعل من كل منهما نموذجاً لافتاً، وكلاهما معاً يمثل حالة عربية لافتة في متواصلة الثورات العربية، حالة تستحق شيئاً من التأمل. أول ما يلفت النظر في هذه الحالة أن اليمن في نموذجه الثوري أقرب للنموذج التونسي والمصري: موجة الاحتجاجات، والاعتصامات في تصاعد مستمر، يوم الجمعة موعد ثابت لتظاهرات مليونية، والمطلب الذي يتردد في أنحاء الجمهورية هو «تنحي الرئيس»، ومن ورائه شعار «الشعب يريد إسقاط النظام». الرئيس يتقبل وإن على مضض مطلب التنحي. وكما كان في حالتي تونس ومصر، لا يعتبر الجيش نفسه طرفاً في عملية الصراع الدائر، وإنما مسؤول عن صون الدستور وحماية الدولة. مظاهر العنف لا تفشل في الظهور، خصوصاً في الأسابيع الأخيرة، لكن السياق العام للثورة لا يزال سياقاً سياسياً في أغلبه. الغائب الوحيد عن هذا المشهد اليمني الزاخر هو «الخوف». والحقيقة أن جدار الخوف في اليمن لم يكن عالياً كما في بعض الدول العربية، خصوصاً سورية.

في النموذج اليمني يعكس مسار ثورة الشباب، وعلاقتها بالمعارضة، ورد فعل النظام السياسي عليها، طبيعة الدولة اليمنية. هذه دولة شبه ديموقراطية في الشكل الدستوري، ودولة فرد مستبد في المضمون السياسي. فرضت قوة القبيلة في علاقتها مع هذه الدولة هامشاً واسعاً من حرية الرأي وحرية التعبير، وبالتالي فرضت تعددية حزبية، لكنها غير منتجة سياسياً حتى انفجرت الثورة. ظلت أحزاب المعارضة تتهيب النزول إلى الشارع، على رغم قناعتها بأن الرئيس يعمل على توريث الحكم لابنه أحمد. كانت تخشى من أن يؤدي نزولها الى الشارع إلى حرب أهلية. لكن ربما أنها كانت تخشى أيضاً أن ذلك سيعطي مبرراً لحكومة علي صالح بأن توجّه لهم ضربة عسكرية قاسية، لا أحد يعرف نتائجها. مهما يكن جاءت مبادرة النزول إلى الشارع من الشباب في استجابة مبكرة لموجة الثورات الشعبية، ولتتحول تدريجياً إلى تظاهرات مليونية في العاصمة وفي بقية المدن اليمنية. شعار «الشعب يريد إسقاط النظام»، والمطالبة بتنحي الرئيس هما المطلب الذي تتمحور حوله التظاهرات الشعبية، وفي سبيله تتصاعد موجة الاحتجاجات وتتسع. ربما تميز النموذج اليمني عن النموذج التونسي والمصري بأن الرئيس علي عبدالله صالح ليس معزولاً تماماً، من حيث أنه يستطيع من خلال مؤسسات الحزب والدولة تعبئة جماهيرية تقف بالتوازي مع الجماهير الحاشدة التي تطالب برحيله، وهو ما أدى إلى نوع من انقسام الشارع بين الثوار وقيادات الثورة. تمرد اللواء علي محسن، قائد اللواء الشمالي، يوحي بأن انقساماً قد حصل في الجيش إلا أنه ليس كبيراً. والجيش في أغلبه يميل إلى أن يحتفظ لنفسه بموقع الوسط بين الثوار، ومعهم المعارضة، وبين الرئيس ومعه مؤسسات النظام. موقف الجيش اليمني يتسم بدرجة كبيرة من المسؤولية، وهو في ذلك كأنه استفاد من التجربتين التونسية والمصرية.

في المقابل هناك النموذج السوري المفعم بالخوف والعنف المستتر. هذا النموذج أقرب في طبيعته وتوجهاته للنموذج الليبي، وأبعد ما يكون عن النموذجين التونسي المصري. التظاهرات في المدن السورية ليست مليونية في حجمها، لكن رد فعل النظام عليها، وعدد شهدائها على يدي قوات النظام كبير بما يوحي بأن حجم الاحتجاجات أكبر مما هي عليه حقاً. لم تتجاوز مطالب المحتجين، حتى الآن حدود الحرية والكرامة، ومحاربة الفساد، مع ابتعاد واضح عن المطالبة بإسقاط النظام. ومع ذلك فالحاضر بقوة في المشهد السوري هو الخوف. جدار الخوف هنا هو الأعلى من بين كل الدول العربية، خصوصاً بعد سقوط هذا الجدار في ليبيا: خوف الناس من الأجهزة الأمنية، وخوف النظام السياسي من تصاعد الاحتجاجات، وتغيّر خطابها في اتجاه المطالبة بإسقاطه، إلى جانب الخوف تسيطر على المشهد أيضاً حالة من الشك المتبادل والتكاذب السياسي. يقال بأن الرئيس أمر بعدم إطلاق النار على المتظاهرين، لكن إطلاق النار هو رد الفعل الأول، والمستمر لقوات الأمن على هؤلاء المتظاهرين. ومع أن شعارات التظاهر لا تزال في حدود الحرية والكرامة، إلا أن هذا لا يعكس بالضرورة تمسكاً بشرعية النظام، أو أن هدفها محصور في تغيير هذا النظام من الداخل، وليس إسقاطه. لذلك بدلاً من أن يأخذ النموذج السوري، وفي الجانب الرسمي منه تحديداً، سياقاً سياسياً كما في النموذج اليمني، يجنح نحو خيار القوة والعنف لحسم الموقف. مأزق النموذج السوري أن النظام السياسي فيه يعطي كل المؤشرات على أن الإصلاح الحقيقي ليس في صالحه، ولذلك يحاول الجمع بين أداة العنف المبكر كسلاح للردع من الاقتراب من طرح مطالب سياسية واضحة، وبين لغة تؤكد على الشعارات المطلبية، مع التأجيل والتسويف لتحقيق هذه المطالب.

في النموذج السوري ليست هناك معارضة أصلاً، لأنه لا يستقيم أن يعارض أحدُ نظاماً سياسياً «ممانعاً ومقاوماً». غياب المعارضة جعل حركة الاحتجاج في مواجهة النظام عزلاء من السلاح ومن الحلفاء. لذلك تعكس الحركة الاحتجاجية ورد الفعل عليها طبيعة الدولة، بل قل النظام السياسي الذي اختطف الدولة. هذه دولة اختزلها نظام سياسي تحت سيطرة عصبية صغيرة تمسك بمفاصل الأجهزة الأمنية، ومتحالفة مع قوى من خارجها. تتلحف هذه العصبية برداء حزب البعث، وتستخدمه كغطاء لتوارث السلطة على أساس من ذريعة سياسية مكتوبة بلغة دستورية (التكاذب مرة أخرى) تقول بضرورة أن يكون البعث هو «الحزب القائد في المجتمع»، ما يعني أنه لا يؤتمن غير البعث بتولي سلطة الحكم. من الواضح أن النظام السياسي في هذه الحالة يفتقد إلى أيديولوجيا يمكنه الاستناد إليها. البديل لغياب هذه الأيديولوجيا، كما يبدو، هو خليط الخوف والتكاذب السياسي من ناحية، والردع الأمني القاسي من ناحية أخرى. وعلى هذا الأساس تعزو الحكومة السورية قتل المحتجين إلى عصابات «مندسة» تقتل المواطنين ورجال الأمن معاً بهدف إثارة الفتنة. لكن الحكومة السورية لا تتبع ادعاءها هذا بالتحقيق، أو محاولة القبض على أعضاء، أو بعض من أعضاء هذه العصابة. وعلى رغم أن التظاهرات في سورية أبعد ما تكون عن المليونية - حتى الآن  إلا أن هناك استنفاراً أمنياً غير عادي، وآخر إعلامياً يفتقد لأدنى درجات الذكاء السياسي لأنه مشوب بحالة إنكار استثنائية. تركز الحملة الإعلامية على شيئين: تكريس عبادة فرد الرئيس، واختزال الدولة في قيادته «الاستثنائية»، ثم الترهيب من التعاطف مع المحتجين.

عدا عن عبادة الفرد والترهيب تفتقر الحملة الإعلامية إلى أي خطاب سياسي ذي معنى. وهذا على عكس النموذج اليمني، حيث تتقابل طروحات شباب الثورة والمعارضة مع طروحات النظام السياسي وأنصاره في الشارع، وفي الإعلام الذي يتحدث باسم كل منهما. النظام السياسي اليمني يكسب من ذلك، ليس معركة الثورة، وإنما شيئاً من الوقت يؤمن تنحي الرئيس بشروط أفضل، وربما بكلفة أقل. في سورية كلمة التنحي محرمة، لكن هذه الحرمة أمنية أكثر منها أيديولوجية أو سياسية. لذلك يتوجس النظام من اتساع نطاق الاحتجاج. أمثلة تونس ومصر واليمن تبعث على القلق. تبدأ الاحتجاجات صغيرة، وبدلاً من أن تتوقف أو تتراجع أمام قوة العنف والإرهاب تتوالد بشكل مخيف. على الجانب الآخر لا يزال الخوف يحد من السلوك السياسي للناس أيضاً. وهذا يشجع النظام على المزيد من العنف ولغة القوة. مأزق هذا النظام أنه لا يدرك تغير الظرف والمرحلة، وأن المزيد من القتل سيؤدي إلى انهيار جدار الخوف لدى الناس، وبالتالي يسرع بما يتوجس منه النظام. لاحظ هنا حيوية الحركة السياسية في اليمن، في مقابل الجمود السياسي في المشهد السوري، خصوصاً في جانبه الرسمي. في النموذج السوري يصر النظام السياسي على أن يجعل من تصاعد الاحتجاج والوصول إلى مرحلة المطالبة بسقوطه مكلفة على الطريقة القذافية. والأرجح أن قيادة هذا النظام تأمل بأن نجاح القذافي أمام الثورة سيضعف من زخم التظاهرات في سورية، ويمنعها من التحول إلى حالة ثورية متكاملة. لاحظ أيضاً حالة التعاكس هذه: جمهورية القبيلة، أو اليمن أقرب في حراكها السياسي إلى النموذج التونسي المصري، الذي يستند الاستبداد فيه إلى مؤسسات دولة مدنية، وخطاب سياسي حيوي بمفردات متعددة. أما نموذج جمهورية حزب البعث، أو جمهورية الخوف السورية، فهو أقرب ما يكون في حراكه السياسي الحالي إلى نموذج هجين بين الدولة والعشيرة، كما يتمثل في جماهيرية القذافي يعتمد على خطاب أمني يفتقد أي أفق سياسي واضح. كيف انتهت حواضر الشام بتاريخها العريق إلى هذه الحالة السياسية البائسة؟

* اكاديمي وكاتب سعودي

==================

سورية: إصلاح النظام الأمني

عبدالرحمن راشد

الشرق الاوسط

10-4-2011

اختفت ابتسامات الفرح والشماتة، تلك التي صاحبت أيام سقوط الرئيسين التونسي والمصري، هللت للحدثين الجللين المجالس الرسمية والإعلامية في سورية وإيران، وتعجل السيد حسن نصر الله بإلقاء خطبة مجلجلة فرحا بما أصاب حسني مبارك من مذلة بطرده من الرئاسة المصرية، وأقيمت الاحتفالات ابتهاجا بإفلات عملاء حزب الله الذين كانوا مسجونين في مصر بتهمة التآمر لتنفيذ عمليات إرهابية.

وها هي سورية تشتعل بالمظاهرات والهتافات التي تصم الآذان، تندد بنظامها وبإيران وحزب الله أيضا، وبالتالي لم يعد أحد معصوما من أحداث الحاضر الرهيبة. ولم يعد أحد يحتاج إلى وعظ الآخرين، لأن الدروس كثيرة والذين لا يعجلون بمسايرة العالم الجديد مهددون. المعضلة الوحيدة أن الذين اعتادوا على امتلاك كل شيء يصعب عليهم التنازل عن أي شيء. هذه كانت معضلة الرئيسين المصري والتونسي، اللذين عز عليهما تقديم تنازلات صغيرة مبكرا، حتى «وقع الفأس في الرأس» وخسرا كل شيء.

الوضع في سورية أصعب وأخطر، لأن النظام يرفض فكرة التنازل، ربما غير مدرك بعد حجم الخطر الذي يحيط به ومتشبث بقراءة الحدث على أنه تدبير خارجي، تماما كما فعل السابقون الذين فقدوا كل الحكم. الأزمة مخطط لها في الخارج، وبالتالي الحل يصدر إلى الخارج. إن صواريخ حماس على إسرائيل لن تمنح ما يكفي من الدخان لحجب أدخنة الحرائق في درعا وبقية الحواضر السورية. وبدل البحث عن مخرج في غزة أو العراق أو لبنان، على النظام السوري أن يعالج المشكلة داخليا؛ حيث لا يزال هناك وقت كاف للمصالحة بالاستجابة لبعض المطالب الرئيسية. لا يزال معظم المتظاهرين يتحاشون استخدام عبارات المطالبة بإسقاط النظام لأنهم يفضلون عدم الانجرار نحو الانهيار، ومع التصالح وفق صيغة جديدة تحافظ على أركان المعبد.

المشكلة الرئيسية كما عبر عنها كثيرون في الحالة السورية هي أجهزة الأمن الشرسة التي دون إصلاحها لن تتوقف المطالبات، وسيتدهور الوضع في سورية إلى نقطة اللاعودة. المطلب في سورية يختلف عما نادى به المتظاهرون في تونس ومصر واليمن والبحرين. المطلب إنهاء حالة الاستبداد الأمني التي استشرت كثيرا. وكلنا ندرك أن الحديث عن إصلاح الأمن السوري يكاد يكون أصعب من المطالبة حتى بإسقاط النظام، إنما الناس صريحة في هدفها بإصلاح المؤسسة الأمنية التي هي في هيكلتها وممارساتها نسخة عن الأنظمة الأمنية الشرق أوروبية في زمن الاتحاد السوفياتي. لقد تسببت شراسة تلك الأجهزة في إغضاب شعوبها وإسقاط أنظمتها منذ عقدين، وهي مماثلة أيضا لأنظمة صدام حسين التي جلبت عليه شرور العالم. إن إصلاح النظام الأمني السوري سيدخل النظام في عالم أكثر تصالحا ويفتح النوافذ المغلقة منذ أربعة عقود على كل الأصعدة من إدارة الحكومة إلى تطوير الاقتصاد، وبالطبع إنهاء حالة الاضطهاد والسجون.

------------------------

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها

 

 

أعلى الصفحةالسابق

 

الرئيسة

اطبع الصفحة

اتصل بنا

ابحث في الموقع

أضف موقعنا لمفضلتك

ـ

ـ

من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ