ـ

ـ

ـ

مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وقولوا للناس حسنا

اتصل بنا

اطبع الصفحة

أضف موقعنا لمفضلتك ابحث في الموقع الرئيسة المدير المسؤول : زهير سالم

الأحد 30/01/2011


أرسل بريدك الإلكتروني ليصل إليك جديدنا

 

واحة اللقاء

 

التعريف

أرشيف الموقع حتى 31 - 05 - 2004

ابحث في الموقع

أرسل مشاركة

J

 

وثائق المفاوضات وآفاق التسوية

الاتحاد

تاريخ النشر: السبت 29 يناير 2011

أرون ديفيد ميلر

باحث في معهد "ودرو ويلسون للدراسات الدولية" ومفاوض سابق

لابد أن أحداً هناك يكره كراهية عمياء عملية السلام العربية الإسرائيلية، ففي الوقت الذي كنا نعتقد أن الأمور لن تكون أكثر سوءاً مما هي عليه، وأن تعطل المفاوضات لا يمكن أن يطول أكثر، وأن أمل تحقيق الدولتين ليس أبعد مما هو عليه اليوم... فوجئنا بالنسخة الفلسطينية من ويكيليكس، وهي الوثائق التي حصلت عليها بعض وسائل الإعلام خلال الأسبوع الجاري. ورغم أن المعلومات التي طفت إلى السطح لن توقف عملية السلام المتعثرة أصلا والمستمرة دائماً دون جدوى، فإن ما كشفت عنه الوثائق يضع السلطة الفلسطينية في موقف حرج للغاية، فضلا عن أنه سيجمد الطابع البرجماتي والخلاق للمفاوضات لفترة من الزمن. وأكثر من ذلك أن هذه التسريبات تعكس مشاكل حقيقية تكتنف عملية التفاوض، ومن المرجح أن تعقد أكثر إمكانات التوصل إلى حل في أي وقت قريب.

والحقيقة أن من يتابع سير المفاوضات بين الفلسطينيين وإسرائيل خلال العقد الزمني الأخير لن يندهش كثيراً من المواقف المنسوبة إلى السلطة الفلسطينية والمتمثلة في الاستعداد الواضح للاعتراف بسيادة الدولة العبرية على معظم الأحياء والمستوطنات في القدس الشرقية، وإقرارها أيضا بتبادل الأراضي، ووضع سقف لأعداد اللاجئين الذين يمكن عودتهم... فهذه الأفكار وغيرها كانت متداولة بين الأطراف ومعروفة بطريقة أو بأخرى منذ قمة كامب ديفيد في يوليو 2000. ومع أن كشف هذه المعلومات من خلال "وثائق رسمية" يضع السلطة في خانة مختلفة، فإن المتابع الحصيف للمفاوضات لا يستطيع أبداً استنتاج إي تخلٍ للسلطة الفلسطينية عن القضايا الأساسية، أو خيانتها لتطلعات الشعب الفلسطيني. فما جاءت به الوثائق من تنازلات ليس أكثر من خطوط عريضة للتفاوض مقبولة لدى جميع الأطراف، بمن فيهم الأميركيون.

لكن هناك ما هو أعمق من التنازلات في الوثائق المسربة، فهي تشير إلى مرحلة خصبة من المفاوضات بين الفلسطينيين والإسرائيليين، لاسيما في عهد حكومة أولمرت حين وصلت المفاوضات إلى مرحلة متقدمة من الحوار كادت تفضي إلى اتفاق، وهو ما يعطي الجانب الفلسطيني بعض الحق، رغم كل الانتقادات الموجهة له لأن المفاوضات لم تخرج عن نطاق النقاش العام الذي تستدعيه كل عملية تفاوض ولم تترجم إلى اتفاقات ملزمة تورط الفلسطينيين، بل إن الجانبين معاً متمسكان بالمقولة المعروفة وهي أنه "لا شيء يُتفق عليه حتى يتم الاتفاق على كل شيء"، بمعنى أن المفاوض الفلسطيني من خلال مواقفه على طاولة المفاوضات يحق له تجريب كافة السبل وطرح الأفكار وإطلاق بالونات الاختبار التي تبدو أحياناً كتنازلات دون أن يعني ذلك بالضرورة قبولها، بل فقط لاختبار نوايا الطرف المقابل. ولابد هنا أيضاً من الالتفات إلى توقيت كشف الوثائق، إذ لو كانت المعلومات قد سربت في وقت تنتعش فيه آفاق السلام، وكان الفلسطينيون والإسرائيليون يحضّرون لتوقيع اتفاق نهائي، لما أثيرت كل هذه الضجة، ولما كانت مسألة التنازل لإسرائيل في القدس الشرقية قد أحرجت السلطة الفلسطينية. ولو أن إسرائيل بادرت إلى الاعتراف بالقدس الشرقية كعاصمة لدولة فلسطين لما شهدنا كل هذه الاعتراضات والرفض الشعبي، لكن والوضع الحالي يغرق في موجة من التشاؤم تتراجع فيها آفاق السلام، لذلك فقد اكتست الوثائق أهمية قصوى وأوغلت في نكء جراح الفلسطينيين.

ولأننا نعيش في عالم تحولت فيه الانطباعات إلى حقائق، أصبحت الوثائق وكأنها نوع من التواطؤ بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل، وهو ما سيضر بالمصداقية الداخلية للسلطة، ويعزز من مواقف خصومها على الساحة السياسية الفلسطينية.

إلا أنه وبصرف النظر عن تأويلات الوثائق وأبعادها السياسية، هناك مجموعة من الملاحظات الموضوعية التي تكشفها؛ أولها الشرخ الكبير بين ما يقدمه المفاوض الفلسطيني على طاولة المفاوضات وبين انتظارات الشارع الفلسطيني، إذ يبدو أن الاختلاف لم يعد محصوراً بين المواقف الفلسطينية والإسرائيلية، بل امتد أيضاً إلى الفلسطينيين أنفسهم، وهو ما يدل عليه الوضع بين قطاع غزة والضفة الغربية. ويبقى التساؤل حول تقصير الجانبين معاً في تهيئة الرأي العام لتقبل الاختيارات الصعبة التي تفرضها المفاوضات ويحتمها اتفاق السلام. والملاحظة الأخرى التي تسترعي الانتباه في الوثائق المسربة هو الحرج الذي يستشعره الجانب الإسرائيلي، فإذا كان الفلسطينيون قدموا كل تلك العروض المغرية بشأن القدس والمستوطنات واللاجئين، فلمَ إذن يتعنت الجانب الإسرائيلي وما السبب وراء تأخر التوقيع على اتفاق ينهي الصراع. فمقولة غياب شريك فلسطيني مرن قادر على التفاوض واجتراح الحل، لم تعد قائمة بعدما أظهر المفاوض الفلسطيني استعداده للتفاهم وتقديم التنازلات. وأخيراً لن تساعد هذه التسريبات في طمأنة المفاوض الفلسطيني الذي سيكون عليه التفكير أكثر من مرة وتوخي قدر كبير من الحذر قبل طرح أية فكرة قد تُشتمُّ منها رائحة التنازل حتى ولو كانت مجرد طروحات برجماتية. هذا بالإضافة إلى الصعوبة التي ستواجهها إدارة أوباما في رعاية عملية السلام والتوسط بين الطرفين. وبالنظر إلى التعثر الذي تعرفه عملية السلام حتى قبل أن تُسرب الوثائق، فلن يكون من السهل الحديث عن إحياء المفاوضات، أو بث الأمل من جديد في إمكانية التوصل إلى اتفاق سلام على الأقل في المدى المنظور.

ينشر بترتيب خاص مع خدمة "إم. سي. تي. إنترناشونال"

==========================

انتفاضة الشعب التونسي ما قبلها وما بعدها

آخر تحديث:السبت ,29/01/2011

علي جرادات

الخليج

فرّ الرئيس التونسي، ومازال نظامه يتهاوى بتدرج متسارع نحو الزوال، بفعل انتفاضة شعبية سلمية عارمة، أشعل شرارتها الأولى حادث إحراق شاب نفسه، ليكشف عما يعتمل في المجتمع التونسي من تناقضات، بين قوى وجهات وطبقات اجتماعية، أفرزت صراعاً سياسياً محتدماً، لم يعد حسمه طوع بنان النظام السائد، رغم ما يملكه مِن قوة سيطرةٍ وقمعٍ وهيمنة، ذلك لأن “كل نظام يعيش مأزقه بأن ينتج حفار قبره” (هيغل)، ما يعني أن انتفاضة الشعب التونسي الظافرة ليست نبتاً شيطانياً، بل جاءت ثمرة طبيعية، وقفزة نوعية، وحصيلة تراكمات نضالية شعبية تحررية سياسية واجتماعية مديدة، أنتجها نظام سياسي مزج بين التعسف والطغيان، وحَكَمَ لعقود، (باسم الحداثة)، كسلطان استبد برعية خارج القانون والدستور، وساوى بين السلطة والثروة، وعبث بالاستقلال الوطني، وفصله عن شرطه الديمقراطي الاجتماعي، وحوله الى استقلال شكلي، حاله، (زائد أو ناقص)، كحال بقية النّظم الرسمية العربية التابعة، التي، وبكلمات فيصل دراج: “لا تثقل كاهلها بالأزمنة المتتابعة إلا بالهرب من زمنها الجوهري، الذي همشه التاريخ، ولا تلج الزمن الحديث إلا من باب قديم، ولا تلج الزمن القديم إلا فوق طائرة مستوردة” .

عليه، فإن انتفاضة الشعب التونسي الظافرة، ليست معجزة، سوى لدى وعي نمطي عنصري غربي، كثفته صحيفة “لوموند” الفرنسية في تعليقها على فرار الرئيس التونسي المخلوع بالقول: “حتى في المنطقة العربية، يمكن للشعوب أن تغيّر الأنظمة”، وكأن العرب أصبحوا خارج قوانين التاريخ البشري، وأن تحررهم السياسي والاجتماعي، لا يأتي إلا على ظهر الدبابات الأجنبية الغازية، وأن فك تبعيتهم للأجنبي، لن يلد إلا حركات متطرفة جاهلة، تعيدهم قروناً إلى الوراء، الفزاعة التي جرى رفعها في وجه قوى التغيير والتحرر الديمقراطي السياسي والاجتماعي، فيما العكس هو الصحيح، ذلك أن بقاء الحالة العربية على ما هي عليه، يجعلها مفتوحة على كل الاحتمالات، ومنها احتمال التنامي البكتيري لهذه الحركات المتطرفة الجاهلة .

بلى، لقد أوغلت النظم العربية التابعة لنظام النهب والسيطرة الغربي، في استخدام فزاعة التطرف، متناسية أن إطلاق العنان لعملية التحرر الديمقراطي السياسي والاجتماعي الحقيقي، يشكل العلاج الشافي لهذا التطرف، بل ولعلاج ما يتراكم تحت السطح على طول وعرض الساحة العربية مِن غضب شعبي، يتوق للحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، ويرفض استمرار استذلال العرب ونهب ثرواتهم واحتلال جغرافيتهم .

والأنكى أن يتسلل تضليل هذه الفزاعة الى وعي بعض قيادات حركة التحرر العربية، كقيادات مأزومة، بررت عجزها عن قيادة هبات الحالة الشعبية العربية، بتخلف التجارب العربية عن تجارب بلدان “عالم ثالثية، متناسية أن التاريخ مد وجزر، وأن إمكاناته أوسع من الواقع، وأن اتساع الفجوة بين شارع عربي مقموع جائع غاضب، وبين قصور تابعة مستبدة متخمة، يستدعي إرادة التغيير، تجلت في انتفاضة الشعب التونسي العفوية الظافرة، ناهيك عما سبقها، وما سيتلوها، (بالتأكيد)، من انتفاضات شعبية عربية، لا معجزة فيها، إلا بمقدار ما “أن المعجزة ليست أكثر من الجنين الذي ينمو في رحم اليأس، ثم تولد، وعلى غير توقع من أحد، بحيث تكون الأشياء ثمة ناقصة من دونها”، بكلمات غسان كنفاني .

قصارى القول، شكل نظام التبعية لعمليات النهب والسيطرة الغربية، مع ما أفرزه من إفقار وبطالة وقمع وإعاقة للتحرر السياسي والاجتماعي بمعناه الحقيقي، الظرف الموضوعي لاندلاع انتفاضة الشعب التونسي الشجاعة، التي دمجت بين مطالب رغيف الخبز والحرية والكرامة، وبعثت الأمل واسعاً في تغيير الواقع العربي، وأعطته وجهاً تغييرياً حقيقياً مشرقاً، بديلاً لقتامة عمليات التذبيح والتفتيت الطائفي والمذهبي والجهوي والإثني، التي تمارسها حركات جهل وتطرف فكري وسياسي، تخدم بوعي أو عن جهالة، نظام النهب والسيطرة الأجنبي، وتعزز النظم الرسمية العربية التابعة له .

إن انتفاضة الشعب التونسي الشعبية السلمية، ورغم ما يحدق بحصادها السياسي والاجتماعي، من مخاطر داخلية وخارجية، خاصة مع الغياب النسبي لشرطها التنظيمي السياسي المعارض، قد حققت حتى الآن الكثير من الإنجازات التحررية السياسية والاجتماعية، على الصعيدين الوطني التونسي والقومي العربي، ومازال الباب مفتوحاً أمامها لإحراز المزيد من الإنجازات الملموسة، فمردوداتها الوطنية، كما ارتداداتها القومية، لم تنته بعد، وما زالت مجال صراع معقد ومتشابك بين حوامل دفعها السياسي إلى الأمام، وبين حوامل محاولات التقليل من آثارها وانعكاساتها وإنجازاتها . وعلى القوى التونسية التحررية المعارضة، أحزاباً ونقابات وفعاليات وشخصيات مجتمعية، التي أنعشها الفوران الانتفاضي الشعبي، أن تعيد تنظيم صفوفها ورصها، فما زالت الفرصة أمامها قائمة لقيادة الفعل الانتفاضي الشعبي المتواصل، وتطوير ما أنتجه هذا الجيش الانتفاضي من أُطر شعبية ميدانية، مطلوب تغذيتها بمطالب سياسية واجتماعية واضحة ومتفق عليها وطنياً، خاصة بعد حيادية الجيش الوطني التونسي، ورفضه، أن يكون جزءاً من منظومة قمع الانتفاضة الشعبية، بل وإسهامه، في التصدي لمحاولات تخريبها على يد فلول جهاز الأمن الرئاسي القمعي، من دون نسيان الدعم الخارجي المستتر لقوى التخريب الداخلي .

إن على قوى التحرر السياسي والاجتماعي التونسي أن توفر لانتفاضة شعبها، عامل تنظيم تواصلها وتطويرها وتوجيهها وحمايتها، عبر طرح شعارتها السياسية والاجتماعية الناظمة . وكذا فإن على حركات التحرر العربية السياسية الشعبية المعارضة، استخلاص الدروس من هذا الحدث التونسي التاريخي، الذي كشف عمق أزمتها، وأظهر مدى تخلفها عن قيادة الحركة الشعبية العربية وهباتها التي لم تنقطع . فانتفاضة الشعب التونسي الظافرة، حدث تاريخي في الواقع العربي، سيكون ما بعده غير ما قبله .

==========================

الحجاب ومسار الإصلاح في تركيا

آخر تحديث:السبت ,29/01/2011

محمد نور الدين

الخليج

في غمرة انشغال تركيا بأدوارها الإقليمية والعالمية من لبنان إلى طهران تستمر قضيتان في الداخل التركي لتكونا ثابتتين منذ خمسة وعشرين عاماً، وهما المسألة الكردية ببعدها المسلح وقضية الحجاب .

استيقظت تركيا قبل أيام قليلة على قرار المحكمة الإدارية العليا بمنع المحجبات في الجامعات من دخول الجامعات وإجراء الامتحانات .

قرار هذه المؤسسة القضائية جاء تعطيلاً لقرار مجلس التعليم العالي قبل أشهر بالسماح للمحجبات بدخول الجامعات والتقدم للامتحانات .

مجلس التعليم العالي مؤسسة كانت في السابق أحد بؤر نفوذ العلمانيين المتشددين، لكن مع الوقت ووجود مفتاح تعيين أعضائها بيد رئيس الجمهورية ومع وصول عبدالله غول إلى رئاسة الجمهورية بدأ التحول في تعيين الأعضاء ممن لا ينظرون بعين العداء للمحجبات، وكان انقلاباً مطلوباً في المجلس أفضى في النهاية إلى كسر قرارات المحكمة الدستورية ومنع الحجاب في الجامعات والتعميم بحرية الحجاب فيها .

لا يتمتع قرار مجلس التعليم العالي بقوة قانونية كبيرة، إذ يحتاج إلى تعديل في النصوص الدستورية والقانونية .

حاجز المحكمة الدستورية ربما يكون قد رفع مع التعديل الدستوري المهم والكبير الذي أجري في 12سبتمبر/ أيلول الماضي من خلال تعديل بنية المحكمة في اتجاه زيادة أعضائها وإخراجها من احتكار القضاة السابقين المتشددين .

في هذه اللحظة دخلت المحكمة الإدارية العليا على الخط وأصدرت قرارها الأخير بمنع الحجاب . الدرس الذي يفهم من قرار المحكمة أن الصراع على العناوين الأساسية في تركيا لم ينته بعد .

لا شك في أن حزب العدالة والتنمية قد حقق إنجازات هائلة مقارنة بالواقع الذي كانت عليه تركيا في الماضي، لكن ما زال هناك الكثير مما لم يتغير بعد، والتركة التي ورثها الحزب ثقيلة وهو يحاول تنظيفها تدريجياً .

لكن بتقديري أن المحكمة الإدارية العليا قد فعلت حسناً بقرارها، إذ أيقظت دعاة التغيير من النوم على حرير حل مشكلة الحجاب وأرسلت إنذاراً مبكراً قبيل الانتخابات النيابية المقبلة في يونيو/ حزيران 2011 من أن هناك ما يجب أن يصحح بشكل جذري في القوانين ومرجعيتها الدستورية .

الحجاب ليس العنوان الوحيد للتغيير الجذري في تركيا، فهناك أيضاً مسألة تنظيف الدستور والقوانين مما تبقى من إشارات خطيرة حول دور الجيش في الحياة السياسية، ولا سيما استمرار وجود المادتين 35 و85 من قانون الخدمة الداخلية للجيش الذي يسمح للجيش بتسلم السلطة إن تعرض النظام العلماني والجمهوري للخطر .

لا تبدو اليوم فرص استخدام هذه المادة قائمة، لكن الحاجة ماسة إلى استئصالها من أساسها القانوني .

وإذا كانت التوجهات الإسلامية لحزب العدالة والتنمية تفرض عليه أحياناً “أجندا” من لون معين فإن الحزب يحتاج إلى المزيد من الخطوات لتعزيز النظام الديمقراطي وتوسيع الحريات الأساسية وحقوق الإنسان، وهو ثالوث بات ملازماً لحركة التغيير في تركيا في السنوات الأخيرة .

وحسناً يفعل حزب العدالة والتنمية عندما يثابر على الاستعانة بالاتحاد الأوروبي كمرجعية لخطواته الإصلاحية، إذ من جهة يسقط من يد دعاة مقاومة التغيير أي ذريعة بأن حزب العدالة والتنمية ينفّذ “أجندا سرية”، ومن جهة ثانية يدخل منزل الإصلاح من بابه العريض . وقد دلت التجارب حتى في أيام الدولة العثمانية على أن الاصلاحات منذ سليم الثالث إلى محمود الثاني وعبدالمجيد وعبدالعزيز وبداية عبدالحميد الأول، ما كانت تتم إلا بضغوط الخارج .

وهذا لا ينقص من الإصلاح في شيء، وهو يخلق ديناميات تساعد على بلورة المفاهيم وتغيير الذهنيات، لكن من أجل أن تتحول عملية الإصلاح التي لا تتوقف في المجتمعات الحية إلى مسار مفتوح وراسخ، لا بد من أن تتحول إلى اقتناعات داخلية تنطلق بديناميات داخلية صرفة . ومن هنا يجب على حزب العدالة والتنمية أن يواصل بزخم أكبر عملية الإصلاح، آخذاً في الاعتبار أن تشارك فيها كل فئات المجتمع التركية وإرساء نظام كامل من الحريات والديمقراطية على كل الصعد، حتى لا يستفيق التركي ذات صباح على خبر منع حقاً أساسياً للطالبات والنساء، وهو ارتداء الحجاب أينما أردن من جانب محكمة لا تزال هاربة من قبضة ملاك الحريات والعصر .

==========================

بداية النهاية للحرب الباردة

المصدر: صحيفة «إيزفيستيا» الروسية

التاريخ: 29 يناير 2011

البيان

رغم انهيار الاتحاد السوفييتي وتفتت الكتلة الاشتراكية منذ عشرين عاما مضت، إلا أن الكثير من سياسات الحرب الباردة السابقة بين القطبين مازالت سائدة، فمازال الغرب يتعامل مع روسيا بحذر وتخوف، ومازلت روسيا هي أيضا تجد صعوبات وعراقيل كثيرة في تعاملها مع الغرب، ورغم التقارب بين الجهتين في بعض المجالات الاقتصادية، وخاصة في مجال الطاقة، إلا أن هناك مجالات أخرى مازال التنافس بين الجهتين شديدا فيها، ومازال التعاون بينهما فيها أشبه بالمستحيل، وخاصة المسائل الأمنية والعسكرية، ولكن على ما يبدو أن هناك بوادر انفراج في هذا المجال، وجاءت البادرة كبيرة في تعاون عسكري من خلال حدث لم يسبق له مثيل في تاريخ روسيا المعاصر، يتلخص في التوصل إلى اتفاق نهائي بين روسيا وفرنسا، على أن تقوم فرنسا ببناء حاملات للحوامات من طراز «ميسترال» لحساب الأسطول البحري الحربي الروسي. حيث وقع وزير الدفاع الفرنسي آلان جوبيه ونائب رئيس الوزراء الروسي إيغور سيتشين، يوم الثلاثاء الماضي في حوض بناء السفن الواقع في مدينة «سان نازير» الفرنسية، اتفاقية للتعاون في بناء 4 حاملات مروحيات فرنسية من طراز «ميسترال»، وهذه هي الاتفاقية العسكرية الأولى من نوعها التي توقعها روسيا مع إحدى الدول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي «ناتو»، وبموجب هذه الاتفاقية سيتم بناء حاملتين للطائرات المروحية في أحواض مدينة «سان نازير»، وستنطلق الحاملتان من الميناء الفرنسي إلى الشواطئ الروسية عام ألفين وأربعة عشر وعام ألفين وخمسة عشر على التوالي. وتنص الاتفاقية المذكورة كذلك على أن الطرفين سوف يتعاونان في بناء حاملتي مروحيات إضافيتين من الطراز نفسه في أحد أحواض بناء السفن الواقعة على الأراضي الروسية. وسيعمل على بناء السفينتين الأخيرتين كونسورتيوم مكون من «الشركة الروسية الموحدة لبناء السفن» و«الشركة الحكومية الفرنسية دي. سي. إن. إس».

هذه الاتفاقية علق عليها المراقبون بأنها أول خطوة فعلية في التعاون العسكري بين روسيا والغرب منذ انهيار الاتحاد السوفييتي، وبالتالي يمكن اعتبارها بداية لنهاية الحرب الباردة السابقة، وتنطوي الاتفاقية على فوائد كبيرة بالنسبة لروسيا، فهي مهمة على الصعد العسكرية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية أيضا. ذلك أن هذه الاتفاقية تتيح لروسيا إمكانية الاطلاع عن كثب على تقنيات حديثة وتزويد قواتها البحرية بسلاح يتمتع بإمكانيات فريدة. ولعل ما هو أهم من كل ذلك هو إحداث خرق سياسي في المبادئ التي يقوم على أساسها حلف الناتو، أما بالنسبة لفرنسا فإن العقد يعتبر فرصة لتطوير الصناعات العسكرية ولتوفير فرص عمل في قطاع الصناعات العسكرية. كما أن للعقد قيمته المادية، إذ ان روسيا ستدفع ستمئة مليون دولار مقابل كل حاملة للمروحيات. وتلفت الصحيفة إلى أن الوزير الفرنسي آلان جوبيه تنبأ بحدوث صدام مع أعضاء في حلف الناتو، مؤكدا على أن الفائدة التي ستجنيها بلاده من التعاون الاستراتيجي العسكري مع روسيا أكثر أهمية من العوامل السلبية التي قد تتمخض عن ذلك الاتفاق.

==========================

أهمية القمة الأميركية  الصينية

المستقبل - السبت 29 كانون الثاني 2011

العدد 3897 - رأي و فكر - صفحة 19

عمر كوش

شكلت القمة الأميركية الصينية، التي عقدت الأسبوع الفائت في واشنطن ما بين الرئيس الأميركي باراك أوباما والرئيس الصيني هو جينتاو، محطة مفصلية في تاريخ العلاقات ما بين الولايات المتحدة الأميركية والصين، واكتسبت أهميتها ونجاحها من خلال سعي الطرفين إلى تحقيق نقلة نوعية في هذه العلاقات، وبما يفضي إلى القضاء على المسارات التصعيدية بينهما، مع التأكيد على مسار التهدئة والتعاون، الأمر الذي سيترك آثاره على طبيعة ومستقبل علاقات الدولتين "العملاقين" اقتصادياً، وعلى التفاعلات والملفات الدولية والإقليمية.

ولا تخفي أهمية القمة حقيقة انعقادها عند مفترق توجهات شديدة الحساسية لكلا الدولتين، ولعلاقاتهما الثنائية، التي خيّمت عليها، وتحكمت بها، جملة من القضايا الثنائية والإقليمية والدولية طوال العام 2010 المنصرم، والتي ما زالت تتأرجح بين كونهما دولتين عظميين متنافستين في عالم اليوم، ودولتين صديقتين، أو تسعيان إلى أن تكونا كذلك، خصوصاً بعد أن تشكل في العلاقات الصينية الأميركية إطار يتسع مضمونه ومجالاته باضطراد، وتزداد فيه المصالح على اختلاف مستوياتها تعقيداً، حيث تتشابك وتتواجد، في الوقت نفسه، المصالح والمنافسة والتوافق والخلافات.

وبالرغم من أن الملفات التي تناولتها قمة واشنطن كثيرة ومعقدة، إلا أنها حاولت التوصل إلى توافق أوّلي بشأن بعضها، وإيجاد حلول بشأن بعضها الآخر. وتركزت الملفات بشكل خاص حول ملف أزمة الميزان التجاري الأميركي- الصيني، وأزمة البرنامج النووي الكوري الشمالي، وملف أزمة جزيرة تايوان، وملف أزمة البرنامج النووي الإيراني، حيث أشارت التقارير والمعلومات إلى أن القمة الأميركية الصينية تمكنت من تحقيق تقدم في مجال أزمة ملف الميزان التجاري الأميركي- الصيني، إضافة إلى السعي من أجل تحفيز أداء هذا الميزان لجهة العمل ضمن أسلوب أكثر تحقيقاً لتوازن وانسجام المصالح الاقتصادية بين الطرفين. لكن إن أبرز ما تم إنجازه في هذه القمة تمثل في الاتفاق على قيام الصين بشراء سلع أميركية بمبلغ 45 مليار دولار أميركي على طريق معالجة فجوة الميزان التجاري الأميركي- الصيني، ودعم موقف إدارة الرئيس أوباما في مواجهة المتشددين في الإدارة الأميركية، الذين يطالبون بضرورة تصنيف الصين بوصفها عدواً، ومصدراً لتهديد الأمن القومي الأميركي.

وكان من المفترض أن يجري تناول معظم الملفات الإقليمية المختلف عليها بين الولايات المتحدة الأميركية والصين، وخصوصاً البرنامج النووي الإيراني والشرق الأوسط والنزاعات الأفريقية، لكن البعد الاقتصادي طغى على سائر الأبعاد الأخرى، حيث ركزت الإدارة الأميركية على عقد صفقة تضمن لها مقايضة العجز التجاري الأميركي - الصيني بالقضايا الإقليمية والدولية، من خلال مساندة الصين لسياسة الولايات المتحدة حيال الملفات الإقليمية والدولية مقابل غض الإدارة الأميركية النظر عن العجز التجاري الأميركي الصيني، إلا أن الصين أرادت من جانبها التوصل إلى إبرام صفقة تضمن لها مقايضة العجز في الميزان التجاري الصيني - الأميركي بحصولها على التكنولوجيا الأميركية، من خلال ضمان بيع الولايات المتحدة الأميركية التكنولوجيا المتطورة للصين مقابل سعي الصين إلى تقليل العجز التجاري الأميركي الصيني عن طريق شراء المزيد من السلع الأميركية.

وهناك من يعتبر أن الصين حصلت على القسط الأكبر من التنازلات الأميركية، لعل أبرزها هو حصولها على وعد أميركي بمساندة مسعى الصين الهادف إلى ضم عملتها الوطنية في المستقبل إلى سلة العملات المستخدمة في تقويم حقوق السحب الخاصة، والتي تقتصر حالياً على الدولار واليورو والجنيه الاسترليني والين الياباني. إلى جانب تخفيف حدة الضغوط التي تتعرض لها الصين من أجل تسريع حركة ارتفاع أسعار صرف اليوان في مقابل الدولار والعملات الرئيسية الأخرى.

بالمقابل، حصلت الشركات الأميركية على عشرات من عقود التصدير التي أبرمت مع الصين، وحرص البيت الأبيض على الإشارة إلى أنها تدعم 250 ألف وظيفة في اثنتي عشر ولاية أميركية. كما حصلت الصين على تعهد الولايات المتحدة الأميركية، يمكنه تأمين نوع من الحماية لمئات مليارات الدولارات من الأموال الصينية المستثمرة في الولايات المتحدة الأميركية، وتتعلق بأذون الخزانة. ويقضي التعهد بالتزام الإدارة الأميركية الامتناع عن اتخاذ إجراءات من شأنها تعريض الدولار لتقلبات شديدة وحادة، إضافة إلى السعي إلى حفض العجز المالي الأميركي في المديين، المتوسط والبعيد.

ومن جانبها، وعدت الصين بتكثيف جهود زيادة الطلب المحلي في سياق "العمل على ضمان أسباب النمو الاقتصادي القوي والمستدام في الولايات المتحدة والصين والعالم"، كما التزمت بالاستمرار في سياسة إصلاح سعر صرف اليوان، وزيادة مرونته، وذلك كي تتمكن الولايات المتحدة الأميركية والصين من "انتهاج سياسات نقدية استشرافية تأخذ في الاعتبار تداعيات هذه السياسات على الاقتصاد العالمي"، حسبما ورد في بيان القمة.

غير أن الرئيس باراك أوباما خرج بأحد أهم الإنجازات بخصوص حقوق الملكية الفكرية، التي كانت محط انتقاد شديد لجميع الإدارات الأميركية تجاه الصين، حيث وعدت الصين بفرض رقابة موثقة وشديدة لضمان استخدام مؤسساتها الحكومية برمجيات مشروعة، ومدفوعة القيمة، وتعهدت بالامتناع عن تطبيق "بنود سياسة الابتكار الوطني" على المناقصات الحكومية، وهو ما يشكل استجابة لمطالب الشركات الأميركية، التي تعتبر أن هذه السياسة تحرمها من فرصة التنافس على عقود ضخمة وكبيرة القيمة. كما وعد الرئيس الصيني بتشجيع الشركات الصينية على الاستثمار وإحداث الوظائف في مختلف أنحاء الولايات المتحدة الأميركية.

==========================

لم يعد... "شعبُ مصر لمن غَلَب" !

سركيس نعوم

النهار

29-1-2011

الشعب المصري تحرك كثيراً وفي الشارع من اجل المطالبة بحقوقه وخصوصاً في النصف الاول من القرن الماضي. وتركزت مطالبه في معظمها على مقاومة الفساد الذي استشرى في العهد الملكي، والذي كان من اسباب هزيمة جيش مصر في مواجهة الاسرائيليين عام 1948. كما تركزت على مقاومة النفوذ الاستعماري الغربي سواء داخل مصر او حتى داخل الاسرة الحاكمة، وعلى التمسك باستعادة القرار الحر والمستقل من اصحاب هذا النفوذ، وبجلاء الجيوش الاجنبية عن ارض مصر، وبحق مصر في السيطرة على مقدراتها ومرافقها العامة وفي مقدمها قناة السويس. لكن هذا الشعب امتنع عن التحرك السياسي والشارعي الا في مناسبات محدودة منذ قيام الثورة الناصرية عام 1952، وإرسائها نظاماً في مصر حقق الكثير من المكاسب لشعبها وخصوصاً على الصعد التعليمية والثقافية والاقتصادية والحياتية، كما مكَّنها من اكتساب زعامة الجماهير في كل العالم العربي، والكثير من التأثير في العالم الاسلامي، مع كثير من الاحترام في دول العالم الثالث. لكنه (اي النظام) ابتعد عن الديموقراطية، ومسَّ الكثير من الحريات، واطلق يد الاجهزة الامنية والمخابراتية كي تتحكم بالشارع وتقيه مفاجآته. واستمر هذا النظام سارياً في مصر حتى بعد رحيل مؤسسه الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، واثناء حكم خلفه (الراحل) انور السادات، ثم خلف السادات الرئيس الحالي حسني مبارك. وتمتد هذه المرحلة نحو 58 سنة. وخلالها لم يتحرك الشارع المصري الا مرات قليلة جداً. اولاها كانت احتجاجاً على غزو اسرائيل وفرنسا وبريطانيا مصر عام 1956 ودعماً ل"الزعيم الاسمر" عبد الناصر في مواجهة الاستعمار. وثانيتها، كانت لوداعه بعد وفاته في ايلول 1970. وثالثتها، كانت احتجاجاً على سياسات اقتصادية واطلق عليها في حينه، عام 1970 على الارجح، ثورة الخبز. أما الرابعة، فهي التي بدأت قبل ايام والتي تبدو اكثر خطراً من سابقاتها على النظام الحاكم بل على الاسرة الحاكمة نظراً الى تشعب اسبابها وترابطها في الوقت نفسه. طبعاً لا يعني ذلك ان مصر لم تشهد تحركات شعبية اخرى خلال المدة الطويلة المذكورة اعلاه. لكنها كانت اقل خطورة، واكثر موضعية، وتالياً اكثر تقبّلاً للعلاج سواء المخابراتي او الامني او الفعلي الرامي الى ايجاد حلول لها.

ما هي اسباب التحرك الشعبي المصري الاخير الذي يبدو انه يُهدِّد للمرة الاولى نظام مصر وحكم رئيسها حسني مبارك الذي امضى قرابة 30 سنة في السلطة حتى الآن، والذي يعمل كل ما في وسعه منذ سنوات لتوريث ابنه جمال السلطة؟

يعتقد بعض المحللين والباحثين الاميركيين وغيرهم ان انتفاضة تونس، بل ثورتها العفوية التي اطاحت في اقل من شهر الرئيس زين العابدين بن علي ونظامه الديكتاتوري، كان لها اثر محفِّز جداً عند الجماهير المصرية التي قالت لنفسها انها تستطيع التغيير هي الاكبر عدداً بما لا يقاس من جماهير تونس والاكثر بؤساً منها بما لا يقاس ايضاً، وتالياً الاكثر قدرة على تحقيق الاهداف، لكن هذا البعض يعتقد ايضاً ان للاقتصاد دوراً مهماً في دفع المصريين الى النزول الى الشارع. فشباب مصر يشكّلون 70 في المئة من شعبها، وهم يعانون البطالة باكثريتهم سواء في ادارات الدولة، او في القطاع الخاص المتطور حيث لا يتناسب تعليمهم مع المؤهلات التي يتطلبها العمل فيه. ونسبة عالية من شعب مصر تعيش على ما يقدّر بأربعة دولارات اميركية يومياً، علماً ان كلفة المعيشة فيها ارتفعت على نحو جنوني. فضلاً عن ان الحكومات المصرية المتعاقبة طبَّقت سياسات اصلاح اقتصادي استحقت تصفيق المسؤولين في صندوق النقد الدولي، لكنها استحقت في الوقت نفسه لعنات الجماهير المصرية وغضبها، ولا سيما القسم الذي رفع الدعم عن سلع حيوية واساسية لا يستغني عنها المصريون ولا سيما منهم فقراؤهم.

ويعتقد بعض آخر من الباحثين والمحللين الاميركيين وغيرهم ان ارتفاع نسبة التعليم في اوساط شباب مصر، سواء كان تعليماً عادياً اي تعليم المدارس الحكومية، او تعليماً متقدماً اي تعليم المدارس والجامعات الخاصة، عرّف هؤلاء الشباب الى الاعلام ليس التقليدي فحسب بل المتقدم والالكتروني، ومكّنهم من معرفة ماذا يجري في العالم وماذا يجري من حولهم، واتاح لهم التواصل في ما بينهم والتفاهم اذا دعت الحاجة، كما حصل في الايام الماضية، على الانتفاض ضد الظلم والجوع والفقر والتحجُّر وما الى ذلك. ويعتقد بعض ثالث من المحللين والباحثين الاميركيين انفسهم ان "الاخوان المسلمين"، اقوى الحركات الحزبية الدينية في مصر واكثرها شعبية، كان لهم دور في الانتفاضة المصرية المستمرة ولكن بجمهورهم وليس بقيادييهم، و"بقرار" اتفق على ان يوصف بالعفوي منهم لاسباب عدة ابرزها معرفة قيادة الاخوان ان تورطهم رسمياً وبكل قوة في ما يجري سيدفع النظام الى ضربهم بقوة مصوراً بذلك وللعالم كله وللمصريين انه يكافح "الارهاب الاسلامي الاصولي". وقد يمكّنه ذلك من انقاذ نفسه وخصوصاً اذا نجح في استعداء قطاعات شعبية مصرية ليبرالية واسعة على "الاخوان".

هل تتحول الانتفاضة العفوية في مصر ثورة او هل تنجح في تغيير النظام كما حصل في تونس؟

لا بد من القول ان ما يجري في مصر من شأنه "وأد" المقولة التي اعتبرت شعبها من قديم الزمان سلبياً لا يتحرك حتى للمطالبة بحقوقه، والتي اختصرها البعض بالقول المأثور: "ان مصر نيلها ذهب ونساؤها لُعَب وشعبُها لمن غَلَب". او على الاقل ان من شأن ما يجري شطب القسم الاخير من هذا القول، والتأكيد ان شعب مصر حر ويتحرك بقوة لدى تعرّضه للظلم. اما بالنسبة الى نجاح الانتفاضة في التحوّل ثورة ناجحة فان احداً لا يجزم بذلك، أولاً لأن مصر غير تونس رغم ان المظاهر والاعراض في البلدين تتشابه كثيراً. ويظهر الاختلاف في نظام مصر المرن رغم ديكتاتوريته وشموليته. ويظهر ايضاً في المؤسسة العسكرية المصرية القوية والضخمة والمُحترَمة من المصريين. وليست هذه حالها في تونس. ويعني ذلك، على الاقل حتى الآن، ان حظوظ المنتفضين في قلب مبارك ونظامه غير قوية، لكن ما حققه هؤلاء حتى الآن ايضاً هو انهم دقوا جرس الانذار ل"الحزب الوطني الديموقراطي" الحاكم، ولزعيمه مبارك واحبطوا آمالهما في تأمين انتقال هادىء وسلس للسلطة من الاخير الى ابنه جمال، وان الشعب المصري لن يكتفي بعد الآن باجراءات اقتصادية ذات طبيعة استهلاكية لا بنيوية يتخذها النظام لامتصاص النقمة. وهم ربما يحققون في الايام المقبلة امراً ثالثاً هو اطلاق عملية الاصلاح الفعلي. اما اذ لم يحصل ذلك كله، فإن مصر قد تدخل مرحلة عدم استقرار طويلة مؤذية لها وللمنطقة والعالم. وذلك امر لا يتساهل معه قادة الاثنين. ولذلك فانه قد يُفسِح في المجال امام التغيير الآمِن. ولا يقوم بتغيير كهذا في مصر الا الجيش.

==========================

تركيا .. هل تصلح مصدر إلهام للعرب؟

ماركو فيسنزينو

الدستور

29-1-2011

حكومة رئيس الوزراء التركي ، رجب طيب أردوغان ، قدمت دعما قوياً لفلسطين.

رغم أن الدول العربية ساهمت بشكل كبير في صمود الشعب الفلسطيني ، إلا أن الحكومة التركية برئاسة رجب طيب أرودغان هي التي برزت كأكثر المتحدثين باسم الفلسطينيين حزماً. وبدعم أقوالها بالعمل الدبلوماسي ، قامت تركيا مؤخرا بالتأثير على دول مثل البرازيل والأرجنتين للاعتراف بدولة فلسطين مستقلة. وسوف تتبعهما دول لاتينية أخرى قريبا. بالإضافة الى ذلك ، تنشط تركيا في تسخير الدعم الدولي من أجل إنهاء الحصار الإسرائيلي على غزة.

رغم التعاطف الشعبي العام مع محنة الفلسطينيين ، فإن الأتراك ليسوا متوحدين حيال طرق إظهار هذا الدعم. الأتراك العلمانيون يزعمون أن المنظمات غير الحكومية ذات التوجهات الدينية ، وبتشجيع حكومي ، تستغل القضية الفلسطينية لتقوية نفسها والترويج لها في الداخل والخارج. الإخفاق الذي حصل مؤخرا للأسطول قبالة غزة خير مثال على ذلك.

من الشائع في الشرق الأوسط أن تُعزى أسباب المصائب في الدول العربية الى الاستعمار الغربي وأربع قرون تقريبا من الحكم العثماني. وفيما تستمر الكراهية الملحوظة ضد الغرب ، أصبح هناك تحول هام في الرأي العام العربي تجاه تركيا في السنوات الأخيرة. بشكل متزايد ، ينظر العرب الى تركيا ولسان حالهم يقول: "هذا ما يجب أن نكون عليه".

لقد حازت تركيا على احترام كبير جدا بسبب انجازاتها وتأثيرها المتنامي في المنطقة. ورغم كونها دولة ذات أغلبية سنية ، استطاعت حتى الآن أن تترفع عن الانقسام بين السنة والشيعة وهو الأمر الواضح في كثير من الدول العربية والدول ذات الأغلبية المسلمة - محولة إياه بذكاء الى رأس مال سياسي ودبلوماسي هام.

بعد خيبات أمل متعددة ، لا يزال الشارع العربي محبطا ومتشائما بشكل واسع. وفيما يقدم الفخر بإنجازات السلف بعض العزاء ، إلا أن الوقائع الحالية تطغى عليه عادة.

القليل من القادة ، إن وُجدوا أصلا ، يشكلون مصدر إلهام. كان من المقدر للخطوات البطيئة في العراق أن تكون متبوعة ببطء أكبر وبخطوات أقل. رغم شفافية الانتخابات ، فإن الإقتتال الفلسطيني الداخلي يقوض الأمل الحقيقي. بعد عقود من الحكم العسكري ، يقف الغموض الذي يكتنف هوية الرئيس القادم في مصر كسيف مسلط على مستقبلها. رغم التقدم الواضح ، لا يزال لبنان كبرميل بارود هش يمكن أن ينفجر في أي لحظة.

السؤال المتكرر بشكل متواصل في أوساط السياسة الغربية هو ما اذا كانت تركيا تستطيع أن تكون نموذجا يُحتذى به بالنسبة للدول العربية.

فيما يمكن لتركيا أن تكون مصدر إلهام وأن تقدم دروسا مفيدة ، إلا أنه ليس بإمكانها أن تكون نموذجا. الديناميكية الفريدة والسياق التاريخي اللذان تطورت ضمنهما الجمهورية التركية الحديثة لا يمكن تكرارهما. تركيا المعاصرة لا تزال تتطور ديمقراطيا. الصراعات الداخلية على السلطة والقضية الكردية والطريق الأوسع الى الاصلاح هي فقط بعض الأمور التي تُذكر بوعورة الطريق في المستقبل. يتوجب على الحكومة أن تحقق توازنا. بوجود تحديات ضخمة في الداخل ، يجب عليها أن تتجنب تجاوز حدودها في الخارج.

بوجود غالبية ساحقة من الشعوب العربية ممن تقل أعمارهم عن 30 سنة يواجهون مستقبلا كئيبا ، فثمة قنبلة ديموغرافية موقوتة على وشك الانفجار في المنطقة. هذا الأمر يؤكد أيضا على ضرورة أن تقوم القيادة التركية بتشجيع قطاعها الخاص على أخذ زمام المبادرة في الشرق الأوسط وتحرير طاقاته. من خلال خلق الفرص ، يمكنه أن يساعد في تخفيف الضغوط الإقليمية والمساهمة في الوصول الى بر الأمان.

التغير في الشرق الأوسط الأوسع سيحدث بشكل فاعل أكثر من خلال عملية تطورية تتميز في المقام الأول بالنمو الاقتصادي وليس فرض النماذج الخارجية. تدريجيا ، ومع مرور الوقت ، ستزداد احتمالية حدوث إصلاحات إضافية. عند الضرورة ، يمكن للسياسيين في تركيا أن يتدخلوا بشكل بسيط ولكن عليهم أن يتركوا مسألة صنع النتائج لرجال الأعمال. وذلك لأن أكثر سفراء تركيا فاعلية يأتون من قطاعها الخاص.

على مدى أربعة قرون انتهت مع الحرب العالمية الأولى ، كانت معظم القرارات الهامة التي حددت مسار التاريخ العربي تصدر من اسطنبول. التاريخ لن يعيد نفسه. مع ذلك ، يجب الترحيب ، بعد حوالي قرن من الغياب ، بعودة التأثير التركي الحقيقي الى العواصم العربية ولكن في صورة أفضل مما مضى. يعد ذلك أمرا جوهريا أيضا من أجل التحول التدريجي لمنطقة يشكل عدم الاستقرار فيها تهديدا متواصلا للنظام العالمي.

==========================

أفتخر بهويتي ... كالتونسي

القدس العربي – 25/01/2011

فواز تللو

كاتب سوري

أفتخر بهويتي...عبارة نسيناها منذ عقود حتى جاءت انتفاضة تونس لتوقظها، أقولها اليوم وأنا لست تونسيا، لكن هويتي تتطابق مع هوية التونسي الوطني العربي المسلم، الإنسان الحر الذي حقق استقلاله الثاني بشكل سلمي راق في وجه نظام أمني مستبد فاسد.

أنا كالتونسي، عربي وأفتخر بهويتي العربية أمام العالم، بعدما أساء لهذه الهوية الاستبداد وفهم عنصري استئصالي لمعنى الانتماء العربي، وليشرعن هذا الفهم بالتالي للاستبداد والظلم.

وأنا كالتونسي، مسلم وأفتخر بهويتي الإسلامية أمام العالم، بعدما أساء لهذه الهوية، قلة كفَرت وقتلت باسم الإسلام وأساء لها من أيّدهم أو برَر لهم ولو بعض أفعالهم، ومن كان عن يمينهم أو يسارهم، وربما ادعى عداءهم لمصالح سياسية آنيَة، لكنه في جوهر فكره لم يكن إلاَ مثلهم.

وأنا كالتونسي، وطني وأفتخر بانتمائي لوطني الحالي الذي رسمت حدوده منذ قرن، بعيدا عن رأيي، كما حصل في تونس، لكنني عملت على تنميته والحفاظ عليه من التفتت، من دون شعور بالذَنب لأنني لم اعتبر انتمائي لوطني خيانة من منظور عربي ولا كفرا من منظور إسلامي، متسلحا بشعورعال بالمواطنة، ومتجاوزا انتمائي القبلي والطبقي والطائفي، كما هو التونسي الذي اعتبر أخاه في تونس أقرب إليه من أي شخص غير تونسي، كائنا ما كانت قوميته او طائفته، لا كرها بالآخرين، بل إدراكا واعيا بالأولويات.

وأنا كالتونسي، فخور بأنني أضع قيم الإنسان والإنسانية من قبيل احترام حقوق الإنسان الأساسية، وعلى رأسها قيم الحرية والديمقراطية وحق الاعتقاد والاختلاف والحياة والكرامة، أضعها جميعا كم وضعها التونسي، أولوية وعلى رأس وفي صلب أيِ فكر أو إيديولوجيا سياسية قد أؤمن بها، سواء كانت قومية أو إسلامية أو ليبرالية أو يسارية، من دون أن أسمح بأي مبررات لتجاوز هذه القيم الإنسانية من قبيل التحدِيات والمؤامرات الخارجية والداخلية والهجمة الصهيونية والإمبريالية والهجمة على الإسلام، وغير ذلك كثير من مبررات تستخدم لتهميش أولويَة هذه القيم الإنسانية أو تخوين أو تكفير من طالب باحترامها وتطبيقها وجعلها أولويَة.

وأنا كالتونسي أفضِل الاستقرار لا الفوضى، لكنه بالتأكيد ليس استقرار المستنقع الأبدي، الذي يخبِئ تحت سطحه ما هب ودب من آفات اجتماعية، وما أن يتحرك سطحه الراكد المستقر، حتى تنتشر تلك الآفات لتحول البلاد إلى فوضى تأتي على كل شيء. إن الاستقرار الذي أقدسه كالتّونسي، استقرار يبدأ وينتهي عند الإنسان كأعلى قيمة، وما يتفرع عن ذلك من حقوقه الأساسية وحريته وكرامته وإرادته الحرة، بعكس ما يروج له البعض من تقديس الاستقرار المستنقعي على حساب هذه القيم، ملوحا بالخوف من الإسلام وكل مظهر من مظاهر التدين، لأخذ البركة من السادة في الغرب، لقمع البشر ومصادرة أي تحول ديمقراطي، بغض النظرعن الغطاء الايديولوجي الذي يختبئ هذا البعض خلفه.

ترى... هل هناك من حرّك وجمع العرب والمسلمين وشعوب العالم جميعا، من دون اختلاف، ومنذ زمن طويل، كما جمعهم الحدث التونسي؟ هي قليلة جدا إن وجدت، فالجميع هنا وبلا استثناء... تقريبا، وحّدهم الهمُ التّونسي، ففرحوا لفرح تونس وما أنجزته انتفاضتها، وباتوا يعتبرون أنفسهم منتصرين وكأن جائزة الحرية كانت من نصيبهم وليست للتّونسيين فقط، فالهوية التي تبناها التّونسيون لانتفاضتهم كانت هي الهوية الأعلى التي جمعتهم مع كل العرب والمسلمين وشعوب العالم، إنها رابطة قيم الإنسان والإنسانية من قبيل احترام حقوق الإنسان الأساسية، وعلى رأسها قيم الحرية والديمقراطية وحق الاعتقاد والاختلاف والحياة والكرامة والعدالة. تلك كانت هوية وأهداف وشعارات الانتفاضة التّونسية، وهي أيضا ما جمع البشرية حولها، وهو ما يجمع الإنسان بأخيه الإنسان قبل أي شيء آخر. هي هويتنا الأولى جميعا مهما كان انتماؤنا القومي أو الطائفي أو معتقدنا الإيديولوجي، الذي قد يشكل أي منها هوية ثانية وثالثة لنا من دون تناقض ... إنسان يقدس الحرية والعدالة والخبز والكرامة.

كاتب سوري

==========================

انعطافة في مفهوم الامن الاسرائيلي

الوف بن «هآرتس»

الدستور

29-1-2011

أحدثت حرب الخليج انعطافة في مفهوم الامن الاسرائيلي ، فلاول مرة منذ 1948 جرت المواجهة في الجبهة الداخلية ، صواريخ سكاد العراقية التي اطلقت نحو غوش دان (تل ابيب) وحيفا تجاوزت الاستحكامات ، فرق المدرعات واسراب سلاح الجو وضربت التجمعات السكانية المدنية ، شخص واحد فقط قتل ، والضرر الذي لحق بالاملاك لم يكن كبيرا ، ولكن الدولة شلت في ستة أسابيع من الحرب ، عشرات الآلاف فروا من منازلهم في مناطق الخطر ، ورفضت شركات الطيران الاجنبية الهبوط في اسرائيل ، والسكان الذين بقوا في بيوتهم وأماكن عملهم وتحصنوا في الغرف المأمونة شعروا بان الجيش الاسرائيلي لا يمكنه أن يدافع عنهم.

لقد نجح صدام حسين في إخافة الاسرائيليين ، وأثار نجاحه سلسلة من المحاكاة ، فقد نقل الفلسطينيون الانتفاضة من المناطق الى داخل اسرائيل ، بداية بطعن السكاكين وبعد ذلك بالعمليات الانتحارية. وسوريا ، ايران ، حزب الله وحماس تزودوا بمنظومات واسعة من المقذوفات الصاروخية والصواريخ التي تهدد "دولة تل أبيب" ، حيث يتركز معظم السكان ويكاد يكون كل النشاط الاقتصادي.

الحرب التي انتهت بانتصار اميركي أدت الى المسيرة السلمية الاسرائيلية - العربية ، التي بدأت في مؤتمر مدريد ، ولكن رئيس الوزراء اسحق شامير لم يحسب الضرر الذي لحق بالجبهة الداخلية كسبب لتغيير سياسته التي رفضت كل انسحاب من المناطق أو إبطاء للإستيطان. وقد جر الى مدريد فقط تحت الضغط الامريكي.

خليفته ، اسحق رابين ، كان أول السياسيين الاسرائيليين الذين استوعبوا التهديد على الجبهة الداخلية واستخلص منه استنتاجات سياسية ، وكوزير للدفاع قلق رابين من قدرة صمود السكان حتى قبل حرب الخليج حين رأى اصابات الصواريخ في "حرب المدن" بين بغداد وطهران في المراحل الاخيرة من الحرب الايرانية - العراقية.

وعندما كان نائبا في المعارضة ، نزل رابين ثمانية طوابق من شقته في حي نافيه افيفيم الى الملجأ ، التجربة غير اللطيفة أثرت عليه ، لدى عودته الى الحكم ، للسعي نحو حل وسط مع الفلسطينيين والسوريين ، وعلل رابين نهجه بالخوف من أن يجد مواطنو اسرائيل صعوبة في الصمود امام هجوم واسع على الجبهة الداخلية.

وجد الجيش الاسرائيلي صعوبة في الاعتراف بالتهديد الجديد ، وزير الدفاع في حرب الخليج ، موشيه آرنس فرض على الجيش تغييرات تنظيمية في أعقاب الحرب: اقامة قيادة الجبهة الداخلية ومنظومة الوسائل الخاصة ، وحيث تطوير منظومة "حيتس" لإسقاط الصواريخ ، ولكنه اعتبر في نظر الجنود كمواطن مثير مشاكس. ايهود باراك ، الذي عين رئيسا للاركان بعد الحرب ، رأى في منظومة الدفاع مبادرة مدنية "معارضة للخطة متعددة السنين" ، نهج الجيش كان أنه لا يمكن الانتصار في الحرب بوسائل دفاعية ، ومن الافضل تعزيز ذراع الهجوم.

مرت 15 سنة وقدرة الصمود للجبهة الداخلية اختبرت مرة اخرى في حرب لبنان الثانية ، الثلث الشمالي لاسرائيل تعرض للهجوم الصاروخي من لبنان ، هذه المرة اطلق على اسرائيل نحو 4 الاف صاروخ ، اكثر بمائة ضعف مما في حرب الخليج ، مئات الالاف فروا من مناطق الخطر ، المنظومات المدنية وجدت صعوبة في اداء مهامها والجيش الاسرائيلي لم ينجح في وقف نار حزب الله ، مخيم اللاجئين الذي اقامه في رمال نيتسانيم ، والحرب انتهت بالتعادل ، ولكن في الجيش فهموا الحاجة الى ملاءمة المفاهيم ومبنى القوة مع التهديد المتغير.

لذلك يستعد الجيش الاسرائيلي لنقل الحرب الى أرض العدو ، اذا ما تعرضت اسرائيل للهجوم ، وضد التهديد على الجبهة الداخلية الاسرائيلية ، يقترح الجيش الاسرائيلي الهجوم على مواقع حيوية في الجانب الآخر يهدد حكمه وبقاءه ، في اطار ما يسمى ب"عقيدة الضاحية" ، وبلغة أقل كياسة ، دمار مقابل دمار.

ومثل بن غوريون فان كبار قادة الجيش الاسرائيلي اليوم يعتقدون بأن اسرائيل ملزمة بأن تسعى الى حرب قصيرة - يوم ، يومين ، ثلاثة - والا تنجر الى مواجهة طويلة تتآكل فيها شرعية عملها ، ويتسع الضرر المعنوي والاقتصادي بالجبهة الداخلية ويتمكن العدو من الإدعاء"بقيت واقفا على قدمي وانتصرت".

==========================

ميقاتي.. الخطأ في التوقيت

حازم مبيضين

الرأي الاردنية

29-1-2011

على مدى عمر الدولة اللبنانية, رفض السنّة في هذا البلد أن يتعاملوا مع الحياة السياسية كطائفة, وظلوا يصرون على الإنخراط في مشروع بناء دولة المؤسسات العابرة للطوائف, وكان ذلك شديد الوضوح حين تولى الشهيد رفيق الحريري رئاسة الوزراء, فسعى لبعث الحياة في مشروع إعادة بناء الدولة, التي فككت مكوناتها الحرب الأهلية, من خلال اجتراح صيغة لتعايش الطوائف, تتأكد من خلالها الشخصية الوطنية, القادرة على التعاطي بندية مع العالم الخارجي, القريب منه والبعيد, وتنأى بوطن الأرز عن كونه ساحة للتجاذبات الإقليمية والدولية, وبعد اغتيال الحريري الاب مادياً, تبرز اليوم محاولة اغتيال الابن سياسياً ومعنوياً, لتمسكه بنهج والده المبني على الانفتاح وطنياً على كل مكونات الشعب اللبناني, انطلاقاً من القناعة بأن لبنان وطن الجميع, المتساوين أمام الدستور والقانون.

المناوئون لهذه السياسة رفضوا دور الزعيم الوطني للحريري, وحاولوا سجنه في دور الزعيم الطائفي المرفوض, وسعوا في هذا الإطار إلى تفكيك قوى 14 آذار, من خلال الضغوط على أطراف هذا التحالف العابر للطوائف, ونجحوا جزئياً بفصل جماعة جنبلاط باعتبارهم يمثلون المكون الدرزي, وكان لهذا النجاح الذي نصر على جزئيته, أن يضع لبنان تحت الوصاية الإيرانية من خلال استئثار حزب الله بالقرار, وكان ذلك واضحاً حين سمى الشيخ حسن نصر الله عمر كرامي كمرشح لرئاسة الوزراء, قبل استبداله دون التشاور معه بنجيب ميقاتي, الذي كان محسوباً على تيار المستقبل ونجح في الانتخابات على قائمته, كما كان ذلك واضحاً باختراق الصف المسيحي من خلال تبني بعض الشخصيات الطامحة للعب دور ليس مقدراً لها, ويقيناً أن اللعبة مستمرة لتفتيت أي تجمع وطني مقابل التجمع الطائفي الذي يقوده حزب الله بالقوة المفرطة والتهديد بالعزل أو التصفية.

لو كان الظرف مختلفاً لما كان لأحد أن يعترض على تكليف ميقاتي بتشكيل الحكومة, أما مجيئه على وقع 68 صوتاً نيابياً يعرف الجميع كيف تم تجميعها, وفي حين أن المتعارف عليه أن يأتي الرئيس وهو يحمل برنامجه للحكم والإدارة, فإن ميقاتي يأتي محملاً ببرنامج غيره, وهو برنامج اتضحت معالمه, ولم يبق غير اتخاذ الخطوات العملية للتنفيذ, وهو يقضي بالانضواء تحت ألوية ولي الفقيه, وميقاتي يعرف سلفاً أنه إن تقاعس عن التنفيذ سيكون عرضة للتخلي عنه واستبداله, والمجيء بآخر ينفذ المخطط بحذافيره, دون أن يجرؤ على النقاش لأنه يعرف المصير الذي ينتظره.

حتى لو اغتيل الحريري الأب مادياً, وتواصل السعي لاغتيال الإبن سياسياً, أو الرضوخ لمنطق أنه ليس أكثر من واحد من زعماء الطائفة السنية, فان السعي سيستمر لتحجيم أي زعيم لبناني بطموح وطني وستمضي محاولات سجنه في قمقم طائفته, لأن الواضح كما تقول الوقائع, أن حزب السيد لم يكن مخطئاً في التقدير, حين استفز وقهر وتحدى, وهو يدرك جيداً خطواته الهادفة إلى جر الطائفة السنية إلى مربع الانتماء الطائفي, لتتساوى معه في ذلك الانتماء, غير أن ردود الفعل الغاضبة على فرض ميقاتي رئيساً, وإن كانت في مجملها رفضاً لسياسات حزب الله, فانها أكدت زعامة الحريري الوطنية, من خلال قدرته وهو خارج السراي الحكومي على ضبط إيقاع الشارع السني وطنياً, ويبدو منطقياً اليوم مقاطعة قوى 14 آذارلحكومة ميقاتي, ودعوتها لأنصارها للاعتصام يومياً في الشوارع, بعد الغموض الذي يغلف موقف الرئيس المكلف من المحكمة, ومسألة جمع السلاح غير الشرعي, واعتباره ذلك مطالب تعجيزية, فيما يطالب الجنرال عون بسرعة تشكيل حكومة بغض النظر عن تمثيلها للبنانيين كافة, فالمهم أن تضم صهره الذي فشل في الحصول على مقعد في مجلس النواب المنتخب.

==========================

بع كل ما لديك وتعال اتبعني/ المقال الثالث

الجمعة, 28 يناير 2011

القس لوسيان جميل

تلكيف – محافظة نينوى – العراق

fr_luciendjamil@yahoo.com

موقع كتاب من أجل الحرية

المقدمة:

 اعزائي القراء

 كنت قد وعدتكم بثلاث مقالات من وحي العنوان اعلاه.

 وقد كان المقال الأول يتكلم عن التضحيات الواجبة لكي يحفظ الناس اوطانهم بأمان، ومنها ان لا يفكر المواطن بأي مكسب شخصي او حزبي، عندما يعمل عملا معينا في خدمة وطنه. اما المقال الثاني فيتكلم عن التضحيات الواجبة من اجل استرداد الأمة من براثن مستلبيها، هذه الأمة التي لا يقل وجودها اهمية للإنسان عن وجود الوطن نفسه. اما المقال الثالث الذي اضعه تحت انظاركم اليوم فيتكلم عن وحدة اخرى انسانية انثروبولوجية وحضارية تهم الانسان، مثلما يهمه وطنه وتهمه امته، ولاسيما في زمن اصبح العالم قرية صغيرة، كما يقال.

 اما هذه الوحدة، او المنظومة، فهي وحدة عالمنا الانساني، بكل ابعاده الانسانية، ولاسيما بأبعاده الاجتماعية السياسية، مع ما تتطلب هذه الوحدة من اخلاقيات اصبحت ضرورية لكي يصير عالمنا هذا، عالما يمكننا السكن والعيش فيه Habitable .

وحدة كوننا وتماثله:

 وبما اننا سوف نتكلم في هذا المقال عن وحدة عالم الانسان، فإننا سوف نبدأ من خلال كلام مختصر بالكلام عن وحدة كوننا اولا، لكي يكون كلامنا شاملا ومؤسسا على فكرة علمية لا يمكن ردها بسهولة، فهذا الكون، الذي هو كوننا، والذي يقول العلماء عنه انه يكاد يكون كونا غير متناه، بقطر يبلغ مليارات المليارات السنوات الضوئية هو في نهاية الأمر كون واحد، من اصغر بنية، الى اكبر بنية فيه.

ما يقوله لنا العلم:

 في سياق هذا المقال ننبه القارئ الكريم الى اننا سنكتفي بنتائج العلوم لكي نتكلم عن عالمنا، سواء كان هذا العالم هو الكون، او ما يسمى ب الماكروكوسموس Macro cosmos ، او كان ذلك عن الانسان وأبعاده الكثيرة، والذي يسميه بعض المفكرين بالكون الأصغر، او الكون الصغير، الميكروكوسموس Micro cosmos .

وحدة كوننا الطبيعية:

 غير ان ما يهمنا هنا هو وحدة هذا الكون وارتباطه مع بعضه، حيث يمكننا ان نتكلم عنه بمصطلح المنظومة Structure ، ونتكلم عن اوجهه المختلفة بمصطلح الابعاد، كما نتكلم عن احد ابعاده المهمة جدا، أي الانسان، بمصطلح الميكروكوسموس، او الكون الأصغر. اما وحدة ابعاد الكون مع بعضها، فهي وحدة حقيقية قائمة، سواء تكلمنا عن الكون وهو في حالة سكون ام تكلمنا عنه وهو في حالة حركة، وسواء تكلمنا عن هذا الكون في حالة حاضره، ام تكلمنا عنه في حالة ماضيه القريب او البعيد، ام تكلمنا عنه بصفته المستقبلية العتيدة.

وحدة الكون صفة اساسية فيه:

 اما هذه الوحدة التي اشرنا اليها فهي صفة اساسية من صفات كوننا، هذا الكون الذي ينظمه قانون داخلي رئيسي يشرف على هذه الوحدة من خلال التنسيق والربط المحكم بين ابعاد هذا الكون الاساسية، هذه الابعاد التي تشرف عليها ايضا آلاف القوانين المماثلة التي تنسق كل بعد تنسيقا داخليا، فتربطه ربطا محكما بالمنظومة الكونية. علما بأن الفارق الكبير بين وحدة الكون الاكبر ووحدة الكون الأصغر هو ان الكون الاكبر، او الماكروكوسموس، تتحكم به قوانين الحتمية Déterminisme في حين ان قوانين اخرى فيها مجال الحركة والحرية، بمعناها العميق، تتحكم بالكون الأصغر، أي تتحكم بالإنسان في بيئته وفي عالمه وفي مجتمعه.

قوانين وظواهر اخرى:

 اما من ضمن هذه القوانين التي تنظم وجود الكون الأصغر: الانسان الفرد والإنسان المجتمع، فإننا نجد قانون التماثل Analogie الذي يعني وجود اسس مشتركة بين بعض الأمور التي تظهر وكأنها متنوعة او حتى مختلفة، كما اننا نجد في عالم الانسان الظاهرة البنيوية التي تعني ان اية منظومة انما هي واحدة ومتعددة الأبعاد والأوجه، في وقت معا. اما قانون الجدل Dialectique فيبدو هو الآخر قانونا عاما يشرف على سيرورة وصيرورة هذا الكون بجماده وحياته العامة وحياته البشرية. علما بأننا لا نخوض في مجال النظريات العلمية والفلسفية لأن مثل هذا المقال لا يتحمل اكثر مما نطلبه منه.

الميكروكوسموس او الكون الأصغر:

 إلا ان الوحدة ليست خاصية من خصائص الكون الأكبر فقط، ولكنها خاصية جوهرية نجدها في الكون الصغير ايضا، أي في الانسان وعالمه. فالإنسان بجميع ابعاده وبناه، انطلاقا من هذه البنى التي يمكن ان نسميها بأل Micro structures ووصولا الى كبرى هذه البنى التي يمكن ان نسميها بأل Macro Structure ، عبر البنى التي تقع بين اصغر البنى وأكبرها، يخضع لقانون وحدة منظومته الكبرى مع تعدد ابعادها، سواء كان ذلك على المستوى الفيزيائي او المستوى البيولوجي الحياتي او كان ذلك على مستوى الفرد البشري، او كان ذلك على مستوى المجتمع الانساني.

عن وحدة عالم الانسان وتعدديته:

 عندما نتكلم عن وحدة عالمنا الانساني وعن تعدديته في آن معا، فإنما نشخص في عالمنا الانساني هذا، كما في كوننا الكبير، طبيعته الحقيقية الثابتة الوجودية. لذلك نرى ان كوننا الذي نتكلم عنه، انما يحقق ذاته ويحفظها من خلال الحفاظ على وحدته وتناسق ابعاده المختلفة والمتعددة، في حين نرى في هذا الكون الواحد الثابت، صفة التعددية والحرية، عندما تعني الحرية الانفلات من تحكم النمطية والحتمية الفيزيائية والكيميائية. اما هذه الوحدة التي تبيح الحرية والتعددية، فإننا نعتقد انها قاعدة وجودية لا يمكن الحياد عنها من دون ان يحدث للكون خلل عظيم لا تحمد عقباه، سواء حدث هذا الخلل في وحدة الكون الصغير ام حدث في تعددية ابعاده وتناسقها.

تشبيه ايضاحي:

 وفي الحقيقة لقد سبق لي، اكثر من مرة، ان شبهت ما يحدث لأية منظومة عند التجاوز على وحدتها الطبيعية، سواء كانت فيزيائية او حياتية او انسانية او اجتماعية او وحدة روحية، بالذرة التي تتعرض لانفلاق قسري، نتيجة قوة خارقة مسلطة عليها. فما يحدث نتيجة الانفلاق هو انفجار هائل له قوة تدميرية كبيرة، لأن هذا الانفجار هو بالضد من طبيعة الذرة المتماسكة بقوة. علما بأن ما يشبه هذا الانفجار يمكن ان يحدث في حياة انسان فرد، او في حياة مجتمع، عندما تدمر اية جهة كانت وحدتهما بشكل قسري.

نتيجة تدمير المنظومة الانسانية:

 اما نتيجة تدمير المنظومة الانسانية فهي واضحة ومعروفة: فنحن نرى هذه النتيجة عندما نتأمل في المنظومات الانسانية المعتدى عليها من الخارج، وما يلحق بهذه المنظومات من اذى وتدمير وتفكيك، حتى عندما تكون هناك مقاومة للعدوان، حيث تعمل هذه المقاومة احيانا على افشال اهداف عدوان اقوياء العالم. لكن هذه المقاومة بأشكالها المختلفة، مضافا اليها مفعول الالم على الضحية وعلى المعتدي في آن واحد، يوصلان المعتدي في اغلب الأحيان، فضلا عن اعوانه، الى ما يمكن ان نسميه التدمير الذاتي Auto destruction متعدد الأشكال والأنواع، كما حصل خاصة في العراق وأفغانستان، وبشكل اقل وضوحا في اماكن اخرى كثيرة تم الاعتداء عليها من قبل اقوياء العالم وجلاديه.

منظومة المجتمع الدولي:

 ان المجتمع الدولي ( بمعناه السياسي )، ليس الوجه الوحيد للمجتمع الانساني، لكننا، نكتفي هنا بهذا الوجه الدولي الذي يهمنا كثيرا في ايامنا هذه التي غابت فيها الوحدة الانسانية المنشودة وحلت عوضها الفوضى التي سميت من باب الاستهتار بعقول الناس بالفوضى الخلاقة، هذه الفوضى التي لم تكن في الحقيقة غير فوضى قاتلة للبشر Génocide بعد ان قبل اقوياء العالم ان يحولوا مجتمعنا الانساني الى غابة يأكل اقوياؤها ضعفاءها.

حاجة الانسان الى وحدة العالم:

 بما ان الانسان كائن اجتماعي بطبعه، يكون من الطبيعي جدا ان يحتاج هذا الانسان الى التوحد مع امثاله من البشر، لكي يبنوا لأنفسهم سوية عالما يستطيعون ان يعيشوا فيه بأمان وسلام، بعيدا عن شريعة الغاب المخيفة. اما عالم الانسان هذا فقد كان في بداياته عالما صغيرا بدأ بالعائلة ثم العائلة الكبرى ثم العشيرة ثم القبيلة ثم الأمم الدينية ثم الدول المدنية، وصولا الى المجتمع الدولي، مع التطور الانساني الحضاري وتوسعه. علما بأن تسلسل الانتماء الاجتماعي هذا لم يقتصر على مكان محدد من العالم، ولكنه ظاهرة انسانية اجتماعية نجدها في العالم كله، مع فارق في عامل الزمن وتأثيره على البناء الحضاري، وغنى البيئة التي يتم فيها هذا التطور، وإمكانات عطائها.

مظاهر متعددة لوحدة العالم:

 اما مظاهر هذه الوحدة فهي متعددة. فهناك وحدة تنتج عن شعور المجتمع الداخلي بضرورة الاتحاد مع الآخرين والتضامن معهم في بناء ذواتهم. وهناك وحدة ناتجة عن مبادئ اخلاقية وعن فلسفات تدعوا لهذه الوحدة، وان كان اصل هذه الدعوات انسانيا انثروبولوجيا. كما اننا نجد وحدة تنتج عن حاجة عملية في مجابهة صعوبات وكوارث معينة. فالحمل الذي لا استطيع ان احمله احتاج من يستطيع ان يعاونني على حمله. كما اشعر ان غيري ايضا بحاجة الى من يساعده في حمل حمله، الأمر الذي يدفعني الى التعاون والمساعدة. كما اننا نجد اسبابا دينية تدعوا الى هذه الوحدة، وهي اسباب معزِزة للأسباب الانثروبولوجية الانسانية.

 وبما اننا اقتربنا من نهاية الموضوع نرى ان الكوارث الطبيعية والاجتماعية بكل اشكالها، هي احسن من يدعوا الى وحدة البشر. لذلك نرى بعد كل حرب تحدث بين البشر من يحاول ان يضع بعض الاسس التي يستطيع الانسان من خلالها ان يتلافى الحرب مجددا، لكي يتلافى آلامها، وهو امر يحصل للبشر قديما وحديثا.

 سر الخلل في وحدة المجتمعات:

 هنا ربما يكون علينا ان نعود مرة اخرى الى مثل الانفلاق الذري لكي نفهم سر التصدع والانفجار الذي يمكن ان يحدث في المجتمع البشري. ففي الحقيقة لا يمكن، حتى الآن، ان يقوم الانسان بفلق ذرة عادية، نظرا لشدة تماسكها. لكن هناك ذرات غير مستقرة يمكن فلقها بعد تسليط قوة كبيرة عليها، كما سبق ان قلنا. اما المنظومات الانسانية، وخلافا لما هو عليه الحال في المنظومات الفيزيائية ( الذرات )، فليست منظومات قلقة فقط، ولكنها منظومات ضعيفة تتصدع بسهولة وتفقد وحدتها وتماسكها، مع اقرارنا بتفاوت المنظومات الانسانية والاجتماعية في هذا المجال.

 وهكذا نرى ان وحدة المنظومات الانسانية الاجتماعية لا تقارن بالوحدة الفيزيائية الموجودة في الذرة، حتى لو كانت هذه الذرة من النوع القابل للانفلاق. فقد يملك الكائن البشري والمجتمع الانساني كثيرا من وسائل الدفاع الذاتي ضد التدمير والانحلال، إلا ان هناك من يشبه الكائن البشري بإناء من خزف سريع العطب وقابل للكسر، مهما حافظنا عليه.

 فنحن يمكننا، مع العلماء، ان نتكلم عن المادة التي لا تفنى ولا تستحدث، لكننا لا نستطيع ان نقول الكلام ذاته عن صيغ وأوجه المادة، لأن أي وجه من اوجه المادة قابل للتبدل والتغيير والصيرورة. وبما ان المنظومة التي تسمى بالمجتمع البشري منظومة متكونة من ابعاد كثيرة فان الانحلال المادي وحتى الانحلال الروحي وارد في كل ما يخص هذه المجتمعات، الأمر الذي يسبب كثيرا من الالم لهذه المجتمعات ولإنسانها.

 غير ان قابلية اية منظومة متكونة من ابعاد وبنى كثيرة على الانكسار والتجزئة والانحلال لا تعني ان يخضع الانسان للأمر الواقع، لأن اية منظومة من هذا النوع تدافع عن ذاتها تلقائيا، لكي لا يصيبها العطب والكسر والانحلال، قدر الامكان، بحسب طبيعة الانسان الأنثروبولوجية. ومن هنا تأتي رغبة الانسان الدفاعية, والتي يمكننا ان نسميها الدفاع الذاتي Auto défense لتبتدع آليات دفاعية عن الذات الفردية والاجتماعية، لكي لا يذهب الفرد والمجتمع ضحية ضعفه الطبيعي.

 غير اننا، قبل ان نتكلم عن وسائل الدفاع التي يخلقها الانسان درءا للمخاطر التي تحيط به، فإننا نتكلم عن بعض الوسائل الطبيعية التي تعاون الانسان والمجتمع على الدفاع الذاتي عن نفسه.

الالم والمجتمع الانساني:

 قد يستطيع الانسان ان يدافع عن وحدته ضد المعتدين عليه، إلا ان هذا الدفاع لابد ان يولد الما كبيرا للمدافع والمهاجم في الوقت عينه، سواء اتصر المعتدي في هجومه العدواني ام فشل. فالفشل يسبب الالم للإنسان، كما هو معروف، لكن النجاح في تدمير الآخرين بلا مبرر كاف هو الآخر يسبب الالم للضحية وللمعتدي، حسب قانون تفسره الأنثروبولوجية. ولعل الخبر الذي يقول بأن ملقي القنبلة الذرية على هيروشيما اصيب بالكآبة والندم وطلب الانزواء في احد الأديرة خير مثال على ما نقول.

تضايق الانسان من الحروب:

 على الرغم من ان الانسان يستعد للحرب دائما ويدافع عن نفسه بالسلاح اذا ما اعتدي عليه، إلا ان الانسان الاعتيادي، مقابل ذلك، لا يمجد الحرب، ويطلب من الله في صلواته الطقسية ان يبعد عن العالم الخصومات والحروب ويمنح هذا العالم الامن والسلام، فان مبغضي الحروب قد يشكلون لوبي يضغط على اصحاب القرار كي يتجنبوا الحروب. اما السبب في ذلك فان الأمن والسلام هو الغاية بينما تكون الحروب وسيلة قد لا تكون دوما مشروعة ومتوافقة مع الأخلاق البشرية.

وسائل وحدة الدول:

 سبق ان قلنا ان الحاجة تدعو البشر الى ايجاد الطرق الكفيلة بالحصول على الهدف المطلوب. اما الحاجة في موضوعنا اليوم فهي معروفة: ان البشر بحاجة الى وحدة العالم لأن انقسام العالم يشكل مشكلة كبيرة للإنسان. غير ان البشر ليسوا بحاجة الى وحدة العالم حسب، لكنهم بحاجة الى وحدة العالم المقرون بالسلام والعدل والمحبة للجميع، لكي يعم السلام والرخاء المجتمع البشري بأسره، في عالم موحد ما ان ارتفعت نفس فيه حتى ترفع العالم كله معها، وما ان انخفضت نفس فيه، حتى ينخفض العالم كله معها، كما يتكلم الروحانيون.

وحدة العالم والواقع الراهن:

 هناك فارق كبير بين جامعة الدول العربية وبين منظمة الأمم المتحدة، لكن هناك تشابه ايضا بين المنظمتين. فالفارق بين المنظمتين بين واضح، لأن جامعة الدول العربية مكتوب عليها ان تكون معطلة الى الابد، في حين ان منظمة الأمم المتحدة تعمل بجد ونشاط كل ما يطلبه منها اقوياء العالم وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأمريكية، ولاسيما منذ ان سقط الاتحاد السوفييتي ودخل العالم عهد القطب الواحد، كما يقال.

 اما الشبه بين المنظمتين فهو الآخر بين وواضح، حيث ان المنظمتين قد حادتا كلتيهما عن اهدافهما الصحيحة والمقررة، بعد ان صارت الجامعة العربية معطلة وصارت الأمم المتحدة لا تخدم إلا اقوياء العالم، وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأمريكية. وعليه فإذا كانت تظهر خيانة الأمة في اروقة الجامعة العربية وعلى لسان ممثليها، بسبب نقص القدرة لدى هذه الجامعة وخضوعها المطلق لأقوياء العالم، فان رائحة التعسف والعدوان والشر تفوح من جميع تصرفات الأمم المتحدة، بكل تنظيماتها. فقد تحولت الأمم المتحدة من منظمة يفترض فيها انها تساعد جميع الأمم على ان تعيش بسلام مع بعضها، الى منظمة تكيل بمكيالين او اكثر وتضع نفسها في خدمة الدول القوية المعتدية بالضد من الدول الضعيفة المعتدى عليها، من اجل السيطرة على مقدرات هذه الدول وثرواتها، خلافا لما تتطلبه لوائح وقوانين هذه المنظمة الدولية.

 فمنظمة الأمم المتحدة منظمة قوية ومتماسكة، لكن هذه المنظمة لا تخدم العالم كله، بل تخدم اقوياء العالم وحدهم، بالضد من ضعفائه. وعليه فان مسؤولية ضحايا العالم لا تعود الى اقوياء العالم، وعلى رأسهم القتلة الأمريكان حسب، لكنها تعود الى الأمم المتحدة ايضا بكافة هيئاتها، ولاسيما هيئة مجلس الأمن التي تحولت من اداة سلام الى اداة حرب ضد الشعوب، ولسان حالها يقول: نريد ان نحقق السلام بين اقوياء العالم لكي يستطيع هؤلاء الأقوياء ان يعتدوا على ضعفائه وينهبوا خيراتهم، كما يحدث عندنا في العراق الذي يعبث به المعتدون امام مرأى ومسمع الأمم المتحدة والتي لم تعد متحدة سوى على الشر والظلم والطغيان.

ما نحتاجه اليوم:

 فما نحتاجه اليوم ليس اضافة هذه الدولة او تلك الى مجلس الأمن، ولكننا بحاجة الى امم متحدة تملك اهدافا جديدة تختلف كليا عما هو موجود اليوم. وما نحتاجه اليوم هو نظام عالمي جديد بالحق والحقيقة لا يعالج مسألة الارهاب الوهمية، ولكنه يعالج ارهاب الدول القوية وطغيانها واعتدائها على عالم الضعفاء.

 بالمختصر نحن بحاجة الى تنظيمات وآليات تحد من قدرة اقوياء العالم على شن الحروب المعلنة والخفية على عالم الضعفاء، وهو امر ممكن، اذا توفرت الارادة الصالحة لدى اقوياء العالم، حماية لأنفسهم وللآخرين. كما انه امر ممكن اذا اجبر المعتدون على هذا التغيير، وإذا ما شعر المعتدون ان عدوانهم يعود اليهم بالخسران، وإذا ما ايقن المعتدون بأن من لم يبع ويترك كل ما بحوزته من مجالات الظلم فلن يتمتع بسلام الحقيقة ابدا.

 وقد تفيد الظالمين مقولة الامام علي بن ابي طالب، رضي الله عنه، عندما قال: اذا كانت قدرتك تدعوك الى ظلم الناس فتذكر قدرة الله عليك، هذه القدرة التي تكلمنا عنها بشكل انساني مختلف في هذا المقال.

==========================

قوة الضعفاء.. في عصر المعلومات

بقلم د. وائل مرزا

المصدر : http://www.waelmerza.com/?p=815

نقلا عن موقع الدار الإسلامية للإعلام

وُلد جوليان أسانج، مؤسس ويكيليكس، عام 1971م. وقبل أن يبلغ عمره أربعين عاماً، غيّر التاريخ. هجر أبوهُ والدته قبل أن يصبح عمره سنةً واحدة، فربّته الأم في بلده أستراليا مثل البدو الرُّحّل. وحين أصبح في الرابعة عشرة، كان قد انتقل معها من مكانٍ لآخر سبعةً وثلاثين مرة!

يقول عنه بريت أسانج، زوج أمه الذي رباه بضع سنين وأعطاه كنيته، في تصريح لشبكة CNN، أنه كان من صغره “دائماً مستقلاً، ولايقبل (لا) إجابةً على أي سؤال”، ويضيف قائلاً أن الصغير النابه كان “يقف على الدوام إلى جانب الضعفاء، مثل زملاء مدرسته. حيث كان يغضب باستمرار من فرض العضلات الذي يمارسه الأقوياء منهم على الآخرين، وكان لديه دائماً شعورٌ قويٌ بقيم العدل والمساواة”.

في عامه السادس عشر، اشترت له أمه أول جهاز كمبيوتر. لم تمض أشهر إلا وأسّسَ مجموعةً من الشباب لاختراق الأجهزة الأخرى، حيث لم تكن هناك مواقع إنترنت في ذلك الزمن عام1987م! لكنه كتب للمجموعة جملة من القوانين كان منها: “لاتُخرِّب أجهزة الكمبيوتر التي تخترقها. لاتُغيّر المعلومات الموجودة عليها. وتَشارك مع الآخرين”. من هنا، اكتسب الشاب في بعض الأوساط لقب روبن هود الإنترنت.

تصاعد هوس أسانج بالمعلومات، وتعمّقت صفاته الشخصية المرتبطة باللقب المذكور. وفي عام 1991، كان عمره عشرون عاماً عندما ألقي عليه القبض بتهمة اختراق مؤسسات ضخمة منها الجامعة الأسترالية وشركة الاتصالات الكندية. اعترف بأكثر من 24 تهمة اختراق، لكن القاضي حكم عليه بغرامةٍ صغيرة فقط، مشيراً في حيثيات الحكم إلى أن تصرفاته تعود إلى “ذكائه الفضولي”.

هدأت بعد ذلك نشاطاته الاختراقية لعقدٍ من الزمن، ساهم خلالها في بناء عدد كبير من الأنظمة الحاسوبية، واكتسب خبرةً هائلةً في هذا المجال. لكنه كان متعلقاً دائماً بالعلم، حيث درس في ستة جامعات مختلفة، وإلى جانب الرياضيات والفيزياء، درس الفلسفة وعلم الأعصاب. عاد إلى مقاعد الدراسة بين عامي 2003م و2006م في جامعة ميلبورن، إلا أنه انسحب منها عندما علم أن نتائج أبحاث زملائه في القسم كانت تُستعمل كتطبيقات من قبل مقاولي وزارة الدفاع والجيش.

بعد هذا فوراً، أنشأ موقع ويكيليكس، وحرص على وضع خادمه الرئيس في السويد، حيث توجد قوانين قوية تحمي مثل هذه المواقع. ولكن، من مأمنه يؤتى الحذر، كما يقولون في أمثال العرب. تمّ اتهامه بالتحرش الجنسي في شهر أغسطس الماضي، لكن المدّعي العام أوقف وقتها حكماً بالقبض عليه قائلاً أنه لاتوجد أسباب قانونية لذلك. ثم اشتعلت العاصفة العالمية ضدّه بعد الأحداث الأخيرة، فأعيد فتح الملف، وألقي القبض على الرجل في لندن كما هو معروف.

مرةً أخرى، لسنا معنيين هنا بالبحث في المواد التي تمّ “تسريبها” ولماذا وكيف تمّ التسريب. فالواضح أن القضية أعقد من ان تُفهم باختزالٍ وتبسيط. لا يصلح تفسير المؤامرة بالتأكيد لتفسير الظاهرة. ولانعتقد بإمكانية النظر إليها أيضاً على أنها مجرّد ممارسة فردية وعفوية. فكما يقولون في علوم الاجتماع: أكبر خطأ يمكن أن يقترفه الباحث يتمثل في محاولة فهم أي ظاهرة بواسطة متغيرٍ واحد.

بعيداً عن هذا. لابدّ أن نُمعن النظر في دلالات هذه القضية عندما يتعلق الأمر بمفاهيم الضعف والقوة في هذا العصر.

فعندما يتمكن شابٌ أسترالي عاش مشرداً من امتلاك مثل هذه القوة بتأسيس موقع يعمل فيه خمسةٌ من المتطوعين. وعندما يتمكّن أنصاره المنتشرون في العالم من تعطيل موقع شركة ماستركارد، ومعها شركات أخرى ضخمة مثل (Amazon) و(PayPal) و(eBay) وغيرها، انتقاماً للرجل وموقعه. فإن الحديث عن القوة والضعف بنفس المنطق التقليدي السابق سيكون صعباً بعد اليوم.

مامن شكٍ أن النظام السياسي العالمي يمتلك قوةً كبيرة. وقد ضغط بقوته على الشركات المذكورة، فرضخت لضغط القوة، ورفضت تقديم الخدمات التي كانت توفرها للموقع.

لكن هذه الشركات، التي كانت نفسها نتاج ثورة المعلومات والإنترنت، نسيت قوة تلك الثورة وإمكاناتها. نسيت أنها وفّرت للضعفاء وعامة الناس قوةً يمكن أن تصبح مهولةً ومُخيفة.

كان العالم بأسره يعتقد أن الصحافة كما يعرفها العالم إلى اليوم هي السلطة الرابعة. بمعنى أنها كانت تُعتبر، في بعض الأماكن على الأقل، الرقيب الأقوى على السلطات الثلاثة الأخرى. لكن قضية ويكيليكس أظهرت شيئاً آخر.

عودةً للوقائع، يقول أسانج في مقابلة له مع صحيفة أسترالية أن موقعه قام بتسريب عدد من الوثائق السرية يفوق ماقام به الإعلام العالمي مجتمعاً. ويضيف قائلاً: “أنا لاأقول هذا من باب الحديث عن مدى نجاحنا في الموقع، وإنما تُظهر لك الحقيقة المذكورة الوضع البائس لبقية وسائل الإعلام. كيف يمكن لفريق من خمسة أشخاص أن يُقدم لعامة الناس معلومات مستورة على هذا المستوى أكثر مما يستطيع بقية الإعلام العالمي مجتمعاً القيام به؟ إن هذا يثير الاشمئزاز”.

هذا هو تحديداً مانريد الإشارة إليه. فعالم الإنترنت ليس مجرد وسيلة إعلامية أخرى جديدة. ولايمكن أن تنطبق عليه، عملياً، أي قوانين أو أعراف يمكن تطبيقها على جميع وسائل الإعلام. والنظرُ إليه بتلك العقلية يمكن أن يسوق الناس شعوباً وحكومات إلى مآزق كبيرة. وفي ثقافتنا تحديداً، يمكن الوقوع في مطباتٍ لانهاية لها. فالشائع في هذه الثقافة أن القدرة على الضبط والربط والمنع والمراقبة هي مصادر القوة، وأن تلك الأساليب يمكن أن تكون في النهاية مصدر الأمن والاستمرار والاستقرار الثقافي والاجتماعي والسياسي.

لامفرّ إذاً من المراجعات في هذا المجال. ولامهرب من البحث عن رؤية خلاقةٍ للتعامل مع هذا الواقع الجديد. لابدّ، كما يقولون في بعض الثقافات، من التفكير (خارج الصندوق)، وبعيداً عن المفاهيم والأساليب السائدة. فالإنترنت، رغم كل هذا، ليس مصدر القوة الوحيد. وتأثيرهُ في المجتمعات يختلف باختلاف إجماعها على منظومة الهوية والانتماء، وعلى الأسس الحقيقية لتلك المنظومة، بدءاً من القوانين والأنظمة وانتهاءً بالهياكل والمؤسسات.

وعندما نفكر بمعاني القوة والضعف ونتعامل معها من هذا المدخل، فإن استيعاب قوة الإنترنت مهما كانت يُصبح ممكناً، ومعها ضمانُ الشرعية والأمن والاستقرار.

==========================

الأجانب.. «مرضٌ» تعاني منه القارة الأوروبية

يورغن هابرماس

(فيلسوف وعالم اجتماع وسياسة ألماني)

«لوموند» الفرنسية

الرأي الاردنية

29-1-2011

أوروبّا عرضة لنوبات من الارتباك والاضطراب السّياسيّ منذ نهاية شهر آب الفائت حول القضايا المثيرة للجدل والمتلازمة مع تفاقم النّزعات المناهضة للأجانب، كالاندماج، وتعدّد الثّقافات، واعتماد الثّقافة «القوميّة» ك «ثقافةٍ مرجعيّة». ليست هذه النّزعات حديثة العهد، فالدّراسات والتّحقيقات تظهر منذ فترة طويلة حجم الكره المتزايد والمبطّن تجاه المهاجرين؛ أمّا ظاهريّاً فيبدو وكأنّ هذه النّزعات انبثقت بليلةٍ وضحاها.

فجأةً، غادرت الآراء المقولبة الحانات لتقتحم البرامج الحواريّة وتحاصر خطابات السّياسيّين الأكثر ظهوراً على الإعلام والمتحرّقين إلى جذب ناخبين يغريهم الانحراف الحاصل نحو اليمين.

 وهكذا تعاقبت الأحداث بسرعةٍ بات من الصّعب تحديدها على المشهد السّياسيّ، وهما تباعاً، الكتاب الّذي صدر لعضو مجلس إدارة البنك المركزيّ الألمانيّ السّابق، والخطاب الّذي تلاه الرّئيس الألمانيّ المنتخب حديثاً.

توالت الأحداث عقب إصدار الكتاب الاستفزازيّ «ألمانيا تسير نحو الهاوية» لتيلو زاراتسين، وهو سياسيّ ينتمي إلى الحزب الاشتراكيّ الدّيموقراطيّ (SPD) وعضو سابق في مجلس إدارة البنك المركزيّ. ويشير الكتاب إلى أنّ الهجرة «المضرّة» القادمة من الدّول الإسلاميّة تهدّد مستقبل ألمانيا، ويقدّم مقترحات عن سياسات ديموغرافيّة تستهدف المسلمين فيها. يقلّل تيلو زاراتسين العنصريّ من شأن الأقلّيّة الّتي يمثّلها المسلمون في ألمانيا مستنداً على أطروحة تبيّن انخفاض معدّل ذكاء المسلمين، لتصل بعدها إلى استنتاج بيولوجيّ خاطئ لقي تأييداً غير مسبوق في البلاد.

صحيحٌ أنّ الطّاقم السّياسيّ الحاكم عارض في البداية أطروحة زاراتسين، ولكنّ الرّأي العامّ أيّدها بدون تحفّظ، إذ كشفت التّحقيقات أنّ أكثر من ثلثي الشّعب الألمانيّ وافق على تشخيص زاراتسين الّذي يفضي إلى أنّ ألمانيا «تزداد غباوةً» بسبب الهجرة المتدفّقة إليها من البلدان الإسلاميّة.

بما أنّ إجابات علماء النّفس الّذين استشارتهم الصّحافة حول الموضوع تمثّلت بالحذر، تاركةً الانطباع بأنّ في تلك الادّعاءات عيبٌ ما، باشرت وسائل الإعلام بتغيير موقفها من زاراتسين، وبعد عدّة أسابيع، نشرت إحدى الصّحف مقالاً لعالم الاجتماع المحترم، أرمين ناصحي، يفكّك تفكيكاً منظّماً تحليل زاراتسين المرتكز على «حقائق» علميّة كاذبة، شارحاً أنّ زاراتسين اعتمد في أطروحته على طرقٍ لقياس الذّكاء تمّ دحضها بشكلٍ علميّ منذ عدّة عقود، لا سيّما في الولايات المتّحدة الأميركيّة.

جاءت هذه التّهدئة العقلانيّة متأخّرة، فالسّمّ الّذي بثّه زاراتسين في الشّارع الألمانيّ باستقدامه براهين جينيّة لمفاقمة الكره الثّقافيّ الحاصل تجاه المهاجرين، تخثّر في الأحكام المسبقة الشّعبيّة. وتجدر الإشارة إلى أنّ اللّقاء الّذي جمع كلاً من ناصحي وزاراتسين في بيت الأدب في ميونخ أحدث جلبة في وسط المجتمعين المؤلّفين من الطبقة الوسطى المثقّفة الّتي رفضت مجرّد الاستماع إلى اعتراض ناصحي على البراهين الّتي قدّمها زاراتسين.

صحيح أنّ زاراتسين أُرغم على الاستقالة من منصبه في البنك المركزيّ الألمانيّ، إلاّ أنّ تنحّيه المقرون بالحملة الّتي شنّها اليمين الحريص أبدّاً على التّنديد بمفاسد «التّأديب السّياسيّ»، لم يساهما إلاّ في تجريد براهين زاراتسين الأكثر إثارة للجدل من طابعها المشين، ذلك أنّ الانتقادات الّتي تلقّاها اعتُبرت إفراطاً في ردّ الفعل. ألم تندّد المستشارة الألمانيّة أنجيلا ميركل بالكتاب قبل قراءته؟ ألم يتغيّر رأيها منه مؤخّراً من حيث لا ندري، عندما صرّحت أمام شبّان الحزب المسيحيّ الدّيموقراطيّ أنّ التّعدّديّة الثّقافيّة تجربة عاشت في ألمانيا، ولكنّها باءت بالفشل؟ ألم يتعرّض رئيس الحزب الاشتراكيّ الدّيموقراطيّ (SPD)، سيغمار غابرييل، وهو السّياسيّ المخضرم والوحيد الّذي هاجم ادّعاءات زاراتسين ببراهين بنّاءة، لمقاومة قويّة من الدّاخل، عندما اقترح طرد رفيقه زاراتسين غير المحبوب من الحزب؟

أمّا الحدث الإعلاميّ الآخر الّذي أثار بلبلة في ألمانيا، فردّة الفعل تجاه الخطاب الّذي ألقاه الرّئيس كريستيان وولف المنتخب بمناسبة الذّكرى السّنويّة العشرين على توحيد ألمانيا. عيّن وولف في فترة تولّيه منصب رئاسة حكومة ولاية سكسونيا السّفلى، للمرّة الأولى في الحكومة وزيرة ألمانيّة من أصول تركيّة، وشدّد في خطابه يوم الثّالث من تشرين الأوّل السّابق أنّ الإسلام جزءٌ لا يتجزّأ من ألمانيا، على غرار الدّينين المسيحيّ واليهوديّ. لقي هذا الخطاب الرّئاسيّ ترحيباً حارّاً في البرلمان، إلاّ أنّ الصّحف التّابعة للمحافظين شنّت في اليوم التّالي هجوماً مريراً على تصريحات الرّئيس حول مكانة الإسلام في ألمانيا. ومنذ ذلك الحين يشهد حزب الاتّحاد الدّيموقراطيّ المسيحيّ (CDU)، الّذي ينتمي إليه وولف، انقساماً حادّاً.

كانت عمليّة اندماج العاملين الأتراك وعائلاتهم في المجتمع الألمانيّ ناجحة نسبيّاً، إلاّ أنّ المشكلات لا تخلو في المناطق الضّعيفة اقتصاديّاً بين الألمان والمهاجرين، حيث ينأى المهاجرون بأنفسهم عن غالبيّة السّكّان رافضين الاندماج.

أقرّت الحكومة الألمانيّة بوجود هذه المشاكل وهي تعمل على حلّها، أمّا ما يثير القلق فعليّاً فوجود سياسيّين غير أخلاقيّين اكتشفوا أنّ بإمكانهم صرف نظر النّاخبين عن مشاكلهم الاجتماعيّة اليوميّة عبر تأجيج مشاعرهم العرقيّة والعنصريّة ضدّ مجموعات أضعف منهم، مثلما أظهرت حادثة وولف وزاراتسين.

والمثال الآخر المثير للقلق يتمثّل في شخص رئيس وزراء ولاية بافاريا، هورست زيهوفر، الّذي أدلى بتصريحات تهين المهاجرين المسلمين قائلاً إنّ «المهاجرين المقبِلين من ثقافات أخرى» يضرّون ألمانيا، داعياً إلى وضع حدٍّ للهجرة القادمة من تركيا والدّول العربيّة. على الرّغم من التّحوّل العكسيّ الّذي تشهده الهجرة التّركيّة بحسب الإحصاءات، إلاّ أنّ زيهوفر يستخدم صورة الفوبيا لبلوغ أغراض سياسيّة خاصّة، وهذه الفوبيا عبارة عن مجموعة هائلة من الطّفيليّين يعيشون عالةً على المجتمع الألمانيّ، متغلغلين في قلب شبكاته المعقّدة.

ممّا لا شكّ فيه أنّ العمل على تعزيز الأحكام المسبقة السّياسيّة لا ينحصر في ألمانيا فحسب. أقلّها، لم نصل في ألمانيا إلى ما وصلت إليه هولندا من اعتماد الحكومة على دعم نائب يمينيّ شعبويّ مثل غيرت فيلدرز... وعلى خلاف سويسرا أيضاً، لم تحظّر ألمانيا بعد بناء المآذن، كما أنّنا إذا اطّلعنا على بيانات حول كره المهاجرين في أوروبّا، نلاحظ أنّ ألمانيا لا تسجّل نتائج متطرّفة. ولكن، إذا أخذنا بعين الاعتبار الفظائع الّتي كتبت جزءاً كبيراً من التّاريخ الألمانيّ، فإنّنا نتنبّه إلى أنّ مفهوم التّطوّر الاجتماعيّ والسّياسيّ في ألمانيا ربّما يحمل معاني أخرى، وبالتّالي، أليس منطقيّاً أن نتخوّف من انبعاث محتمل للعقليّات القديمة؟

إنّ الإجابة رهنٌ بما نقصده بال «قديم»، إذ لا علاقة لما نشهده اليوم بالثّلاثينيّات، ولكن، من المرجّح أنّ ما يجري اليوم يعبّر عن أحداث ترقى إلى بداية التّسعينيّات، حين أُثير الجدل حول طالبي اللّجوء في ألمانيا بسبب قدوم آلاف اللاّجئين من يوغسلافيا السّابقة, وأعلن آنذاك كلٌّ من الحزب الدّيموقرطيّ المسيحيّ (CDU) وشقيقه الاتّحاد المسيحيّ الاشتراكيّ البافاريّ (CSU) أنّ ألمانيا ليست أرضاً للهجرة، وكذلك تمّ افتعال الحرائق في مراكز اللاّجئين وساكنيها، فتقهقر الحزب الاشتراكيّ الدّيموقراطيّ الألمانيّ (SPD) ووافق على تسوية بائسة حول قانون اللّجوء.

اليوم كما في السّابق، كلّما كان إذكاء النّزاع هو الهدف المنشود، استُحضر موضوع القوميّة المهدّدة الّتي عليها أن تفرض نفسها ك «ثقافة مرجعيّة» ينحني أمامها الجميع، بفارق أنّه في التّسعينيّات، تمحور الجدل حول مسألة توحيد ألمانيا الغربيّة وألمانيا الشّرقيّة، الّذي كان ما يزال حديث العهد آنذاك، والشّعور السّائد في أنّ البلد قد اجتاز  وأخيراً  نهاية الدّرب الشّاقّة، واضطلع بعقليّة جديدة من شأنها إرساء الدّعائم الضّروريّة من أجل التّوصّل إلى فهم ليبراليّ للدّستور.

 أمّا اليوم، فمفهوم «الثّقافة المرجعيّة» لم يعد مرتكزاً إلاّ على فكرة خاطئة واحدةٍ مفادها أنّ على الدّولة اللّيبراليّة أن تفرض على المهاجرين أكثر من تعلّم لغة البلد واحترام مبادئه الدّستوريّة. كان يعوزنا في بداية التّسعينيّات، أن نمحو من أذهاننا فكرة أنّ على المهاجرين استيعاب القيم الثّقافيّة الّتي تمارسها غالبيّة السّكّان، واعتماد عاداتها كما هي... واضحٌ أنّنا اليوم لم ننجح في ذلك بعد.

إنّنا نواجه خطر الانتكاس في فهمنا للمسائل الإثنيّة المحدّدة في دستورنا اللّيبراليّ، أمرٌ سيّئ بحدّ ذاته، أمّا ما يزيد السّيّئ سوءاً فواقع أنّنا بتنا نربط «الثّقافة المرجعيّة» بالدّين وليس بثقافتنا الألمانيّة، فالمبشّرون ب «الثّقافة المرجعيّة» راهناً، يشدّدون في خطاباتهم على التّقاليد المسيحيّة واليهوديّة باعتبارها السّمة الّتي تميّز المواطن الألمانيّ عن المهاجر، غير آبهين بتبنّي الأفكار اليهوديّة اليوم بعد الاحتقار الّذي لقيه اليهود وتقاليدهم من قبل في ألمانيا.

لا يساورني الانطباع بأنّ الدّعوات إلى اعتماد «الثّقافة المرجعيّة» تعكس ما هو أكثر من مجرّد تحرّك رجعيّ، ولا بأنّ وقوع أحد الكتّاب ضحيّة جدلٍ حول الفطريّ والمكتسب قد أسهم في نموٍّ سريعٍ أو مستديمٍ لمزيج خطرٍ يجمع كلاًّ من كره الأجانب والشّعور العنصريّ بالتّفوّق والدّاروينيّة الاجتماعيّة، ذلك أنّ مشاكل اليوم استحضرت إلى السّاحة الألمانيّة ردود فعلٍ مماثلة لتلك الّتي ترقى إلى الماضي القريب، وليس إلى ماضٍ أبعد منه في الزّمن.

لا أستخفّ بتاتاً بأهمّيّة المشاعر القوميّة المتراكمة، مع العلم أنّها ظاهرة لا تنحصر في ألمانيا فحسب، ولكن، على ضوء الأحداث الرّاهنة، أرى نزعة أخرى تثير القلق وهي ميل الشّارع إلى تفضيل شخصيّات غير سياسيّة على السّاحة الوطنيّة، وتُعزى هذه الظّاهرة إلى سمة غريبة من الثّقافة السّياسيّة الألمانيّة وهي رفض الأحزاب وسياسات الأحزاب. نشير على سبيل المثال إلى يواخيم جاوك المنافس الأبرز لكريستيان فولف السّياسيّ المخضرم، في انتخاب الرّئيس الفدراليّ الألمانيّ في الصّيف الفائت؛ وجاوك قسّ بروتستانتيّ مناضل في سبيل الحقوق المدنيّة ومناهض الشّيوعيّة في ألمانيا الشّرقيّة، وهو لا يتمتّع بأيّ خبرة سياسيّة، ولا ينتمي إلى أيّ حزب سياسيّ. والمثير للدّهشة أنّ جاوك نجح في نيل تأييد الشّعب وكاد أن يحظى بغالبيّة أصوات الهيئة النّاخبة وبالتّالي الفوز بمنصب رئيس ألمانيا.

ومن الأمثلة الأخرى على افتتان الشّعب الألمانيّ بشخصيّات لا دخل لها في النّزاعات السّياسيّة، نشير إلى وزير الدّفاع الألمانيّ كارل ثيودور زو غوتنبرغ الّذي لم يظهر مزايا أخرى غير خلفيّته العائليّة النّبيلة وتصرّفاته اللاّئقة وانتقاء ملابسه بحكمة، إلاّ أنّه استطاع أن يحصد شعبيّة طغت على شهرة ميركل.

إنّنا في أوروبّا في أمسّ الحاجة إلى طبقة سياسيّة ناشطة، من شأنها التّغلّب على انهزاميّتها عبر التّطلّع إلى آفاق مستقبليّة أكثر اتّساعاً، والتّزوّد بالتّصميم، وإرساء روحيّة التّعاون، فالدّيموقراطيّة رهنٌ بإيمان الشّعب بإمكانيّة العمل على بناء المستقبل ومواجهة تحدّياته كافّةً...

==========================

حالة الطوارئ في البلدان العربية من الاستثناء إلى القاعدة

عبد الغني بلقيروس

2011-01-28

القدس العربي

 عُرّفت حالة الطوارئ بأنها نظام دستوري استثنائي قائم على فكرة الخطر المحيق بالكيان الوطني، يسيغ اتخاذ السلطات المختصة لكل التدابير المنصوص عليها في القانون، والمخصّصة لحماية أراضي الدولة وبحارها وأجوائها كلاً أو جزءاً ضد الأخطار الناجمة عن عدوان مسلح داخلي أو خارجي، أو حدوث كوارث طبيعية مدمرة، وذالك بأن تخرج السلطة التنفيذية بعد عجزها عن التعامل المعتاد عن القانون الساري إلى القوانين والأحكام العرفية استثناءا، ويكون ذلك بنقل صلاحيات السلطات المدنية إلى السلطات العسكرية، لفترة محددة زمانا ومكانا، وفق ما تقرره المادة الرابعة من الاتفاقية الدولية للحقوق المدنية الصادرة في عام 1966، على يتم الالتجاء إليها في أضيق الحدود، وفي أقل مدة ممكنة.

ومن الدول العربية التي تطبق هذا القانون سوريا ومصر والجزائر وتونس بعد الأحداث الأخيرة، ومبررات تلك الدول حماية المصلحة العليا للوطن وسلامة واستقرار البلد، ولكن للمفارقة فقد اختزلت مصلحة الوطن في بقاء النظام الحاكم، ولا أدل على ذالك غياب العدو الظاهر المهدد للوطن والأمّة، أو الخطر الواقع أو الوشيك الوقوع، اللهم إلا معارضة مطالبة بحقوقها في التقويم وفي التداول السلمي على السلطة، والتي أعلنت عليها تلك الأنظمة الحرب بلا هوادة متسلحة بتلك القوانين العرفية، ومصادرة الحرية الإعلامية كأول غزوة ينتصرون فيها على عدو، يتبعونها مباشرة بغزوة مصادرة حرية القضاء، فيسّلس لهم بعدها إحراز النصر المظفر في بقية الغزوات، كمصادرة الحريات المدنية والسياسية والاقتصادية...، ويستحق بعد ذلك الحاكم أن يرصع بأكاليل الغدر ويتوج كحاكم عربي أبدي.

واستغل حكامنا حالة الطوارئ أبشع استغلال في انتهاك الحقوق المدنية والإنسانية للمواطنين، وأنشأت فيها محاكم عسكرية صورية للزجّ بالمعارضين والمخالفين في السجون لمدد طويلة مع إسقاط حق الدفاع، وأحيانا استغني حتى عن المحاكم العسكرية وأصبح نسيان سجين بدون محاكمة وبدون تهمة محددة لعشرات السنين شيئا عاديا، كما أن التعذيب الجسدي والنفسي والجنسي غدا شيئا روتينيا غير مستهجن.

ومن دون خلق الله كلهم تبقى بلادنا العربية تشهد ظاهرة حالات الطوارئ المزمنة، حتى تحوّل فيها الاستثناء إلى قاعدة، ففي سوريا مضى 48 سنة على إعلان حالة الأحكام العرفية، ومصر 30 سنة، أما الجزائر فهي على أبواب الذكرى 19 لإعلانها، وقد حطمت فيها بلداننا العربية جميع الأرقام القياسية العالمية، وجعلت حكامنا يتنافسون في تسجيل أسمائهم في كتاب غينيس للأرقام القياسية، بعد احتكارهم لأرقام أطول مدد الحكم، وأكبر ضحايا قمعهم....

ويبرر أولوا الأمر عندنا إبقاء سيران الأحكام العرفية بمبررات هي أوهى من بيت العنكبوت، فمشجب الإرهاب وفزاعة الإسلاميين جاهز كالعادة لتعليق أسباب الإبقاء، كما تعلق عليه دائما خيباتهم المتكررة وفشلهم الدائم في التنمية الاقتصادية وتحقيق الحياة الكريمة لمواطنيهم، مع أنه توجد دول غربية وشرقية كثيرة واجهت انزلاقات أمنية تماثل ما وقع في بلداننا أو تفوقها خطورة، ولم تلجأ لفرض تلك الأحكام، وأقصى ما لجأت إليه بعضها هو سن قوانين خاصة بمكافحة الظاهرة الطارئة أو الخطر المحدق، مع التشديد على حصر تنفيذ القوانين زمانا ومكانا، والالتزام بالشفافية في تنفيذها، وأن تبقى تحت المراقبة القضائية والنيابية اللصيقة، بل إن الكيان الإسرائيلي خاض حروبا ضد عدد من الدول العربية وضد حركات المقاومة الفلسطينية والعربية، ولم يجد نفسه مضطرا لفرض حالات الطوارئ المديدة كمثل الحالة التي ببلداننا. الفرق في ذاك أن نظمنا فرضت حالة الطوارئ لحماية كراسيها من الهزاهز، ولم يكن الاستقرار إلا ورقة التوت التي تداري بها سوءاتها، والمتأمل في طول مدة سيران تلك الأحكام يجزم أن حكامنا قد استمرءوا الحكم بها، حتى لا يظهر لهم رأي معارض يحاججهم، أو قوانين وتشريعات تقيدهم، مع أنه حتى في البلدان العربية التي لم تعلن فيها حالة الطوارئ، تُعجَن فيها القوانين حسب توحّم الحكام والملوك  عافاهم الله  وأخر ما يهتمون بالاحتكام إليه هو هذا المسمى بالدستور.

كما أن فرض الأحكام العرفية في أي بلد دليل على حالة اللّااستقرار، وذاك كما هو معلوم ينفر الاستثمار والمستثمرين لأن رأس المال جبان، هذا إن وُجد مستثمر نضيف يقبل أن يغامر بأمواله في وحل الفساد الذي يزكم الأنوف بمعظم بلادنا العربية، وحتى الوكالات السياحية العالمية تضع خطوط حمراء وتضاعف من التأمينات على دخول الوفود السياحية إلى بلدان ترزح تحت وطأة الأحكام العرفية، مما يساهم في تراجع التنمية الاقتصادية و استفحال الفقر والبطالة، ولجأت الحكومات المعنية لتسويق جرائرها ولتبرير تقادم مدة فرض الأحكام العرفية، ولإسكات المنظمات والهيئات الدولية الاقتصادية منها والإنسانية بأنها لا تمس بالحياة العادية للمواطنين، بدليل الانتخابات "الديمقراطية" و"لتعددية" التي تجري في بلدانها والتي يفوز فيها دائما الحاكم وحزبه بنسبة 99 % لكن رياح التغيير التي هبت نسائمها من تونس مؤخرا بدأت تدق جرس الإنذار للأنظمة القمعية التي أبت أن لا تعيش إلّا في الظلام، والتي حولت القوانين والدساتير لخدمة شهوتها في الحكم، وساديها في التنكيل بالأحرار من مواطنيها، فلم تعد الأحكام العرفية تمنع وصول عبق الحرية، كما أن المؤسّسات الأمنية والعسكرية لم تعد الضامن أمام غضبة الشعوب إذّ ما أرادت يوما الحياة.

كاتب جزائري

==========================

واشنطن بين ثورة تونس وانتفاضة مصر

السبت, 29 يناير 2011

مصطفى زين

الحياة

في عهد الرئيس الأميركي السابق جورج بوش وضع البيت الأبيض نفسه بين خيارين في الشرق الأوسط: الاستقرار من خلال دعم الأنظمة الحاكمة، أو التغيير من خلال الحروب والفوضى الخلاقة، ولو اضطر ذلك الولايات المتحدة إلى التخلي عن أصدقائها. جربت الخيار الثاني. فشلت في لبنان. لم تستطع نقل الفوضى إلى سورية، أو إيران، على ما كانت ترغب. فشلت في مصر، على رغم الضغوط الشديدة على الحكم. اصطدمت بالتفاف العرب حول أنظمتهم. اكتشفت متأخرة أن كره الشعوب للاحتلال والحروب، بعد تجربة العراق، يفوق توقها إلى الديموقراطية الغارقة في الدماء. تراجعت وعادت إلى التعاون مع الأنظمة الصديقة ل «كسب العقول والقلوب». هادنت «محور الشر»، تمهيداً للانسحاب من العراق.

إدارة الرئيس باراك أوباما فوجئت بأن مطالبة الشعوب بالإصلاح والديموقراطية والمشاركة في الحكم ليست في حاجة إلى تحريضها. الشعوب تكرهها أكثر مما تكره أنظمتها. بعد تأكدها من فشل سياساتها ومن عجزها عن التأثير في الانتفاضة التونسية تخلت عن الرئيس زين العابدين بن علي. أعلنت وقوفها إلى جانب الثورة، آملة بأن يكون لها دور في تشكيل النظام الجديد، بالتعاون مع فرنسا.

مثلما حاولت الالتحاق بالتغيير في تونس، من دون أدنى مؤشر إلى نجاحها في ذلك، ها هي الولايات المتحدة تحاول اللحاق بالتطورات في مصر، غير آبهة بمصير حليفها. أعرب أوباما عن تعاطفه مع المتظاهرين، داعياً الرئيس حسني مبارك «المتعاون جداً (مع واشنطن) في سلسلة من القضايا الصعبة» إلى «إجراء إصلاحات سياسية واقتصادية مهمة للغاية».

وكانت وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون سبقت رئيسها عندما أرسلت نائبها جيفري فيلتمان إلى تونس للتضامن مع الثورة.

واشنطن مطمئنة إلى أن التغيير في العالم العربي لن يؤثر في مصالحها فالمنتفضون لا يأخذون على الأنظمة أخطاءها في السياسة الخارجية. ولا يرفعون شعارات معادية لها أو لإسرائيل. والأحزاب الإسلامية ليس لها أي تأثير في مجرى الأحداث، وإيران بعيدة عن كل ما يجرى. مطالب المتظاهرين في مصر وتونس ما زالت، حتى الآن، مقتصرة على الحريات الاجتماعية والإصلاح الاقتصادي ومحاسبة الفاسدين. لكن لا بد من أن يؤدي هذا التحول إلى تغيير في السياسات الخارجية لن يكون في مصلحة الولايات المتحدة، حتى لو لم يشهر المتظاهرون العداء لها، فطالما ربطت الأنظمة المتهاوية بين علاقاتها مع واشنطن (والسلام مع إسرائيل) والازدهار الاقتصادي. وطالما أخافت الغرب من وصول الإسلاميين إلى الحكم، ومن الإرهاب، ومن سعي إيران إلى قلب الأوضاع، ليتبين أن الخطر عليها قائم في صلب بنيتها. وفي توجهاتها المتماهية مع توجهات الولايات المتحدة الاقتصادية والسياسية.

لم يعد النظامان التونسي والمصري قادرين على تغطية الفساد وقمع الحريات والتزوير ولا على مواجهة الثورة، فتخلت عنهما واشنطن، آسفة على «المتعاونين في القضايا الصعبة»، ومتطلعة إلى إقامة صداقات جديدة، لكنها لا تعرف حتى الآن من أين تبدأ.

==========================

إن لم تكن تونس، فكيف ستكون مصر؟

السبت, 29 يناير 2011

عصام الخفاجي *

الحياة

أكتب هذا المقال من اسكندرية مصر: ليست هذه مصر التي أزعم معرفتها. شهدت جزءاً من تظاهرات «ثلثاء الغضب» في النهار. ولأنني «أجنبي» أدرك حساسية المصريين، حكومة وحتى شعباً، من الأصابع الخارجية، فقد اكتفيت بالتفرج والحديث مع الناس.

في المساء، شاهدت مشهداً «عجباً» في مصر لا غيرها حين جاءت سيارات الأمن المركزي، الذي يصيب اسمه المصريين بالفزع، قادمة لإزاحة باعة الأرصفة عن السوق الشعبي الذي كنت أتجول فيه. صرخ أحد الباعة طالباً من زملائه البقاء ورفض التراكض: «إحنا مش بهايم». بقي الباعة، مرت سيارات الأمن المركزي كأنها في نزهة، وصفق بعض المارة.

مصر تتحرك. قلت لصديقي المتشائم مصطفى الحسيني قبل ثلثاء الغضب بأسبوع إنها تموج بالحركة. غير أنني سأغامر بالقول أيضاً إن مصر ليست في حالة ثورة بعد. والمقارنات التي أتخمتنا مع تونس، بل وإدخال اضطرابات لبنان إلى جانبهما كما فعلت «نيويورك تايمز»، ليست أكثر من كاريكاتيرات مبتذلة في أحسن الأحوال.

تتشابه الشعارات، بل تتماثل، في حالتي مصر وتونس: الخبز والحرية والكرامة ومحاربة الفساد. أهم من ذلك، وأكثر مدعاة للتفاؤل أن غالبية المتدفقين إلى الشوارع، وباعتراف شبه جمعي، شباب نزل بعفوية مستفيداً من شبكات التواصل الإلكتروني. عشية الأحداث أعلن قادة الإخوان المسلمين أن التنظيم لن يشارك بصفته هذه في التظاهرات وأن لأعضائه اختيار موقفهم كأفراد. غداة الأحداث كانت صحف «المعارضة» الهادئة تشير إلى متظاهرين رفعوا شعارات أحزابها، علماً أن مسيرة دعت إليها الأحزاب نفسها قبل ايام تحولت إلى مهزلة شارك فيها بضع مئات فحسب.

لكن التشابه بين مصر وتونس يتوقف عند هذا الحد. فمع أن أحداً ليس في وسعه التنبؤ بمآل الأمور الذي سيتبلور إثر صلوات الجمعة، إلا أن ثمة أموراً لن تتغير بين ليلة وضحاها. إن عقوداً من انحطاط نظام التعليم وانتشار الجهل والأمية، لا في الريف فحسب بل في المدن أيضاً، تركت بصمات عميقة على مستوى وعي المواطن ونظرته إلى معنى الحرية والكرامة وصورة الحاكم أو النظام الذي يحلم به. والعقود الأربعة التي تلت انتقال مصر إلى اقتصاد سوق مشوّه بعدما فرّخ نظام عبدالناصر المسمى اشتراكياً، قططاً سماناً قادوا هذا التحول، شرخت المجتمع المصري عمودياً إلى مجتمعات متوازية يصعب إيجاد قواسم مشتركة بينها.

ليست انقسامات مصر هذه طائفية أو دينية في الأساس. إنها انقسامات قائمة بين عالم الأعمال الحديث، وعالم النشاطات المرتبطة بأسواق النفط الإسلامية، وعالم ثالث (وهو عالم ثالث بالفعل) يعيش على الهامش وينتج، مثله مثل كل عالم، أثرياءه القليلين ومسحوقيه المنتشرين في طول مصر وعرضها. ولكل من تلك العوالم أنماط قيمه ومثله وأساليب عيشه وشبكات تواصله الاجتماعي. حتى المسجد الذي تتوجه إليه غالبية مسلمي مصر ليس مسجداً واحداً، فخطب الجمعة في الزمالك أو حي المهندسين الراقيين لا تشبه خطب الأحياء الفقيرة ولا خطب القرى والأرياف.

لكن الإسلام المسيّس يمتلك عنصر قوة غالباً ما افتقدته الحركات الأخرى، يتمثل في أن قمته وقواعده يتشاركون في ممارسة طقوس اجتماعية ودينية تمنح المعدمين شعوراً بأنهم ومترفيهم ينتمون إلى عالم واحد. أما الحركات الأخرى، فإن قادتها سرعان ما يهاجرون إلى أحيائهم ونواديهم حتى لو كانوا من أصول متواضعة، فلا يعود المواطن البسيط يفرق بينهم وبين من يعادي. لذا، فإن كل الأوصاف التي نسمع عن مصر صحيحة وزائفة في الوقت نفسه، كما أظن.

فالسيد محمد البرادعي، الذي نفد صبره لأن الثورة لم تحدث بعد أن قضى بضعة أشهر في مصر، أعلن من النمسا أن الشباب المصريين سيتجمعون حول مشروع ليبرالي يقيم دولة عصرية منفتحة على الغرب، والأخوان المسلمون واثقون من أن المصريين سيختارون الإسلام حلاً لكل مشاكل بلادهم. لكن ثمة أدلة قوية تشي بغير هذا وذاك. نعم، التويتر والفيسبوك باتا أقوى تأثيراً من الأحزاب السياسية. لكن الشباب المصريين الذين يستخدمون وسائل كهذه ينتمون في الغالب إلى أبناء المدن المتعلمين ممن تتجاوز دخولهم متوسط دخل المواطن المصري بدرجات متفاوتة. وصحيح أن الحراك انطلق من دعوات هؤلاء الشباب، لكن وسائل الإعلام تحاور متظاهرين يقولون إنهم لا يستعملون الكومبيوتر أصلاً، وينقلون قصصاً متشابهة عن إذلال تعرضوا له على يد رجال الشرطة، ووظائف تقدموا لشغلها بعد تخرجهم، لكن طلباتهم رفضت بسبب عدم وجود من يتوسط لهم، وعوائل تتكدس للعيش في غرفة واحدة تفتقر الى شروط الحياة الإنسانية.

إلام، إذاً، يمكن أن يؤول ما يجري في مصر؟

إن تأثرنا المشروع بالثورة التونسية يجب ألا ينسينا أن عفوية الشباب المصري أطلقت قبل ثلاث سنوات «حركة 6 أبريل» المطالبة بالتغيير، وعلينا النظر إلى الحركة الجارية اليوم في هذا السياق، أي كإضافة نوعية إلى سلسلة تراكمات أخذت تفرض نفسها من الآن على القيادات المصرية، إذ لم يعد التخويف بتسلل الأصابع الأجنبية أو بإرهابيين يستخدمون الأجواء السائدة لتنفيذ مخططاتهم كافياً لإيقاف الحركة الاحتجاجية الآخذة بالتصاعد. بل لعل أحد أهم إنجازات هذه الحركة وهي في أيامها الأولى، هو توكيدها واقعة موت الحزب السياسي في منطقتنا.

قوة الإخوان المسلمين، وما يشابهها من حركات كثيرة في منطقتنا لا تزال ضخمة بالقياس الى غيرها من الحركات، لكن تلك القوة لم تعد تكمن في جاذبية البرامج أو المشاريع السياسية، بل في أنها تستغل عجز النظام عن توفير حلول لمآسي البطالة والمرض والجوع لتتقدم كرب عمل يشتري ولاء الناس ووعيهم.

النظام المصري لا يزال يمتلك عناصر قوة مهمة يمكن أن يستخدمها في حالات الضرورة، ولعل الأيام القادمة تمثل واحدة من تلك الحالات، إن لم تكن أهمها. فإذا صح القول إن المجتمع المصري منقسم بعمق، كما اشرت، فإن الحركة الراهنة نجحت في توحيد قطاعات متباعدة، كما يظهر من مثال انضمام محتجي التويتر إلى المهمشين، تحت شعارات مشتركة.

لكن المجتمع المنقسم، بملايينه غير المتعلمة والمشوهة الوعي، يوفر في الوقت نفسه أساساً لجذب جمهرة غفيرة من كاسري الاعتصامات والمشاركين في «تظاهرات» مضادة. وليس من الصعب تخيل نجاح هؤلاء في إلقاء قنبلة هنا أو تدمير ونهب متاجر هناك تخلق الفوضى وتنشر الذعر وتشل البعض عن المشاركة، بل وقد تدعو بعض المشاركين إلى التراجع.

وتلك نقطة اختلاف شديدة الأهمية بين تونس التي نجحت لجان أحيائها والجيش في شل محاولات التخريب منذ اللحظة الأولى وبين مصر التي تجد كثيراً من بسطائها يصدق الإشاعات العجائبية، لا سيما إذا اكتست طابع الخرافة المتّشحة بالدين والأولياء. ونقابات العمال التي لعبت دوراً محورياً في الثورة التونسية، تلعب دوراً معاكساً تماماً هنا.

لن تحدث الثورة، إذاً. لكن مطالب الحرية والكرامة والعيش الكريم تأصلت في النفوس. إنها تتّخذ، وستتّخذ أشكالاً تتباين بين مصر وتونس واليمن بتباين مجتمعاتها ودرجات تطورها والمشاكل الآنية التي يواجهها كل منها. لكن المؤكد أنها ترد بحسم على «خبراء الديموقراطية» الغربيين الذين نقلت اسبوعية «الإيكونومست» الرصينة عنهم قبل أقل من شهرين فحسب «أن عديداً من العرب الليبراليين يفضلون حكماً تسلطياً» خوفاً من مجيء نظام إسلامي مجهول التوجهات.

أما كاتب مقال «الإيكونومست» فاستنتاجه يليق باستعماري بريطاني من القرن التاسع عشر: «لعل العامل الأهم في حفاظ المتسلطين على كراسيهم... يكمن في تعود معظم الناس على التسلط كواقعة من وقائع الحياة». ويسوق «برهانه» من قول فلاح بأن الأمور كانت أسهل في السابق حين كان على الجميع التصويت لمرشح وحيد.

* كاتب وباحث عراقي

==========================

في أسباب الاحتجاجات المتزايدة.. في الوطن العربي

زين العابدين الركابي

الشرق الاوسط

29-1-2011

هل فهم بعض الناس، بل كثير من الناس شعار «الفوضى الخلاقة» على طريقتهم، فقرروا مباشرة الاحتجاجات في بلدان عربية مثل تونس ومصر والأردن واليمن لكي يتولد عن هذه الاحتجاجات مكاسب شعبية في ميادين الحرية والمعايش والخدمات، أي لكي تنجب الاحتجاجات أوضاعا جديدة أفضل؟! هل هذا سبب من أسباب موجات الاحتجاجات والانتفاضات الماثلة؟ هذا سبب مستبعد أولا: لأن الفوضى - بتعريفها الموضوعي - لا تنتج «نظاما» ولا وضعا جديدا يؤدي إلى نظام جديد.. ثانيا: لأن المحتجين في جميع تلك البلدان ليسوا منبهرين بأميركا، ولا مولعين بتقليدها (ولا سيما بعد أن أطفأ قادتها الصغار لمعة مبادئها الكبيرة) بل الواضح أن نبرة نقمة على أميركا تتبدى في حراكهم: في هذه الصورة أو تلك.

والعدول عن اعتماد هذا السبب: يزيد بل يضاعف مسؤولية البحث عن أسباب أخرى: أقوى موضوعية، وأبهى وجاهة:

1) من أسباب ما يجري: ترك وإهمال ما هو «اختياري» من الخطط والأفعال والإصلاحات والقرارات تركا، يؤدي إلى ما هو «اضطراري»، أي مباشرة هذه الأفعال والقرارات تحت ضغط الاضطرار، وهو اضطرار مثقل بالحرج، وقلة الجدوى، وقسوة المعاناة، وفداحة التكاليف: الاجتماعية والسياسية والأمنية.

وقد خلت المثلات من قبل.. فمعظم الأنظمة التي سقطت لم تكن مصرة - إلى آخر لحظة - على أخطائها أو خطاياها، بل على عكس ذلك فقد باشرت - في أواخر سنيها - الإصلاح المطلوب.. فعل ذلك قيصر روسيا قبيل الثورة البلشفية.. وفعل ذلك فاروق مصر قبل ثورة 1952.. وفعل ذلك شاه إيران قبيل رحيله.. وها هو بن علي قد أعلن - بالاضطرار - ما كان في وسعه أن يفعله بالاختيار.. أعلن: أن لا رئاسة مدى الحياة، وأن الضائقة الخانقة في معايش الناس سترفع، وأن حرية الإعلام ستكفل، وأن الفساد سيجتث، وأن المعتقلين السياسيين سيفرج عنهم.. ومنذ قليل سمعنا الرئيس اليمني يعد: بأن لا رئاسة مدى الحياة، وأن «لا توريث» في الرئاسة.. وفي السياق نفسه أعلنت الحكومة اليمنية زيادة رواتب الموظفين، وأن هناك برامج لمعالجة جنون الأسعار.. وفي مصر تحدث رموز في الحزب الحاكم عما يجري فيها: تحدثوا عن «ميثاق وطني» يتعاون من خلاله الحزب الحاكم مع الأحزاب الأخرى على القضايا الوطنية الأساسية. كما ومض وميض يبشر بمعالجة ناجزة لمشكلات الفقر والبطالة والفساد، و«تفهم مطالب الشباب». وليس من حق أحد أن يعترض على من يعلن التراجع عن الخطأ. بيد أن السؤال المركزي - هنا - هو: لماذا تفضيل «الاضطرار» على «الاختيار»؟.. ما علة هذه الرغبة الجامحة في جلب العنت والمشقة والكرب على الذات؟.. أهي «التسويف» القاتل؟.. أم هي تخدير الذات بالتغافل عما يجب فعله؟.. أم هي فقدان الشعور بحاجات الناس وهمومهم؟.. والنتيجة المستنبطة في هذه النقطة هي: عقد العزم على مباشرة ما هو مطلوب ب«الاختيار» لئلا يحصل الوقوع في ورطة «الاضطرار» المحرج والقاسي والعالي التكاليف.

2) السبب الثاني في ما جرى - ويجري - في بلدان عربية هو: «الاستيعاب الناقص» ل«ثورة الاتصالات» وآثارها العميقة في المجتمعات والدول.. فيبدو أن كثيرا من القيادات السياسية في عالمنا هذا - ومنه الوطن العربي - لم تستوعب بالقدر الكافي الضروري تداعيات وفعاليات ثورة الاتصالات. وهذا جهل سياسي فادح ترتب عليه ما نراه اليوم من حراكات هائلة، وما سوف نراه في المستقبل مما يفوق التصور والخيال..

لقد بدل «سلطان العلم» أوضاع البشرية تبديلا، إذ قضى على أوضاع قديمة ذات حجب وفواصل وعوازل، وأنشأ عوالم جديدة ذات نوافذ متنوعة منسوجة من المعارف المفتوحة السقوف والآفاق بلا نهاية، وفي طليعتها «تكنولوجيا المعلومات» المرفودة والممددة ب«ثورة الاتصالات» الشخصية والجماعية. فالإحصاءات تقول: إن أكثر من ملياري إنسان يستعملون الإنترنت، وإن خمسة مليارات إنسان يستخدمون الجوال.. وللوطن العربي قسط وافر من ذلك كله: قسط يعد بالملايين أو عشرات الملايين.. والخيارات تجاه هذه الحقيقة العلمية الراسخة هي: خيار أو محاولات الحجب والمنع وهي محاولات يمكن التغلب عليها تكنولوجيا أيضا.. يضم إلى ذلك أنها محاولات تصنف في قائمة «معاداة العلم والتكنولوجيا».. وهناك خيار «تجاهل» أثر هذه الاتصالات الاجتماعي والأمني والسياسي، وهو تجاهل أدى - بالتأكيد - إلى ما تموج به أوطان عربية من احتجاجات وانتفاضات.. وهناك خيار الإقرار بسلطان العلم والتعامل معه بما يلائمه.

3) السبب الثالث وراء ما يجري هو: عدم تفهم «الوعي الجديد والنوعي» لدى الأجيال الناشئة.. فمن خلال نوافذ متعددة، منها كوكبية المعلومة وآلية تعميمها وسرعة وصولها، من خلال هذه النوافذ تكوّن لدى الأجيال الجديدة وعي جديد، ربما يرجح ما كوّنته فيه المناهج والبرامج التربوية والثقافية والوطنية.. ويتطلب التعامل الموضوعي الناجح مع هذا الوعي الجديد سلوكات سياسية معينة، منها: مخاطبة الشباب بما يتناسب مع معدلات وعيه.. والاستجابة لاحتياجاته المحترمة بلا تحايل ولا استخفاف.. والكف عن التعامل معه على أساس أنه مجموع بشري تحركه الغرائز والتفاهات.. ومن الغباوة الإعلامية التي تبلغ مبلغ الجريمة - الاجتماعية والفكرية والأمنية والسياسية - أن تزعم وسائل إعلام أن الأجيال الجديدة تافهة غارقة في شهواتها ولهوها فحسب. وبناء على هذه الفرية الغبية - وإن كانت مريحة ماديا - تصاغ برامج ومسلسلات إعلامية وفنية تخاطب الشباب وتتعامل معه.. وربما كان هذا التقويم الخاطئ نفسه - لأوضاع الشباب - سببا من أسباب انخراطهم في الانتفاضات الحاصلة.. فمما يستفز الكريم أن تخاطبه على أساس أنه ذو اهتمامات صغيرة أو تافهة.

4) السبب الرابع وراء ما يجري هو التقصير الشديد في حماية المجتمعات من الآثار المدمرة الناتجة عن الأزمة العالمية: الاقتصادية والمالية.. فليس معقولا - ولا مقبولا - أن تؤثر تلك الأزمة في المجتمعات المتقدمة اقتصاديا بعمق وفداحة، ولا تؤثر في المجتمعات العربية، أو تؤثر فيها «تأثيرا طفيفا» كما قيل!!.. منذ أيام حذرت «الفاو» من أزمة غذاء تهدد استقرار العالم. وقال مدير هذه المنظمة: «إن الفقراء هم أكثر من سيتأثر بانعدام الأمن الغذائي.. مما سيؤدي إلى عدم استقرار سياسي في بلدان عديدة ويهدد السلام والأمن العالميين».. فما هي خطط الدول العربية تجاه الأزمة الطاحنة؟

------------------------

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها

 

 

أعلى الصفحةالسابق

 

الرئيسة

اطبع الصفحة

اتصل بنا

ابحث في الموقع

أضف موقعنا لمفضلتك

ـ

ـ

من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ