ـ

ـ

ـ

مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وقولوا للناس حسنا

اتصل بنا

اطبع الصفحة

أضف موقعنا لمفضلتك ابحث في الموقع الرئيسة المدير المسؤول : زهير سالم

الأربعاء 14/06/2006


أرسل بريدك الإلكتروني ليصل إليك جديدنا

 

 

إصدارات

 

 

    ـ القضية الكردية

 

 

   ـ أبحاث    ـ كتب

 

 

    ـ رجال الشرق

 

 

المستشرقون الجدد

 

 

جســور

 

 

التعريف

أرشيف الموقع حتى 31 - 05 - 2004

ابحث في الموقع

أرسل مشاركة


 وثائق وقضايا 

تــعذيـب النسـاء في السجون السورية --14

إعــداد    الدكتور   خالد الاحمــد*

الشعب كله متهم في سوريا ، رجاله ونساؤه ، أطفاله وشيوخه ، كلهم متهمون ، يجب أن يسحقوا ، وأن تملأ بهم السجون والمعتقلات ، ويذبحوا ويتسلى بهم الساديون ، أزلام النظام الأسـدي ، الذين نفخ فيهم أسـد الحقـد الطائفـي ، وسـخرهم لذبـح المواطنين رجالاً ونسـاء ، من جميع الفـئات ، والأعمـار والأجناس ...

قدم لنـا الأخ محمد سليم حمـاد ( يحفظه الله ، وجعل ذلك في صفحات أعماله الصالحة يوم القيامة ) ، قدم لنا كتاب ( تدمر ، شاهد ومشهود ) بين فيها صفحة من صفحات التعذيب الذي  صبـه أزلام النظام الأسدي على رجال سوريا الأحرار ، على خيرة أبناء الشعب السوري .

وتـذكر لنا هذه المـرة ( هبـة الدبـاغ ) يحفظها الله في كتابها ( خمس دقائق فقط : تسع سنوات في سجون الأسد ) ، هبـة الدباغ ، الوحيدة التي بقيت من أسرتها الحموية ، التي أبادوها بكاملها في عام (1982) ، ونجت هي لأنها فس السجن ، وشقيقها ( صفوان ) لأنه خارج سوريا .... وقتل أزلام الأسد حوالي ( عشرة ) من أفراد أسرتها ، من الأب إلى الأم ، إلى الأطفال الصغار ، والبنات الصغيرات ، في مجزرة حماة الكبرى (1982) التي عجـز المغول والتتار والصليبيون والفرنسيون على أن يفعلوا مثلها ... فلنسمع ماتقوله هبـة الدبـاغ ( واسأل الله أن يجعله في صحائف أعمالها يوم القيامة ) ... فقد قدمت وثائق نادرة وحقيقية ضـد نظام القتلة الأسـدي ...

 

تقـول هبـة الدبـاغ :

 

 

إشـــاعات المغـرضـين

عدت إلى قطنا كما جئت بسيارة تنهب الأرض نهباً في ظلمة الليل وتكاد تفترس العابرين في جريانها الأرعن ، فلما وصلنا وسلموني للشرطة هناك أحست رفيقاتي بوصولي فعلا صراخهن وارتفعت زغاريدهن وتسلقن الشبابيك والأ بواب مقفلة عليهن - كالعصافير يتقافزن فوق بعضهن البعض ، ولم يهدأن حتى هددهن الشرطي بأخذي إلى مكان آخر إن لم يستجيبوا ، فنزلن يتطلعن إلي بشوق ومحبة ، فلما أدخلني السور صرن ينادينني من كلا المهجعين : - تعالي هنا . . تعالي إلينا . . وأخذن في كل مهجع يسألن الشرطي أن يفتح لهن أولاً ليستقبلنني ، فلم يجد إلا أن يفتح المهجعين آخر الأمر معاً ، وتركنا نجتمع ليلتها في واحد من اللقاء ات الجميلة التي لا أنساها أبداً . . ولا أزال أذكر كيف اندفع معقل وسمية نحوي وركضا مع البنات لاستقبالي وقد أخذا حفاضتيهما ووضعاها على رأسيهما مثلما فعلت البنات بحجاباتهن وركضا يستقبلانني بالأحضان والقبلات ! ولم ينغص علي فرحة اللقاء إلا ما سمعته من أن أميرة زركلي والسجانة أم جميل التي كانت دائبة الإساءة لنا قد أشاعتا بعد مغادرتي بأنني أدنت بالإتصال مع الإخوان من داخل السجن وبتلقي رسائل ونقوداً منهم . . ولذلك كانت البنات في غاية القلق علي طوال هذه المدة ، ولم يصدقن أنني سأعود إليهن من جديد . . لكنني عدت بمشيئة الله .

 

البـقـرة الـزرقـاء !

عدت إلى قطنا حيث تخف المعاناة مقارنة بالسجن الذي أتيت منه ولكنها لا تنتهي . . ولم يجدد من رتابة حياتنا المملة إلا حدث الإفراج عن دفعة أخرى من السجينات كن أم معقل وأم هيثم وأم عبد الباسط وابنتها عائدة . . ثم لم تلبث وأن لحقت بهن أم خالد وأم زهير بعد عدة أشهر . . وكان الإفراج عنهن جميعاً بنفس الطريقة والترتيب ، فقد قرأوا أسماءهن عند الصباح وأعطوهن فرصة ليجمعن حاجياتهن ، ثم أخذوهن إلى التحقيق العسكري ليفرج عنهن من هناك . . وكان منظراً مؤثراً بالفعل خروج معقل الذي ولد في المعتقل وشب وترعرع فيه حتى قارب من العمر خمس سنين ! ولا أزال أذكر حين غادر حدود السجن لأول مرة عندما أخرجه أخي غسان في إحدى زياراته بإذن من مدير السجن ، فلما عاد جعل يحكي لأمه مشاهداته الأولى في عالم الإنسان الطبيعى ويقول لها بانفعال : " - ماما . . ماما . . أنا رأيت واحداً يمشي على أربع أرجل . . فلما سألت أخي عما يعنيه قال لي ضاحكاً : لقد رأى الحمار ! وقال لي أنه وضع رجله على الأرض ليمشي فتحركت حجرة تحت رجله فغشي في البكاء ! وعندما أراد مدير السجن أن يحرك دراجته النارية خاف واضطرب والتصق بأخى كأنما يستغيث به ! - وفي المرة الثانية وعندما بلغ ثلاث سنوات أرسلوه إلى الضيعة عند بيت جده حتى يتأقلم قليلاً مع الناس ويرى إخوته ، لكنهم ومن كثرة ما رأوا منه لم يصدقوا كيف أعادوه ! ولقد روت جدته أنه كان يتناول الأحجار فيرمي بها إخوته ويشج رؤوسهم وهو لا يدرك أن الحجارة يمكن أن تؤذي ! ولما سألناه عم رأى هناك قال : -رأيت بقرة زرقاء بتبش حليب ! وفهمنا بعد الشرح والإستقصاء أنه شاهد كيف تحلب البقرة فظنها تبول حليباً ، ولعدم معرفته بالألوان ظنها زرقاء ! ومثلما كان وداع معقل مؤثراً فقد كان استقباله بعد بضعة أشهر حينيما أتى في زيارة مع والدته مؤثراً أيضا . . فلقد تجمعت البنات حوله ينتظرن أن يسمعن منه كلمته الأثيرة "طظ أســد . . " لكن أمه بادرت وسألته لتسمعنا الفارق وترينا أثر الحرية عليه : قل لهم حبيبي ماذا تعلمت في المدرسة . فجعل مقبل الذي أنفق سنوات عمره الخمس الأولى وراء القضبان بسبب هذا النظام الظالم يسمعنا أغنيات المديح والتمجيد للثورة وللقائـد الأسـد ! ولقد روت لنا أمه أنها لما أخبرته عن زيارتنا أخذ يبكي . . فلما سألته عن السبب قال لها : الآن أبو مصطفى يدخلني المهجع ويقفل علي . ولم يدخل مقبل علينا إلا بثق الأنفس رغم تطمينات أمه وأبي مصطفى نفسه ، وعندما صار بيننا جعل وقد ذاق بعض معاني الحرية في الخارج يوزع علينا نظرات التحسر والأسف ، ولا يكف عن مراقبة الباب خشية أن يغلق عليه من جديد !

 

 

ســجن دومـا ، معـركـة مع الـزمـن

مرت أسابيع أخر ونحن في قطنا نمضغ الأيام ونزدرد الأسى . . ونحس كلما تطاول العهد وتباعد الزمان أنها رحلة إلى النهاية ليس عنها من فكاك ! وبرغم الأنباء التي كانت بدأت تتسرب إلينا من قبل عن نية نقلنا إلى سجن آخر . . ورغم إشارات من بعض مسئولي السجن لنا بتخفيف الأغراض والإستعداد لرحيل قريب ، إلا أننا وكأننا ألغينا كلمات الإفراج والخلاص وحتى الإنتقال من قواميسنا . . وبتنا نعيش يومنا وحسب في هذا القمقم الذي ضاق حتى بالأنفاس ! لكننا وفي صباح تشريني بارد وجدنا مدير السجن ومجموعة من الشرطة معه يدخلون من غير مقدمات علينا ويقولون لنا جهزوا أنفسكن للنقل صباح الغد ! كان السؤال الأول الذي قفز إلى أذهاننا : إلى أين ؟ فلما بلغنا الجواب : إلى سجن دوما المدني حضر بداهة إلينا السؤال التالي : لماذا ؟ وكانت الإجابة حينها بأن السجن هنا ضاق بنزيلاته ، وأن الحكومة انتهت من بناء سجن جديد في "عدرا" فنقلوا سجناء دوما إليه  [ وهذا من انجازات النظام الأسدي التي نالها الشعب السوري ] لينقلونا إلى هناك ويحولوا قطنا إلى مجرد مخفر . لكن إشاعة سرت وقتذاك - ولكنني لم أدر بها إلا بعد الإفراج عنا روجت بأن النقل كان بسببي أنا ! وأن أخباراً تسربت عن اعتزام اخوتي القدوم واختطافي من السجن ، وأن زوجة أخي غسان علمت بذلك وأخبرتهم فقاموا بنقلنا بناء على ذلك ! ولم أفاجأ حينما سمعت القصة حينها لأنني كنت قد وجدت من زوجة أخي ما يؤكد تعاملها مع المخابرات . . مثلما وجدت عدداً غيرها من الأقارب وأبناء البلد تحولوا إلى صف النظام وجندوا أنفسهم جواسيس لديه طمعاً بمكاسب رخيصة ينالونها أو خوفاً من مشاكل ومتاعب قد يواجهونها ! وعلى كل حال تم الإشعار بالنقل ، ووجدتنا نهرع لنلملم ما تكدس لدينا من متاع وحاجيات . . وفي صباح اليوم التالي انتشر الحرس على الأسطحة وتوزعوا على المداخل والأ بواب . . وتقدمت شاحنة كبيرة في البداية لنقل الأمتعة والأكياس وغالونات الكاز التي كنا قد اشتريناها لنملأ بها وقود الحمام . . حتى إذا امتلأت الشاحنة وكادت أن تفيض تحركت باتجاه منزلنا الجديد ، أخرجونا بعدها اثنتين اثنتين فكبلونا وأصعدونا واحداً من باصات النقل الداخلي ، وصعدت مجموعة من الشرطة المسلحين فجلسوا عند البابين الأمامي والخلفي ، ومضوا بنا قرابة العشرين سجينة نحو دوما من طريق خارج المدينة ، تتقدمنا سيارة شرطة وتتبعنا اثنتان أخريان للحماية والحراسة . . وزاد من كآبة الحال الغيوم الداكنة التي كست السماء يومها فحجبت الشمس وأحالت الدنيا من حولنا كئيبة مظلمة . . وعندما وصلنا آخر الأمر كنا متعبين جداً وجائعين وقلقين . . ووجدناهم وقد ألقوا أمتعتنا في ساحة السجن فاختلط منها وتداخل قدر ما تكسر أو فقد ! وكان أكثر السرقات وضوحاً جالونات الوقود التي كانت عزيزة علينا لأننا لم نحصل عليهم إلا بشق الأنفس . . وعندما طالبنا الشرطة بها نفوا مسؤوليتهم عنها وتلعثموا في الإجابة . . ووعد بعضهم بالمساعدة في استرجاع بعض منها ولكن شيئاً لم يرجع . . ووجدتنا من ثم نقاد إلى منزلنا الجديد ، فأعطونا مهجعين للسياسيات دب الخلاف كالعادة حول التوزع عليهما وتقاسم الأماكن فيهما رغم أن ذلك تقرر من إدارة السجن قبل أن نحضر !

 

إضـراب جـديـد

كان سجن دوما أشبه ما يكون في بنائه بالبيوت العربية القديمة . . فالجدران الحجرية وبركة الماء في منتصف الباحة تحيطها أحواض الزراعة من كل جوانبها . . وطريقة بناء الغرف نفسها كلها تقول ذلك . . وعدا عن مطبخ وحمام وغرفة طبابة وأخرى لبيع الحاجيات الرئيسية كنا نسميها ندوة السجن . . واضافة إلى ثلاث غرف صغيرة كانت تستعمل كزنزانات منفردة ، كانت ثمة ست مهاجع رئيسية : الأول من اليمين لمتهمات الدعارة ، والثاني بعده للقتل ، والأول من اليسار للحشيش ، تليه غرفة القتل والسرقة ، وبينهما غرفة كانت لمحو الأمية ثم ألغي هذا البرنامج فتحولت إلى غرفة عامة . وفي صدارة البناء كان مهجع السجينات السياسيات وجدت مكاني في المهجع الأيسر منهما ، وهو بناء طويل وضيق بعض الشيء ، ترتفع فيه مصطبتان عن اليمين والشمال تتوزع الفرش فوقهما بانتظام ، وبينهما ممر على ضفتيه خزائن صغيرة تحت المصطبتين خصصت لاستيعاب حاجيات كل شخص من النزيلات .

 

مخـبرة كـل العهــود !

كان ثمة مفاجأة تنتظرنا في دوما ، ففي أواخر أيام قطنا تم نقل المقدم موفق السمان بسبب تقرير مغرض اتهمه بالتعاون مع الإخوان ! فلما وصلنا دوما وجدنا الشخص نفسه هناك ، لكن استئناسنا لم يطل ، واستبشارنا انحل مكانه ، فالمقدم مدير السجن الذي يليه وهو درزي من عائلة السبع أذاقنا السم بالفعل ! فلم يمض الأسبوع الأول على وصولنا حتى أصدرمجموعة قرارات صارمة حرمتنا من كثير من الحقوق المهمة التي اكتسبناها من قبل . . ففي البداية وبينما كنا خارج مهاجعنا وقت التنفس حضر المقدم السبع وأمرنا أن نخرج إلى الساحة كل ما لدينا من مواقد غاز لأنها ممنوعة ، ولأننا لا نستطيع إلا الإمتثال فقد أخرجنا ما طلب ولكننا رفضنا دخول المهاجع احتجاجاً على القرار . . وبعد مداولات لم تطل سمح لنا بإعادة المواقد ، لكنه وبعد أيام قليلة قام أثناء وجودنا في المهجع بجولة تفتيشية مفاجئة صادر عناصر الشرطة خلالها مواقدنا وكل الأدوات المعدنية والزجاجية التي لدينا بعدما أحكموا إقفال الأ بواب علينا كي لا نعاود الإعتصام في الخارج . . فلم نجد بداً إلا أن نرسل كتاباً من خلال إحدى السجانات لرئيس السجن المقدم موفق السمان نخبره بالأمر . . فتدخل المقدم وأعاد لنا الأغراض . . لكن المقدم السبع لم يتوقف عن مساعيه في التضييق علينا . . ووجد في أميرة زركلي - مخبرة كل العهود خير معين له على نبش أسرارنا ورصد تحركاتنا ، وما هي إلا أيام حتى فاجأنا بقرار أقسى وأغرب ، فأمر بمنع الزيارات عن اللاتي لم تصدر أحكام بحقهن من "المحكمة الميدانية" . . وكانت أكثرية السجينات واقع الحال تجهلن أحكامهن رغم مرورهن على المحكمة التي اعتبرت أحكامها سرية ! وسرعان ما سرت فينا روح المقاومة من جديد ، وقررنا بالإتفاق أن تبدأ المتضررات إضراباً عن الطعام حتى يتراجع عن هذا القرار ، فبلغ عدد المضربات حوالي العشرين كن جميعاً من المسجلات تحت اسم الإخوان هذه المرة ، لأن الزيارات لم تمنع عن الشيوعيات بالأصل رغم أنهن لم تكن محكومات . . وأما نحن اللاتي نعلم أحكامنا فلم نشاركهن الإضراب بالإتفاق فيما بيننا حتى لا يمنع زياراتنا أيضاً ويقفل الباب الذي كنا نتصل نحن وهن جميعاً بأهالينا عبره . . لكنه رغم ذلك أصدر أمرا بمنعنا من الإقتراب من الشباك أثناء الزيارات حتى لا نوصل الخبر للخارج . . واستمر الإضراب واحداً أو إثنين وعشرين يوماً كادت المضربات في أواخرها أن يمتن بالفعل . . وصرنا حينها نحملهن إلى الحمام حملاً ونغير لهن ثيابهن وننظف أماكن نومهن وقد فقدن كل مقدرة على الحركة والتنقل . . فتعبنا كما لو كنا مضربات معهن تماماً ، خاصة وأننا كنا نأكل أقل القليل وبالسر احتراماً لشعورهن . . وصارت منهن من يرتفع ضغطها أو تأتيها حركات عصبية . . فأحضروا طبيب الفرع المخصص للشرطة والضباط بالطبع للكشف الدوري عليهن ، فكنا نحملهن إليه في البطانيات حملاً كأنهن قتيلات !

 

ســم ودم!

لم ينقض شهر على ممارسات المقدم السبع الذي لم يكترث بما حصل حتى صدرقرار مفاجىء لم ندر سبباً له يقضي بنقله ،لكن فرحتنا لم تتم ومأساتنا معه لم تنته ، فلقد أحضروا مكانه مقدماً اسماعيلياً من السلمية اسمه عماد لم يكن أقل لؤماً منه . . وكان عماد هذا إذا التأم انقلب وجهه إلى لونين : أصفر كالسم وأحمر كالدم ! لكننا وقد فاض بنا الكيل وما عاد لدينا جلد على احتمال الظلم قررنا التصدي له أيضاً ، ويبدو أنه بطياشته وعنجهيته أراد أن يخضعنا بالطريقة التي اعتادها وأمثاله مع السجينات القضائيات ، فأقبل علينا صباح أحد الأيام وأراد أن يضرب إحدى السجينات من بيننا لتمتثل لأوامره ، فما كان منها إلا أن ردت عليه بصفعه على وجهه جعلته يرتد مبهوتاً وقد تهاوى انتفاخه الزائف . . وصار يهددها بالجزاء وبالعقوبات ، فقمنا كلنا عليه نقول له إن هذا ليس بحقك ولا بصلاحياتك . . وهذا القرار بمنع الزيارات كله من عندك . . وعندما أسقط من يده وأحس خطورة ما يجري وقد شارفت بعض المضربات على الموت بالفعل وعد أن يكتب إلى إدارة المخابرات ليطلب الأحكام ويتحقق من وضعنا ، لكن الأهالي كانوا أسرع بالإتصال معهم والحصول على أذونات بالزيارة ، فأنهت المضربات إضرا بهن ، وخفت الضغوط والقيود بعض الشيء وإن لم تنته ، ولكنه استمر يضايقنا أيام الزيارات ولا يسمح للأهالي بالدخول إلا بعد أن تدنو الساعة من الثانية أو الثالثة . . ولقد حدثتنا أم ماجدة فيما بعد أنها كم وكم قبلت الأرض على باب السجن تقول له أو لمسؤول الزيارات : دعني أقبل رجلك وأدخل هذه الأغراض لابنتي فقط . . فيرفض . . فإذا أسقط في يدها كتبت ورقة صغيرة تطمئن ابنتها فيها ببضع كلمات وترجوه أن يوصلها لها ، فكان يأخذها ويمزقها أمامها ويطؤها بقدميه أمامها دونما رحمة !

 

من السـياسـة إلى الاقتـصاد !

كانت فاتحة الوافدات الجدد علينا في دوما فتاة فلسطينية الأصل في الثلاثينات من عمرها اسمها جميلة البطش ، كانت تدرس في سوريا واتهمت مع مجموعة من تنظيم شيوعي بتفجير الفندق السياحي بحلب وإحدى السفارات بدمشق وبأشياء أخرى . وكان قد ألقي القبض عليها عام 79 وحكمتها محكمة أمن الدولة العليا بالسجن المؤبد . . وبعد أن أمضت قرابة السبع سنوات في سجن المسلمية بحلب نقلت إلى دوما مع بداية انتقالنا عام 86 ولم تخرج إلا بعدنا بسنتين . . وبرغم مشاركتها السجن معنا لأكثر من سنتين إلا أنها كانت تميل إلى العزلة ولا تختلط حتى مع الشيوعيات الأخريات . . وبعد جميلة بأسابيع أحضروا طالبة أدب فرنسي من دمشق اسمها هلال معتقلة بتهمة تخريب الإقتصاد ! فقد كان أبوها كبير صرافي دمشق ولوحق أثناء التضييق على الصرافين فهرب خارج سوريا . . ولم يلبث بعد فترة وأن أرسل سبعة ملايين ليرة ونصف من الأردن وطلب من ابنته أن تعطيها لصراف آخر في دمشق . . فلما ذهبت إلى البيت المطلوب تصادف ذلك مع قيام الإخوان بتوزيع منشورات في المنطقة فظنوها واحدة منهم ، فلما فتشوا سيارتها ووجدوا هذا المبلغ الكبير نسوا الإخوان والمنشورات وأخذوا النقود والسيارة . . ولم يعيدوا لها من ذلك شيئاً حتى بعد الإفراج عنها بعد ثلاث سنوات !

 

رهينـة الجـبناء !

وتتالت الأيام وحلت علينا ضيفة جديدة هي عزيزة جلود زوجة النقيب إبراهيم اليوسف . . وكانت عزيزة قد اعتقلت أول مرة بعد حادثه المدفعية نالت فيها أشد العذاب ، ثم أفرجوا عنها لتكون طعماً يمكنهم من اصطياد زوجها ، فلما لم يصلوا إلى شيء من خلالها أعادوا اعتقالها ثانية فوجدوها حاملًا ، فقالوا لها إذا فأنت تعرفين مكان زوجك وتقابلينه ، وكان عمر حميدة يضربها على بطنها وينادي كالممسوس على الجنين يقول له : إنزل . . إنزل واشهد اللهم إني بعثي ! لكن الله حفظ لها الطفل وعادوا فأفرجوا عنها بعد أن سجنوها في ثكنة هنانو وعذبوها هناك أيضاً . . وعندما خرجت وضعت مولودها اسماعيل قبل أن يعتقلوها للمرة الأخيرة واسماعيل معها في شهره الأول أو الثاني ، وبقيا معاً في المنفردة بسجن المسلمية أربع سنوات . . وهناك ، وعلاوة على معاناة السجن المرة فقد مرت عزيزة بظرف رهيب جعلها تعيش كابوساً مرعباً لا مثيل له ، فخلال تلك الفترة حدثت عملية تمرد قام بها بعض السجناء . . فاعتصموا في مهجعهم احتجاجاً على التعذيب والإرهاب وسوء المعاملة وأحرقوا فرشهم ورفضوا الإنصياع لأوامر المخابرات بإخلاء المكان . وقتها ظن أولاء أن مجموعة من المسلحين تسللت إلى داخل السجن وقامت بالتمرد فما عادوا يجرؤون على الإقتراب . . فبادروا بخستهم إلى جذب عزيزة من زنزانتها وقدموها كرهينة وصاروا يساوموا الشباب عليها : إذا لم تسلموا أنفسكم فسنقتلها . . فعاشت المسكينة على أعصابها يومين من الرعب كاملين . . أتوا خلالها بقناص قتل المعتصمين أمام عينيها واحداً بعد الآخر حتى أنهوا الموضوع ! وعندما نقلوها من بعد إلى دمشق تمكن أهلها من أخذ إسماعيل معهم ليعيش مع إخوته في بيت والدها طوال الفترة القادمة ، حيث ظل أهل أبيهم كلهم في السجن ! وقد مكثت عزيزة في سجن التحقيق العسكري ثمانية أشهر ثم نقلوها إلى دوما والتقينا معها هناك لنبقى معا حتى الإفراج عنا . . ورغم أنهم تلوا اسمها مع قائمة الذين شملهم العفو فقد نقلوها إلى سجن المسلمية من جديد واحتفظوا بها هناك لمدة سنتين إضافيتين في زنزانة منفردة سيئة جداً تحوطها معاملة أسوأ . . فلم يسمحوا لها في البداية برؤية أحد أبداً من أهلها حتى أصيبت المسكينة بانهيار عصبي . . وبعد فترة طويلة سمحوا لأبنائها فقط بزيارتها وظل الحظر على بقية الأهل قائماً . . وكانت عزيزة في قلق دائم على أولادها خاصة بعد تهديدات العميد حسن خليل رئيس اللجنة التي قابلتنا قبل الإفراج ، والذي قال لها بلسان ينفث الحقد والمقت : - ثأر الذين قتلهم زوجك المجرم ما نسى وأهل القتلى نار قلوبهم تخمد . . وهم مستعدون في أية لحظة لكي يأخذوا به . . وأضاف يقول لها : أنت يجب ألا تعيشي قريباً من أولادك . . لازم تبقي بعيداً عنهم حتى لا تشربينهم الحقد والإجرام ! ولذلك كانت المسكينة في خوف دائم عليهم من نقمة العلويين وهاجس مستمر أين ستخفيهم . . ولقد سلم الله لها إياهم وأتى اسماعيل فزارنا في دوما مع جده في العيد وقد بلغ سبع أو ثماني سنين ، وكان ما شاء الله ذكياً جداً . . وعندما أدخلناه ووضعنا لهم إفطاراً وأردت أن أضع له عيدية بجيبه نظر إلي دامع العينين وقال : - نحن في الخارج نستطيع أن نأتي بنقود ، ولكنكم لا تستطيعون وأنتم هنا أن تأتوا بـشيء ! وأقسم ألا يأخذها أبداً !

 

مع الشـيوعيـات . . في فـراش واحـد !

كان عدد نزيلات مهجعنا قد وصل إلى قرابة الأربعة والعشرين حينما أصبحنا ذات يوم وحوالي 14 معتقلة من الشيوعيات على الباب . . ومدير السجن يأمرنا أن نستوعبهن معنا . . وأن تقتسم كل سجينة من الإخوان الفراش مع أخرى شيوعية ! . كانت القادمات قد اعتقلن دفعة واحدة بعد انكشاف تنظيمهن وتورطه بالعمل المسلح ضد النظام . . وروت القادمات أنهن أتين من التحقيق العسكري بعد أن ذاقوا هناك العذاب الشديد شباباً وبنات معاً ، وروين أن الكثير من المعتقلين معهن أصيبوا بالشلل النصفي نتيجة تعذيبهم على الكرسي الذي يتسبب بعد طي الإنسان بداخله في كسر عموده الفقري .

 ( الـخلـية )!

واستمتعت الشيوعيات بالوضع الجديد ، وصرن يعقدن في هذه المنطقة اجتماعهن الذي يسمينه "الخـلـية" . . حتى أقلقونا أيامها وصرعونا بماركس ولينين . . وأذكر أنني كنت مريضة مرة بحمى التيفوئيد وتصادف ذلك أثناء اجتماع خليتهن ، وكنت أتأوه من ألمي ولا أستطيع تحمله . . فأحسوا وكأنني أعطل عليهن الإجتماع . . فاقترحت إحداهن وكانت طبيبة متخرجة اسمها تماضر العبد الله أن يعطوني مسكنا . . فوافقت البنات وذهبن إلى الممرض وأحضرن منه إبرة مسكن أخذتها تماضر وحقنتني بها في الوريد مرة واحدة وبشكل سريع ، فوجدتني خلال لحظات أفقد الإحساس بفكي ولا أستطيع تحريكه ولو بكلمة . . ثم غبت عن الوعي  ....

*كاتب سوري في المنفى


أعلى الصفحةالسابق

 

الرئيسة

اطبع الصفحة

اتصل بنا

ابحث في الموقع

أضف موقعنا لمفضلتك

ـ

ـ

من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ