ـ

ـ

ـ

مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وقولوا للناس حسنا

اتصل بنا

اطبع الصفحة

أضف موقعنا لمفضلتك ابحث في الموقع الرئيسة المدير المسؤول : زهير سالم

الاثنين 03/07/2006


أرسل بريدك الإلكتروني ليصل إليك جديدنا

 

 

إصدارات

 

 

    ـ القضية الكردية

 

 

   ـ أبحاث    ـ كتب

 

 

    ـ رجال الشرق

 

 

المستشرقون الجدد

 

 

جســور

 

 

التعريف

أرشيف الموقع حتى 31 - 05 - 2004

ابحث في الموقع

أرسل مشاركة


 وثائق وقضايا 

فـي القـاع : سنتان في سجن تدمـر – 2

التحـقيـق

إعـداد الدكـتور خالد الاحمـد

كان إخواننا المعتقلون في سجن تدمر،  يوصي بعضهم بعضاً بأن ينقل المحكومون بالبراءة ما يجري لهم في سجن تدمر، في حال الإفراج عنهم، ومن يتمكن من تسريب بعض المعلومات عن الجرائم التي ترتكب بحقهم في سجن تدمر، فليفعل، وقد أذن الله بالإفراج عن الأخ صاحب هذه الذكريات، وهو لا يزال يذكر وصية إخوانه المعتقلين له، بأن يعمل على فضح هذه المخازي والجرائم، في سائر الأماكن التي يمكنه الوصول إليها،

 

وإننا بإصدار هذه الذكريات عن سجن الموت في تدمر، ونقل معاناة أولئك الأحرار الأسرى، نريد أن نشهد العالم أجمع، نريد أن نشهد الدنيا بأسرها، على جرائم حافـظ الأســــد ، لعل الحسّ الإنساني يتحرك فيهم، فيبادروا إلى فعل حاسم يجتث هذا السرطان من جسم أمة العرب، لينقذوا العرب والمسلمين من خبائثه وجرائمه..

 

25/8/1985م           خالد فاضل

ــــــــــــــ

أبو اصطيف :

كان دور المحقق يبدأ في العاشرة صباحاً ويستمر إلى الثانية بعد الظهر، ومن التاسعة ليلاً حتى آخر الليل. وكان لي في كل يوم جلسة تحقيق في الصباح وأخرى في المساء، وينشغلون عني بعض الأحيان، ويعيدون في كل مرة (فلم) العذاب بأكمله قاسياً مريراً رعيباً, وكانوا يطلبون مني أن أكتب لهم في كل مرة اعترافاتي ولا يعجبهم ما أكتب، فيضربونني عليه أشد الضرب.

فتح السجان باب الممر قبل الظهر وأدخل شخصاً فأوقفه في الممر وتركه ومضى.

قام أحد الأخوان فاسترق النظر من النافذة الصغيرة ثم قال: قادم جديد.. قمت استرق النظر وهالني ما رأيت يا الله.. إنه أبو اصطيف، كان يقف في طرف الممر يلبس بدلة رصاصية اللون مكوية، وكأنه جاء ليتفقد أحوال المعتقل، ناديته: أبو اصطيف. السلام عليكم..

أجاب: وعليكم السلام.

قلت: خيراً إن شاء الله يا أبو اصطيف؟

كان سؤالاً حائراً، وأقول في نفسي: وهل يحتاج الأمر إلى سؤال؟ ولكني لم أكن أصدق ما أرى.. ما جريرة هذا الإنسان الطيب الأديب الذي ما عرف حتى الكلمة الجارحة ولا اللفظة النابية كله أدب وأخلاق كريمة وعمل ونشاط دؤوب واستقامة.

وأجاب أبو اصطيف: لا ما في شيء سؤال وجواب خمس دقائق.

وكان عازفاً عن الكلام.. وكأنه مشغول أو مستعجل (نفس الحالة التي مررت بها) وكدت أصدق أنه كذلك (سؤال وجواب) خمس دقائق.. حتى لقد هممت أن أحمله سلامات للأهل.. وجاء السجان وأدخل أبا اصطيف الزنزانة المجاورة واستفهم أحدهم عن أبي اصطيف وأمره فقلت حائراً: يقول سؤال وجواب خمس دقائق فقط. فقال أحدهم: نعم إلى يوم يبعثون.

قال لي الأخ (س) المهندس وأنا ذاهب إلى التحقيق: لا تخف (يا فلان) أنت أقوى منهم أنت أقوى منهم بإيمانك.. إنهم لم يستطيعوا أن يطاولوك فراحوا يعتدون عليك بالضرب.. اعرف ما تقول واذكره فأنت مسؤول عنه.

وأعود بعد التحقيق محطماً فيواسيني الأخوة بكلمات رقيقة مشجعة كالبلسم يمسحون بها الجراحات.

جاء أخ منقول من الفرع العسكري لبعض التحقيقات، كانت حاله سيئة جداً، رجلاه مضمدتان ويده متورمة من الكوع وفي وجهه كدمات مختلفة وحول عينيه هالتان سوداوان، وإذا هو يحسدنا على حالنا في معتقل أمن الدولة ويقول:

- أنتم بخير وعافية، تحقيقكم هنا (أسهل من شربة ماء)  الحاقدون عندكم لا يعملون بأيديهم بل بصفة مراقب فقط، بينما عندنا يتولون العمل بأيديهم هناك يؤخذ المعتقل للتحقيق فإما أن يتكلم بما يريد المحقق (ما جرى وما لم يجر) وإلا فإن مصيره التحطيم أو الموت، وإذا لم يمت فسوف يعود إلى التحقيق من جديد.. شابان في شرخ الشباب في سن العشرين قتلا أمام عيني بعد عذاب رهيب استمر أربع ساعات متوالية أحدهما هو الأخ سيف الدين طرشه، رحمه الله، فترحمنا عليهما، وحمدنا الله الذي لا يحمد على مكروه سواه.

 

إلـى دمشـــق

 

جاء السجّان وفي يده ورقة مكتوبة ونادى باسمي وأمرني أن أوقّع عليها وقد أخفى ما فيها.

قلت: على أي شيء أوقع؟

قال: مالك علاقة يا ....  إما بتوقع يا إما باخدك إلى غرفة التحقيق.

نظرت إلى الأخوة حولي أستفهم منهم. قال (س): وقع. وأشار بيده: وليكن ما يكون واخلص من العذاب فوقّعت. عرفت في الورقة كلاماً يسيراً لحظته خلال التوقيع، كان اعترافاً ملفقاً بأشياء لا أعرفها.

وفي اليوم التالي كان في المعتقل حركة غير عادية، فقد جاء أشخاص آخرون ونودي بأسماء منها اسمي. قال بعض الأخوة: نقل. وتذكرت. لقد هددني المحقق في آخر جلسة تحقيق وآخر حفلة تعذيب وقد يئس مني فقال: (والله لأبعتك على الشام يا...) ولم أعر الأمر كبير اهتمام فماذا في الشام أو غيرها؟ ولكني عرفت فيما بعد معنى هذا التهديد، ولكن بعد فوات الأوان.

ففي (تدمر) الموت حدثني الأستاذ (ع) مدرس الرياضيات قال: طلبت من قبل المخابرات فهربت واختفيت خائفاً أترقب ومضت أيام صعبة قرابة شهر ولم أكن من المجرمين ولا ارتكبت أي ذنب يعاقب عليه القانون، ولكني متدين أصلي وأصوم وكان لي بعض الأصدقاء المتدينين، ولكن في هذه الأيام الكل مجرم حتى ولو ثبتت براءته، ونحن نرى الذاهب (الذي تأخذه المخابرات) لا يعود، بريئاً كان أم مذنباً، إلا من رحم الله ليحدث عن العذاب والإرهاب.

ضاقت بي الحال وصعب علي مواصلة الاختفاء فتوسط لي بعض الأقارب لدى مسؤول كبير في المخابرات وأخبره بأمري فقال له بالحرف الواحد: ليس متهماً بشيء، ولكنه مطلوب إلى الشام ومن يذهب إلى الشام لا يعود فليهرب.

ويتابع الأستاذ (ع) ولم أقتنع، وقلت لنفسي: ما دمت لست متهماً بشيء فسوف يكون تحقيق يسير فبراءة فعودة.. فسلمت نفسي للمخابرات واقتادوني إلى دمشق ثم إلى تدمر الموت هذا ولم أرتكب والله جرماً.

إذن الرحلة اليوم إلى دمشق.. ودّعت الأخوة، وعزّ عليّ أن أترك هذا المعتقل الذي عشت فيه أياماً قليلة، اعتدت فيها عليه، حيث أنني هنا قريب من الأهل وإن لم أكن أراهم أو أسمع عنهم، ولو كنت أعرف تدمر وما ينتظرني فيها لوقفت وجلاً أمام هذه الرحلة.

كنا ستة أشخاص جمعونا من زنازين مختلفة وقيدونا بالسلاسل حتى أصبحنا كتلة واحدة، ووضعونا في سيارة لاندروفر وانطلقت السيارة بنا (وقد ملئت من الأمام والخلف حرساً شديداً) إلى دمشق. لم نودع أهلاً ولم نر قريباً. تركنا وراءنا حياتنا كلها وأهلينا.. هكذا كنت ألقي نظرة الوداع على تلك الربوع التي طالما سعيت فيها بآمالي وهمومي وأقول بحسرة: هل من عودة يارب فقلبي يحدثني أنها رحلة ليس من السهل الرجوع منها.

كانت أيام رمضان المبارك وصمنا نحن المعتقلين المنقولين رغم رخصة السفر.. وحرّاسنا مفطرون طبعاً. وصلنا إلى دمشق فسجن الحلبوني مع المساء، وكان السجانون في المحافظة من نوعيات مختلفة. كان أحد الجلادين يأتي فيتفقدنا في الصباح وقبل التحقيق ويسأل: (كيف حالكن)؟ وكنا نظن به خيراً، وإذا هو خبيث كزملائه يريد أن يتعرف على حال من سيجلدهم في التحقيق ليعرف مدى تحملهم، وكان السجّان سعيد مثال الغباء والقسوة.

كما سجن مع الأخوة في إحدى الزنازين عنصر مخابرات ارتكب مخالفة وكان شديد الإيذاء للأخوة جاهلاً متغطرساً ينظر إلينا باحتقار، فلما عايش الأخوة يومين إذا به ينقلب حملاً وديعاً وإذا بالندم على ما فات يقرع قلبه، فكان إذا خلا بنا بعد ذلك أو بعدت عنه عين الرقيب يقول: أنتم أعمامي وإخوتي ويبدي أسفه وحزنه على ما بدر منه تجاهنا..

 

في معتقـل الحلبــوني

معتقل الحلبوني قصر قديم مؤلف من طابقين وملحق صغير وقبو وأمامه حديقة واسعة ويحيط به سور عال وأسلاك شائكة، وعلى يمين الداخل في الحديقة قبو طويل فوقه غرف وأمام بابه فسحة يسيرة 3×2م مشبكة بالحديد كالقفص،وعلى اليسار الدخل في أقصى غرفتان أيضاً.

 أدخلتنا الدورية إلى مكتب في زاوية البناء اليمنى وتلقانا هناك عنصر من المخابرات سلمه رئيس الدورية أوراقاً لا شك أنها تخصنا فاستلمها منه على مضض والتفت إلينا فعدّنا بالخيزرانة وسبنا وشتمنا وهمّ بضربنا. كان فارغ الدماغ، قد حشي ذهنه بأشياء غريبة عبر عنها بقوله: (انتو يا... لو شفتوني بره قتلتوني) ونحن لا قتلنا ولا نقتل أحداً. كان في ذهنه أن المعتقلين مجرمون هكذا قبل أن تثبت التهمة أو حتى قبل أن توجه التهمة.

سلمنا بعد ذلك إلى سجان آخر يدعى (أبو سميح) فقادنا إلى القفص فوضعنا فيه وسألنا: أنتو صايمين؟ قلنا: نعم. فجاء بوعاء كبير فيه شوربة مليئة بالحصى وقال: كلوا. طلبنا ماء فقال: بعدين. وهكذا أكلنا من الشوربة ما يسر الله. وجاء بعد ذلك السجان أبو سميح فادخل أربعة منا في القبو وقادني وآخر إلى البناء الرئيسي وسار بنا في ممر طويل وفتح باباً حديدياً ونزلنا درجاً ضيقاً إلى صالة صغيرة جداً على جانبها أربعة أبواب أدخلني من الباب الأول الذي أفضى بي إلى زنزانة ضيقة معتمة وأدخل الآخر الثانية وكان يبدو من خلال باب مغلق آخر (شودير) جهاز تدفئة مركزي قديم متروك تراكم عليه الغبار وبعد ذهاب السجان سمعت أصواتاً. وفتح شخص النافذة الصغيرة وأطل وجه فتى جميل بلحية شقراء فحياني بقوله: السلام عليكم. ورددت عليه بود: وعليكم السلام.

قال: نحن جيرانك في الغرفة الجماعية، كيف حالك، وماذا تحتاج؟

فشكرته وطلبت منه شيئاً من الماء فأحضر لي ماءً وطعاماً (خبز وحلاوة) وشكرته ثانية وجلست أتمتع بالوحدة وأستأنس بذكر الله. وجاء السجان في حوالي منتصف الليل فأخذني إلى الطابق العلوي وعصب عيني وأدخلني على محقق باشرني بالتهديد والوعيد. يقول: أنت منظم في الإخوان هذا أكيد وأنت معترف هنا (ويشير إلى أوراق أمامه) ولم يترك لي فرصة للكلام أو المعارضة ثم أعادني السجان إلى الزنزانة.

 

الـزنـزانـة رقم ( 4 )

 

وفي اليوم التالي جاء السجان فأخذني من الزنزانة وسار بي في الممر الطويل إلى الحديقة ثم إلى القبو فدخلنا فيه وقادني في ممر على جانبيه غرف وأبواب حتى أدخلني زنزانة ذات باب واطئ في آخر الممر ضيقة كانت هذه هي الزنزانة رقم ( 4 ) أغلق الباب ومضى كانت الزنزانة كالعلبة واطئة السقف ليس لها نوافذ سوى باب صغير من خشب سميك وفي وسطه فتحة صغيرة مشبكة بالحديد.

 

الجماعية في قبو الحلبوني

 

وجاء السجان بعد ثلاثة أيام فأخرجني وأعادني إلى قبو المبنى قرب (الشويدر) ولكنه في هذه المرة وضعني في الغرفة الجماعية وبابها في الزاوية إلى اليسار مع الأخ الأشقر صاحب اللحية وجماعة من المعتقلين كان أكثرهم بالثياب العسكرية رحبوا بي أنست بهم.

كان أول ما لفت نظري – وأنا داخل إلى الزنزانة الجماعية كتابات على الجدران تحتوي على أسماء وتواريخ وشعارات. كنت نشطاً قد ملأت قلبي مشاعر الصبر والاحتمال والاحتساب أنه لن يمسكني عن لقاء ربي شيء.

 

 

 

الــوحـــدات

كان الشاب الأشقر ذو اللحية قصير القامة ضاحك الوجه أديباً سلس الحديث ودوداً وهو طالب في الجامعة (جامعة دمشق كلية الهندسة) ويدعى (م – ع) ومعه شاب آخر طويل نحيل ذكي القلب وهو طالب جامعي أيضاً، وكان في الجماعية أربعة عشرة شخصاً آخرون باللباس العسكري المبرقع الخاص (بالوحدات الخاصة) جيش الطائفي علي حيدر. وكان في هذا الجمع سلوى، وتحدث العساكر فقالوا: نحن من الوحدات، أتعرف الوحدات يا أخ؟ قلت: ومن لا يعرف الوحدات؟ جيش ظالم غاشم يفعل في شعبنا كما فعل جيش هولاكو وجنكيز خان في البلاد المفتوحة قهراً فهي حلال له بأهلها ومالها وكل شيء فيها، أعرف أن القاتل في هذا الجيش لا يحمد على ما فعلته فقط بل يعطى مبلغاً ضخماً من المال (10) عشرة آلاف ليرة سورية فوراً لمن يقتل أي واحد من الشعب فعل شيئاً أم لم يفعل ولأورد الدليل كشاهد عيان: كان سمير الدج يعمل مع أبيه في مقهى صغير بجانب سوق الميكانيك في مدينة جسر الشغور على اليمين الدخل إلى المدينة من جهة طريق حلب.وهو شاب لطيف طيب القلب عمره (16) سنة لم يتمرس بشقاوات الأولاد. كان طيباً بكل ما في الكلمة من معنى ذهب مع أبيه إلى المقهى صباحاً وقبيل المغرب حمل غلة المقهى ولحق بأبيه إلى البيت فقد كانت خطة معروفة لأبي سمير أنه لا يفتح مقهاه في الليل أبداً ولا يسمح للمقامرين أن يقامروا فيه مهما كان الأمر.وفي الطريق لمح الشاب عساكر الوحدات ذوي البدلات المبرقعة تقطع الطريق وكان الجو العام في البلدة قاتماً فأحداث الجسر لم يكن قد مضى عليها إلا قليل، فانفتل الشاب عائداً ليغير طريقه بعيداً عنهم ورآه أحدهم فصرخ به فأرعبه وأربكه فأراد الابتعاد ولكن الروسية كانت ملقمة واليد على الزناد فبادرته برشة من الطلقات النارية، فسقط الغلام مضرجاً بدمائه، وضحك المجرم ضحكة السعادة الفاجرة، وجاء ينظر إلى الضحية ويغنم غلة المقهى التي تعب الغلام وأبوه فيها طوال النهار، ويتساءل الضابط شامتاً: ألم يمت بعد؟

 

ويقرر من عنده (مات وشبع موتاً) فيأتيه اثنان منهم فيجرونه من رجليه إلى السيارة الشاحنة الواقفة غير بعيد، فيلقونه فيها ويقف القاتل واضعاً رجله على جثة الطفل الضحية في وضع بطولي يحتاج إلى صورة تذكارية، والروسية مهيأة والإصبع على الزناد وتنطلق السيارة.

مزقت الأم ثيابها وقطعت شعرها واعولت وألقت نفسها على الأرض وهي تبكي.. ووضع الأب يديه على رأسه وانهد باكياً في حزن يهد الجبال: يا سمير يا ولدي يا سمير.. يا سمير.. وقبض القاتل المكافأة (10) آلاف ليرة كاملة لا تنقص قرشاً، ورفض ضابط الوحدات الإجابة عن أي سؤال، ورفض تسليم الجثة إلى ذوي القتيل بل سلموها لمكتب دفن الموتى في المحافظة ليتولى دفنها سراً، وسارع الوالدان إلى مكتب الدفن وأشفق عليهما المسؤولون وسمحوا لهما برؤية ولدهما القتيل فألقيا النظرة الأخيرة على طفلهما وأكبا يقبلانه ويشمانه وهو جامد بارد فاغر الفم وفي صدره ينابيع دم متجمدة.. ماذا تفعل الأحزان؟ وماذا تفعل الآلام؟ لن تفعل شيئاً إلا أن تحفر في القلب جروحاً غائرة لا يمحوها إلا عدل إلهي يعاقب المجرم على جريمته، بل لقد ارتفع ثمن القتل كما عرفت مؤكداً فأصبح (20) ألف ليرة بدل عشرة آلاف، ففي جامعة حلب وبالذات كلية الهندسة، والطلاب في امتحان يكتبون ويعملون وإذا بالمخابرات تقتحم قاعة الامتحان لتوقفه ولتأخذ الطالب الجامعي (محمود) وتقتاده إلى سجونها المظلمة، أمسكوا بتلابيبه وهو الشاب الرقيق الغض الإهاب الحيي الخجول. حدث محمود نفسه: (يا رب إليك ألجأ – أهكذا يجرونني إلى الموت وأنا مستسلم كالخروف- وخاطب نفسه: أنت بريء وأي براءة عندهم لا تشفع، يكفي أنك تصلي وأنك مسلم وأنك لست عميلاً) وعند الباب انفلت محمود من آسريه وانطلق هارباً كالسهم فامتدت اليد المجرمة إلى سلاحها المهيأ إلى المسدس الملقم فوجهته إليه وأطلقت عليه طلقات متلاحقة ضربت إحداهما ظهره، ونفذت من تحت الثدي الأيمن، ووقع محمود على الأرض ولكنه قام مغالباً الألم يقول في نفسه: فلأمت بعيداً عن أيدي المجرمين وأبتعد، ولكن النزيف لم يتركه يبتعد كثيراً فوقع غير بعيد، وجاءته قوى (الأمن) لا بل قوى الإرهاب والإجرام فحملته لتلقي به إلى مكتب الدفن ليدفن سراً وصدر الجاني يهتز أملاً وفرحاً فها هي عشرون ألف ليرة قريبة جداً من يده تكاد تدخل الجيب الفارغ الذي خوى بعد سكرة الأمس ولعبة قمار البارحة، ولكن الشاب كان لا يزال حياً وحمل إلى المستشفى وكتب الله له عمراً فعاش ليدخل سجون الظالمين، سجون المخابرات ولكمته اليد الجانية المجرمة ويقول له صاحبها: (ما كنت تموت يا كلب، ضيعت عليّ عشرين ألف) فالتسعيرة عندكم رخيصة يا وحدات.

كثيرون جداً نالهم ما نال سمير ولم ينج مثل محمود إلا القليل لينقل إلينا النبأ الذي لم يعد سراً .

 وقال أحد عناصر الوحدات المسجونين : يا أخ نحن لسنا مثل هؤلاء نحن لا علاقة لنا بما يجري.. نحن لا نعرف شيئاً وحينما نذهب في مهمة يبقوننا بعيداً عن مكان الحادثة.

سألتهم: أحضرتم تفتيش حماة /1980؟

قالوا: نعم حضرنا ولكنا والله لم نؤذ أحداً بينما كان ( .........)  شديدي البطش، كل ما يقال لنا في مثل هذه الأحوال: إن هناك خونة مخربين يجب القضاء عليهم.

وكان حديث طويل وتنصلوا من كل مسؤولية، وقالوا: يا أخي علمونا نحن أمانة في أعناقكم.

*كاتب سوري في المنفى


أعلى الصفحةالسابق

 

الرئيسة

اطبع الصفحة

اتصل بنا

ابحث في الموقع

أضف موقعنا لمفضلتك

ـ

ـ

من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ