ـ

ـ

ـ

مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وقولوا للناس حسنا

اتصل بنا

اطبع الصفحة

أضف موقعنا لمفضلتك ابحث في الموقع الرئيسة المدير المسؤول : زهير سالم

الثلاثاء 05/07/2005


أرسل بريدك الإلكتروني ليصل إليك جديدنا

 

 

إصدارات

 

 

    ـ أبحاث

 

 

    ـ كتب

 

 

    ـ رجال الشرق

 

 

المستشرقون الجدد

 

 

جســور

 

 

التعريف

أرشيف الموقع حتى 31 - 05 - 2004

ابحث في الموقع

أرسل مشاركة


تدمر في الذاكرة ...

حمامات الدم الساخن (2)

حسن الهويدي*

خرج شهر نيسان كل شيء فينا يعاني، الجرب أكل من أجسادنا وأصبحت كخلية نحل. سنابل القمح الخضراء يقترب موعد حملها ورائحة التراب تبشر بمواسم العطاء، والحرمل البري تهز أغصانه نسمات نيسان المودّعة، وصوت الخراف القادم ألينا يصحبه مزمار الراعي ينشد أغاني الحزن والفراق، وطفلاً حافي القدمين يركض وراء فراشات يحمل بيده منديلاً أبيض، وحمار ينهق يحمل على ظهره قربة ماء وكيس خبز وعباءة صفراء، والكلب باسط ذراعية يسعى للنوم بعد سهر ليل طويل ونباح أتعب صوته، وشجرة الكينا البعيدة القريبة التي تهز الرياح قمتها تترنح ذات اليمين وذات الشمال يحوم حولها الغراب الأسود (..). وبعد لحظات انتابني ألم شديد لا يطاق يصحبه شعور بالبرد والعرق الشديدين، هذا السجن المرض والقمل والجرب والتعذيب، هل يعقل أن نقضي حياتنا هكذا إذا كتبت لنا الحياة؟! نظرت من حولي، هناك من يغسل رسغه بالبول لكي يخفف عنه الألم، وهناك من يضع قطعة قماش على أذنيه التي أصبحت كالعنقود المتدلي، وهناك من تسيل من فروة شعر رأسه القصير ماء صفراء اللون تحمل معها بيض القمل، أخرجونا إلى الباحة لتفقدنا كما هو المعتاد، فإذا بأحد السجناء يطلب الإذن من حضرة الرقيب أن يتكلم، فلم يسمح له بذالك إلا أن السجين أصر على ذلك:

فقال له: إننا جميعاً مصابون بالجرب والقمل وأمراض جلدية متعددة ونحتاج إلى علاج وحمامات بالماء الساخن. فرد عليه حضرة الرقيب: حاضر، وماذا بعد؟ هل هذا كل ما عندكم؟ فأدخلونا إلى داخل المهجع دون أن يلمسوا أحداً منا أو يضربوه، وبعد نصف ساعة تقريباً فتح علينا باب المهجع دون أن نشعر أو نحس بقدومهم إلينا، وطلبوا أن نخرج جميعاً إلى الباحة عراة حفاة. خرجنا وساد الباحة هدوء تام، لم نسمع سوى وقع الخطوات المنتظمة ورائحة التبغ الفاخر، نادى بصوت عالي: المسؤول الصحي إلي ..

- حاضر سيدي.

- كم عدد المصابين بالجرب يا أبن ..

- كامل المهجع سيدي.

- كامل المهجع يا ابن القوادة .. بلدية .. بلدية .. هات الدولاب.

وجاء الدولاب بسرعة.

قال: علقوا هذا الكلب الأجرب.

وعلقت آمالنا بالشفاء والعلاج، وبدأت أنشودة الموت تعزف ألحانها، والعباءة الحمراء والناي وفتاة الوشاح الأبيض من حوله ترقص ترسم دوائرها، والذي يجلس بجانبي إلى اليمين يرتل ما تيسر له، لعله أن يُسمع منه ويخفف عن أخيه الذي ما زالت قدماه معلقةً في الهواء والسياط تحرث بقايا اللحم السليم التي لم تطلها جرثومة الجرب، والذي يجلس بجانبي إلى اليسار يعد عدد الجلدات التي عرفتها من خلال عده حوالي "أربعمائة جلدة" وأفق الخلاص من بين أيديهم في تلك اللحظة بات وشيكاً، صاح صاحب الصوت قف .. توقف كل شيء وطلبوا منه أن يسير على قدميه إلى داخل المهجع، ودخلنا جميعاً، وكل واحد منا أكل ما تيسر من الرفس والضرب إلى أن دخلنا بداخل المهجع وأغلقوا الباب. ودائماً عندما ندخل نشعر بجزء من الآمان النسبي؛ لأن التدافع على الدخول إلى المهجع نتيجة الضرب الذي نتعرض له أثناء دخولنا، ما يسبب سقوط البعض على الأرض، وهؤلاء هم الذين يتعرضون للضرب المبرح، ناهيك الكسور التي تنتج، وخاصة كسور في عظام القفص الصدري بسبب التزاحم للدخول إلى المهجع، فالباب الذي ندخل منه لا يتجاوز عرضه (60 سم) وارتفاعه (150 سم) مما يضطرنا للدخول وظهورنا منحنية. وعلاوة على ذلك، عتبة الباب التي يزيد ارتفاعها عن (40 سم) .. كل شيء في هذا السجن أتقن عمله لأجل التعذيب. طاف ناظري بداخل المهجع، هناك من يحك رأسه الممتلئ بالقمل، وذاك يحك مؤخرته ومن يحك بطنه .. والكل يعمل والكل مشغول بالحك، وكأنها آلات تعمل دون توقف وقودها الجرب، وقفت أتأمل وأنظر إلى الجميع بالأمس كان عددنا (96) واليوم أصبح العدد (136) المكان بدا مزدحماً جداً، هل يعقل أن يضاعفوا العدد مرة أخرى؟ لا ندري.

أوشكت الشمس على المغيب وبعد ساعة ونصف سوف نخلد إلى النوم والكل منشغل البال والجسد، وإذا بقيت هناك أجساد سوف يرهقها الليل القادم إلينا والذي يحمل معه أسراراً لا نعلم بها شيئاً، سوى أننا معرضون لأي شيء سيء يخطر أو لا يخطر ببالنا. هكذا قضينا الليلة ونحن ننتظر ونفزع من كل حركة من حولنا، إلى أن بان الشفق، فبدأت أجسادنا بحركة بطيئة تأخذ الاستعداد لليوم الجديد. وفي الساعة العشرة صباحاً فتح باب المهجع، وطلبوا منا الخروج إلى الباحة باللباس الداخلي، وكل واحد منا يجلب معه صابونة ومنشفة. خرجنا فارغي الأيدي، لا صابون لدينا ولا هم يحزنون. وكان عددنا (136) فرداً، فقادونا إلى الباحة الثانية، حيث وصلنا إلى المكان الذين طلبوا منا التوقف فيه، وأمرونا بالجلوس على الأرض باتجاه الجدار المقابل ورؤوسنا منحنية نحو الأرض دون النظر إليهم، ومن يحاول النظر بالتأكيد قد يخسر إحدى عينيه.

ظهورنا عارية وكذلك صدورنا، وبدأت العصي والكابلات الفولاذية تمزق ظهورنا، والدعس والعفس بالأبواط العسكرية تقع على رقابنا وكأنها صواعق. قسمونا إلى قسمين للدخول إلى الحمام. صدرت ألينا الأوامر بالتوجه إلى الحمام رملاً، والسياط والضرب بالعصي على أجسادنا إلى أن وصلنا المدخل، دخل القسم الأكبر منا إلى الداخل، وبقي القسم الآخر بالخارج، إلا أن مساحة الحمام لا تستوعب العدد، وأدخلونا بقوة الضرب من الخارج والداخل، دخلنا ولم نشعر بوقع الماء البارد على أجسادنا، ومن كثرة الازدحام استطعت أن أسرق النظر، فإذا بعناصر الشرطة وبرفقتهم البلدية يحملون العصي والقضبان المعدنية معلقين على الجدران المحيطة بالمكان وبدأوا بإطلاق أصوات يرافقها الضرب على رؤوسنا ووجوهنا وهم يطلقون كلمات القهر والإذلال بنا، ومنهم من يطلق كلمات السب والشتم. شعرت بأن المياه التي تنصب على أجسادنا هي مياه دافئة بعض الشيء؛ لأنها اختلطت بالدماء وهي تسيل على الأرض وبحكم موقعي عند المدخل شاهدت المياه تسيل إلى الخارج ممزوجة بالدماء بكثافة. سقط منا الكثير على الأرض نتيجة الضرب، ومنا من كسر فكه، ومنا من كسرت يداه، وآخر كسرت ساقه. وقع الماء على أجسادنا ترافقه ضربات السياط ونزيف الدماء من أجسادنا يبشر بالموت، وما أكثر المنذرين بالموت في هذا المكان.

ما شهوة هؤلاء إلا التعذيب. إنهم لأشد الناس حقداً، وأخرجونا إلى الباحة وطلبوا منا الانبطاح في ساقية أسمنتية من الطرف الآخر للباحة تمر فيها مياه آسنة، وأدخلوا الدفعة التالية ونحن نسمع صراخهم ينطلق من داخل الحمام، ونحن نتابع الزحف إلى المهجع على بطوننا العارية التي مزقتها الأرض والمياه الآسنة والفئران الميتة ...

* كاتب سوري ـ سجين سياسي سابق

 

أعلى الصفحةالسابق

 

الرئيسة

اطبع الصفحة

اتصل بنا

ابحث في الموقع

أضف موقعنا لمفضلتك

ـ

ـ

من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ