مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

آخر تحديث يوم الأحد 02 - 05 - 2004م

ــــ التعريف دراسات  متابعات   قراءات  هوامشرجال الشرق من أرشيف الشرق | صحيفة الشرق العربي |ـ
ـ| مشاركات الزوار |ـجسور |ـجديد الموقع |ـكتب | مجموعة الحوار | تقارير حقوق الإنسان | واحة اللقاء | البحث في الموقع |
ـ

.....

   
 

اعتقال طلاب الجامعة ....

سياسة العزل السياسي والجيلي

ياسين الحاج صالح

اعتقل مساء يوم السبت 24 نيسان 12 طالبا من جامعتي حلب ودمشق في مقهى قريب من المدينة الجامعية بدمشق. بعض الطلاب الحلبيين من المفصولين نهائيا من الجامعة (محمد عرب، باسل ديوب) ومن اتحاد الطلبة (مهيار خشروم، ناصر بابنسي، موريس عايق، مصطفى اليوسف) لأنهم شاركوا في اعتصام احتجاجي على المرسوم رقم 6 الذي يخلي الدولة من التزام بتوظيف المهندسين خمس سنوات بعد تخرجهم. ويبدو أنهم كانوا في دمشق سعيا وراء حشد تضامن زملائهم في جامعة دمشق مع قضيتهم.

اعتقال الاثني عشر غير منقطع الصلة بموجة من النشاط الطلابي يتصدرها منذ أشهر طلاب من جامعة حلب، وذلك عبر العديد من الاعتصامات وتجارب العمل الجماعي شبه المنظم. ينتهك هذا النشاط الطلابي اكثر من "خط احمر": أولها محاولة الانتظام المستقل عن النظام واجهزة سلطته، "المنظمات الشعبية"، وهذا خطير لأنه يثبت ان السوريين قادرون على أن يلتقوا وينتظموا ويعالجوا مشكلاتهم دون المرور الإلزامي بالسلطة ودون الحاجة لها؛ ثانيها استعادة الفئة العمرية الأكثر أهمية إلى الحياة العامة، الشباب، مع ما هو ماثور من أن الشباب بحد ذاتهم خط أحمر، اي امتياز حصري لسلطة نظام الحزب الواحد. والملاحظة المطردة تشير إلى وجود خط أحمر ثالث يخص الاتصال بين الشباب والجيل الأقدم من الناشطين (معتقلون سياسيون سابقون، مثقفون مستقلون ...). ففي الآونة الأخيرة تواترت أمثلة متنوعة على سياسة العزل الجيلي، إن جاز التعبير؛ وهي سياسة تعتمد على تخويف الشبان وتهديدهم ومحاصرتهم بضغوط اهلهم وتشويه سمعتهم الأخلاقية من جهة، وعلى تكثيف المراقبة للكهول (هواتف، بريد إلكتروني، استدعاءات ...)، يعزز هذه وتلك إبقاء "مؤسسة الاعتقال السياسي" حية متربصة. وبإقامة الحواجز بين الجيلين ونصب حواجز العزلة عدد محدود من المثقفين والناشطين تضمن السلطات شيئين: أولا حراسة القطيعة الجيلية والاجتماعية والمعنوية بين الجيل الديمقراطي الأول، من كانوا شبانا في أواخر السبعينات وأواسط الثمانينات (وقد شكلوا "مادة" العمل السياسي المعارض قبل ان يسحقوا كجيل في مسار ذاك العقد التاسع من القرن العشرين) وبين شبان اليوم، الجيل الديمقراطي الثاني، وهم من مواليد ما بين أواخر السبعينات واواسط الثمانينات. الأمر يتعلق بجولة جديدة من حرب قديمة، اعني استكمال سحق معارضي الرئيس حافظ الأسد على أيدي أجهزة أمنه ذاتها التي برمجت على هذه العملية. والثاني، إذاً، هو دفع التنظيمات القديمة التي لم يقض عليها السجن تماما إلى الموت. يمكن القول إن سياسة العزل الاجتماعي الحالية هي بالفعل استمرار لنظام الاعتقال السياسي، أو هي "تطوير وتحديث" لجهاز السجن السياسي.

ويبدو ان طلاب جامعة حلب المعتقلين قد تجاوزوا عتبة "تسامح" أجهزة حراسة العزلة والقطيعة. فمباردتهم إلى الاحتجاج بحد ذاتها تحمل معاني بالغة الأهمية: فهي أولا مبادرة طلابية تنذر بدخول هذه الفئة النشطة الميدان العام الذي خلا منها منذ عقدين من السنين؛ وهي ثانيا مبادرة مستقلة، والاستقلال هو النقيض الجذري للشمولية والدليل الأكيد على خيبة خططها؛ وهي ثالثا احتجاج علني على شأن داخلي سوري وليست تضامنا مع فلسطين والعراق يستفيد من تواطؤ إيديولوجي بين السلطة ومجموعات كهلة "مستقلة" (تدفع ثمن استقلالها التنظيمي تبعية إيديولوجية ورمزية)؛ والأهم أنها احتجاج على قضية تتصل بطبيعة الخيارات الاجتماعية والاقتصادية لنخبة السلطة وبمستقبل سورية ما بعد اقتصاديات القطاع العام والشمولية. إنها بهذا المعنى الأخير مثال مبكر على الاتجاه المرجح لحركة الاحتجاج الاجتماعي في البلاد المتجهة نحو "الانفتاح".

كل ذلك يعطيها مضمونا ديمقراطيا أصيلا وقاعديا بالفعل. ويتعزز هذا المضمون بمبادرة الطلاب الواعية إلى كسر حواجز العزلة التي تفصلهم عن الحركة الديمقراطية، على علات هذه الحركة( شاركوا بفاعلية في الاعتصام التضامني امام المحكمة العسكرية في حلب عندما كانت تحاكم الأربعة عشر)، وعن المثقفين الديمقراطيين، وبالخصوص عن زملائهم في جامعة دمشق. ومن يعرف سوريا والعقلية الأمنية التي نمت في ظل احتكار السلطة المديد فيها يدرك المعنى المهم جدا لمحاولة الطلاب الاتصال فيما بينهم بعيدا عن رعاية "الأخ الأكبر". هذا الاتصال فعل حرية وفعل تضامن وفعل احتجاج، تتعارض جوهريا مع "دستور" الشمولية.

لكننا إذ نضع واقعة اعتقال الطلاب في سياق تحليلي لثوابت القمعية السورية نجازف بان نعمى عن اللاأخلاقية الجذرية لاعتقالهم من وجهة نظر الضمير الإنساني السوي. فالشبان الاثني عشر لم ينتهكوا اي قانون على الإطلاق، ولم يرتكبوا ما يجر عليهم اعتقالا أو مساءلة قانونية لو كانوا في أي من دول العالم المئتين الأخرى على الأرجح. وكل "جريمتهم" هي محاولة توسيع اهتمام الرأي العام بقضيتهم، اي برميهم إلى الشارع.

تُذكِّر هذه القطفة من المعتقلين الطلاب بدوام الشرط السوري الحاكم، شرط إباحة المجتمع للسلطة الجهازية. تذكر ايضا أن العلاقة السياسية الأساسية في سوريا لا تزال تقوم على الإخضاع والقوة. تذكر أن المبادرة الاجتماعية المستقلة ممنوعة. ويذكر الاعتقال، أكثر من اي شيء آخر، بأنه لا شيء يحمي السوريين في بلدهم، لا على المستوى القيمي ولا على المستوى القانوني ولا على المستوى المؤسسي. يذكر كذلك أن عزل الناس عن بعضهم واستتباعهم افرادا وجماعات منفصلة هو جوهر الشمولية السورية. 

يذكرنا اعتقال 12 طالبا في أوائل عشرينات اعمارهم اننا شعب مباح بلا سند. وهذا وضع مؤلم أن يصله اي شعب. لا عجب ان يتخذ المجتمع السوري وضع احدب ابن الرومي: متجمع على نفسه دائما خشية من صفعة جديدة.

يجمع نظامنا الاجتماعي اليوم بين أسوأ ما في اقتصاديات الانفتاح من تفكيك لشبكات الحماية الاجتماعية ومن بطالة واسعة ومن احتلال مصالح خاصة مافيوزية للدولة ونخر المؤسسات العامة لمصلحة شبكات زبونية وقرابية غير قانونية وغير قابلة للتقنين، وبين أسوأ ما في سياسة النظم الشمولية من قمع طليق وتجريم للاحتجاج والدفاع الجماعي عن النفس ومصادرة للاستقلال الاجتماعي. هذا ما احتج عليه الطلاب. إنه نظام اكبر سطوة للمال واقل حماية جتماعية، أشد إكراه حكومي واقل مساحة للتضامن والدفاع الذاتي. إننا ندخل زمن ما بعد الشمولية بجامعات ضعيفة معدومة الشخصية، بنقابات مجوفة، باحزاب مفوتة، بمجتمع بارك ومنقسم على ذاته، وبالخصوص بدولة ضعيفة إن كنا نعني بالدولة القواعد المطردة لتنظيم السلطة في المجتمع. والأكيد، لذلك، أن ما سنلقاه وراء أكمة الشمولية هو وهدة "الانفتاح" الغائرة وليس مرج الديمقراطية المنبسط.

وليس إلا في سياق إعداد أفضل الشروط لاحتلال موقع امتيازي، اقتصادي وسياسي، في مرحلة ما بعد الشمولية يعتقل الطلاب، وتتخلى الدولة عن التزامات اجتماعية، وتفتح الجامعات الخاصة لأبناء النخبة الانفتاحية الذين هم أنفسهم ابناء النخبة الانغلاقية.

لا يزال التحليل المعياري المعتمد من قبل أطياف الحركة الديمقراطية يستند إلى رصد التعارض بين القمعية الرسمية وبين متطلبات الصمود ومواجهة العدوان والضغوط الخارجية، اي التنديد بإجراءات السلطة استنادا إلى معاييرها وإيديولوجيتها المشرعة. لكن دوام سياسة الاعتقال يكشف إفلاس هذا التحليل، وهو ما ينعكس اليوم بقوة على صدقية واحترام الحركة الديمقراطية. فأمر سياسات القمع والاعتقال لا يصدر عن خطأ إدراكي ترتكبه نخبة السلطة، لكن مقاربته من زاوية تعارضه المفترض مع منعة البلاد وثباتها في وجه الأعداء...إلخ يشير إلى خطأ سياسي وتحليلي ترتكبه المعارضة. فوظيفة القمع قطع الطريق على تكون اية قوة اجتماعية او سياسية تنافس على موقع مؤثر في مرحلة ما بعد الشمولية. إنه تسليف لحجز لموقع الصدارة الاقتصادي والسياسي في مستقبل للبلد يعاود مفهوم الاستقرار، بعد الدرس العراقي، احتلال الموقع الأهم فيه. 

اعتقال الطلاب، أيضا، صفعة لسياسة البيانات والعرائض (بعبارة محمد علي الأتاسي)، التي ركنت إليها الحركة الديمقراطية، بما في تلك العريضة التي طالبت بالتراجع عن فصل الطلاب الحلبيين وطلاب دمشق الأكراد، والتي لم تكد تبلغ وسائل الإعلام حين اعتقل الاثني عشر.

دمشق 26 نيسان 2004

شبكة مركز دمشق للدراسات

السابق

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها

for

S&CS

للأعلى

من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إليه ، أو غير معزو .ـ

   

ــ التعريف دراسات  متابعات   قراءات  هوامشرجال الشرق من أرشيف الشرق | صحيفة الشرق العربي |ـ
ـ| مشاركات الزوار |ـجســـور |ـجديد الموقع |ـكــتب | مجموعة الحوار | تقارير حقوق الإنسان | واحـة اللقـاء | البحث في الموقع |
ـ