ـ

ـ

ـ

مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وقولوا للناس حسنا

اتصل بنا

اطبع الصفحة

أضف موقعنا لمفضلتك ابحث في الموقع الرئيسة المدير المسؤول : زهير سالم

الخميس 10/02/2005


أرسل بريدك الإلكتروني ليصل إليك جديدنا

 

واحة اللقاء

 

إصدارات

 

 

    ـ أبحاث

 

 

    ـ كتب

 

 

    ـ رجال الشرق

 

 

المستشرقون الجدد

 

 

جســور

 

 

التعريف

أرشيف الموقع حتى 31 - 05 - 2004

ابحث في الموقع

أرسل مشاركة


سوريا: ألوان حقيقية

ترجمة : ناديا عطار

في أول ليلة لي قضيتها في دمشق استيقظت في الساعة الثالثة صباحاً على صوت انفجارين متتابعين أطارا النوم من عيوني. فكرت أن شيئاً سيئاً جداً قد حصل، فقبل شهر فقط كان الإسرائيليون قد اغتالوا أحد أعضاء حماس، الجماعة الفلسطينية المسلحة، عن طريق تفجير سيارته في العاصمة السورية دمشق. لكن في الحقيقة لم يكن هناك ما يستدعي القلق، فالانفجاران كانا جزءاً من طقوس رمضان، وهو الشهر الذي يمتنع خلاله المسلمون عن الطعام والشراب والجنس من الفجر وحتى الغروب.

وبعد أصوات المدافع مباشرة علا صوت المؤذن ينادي المؤمنين لتناول السحور، وهو الوجبة التي يتناولها الصائم قبل أن يبدأ صيامه.

خلال الساعة التي تلت ذلك، ارتفعت تلاوة القرآن من مئات المآذن التي تميزها عبر الظلام من أنوار النيون الخضراء التي تنبعث منها. الإسلام التقليدي أصبح يعتمد التكنولوجيا الحديثة لكي ينشر رسالته.

عندما ركبت تاكسي سرفيس، وهو تاكسي يستخدم لعبور الحدود السورية الأردنية، كان يجلس بالقرب مني أثناء الرحلة شاب في أواخر العشرينات من عمره. كان يحمل أحدث موديل من هواتف النوكيا النقالة، كامل المواصفات مع شاشة كبيرة برسوم ملونة زاهية الألوان. وعندما رن جهازه كانت نغمة الرنين عبارة عن آيات قرآنية من جوامع المدينة المنورة. ثم قضى الشاب وقتاً طويلاً وهو يعمل على برمجة جهاز راكب آخر.

وباعتباري قادماً من بريطانيا فإن أقرب شيء في بلادي إلى صوت الأذان هو رنين أجراس الكنائس التي تسمع أحياناً، لكن هذه الخلفية الدينية كانت بالنسبة لي لا تقل سحراًَ عن الآثار الرومانية في تدمر في الصحراء السورية، أو البتراء المدينة المنحوتة في الصخر في الأردن، او أسواق حلب ودمشق.

في كتاب "أبرياء خارج الوطن" المنشور عام 1869 وصف مارك توين مدينة دمشق بأنها "ملتوية وضيقة ومتسخة لدرجة أن المرء وهو داخلها لايستطيع أن يصدق أنها نفس المدينة الرائعة التي شاهدها من أعلى التلة. الحدائق مخفية وراء جدران عالية من الطين، وتلك الجنة تحولت إلى بؤرة من التلوث والبشاعة".

في الحقيقة يمكن ان يكون هذا الوصف قريب للحقيقة. ففي أطراف المدينة تستطيع أن ترى اللوحات الإعلانية القديمة المتداعية تعرض صور لغسالات سيمنز أو سيارات كيا وروفر أو إطارات سوميتومو، والكثير من المطاعم، وبعدها مباشرة كتل بشعة من المباني التي اسود لونها بفعل الدخان المنطلق من عوادم السيارات.

في هذه الأثناء تزدحم السيارات والشاحنات متلاصقة ببعضها البعض وهي تطلق زماميرها التي لا تتوقف، وبدا لي أن واحداً من كل خمسة سيارات هو تاكسي صفراء، تئز مثل نحلة عملاقة تبحث عن راكب. وكان سائقو السيارات يلعبون مع بعضهم باستمرار لعبة الدجاجة (الجبان) لكي يروا أي جبان هو الذي ينسحب من المواجهة (تقضي هذه اللعبة أن يكون هناك سيارتان قادمتان باتجاهين متعاكسين وبسرعة قصوى وكأنهما ستتصادمان، والذي ينسحب من المواجهة يكون الجبان أو الدجاجة).

آخر مرة رأيت فيها مثل هذا الهرج والمرج على الطرقات كان في سايغون- فيتنام عام 1994.

لكن من السهل الابتعاد عن المباني البشعة وازدحام السير في دمشق الحديثة عن طريق الغوص في المدينة القديمة، حيث المسجد الأموي والسوق الشهير، وهو سوق واسع مغطى بسقف مقوس من الحديد، ومليئ بثقوب تسمح لأشعة الضوء بالتسرب. دمشق ليست فقط فردوساً للباحثين عن التذكارات، بل هي أيضاً سوبر ماركت تباع فيه الأدوات المنزلية والألعاب والأحذية والمأكولات، حيث تأتي النسوة وقد غطين أنفسهن من الرأس حتى أخمص القدمين لتفحص الملابس الداخلية والمصنوعات النحاسية.

هناك العديد من المحلات، والبعض منها لا تزيد مساحته عن خزانة أو حجرة صغيرة، وفيها تباع المجوهرات، طاولات الزهر، السجاجيد، الإشاربات، الأقمشة، الخناجر المعقوفة، وهناك أيضاً محلات تبيع الجوز والفستق اللذيذ. أما محلات التوابل التي تبيع الكمون، الكزبرة، الزعفران، وحب الهيل، فهي تعتبر متعة للشم.

البعض من أصحاب المحلات كان نائماً، والبعض الآخر كان يقرأ القرآن غير عابئ بالزبائن المحتملين. البعض منهم كانوا يسألونني فيما كنت أعبر أمامهم: "اليابان؟ الصين، كوريا؟". في البداية قلت لهم أنني من بريطانيا لكنهم كانوا يحدقون في بنظرات مستغربة، فبسبب سحنتي الآسيوية لم أكن أشبه الإنكليز في شيء بنظرهم. أخيراًَ صرت أقول: فيتنام. وهذه الكلمة أدت الغرض المطلوب.

"فيتنام! هوشي منه! لقد وقفتم في وجه الأمريكان. جيد جداً!. أهلاً بكم في بلادنا". إذن، حتى بعد كل هذه السنوات ماتزال فيتنام والعم هوشي منه يحتلان مكانة قوية في هذا الجزء من العالم.

بالنسبة لأولئك الذين يبحثون عن ملاذ من الإغراءات المادية يعتبر المسجد الأموي محطة ملائمة تعيد لهم النشاط. هذا المسجد الكبير بساحته الداخلية ذكرني بساحة سانت مارك لعدة أسباب، منها أسراب الحمام المنتشرة. كنت أدوس بحذر على الرخام الناعم لكي أتجنب زرق الحمام، وقد أعجبت جداً بلوحة الموزاييك الخلابة المليئة بالألون الأخضر والذهبي التي تصور القباب والأشجار. وفي المسجد أيضاً نوافذ زجاجية ملونة فيها أشكال هندسية. صحيح أنها مختلفة تماماً عن تلك الموجودة في الكاتدرائيات الغربية إلا أنها لا تقل عنها روعة.

أما الجو في داخل المسجد فقد بدا طبيعياً جداً، كان البعض يركعون ويسجدون في اتجاه مكة، في حين اتكأ البعض على الجدران أو الأعمدة الكبيرة يتحادثون بصوت خافت، أما البعض الآخر فكانوا مستلقين على ظهورهم... كانوا نائمين ببساطة.

في هذه الأثناء جاءت مجموعة من السياح، كانت النساء ترتدين أثواباً رمادية لها قبعة جعلتهن يبدون كالرهبان، كانوا قادمين لزيارة ضريح النبي يحيى (يوحنا المعمدان) حيث يقال أن الضريح يحتوي على رأسه.

بعد الضجيج الذي عشته في دمشق، كانت تدمر هي الهدوء ذاته، هذه الآثار التي تستلقي في قلب الصحراء على بعد ثلاث ساعات من دمشق. تدمر وحدها هي التي تجعل الزيارة إلى سوريا تستحق العناء. بينما كنا نراقب غروب الشمس وكانت الأحجار تكتسب اللون الكهرماني قال لي سائح ألماني: "تستطيع الآن الذهاب إلى بلدك. لم يعد هناك شيء آخر يستحق المشاهدة". لقد كان يبالغ بالطبع، لكن ليس كثيراً.

هناك سلام رائع يلف تدمر، التي تقع بالقرب من واحة وتشرف على قلعة من العصور الوسطى، دون أن يعكر صفو هدوئها أي شيء من العالم الحديث. حتى البدو القلائل الذين يتجولون في المكان على دراجاتهم النارية القديمة يبيعون الكوفيات والمشروبات الباردة لا يؤثرون كثيراً على هدوء وسكون المكان. لهذا السبب يقرن عادة ما بين تدمر والبتراء في الأردن، فكلاهما مدينتان مدهشتان بطريقتهما الخاصة. كانت تدمر قد كسفت شمس البتراء عندما احتلت مكانها كمدينة تجارية رئيسية بين الشرق وبين منطقة المتوسط خلال بدايات القرن الثاني بعد الميلاد.

لكن على العكس من البتراء التي نحتت واجهتها بشكل مدهش في الصخر وسط وادي ضيق، فإن تدمر تمتد في منطقة واسعة مفتوحة. وفيما اللون الغالب على البتراء هو الأحمر، فإن لون تدمر يميل إلى الذهبي. وقد عمل هواء الصحراء على المحافظة على الأعمدة والأحجار بصورة عجيبة. على الرغم من أنها تبدو ناعمة من بعيد إلا أنك عندما تقترب من هذه الآثار تجدها مجعدة كوجه رجل عجوز وملمسها كورق السنفرة. يبدو كما لو أن القرون المتعاقبة قد امتصت كل قطرة من الرطوبة من هذه الأحجار الكلسية.

على بعد مسافة قصيرة هناك مجموعة من الفنادق والمطاعم والمحلات التي تبيع أنواعاً مختلفة من البلح المحلي، وبما أن مساحتها لا تتعدى بضعة بنايات فهي تشكل مجموعة مركزة، لكن الجو فيها مريح و"هيبي". الزوار هنا من أعمار متفاوتة، من الشبان في العشرينات الذين يحملون حقائب ظهر كبيرة، إلى كبار السن الذين يسافرون في باصات سياحية كبيرة.

تدمر، مدينة النخيل، هي المكان الملائم للاسترخاء.

بعد تدمر توجهت إلى حماه، المشهورة بنواعيرها الهائلة. كما أن المدينة مشهورة بما تعرضت لقمع انتفاضة الإخوان المسلمين في عام 1982. أدهشني أن كتاب الدليل الرسمي السوري الذي كان معي لم يذكر كلمة عن هذه الحادثة، وحتى في الوقت الحالي يمتنع الناس عن الخوض في هذه المسألة. عندما كنت أمشي على ضفة نهر العاصي ذو الرائحة الكريهة الذي يعبر حماه، كان معي رفيق أسترالي وقد صادفنا رجلاً كان يشبه سلفادور دالي. سأل صديقي الأسترالي الرجل عن المكان الذي حدث فيه القصف، وعلى الرغم من أن أحداً لم يكن بالجوار إلا أن الرجل جفل، ثم وضع أصبعه على شفتيه وقال: "هذه مسألة لا نتحدث عنها. لقد سببت لنا الكثير من الألم، لنا ولي أنا شخصياً". ثم مشى الرجل مبتعداً وقد وضع يده على ظهره كما لو أن جرحاً قديماً قد نكئ.

في حماه هناك قلعة الحصن، أم القلاع الصليبية، وهناك أيضاً آثار رومانية مذهلة تدعى أفاميا. قامت جماعة منا بزيارة تلك الأماكن تحت وابل من الأمطار في سيارة بونتياك موديل 1950 كاملة المواصفات: نوافذ كهربائية، شاشة DVD ومحرك نيسان 2.5 لتر. كان السائق غالباًَ في الستينات من عمره لكنه كان يقود السيارة مثل مايكل شوماخر.

نهاية رحلتي في سوريا كانت في حلب، التي تتميز بقلعتها الهائلة. في هذه المدينة اشتريت صابون الغار في سوق يشبه سوق دمشق لكنه ألطف وأجمل، كما قمت برحلة إلى قلعة سمعان المذكورة في كتاب ويليام دالريمبل "الجبل المقدس" الذي يتحدث عن المجتمعات المسيحية في الشرق الأوسط.

على قمة تلة في منطقة قلعة سمعان تقع تلك الكنيسة البيزنطية، وفي منتصف الكنيسة هناك مساحة على شكل مثمن تحيط بها أقواس محنية، وفي الوسط يوجد حجر كبير هو كل ما تبقى من العمود الذي جلس عليه القديس سمعان.

سمعان هو ناسك حقق شهرة واسعة في القرن الرابع، لكن بعد أن مل من الناس الآتين إلى كهفه قام بنصب عمود بارتفاع ثلاثة أمتار وجلس على قمته حتى لا يتمكن أحد من لمسه. وهكذا أمضى القديس سمعان السنوات الأربعين الأخيرة من حياته الغريبة مقيداً داخل محبسه على قمة العمود، وكان يلقي المواعظ أمام الحشود التي تأتي للحج إليه. في نهاية حياته زاد طول العمود إلى 18 متراً، ربما ليصبح أقرب إلى الله. وذاع صيت سمعان لدرجة أنه نشر بين النساك "موضة" العيش فوق عمود. إلا أن العمود تقلص الآن إلى مجرد حجر، بعد أن غزته على مر القرون جحافل الحجاج الذين كانوا يسعون للحصول على أجزاء منه كتذكارات.

عن الغارديان

المركز الاقتصادي السوري 18/1/2005

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها

أعلى الصفحةالسابق

 

الرئيسة

اطبع الصفحة

اتصل بنا

ابحث في الموقع

أضف موقعنا لمفضلتك

ـ

ـ

من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ