على خطى لورنس العرب (6-2) : في وادي رم
05.07.2023
ماثيو ستيفنسون
على خطى لورنس العرب (6-2) : في وادي رم
ترجمة: علاء الدين أبو زينة
ماثيو ستيفنسون* - (كاونتربنش) 2023/5/5
الغد الاردنية
الثلاثاء 4/7/2023
* * *
عند وصولي إلى العقبة، تساءلت عما إذا كان الحصول على تأشيرة "عند الوصول" في الأردن سيسبب لي مشكلة، ولكن عندما جاء دوري في الحُجيرة، فتح رجل حرس الحدود جواز سفري وختمه. (علمت لاحقًا أن الدخول من العقبة يكون من دون تأشيرة، في حين أن التأشيرة مطلوبة إذا هبطتَ في العاصمة الأردنية عمان).
تشاركت سيارة أجرةٍ إلى المدينة مع بعض الركاب القادمين الآخرين، لكنني قضيت في فندقي نحو نصف ساعة وحدي في الردهة، في محاولة للعثور على شخص ما لتسجيل دخولي. وأخيرًا ظهر كاتب نعسان. لم تكن لديه معرفة مسبقة عن حجزي على موقع Booking.com، لكنه أراني بعض الغرف، وكلها (كما أكدتُ لنفسي) ستبدو أفضل في ضوء الشمس في الصباح.
أخذت غرفة بشرفة مكسورة وإطلالة بعيدة على البحر، وذهبت بحثًا عن عشاء، وهو ما كان سهلاً، حيث إن لدى العقبة ما يكفي من السياح لإبقاء المطاعم مفتوحة في غير الموسم.
لورانس يعبر شبه جزيرة سيناء
على النقيض من ذلك، بعد أن استولى لورانس على العقبة، احتاج إلى التحدث مع القيادة العليا البريطانية في القاهرة، وخلص إلى أن الطريقة الوحيدة للقيام بذلك هي الركوب والمشي عبر صحراء سيناء إلى قناة السويس التي كان البريطانيون يسيطرون عليها في ذلك الحين. ويصف غريفز تلك الرحلة الملحمية:
"قرر لورانس في النهاية الاستمرار (مع قواته) في المسير. إذا استطاعوا الصمود، فسوف يصلون إلى السويس في خمسين ساعة. ولكن في مثل هذه الحالات، يكون اختبار التحمل أصعب بالنسبة للإنسان مما هو للجمل، وكان لورانس يوشك على فقدان آخر قوته بعد أن كان قد ركب ما معدله خمسين ميلاً في اليوم خلال الشهر الماضي مع القليل جدًا من الطعام. ولجعل التوقفات من أجل الطهي غير ضرورية، حملوا قطعًا كبيرة من لحم الجمال المسلوق والتمر في قطع من القماش خلف سروجهم...".
"أخيرًا في منتصف بعد ظهر اليوم الثالث وصلوا قناة السويس. كانوا قد ركبوا لمدة تسع وأربعين ساعة من دون نوم وبأربعة توقفات قصيرة فقط وقطعوا مائة وثمانية وستين ميلاً. وعندما نتذكر أنهم كانوا رجالاً متعبين قبل أن يبدأوا، وأن الجِمال كانت منهكة أيضًا، يجب أن يصنف هذا على أنه سفر جيد، على الرغم من أن لورانس تجاوز هذه الأرقام هو نفسه لاحقًا...".
"في السويس، حيث وصل قذرًا وقد التصقت ملابسه بالقروح التي سببها له السرج، ذهب إلى فندق، وشرب ستة أكواب من مشروب مثلج، وتناول عشاءً جيدًا، وأخذ حمامًا ساخنًا، ونام في سرير مريح. وقد قدَّر هذه الراحة الفندقية الكسولة بعد أن قطع في الأسابيع الأربعة الماضية اليائسة، على الرغم من أنه لم يكن قد تعافى بعد من مرض شديد، أربعمائة ميل على ظهور الجمال عبر بلد مُعاد. كانت تلك أسابيع مصحوبة بالنوم القليل، وسوء الطعام، والقتال المتكرر، والقلق الذي لا يتوقف في أكثر أوقات السنة سخونة في واحدة من أكثر دول العالم حرارة. وفي وقت لاحق وجد أنه أصبح يزن سبعة أحجار فقط، في حين أن وزنه الطبيعي هو تسعة أحجار" (1).
في الفيلم، يظهر لورانس وهو يشق طريقه في زي عربي كامل إلى نادي الضباط في القاهرة، ليعلن أنه "أخذ" العقبة، بينما كان عاد في الواقع إلى البريطانيين في مدينة السويس الساحلية.
العقبة ليلاً
خصصت بعضًا من أمسيتي الأولى في العقبة (كانت الأشياء مفتوحة في وقت متأخر من الليل) لكي أستكشف مع شركات السفر المحلية كيف يمكنني العبور إلى المملكة العربية السعودية والوصول إلى مدينة تبوك السعودية. كنت أعلم أن الرحلة في السيارة ستستغرق حوالي ثلاث ساعات للوصول إلى هناك، ولكن بينها ثمة الحدود، وتساءلت عما إذا كان سيتم قبول تأشيرتي السعودية الإلكترونية في مثل هذا المعبر الحدودي البعيد (في بعض البلدان تكون التأشيرات الإلكترونية صالحة للقادمين في المطار الرئيسي فقط).
في العديد من الأكشاك ومكاتب وكلاء السفر في العقبة، سمعتُ الشيء نفسه: في دوار بالقرب من القلعة التركية القديمة (التي كان لورانس قد استولى عليها لبريطانيا والعرب)، تقف سيارات ركاب كبيرة (فان)، والتي ستتجه بمجرد امتلائها بالركاب إلى الحدود السعودية وتبوك. وكانت تكلفة كل عبور حوالي 260 دولارًا، مقسومة على عدد الركاب في الرحلة. ولم تكن المركبات المحلية خيارًا.
في صباح اليوم التالي، بعد العثور على وجبة إفطار (ليس هناك عمل نظامي سهل في فندق الأشباح الذي أقمت فيه) انطلقت إلى القلعة والدوار، حيث وجدت أسطولاً من سيارات الدفع الرباعي الجديدة من طراز "شيفروليه سبيربان" مصطفة في ساحة صغيرة في انتظار الزبائن.
على كل باب أمامي كان هناك شعار أخضر بارز يشير إلى أن السيارة تتنقل بين الأردن والمملكة العربية السعودية، وبشكل واضح في الأسلوب. وبالنظر إلى أنني لن أغادر حتى اليوم التالي، كانت المفاوضات مع سائقي في المرحلة النظرية، ولكن حتى من هذه المفاوضات استطعتُ أن أعرف أنه لن يكون من السهل العثور على زملاء سفر في الرحلة لجَسر الفجوة.
(...)
الحروب الأهلية السورية المخيمة على الأفق
في السِّيَر التي سجلت حياة لورانس، سوف تجد العداوات العربية موجودة في كل صفحة. إليكم ما كتبه روبرت غريفز عن سورية:
"كانت المدن الست الرئيسية؛ القدس، وبيروت، ودمشق، وحمص، وحماة، وحلب، مختلفة تمامًا في طابعها. كان الرابط الوحيد الممكن بين معظم هذه القطع من الفسيفساء السورية هو اللغة المشتركة، العربية. وعلى الرغم من أنه كان هناك في ذلك الوقت الكثير من الحديث عن الحرية العربية، إلا أنه كان من المستحيل التفكير في سورية كوحدة وطنية. كانت الحرية للسوريين تعني الحكم الذاتي المحلي لكل مجتمع صغير في واديه أو مدينته، لكنها حرية مستحيلة في الحضارة الحديثة، حيث الطرق والسكك الحديدية والضرائب والجيوش والنظام البريدي والإمدادات يجب أن تديرها وتديمها حكومة مركزية.
وأيا كانت الحكومة المركزية التي قد تفرض على سورية، حتى على الرغم من أن اللغة العربية هي اللغة الرسمية، فإنها ستكون حكومة أجنبية؛ لأنه لم يكن هناك شيء اسمه سوري حقيقي أو نموذجي. كانت الكيفية التي تُنشر فيها ’الثورة‘ صعوداً إلى دمشق على هذه الرقعة من المجتمعات، التي تنقسم كل منها ضد جارتها طبيعيًا بفعل الجغرافيا والتاريخ، واصطناعيًا بسبب المؤامرات التركية، مشكلة محيرة للغاية: ومع ذلك، وطّن لورانس نفسه على حلها".
ربما لأنه كان أجنبيًا يحظى بالإعجاب وكان شجاعًا وواسع الحيلة ووزع الكثير من الذهب، أصبح لورانس شخصية تحشيد في الثورة العربية -في الحجاز وصعودًا على طول خط السكة الحديد إلى دمشق.
في وجوده، تجاوز العديد من زعماء القبائل عن خلافاتهم وقرروا محاربة الأتراك وخوض الحملة من أجل الاستقلال تحت القيادة البريطانية (ولورانس)، على الرغم من أن لندن (بموجب الشروط السرية لاتفاقية سايكس بيكو للعام 1916) كانت لديها أفكار أخرى حول كيفية تقسيم الشرق الأوسط، والتي لم تتم مشاركتها دائمًا مع صغار ضباطها في الميدان.
عندما غادر لورانس شبه الجزيرة العربية في العام 1918 في نهاية الحرب، استؤنف القتال والتناحر، ليس بين العديد من القبائل العربية فحسب، ولكن أيضًا بين القوتين الاستعماريتين المتنافستين (بريطانيا وفرنسا) في المنطقة. وقد اصطدمت كل هذه المصالح المتنافرة، بدورها، باليهود الذين بدأوا، بموجب وعد بلفور للعام 1917، في الوصول إلى فلسطين.
إلى وادي رم
كانت السيارة التي اشتبكتُ في التفاوض معها عند الدوار سيارة أجرة محلية، قبِل سائقها، أحمد، بـ50 دولارًا لنقلي إلى وادي رم، وهو محمية صحراوية، والآن حديقة وطنية على بعد ساعة من العقبة حيث كثيرًا ما كان لورانس يعسكر خلال الحرب، وحيث تم تصوير جزء كبير من فيلم "لورانس العرب".
يتسلق الطريق من العقبة إلى رم واديًا متعرجًا، كان قد أبحر عبره لورانس وعربُه المهاجمون في العام 1917. وعلى رأس الممر الضيق ثمة حواجز عسكرية عدة، وقد جعلني كل هذا سعيدًا لأنني كنت في سيارة أجرة، وليس سيارة مستأجرة أقودها بنفسي.
قبل دخول المحمية الطبيعية، اشتريت تذكرة من مركز الزوار، ثم أوصلني السائق إلى أحد مخيمات الخيام العديدة حول وادي رم، حيث كان سائق آخر مع شاحنة بيك آب جيب ينتظرني للقيام بجولة في أنحاء الوديان السينمائية المتدحرجة.
غالبًا ما استخدم لورانس وقواته العربية رم كقاعدة للعمليات لمهاجمة سكة حديد الحجاز، وفي الطريق إلى الوادي، سافرنا إلى جانب بعض الامتدادات المتبقية من مسار السكة وتوقفنا عند محطة حجرية صغيرة (الآن متحف)، حيث كانت عربات السكك الحديدية متوقفة. وتكوّن لدي انطباع بأن الخط بالقرب من رم يُستخدم أحيانًا للشحن ورحلات القطار السياحية.
هناك مقطع في سيرة غريفز يصف معسكر لورانس في رم:
"ركبوا لساعات في اليوم التالي عبر وادي رم، وهو طريق تتخلله أشجار الأثل بعرض ميلين بين تلال ضخمة من الحجر الرملي الأحمر. بدت القافلة مأخوذة والتزمت الصمت التام. وقرب غروب الشمس توقفت للاستراحة في المنحدرات إلى اليمين، المؤدية إلى الماء. استدار المسافرون من هناك ووجدوا أنفسهم في مدرج بيضاوي واسع مغطى بالرمال الرطبة والشجيرات الداكنة. كان عرض المدخل ثلاثمائة ياردة فقط، مما جعل المكان أكثر إثارة للإعجاب. وعند سفح المنحدرات المغلقة كان ثمة كتل هائلة من الحجر الرملي، أكبر من المنازل، وعلى طول حافة أحد الجوانب نمت الأشجار. وكان هناك مسار صغير متعرج يصل إلى الحافة، وهناك، على ارتفاع ثلاثمائة قدم فوق مستوى السهل، انبثقت ينابيع المياه. هناك سقوا جِمالهم وطبخوا الأرز لإضافته إلى لحم البقر الذي أحضره الرقباء، مع البسكويت، لتكون هذه حصصهم الغذائية".
بقدر ما أحترم روبرت غريفز، فإن هذا الوصف لا ينصف المناظر الطبيعية الشاسعة والمهيبة حول رم، التي هي مزيج من السهول القمرية، والمسارات الشاسعة من الرمال، والتكوينات الصخرية الوردية الحمراء التي تستدعي انطباع الجنوب الغربي الأميركي وصحراء موهافي.
الصحراء العربية تقتحم الأفلام
تم تصوير أكثر من اثني عشر فيلمًا، إلى جانب "لورانس العرب"، هنا، وسردَ لي سائقي الأفلام التي عمل عليها، بما فيها بعض من سلسلة "حرب النجوم". وبالنسبة للبدو حول رم، تشكل صناعة الأفلام مكسبًا غير متوقع (أو ربما قافلة وقعت في كمين؟)، حيث ينفق أمثال ستيفن سبيلبرغ (2) الملايين لتحويل الصحراء الأردنية إلى مجرة بعيدة.
على أحد التشكيلات الصخرية في الوادي، ثمة صورة منحوتة للورانس؛ وبها انتقلت الثورة العربية إلى هوليوود. ينام العديد من زوار رم في واحدة من قرى الخيام التي تنتشر على أطراف الوادي. وتحتوي بعضها على أماكن إقامة فاخرة ودشات ساخنة. والبعض الآخر أكثر بدائية. وكنت أميل إلى البقاء هناك، لكنني فقدت هذا الخيار عندما فاتتني رحلة طائرتي الأولى من بيرغامو.
بعد جولتي في سيارة الجيب والتقاط بعض الصور لخط حديد الحجاز، عدت أنا وأحمد إلى العقبة، حيث قال إنه يستطيع ترتيب مروري في اليوم التالي عبر الحدود إلى المملكة العربية السعودية.
أخبرني أحمد أن شقيقه يحمل ترخيصًا بقيادة إحدى سيارات الدفع الرباعي البيضاء الضخمة من طراز "شيفروليه سوبربان"، وأنه سيكون سعيدًا بتوصيلي إلى تبوك. قلت إن هذا سيكون جيدًا، بشرط أن يتم العثور على ركاب آخرين يتحملون معي بعض التكلفة البالغة 260 دولارًا. شعرت مسبقًا بأنه يتم جعلي هدفًا سهلاً للاستغفال، لكنني وافقت على مقابلة أحمد وشقيقه في صباح اليوم التالي عند الساعة 8:30 صباحًا في موقف السيارات عند دوار القلعة.
*التالي: "إلى مدينة تبوك السعودية".
*ماثيو ستيفنسون Matthew Stevenson: مؤلف العديد من الكتب، بما فيها "قراءة قضبان السكة" Reading the Rails؛ و"ربيع أبالاشيا" Appalachia Spring، و"الثورة كحفل عشاء" The Revolution as a Dinner Party، و"عن الصين خلال القرن العشرين المضطرب" about China throughout its turbulent twentieth century. أحدث كتاب له يتحدث عن السفر في فرنسا والحروب الفرنسية البروسية، بعنوان "ركوب الدراجة مع بسمارك" Biking with Bismarck. كتابه الجديد هو: رجلنا في إيران Our Man in Iran.
*نشر هذا المقال تحت عنوان: Letters From Saudi Arabia: Toward the Hejaz
هوامش المترجم
(1) الحجر Stone: وحدة قياس بريطانية للكتل، تساوي 6.35 كيلوغرام (أي 14 رطلاً).
(2) ستيفن ألان سبيلبرغ Steven Allan Spielberg: (18 كانون الأول/ ديسمبر 1946): مخرج أفلام أميركي، وشخصية رئيسية في عصر هوليوود الجديد ورائد للأفلام الحديثة. وهو المخرج الأكثر نجاحًا تجاريًا في التاريخ. حصل على العديد من الجوائز، بما في ذلك ثلاث جوائز أوسكار، وجائزتا بافتا، وأربع جوائز نقابة المخرجين الأميركية، إضافة إلى جائزةAFI Life Achievement في العام 1995، وتكريم مركز كينيدي في العام 2006، وجائزة سيسيل بي ديميل في العام 2009 وميدالية الحرية الرئاسية في العام 2015. تم إدخال سبعة من أفلامه في السجل الوطني للأفلام من قبل مكتبة الكونغرس باعتبارها "ذات أهمية ثقافية أو تاريخية أو جمالية".