الرئيسة \  تقارير  \  يحدثُ داخل "خيام" الدولة السورية الجديدة

يحدثُ داخل "خيام" الدولة السورية الجديدة

24.09.2025
عبير نصر



يحدثُ داخل "خيام" الدولة السورية الجديدة
عبير نصر
العربي الجديد
الثلاثاء 23/9/2025
لا يمكن تتبّع مسار الانفجار الطائفي الراهن في سورية من دون التوقّف عند جذوره العميقة عبر عقودٍ من التحوّلات السياسية والصراعات الداخلية والتدخّلات الخارجية، التي جعلت الانتماء الوطني موضوعاً مستداماً للانقسام والتناحر، ما يحتّم مقاربته من زوايا جديدة لفهم الديناميكيات الأشدّ تعقيداً للعنف السوري المعاصر، الذي تبنّى أفكار الجاهلية والحاكمية والتكفير، ويفرض ضرورة الغوص في دهاليز ذاكرة القهر (السُّنية)، التي حصدت الثمار السياسية للانزياحات الدراماتيكية الكبرى في البلاد اليوم، على أنها ليست مجرّد مظلوميةٍ مارقة، بل تركة ثقيلة من الظلم والإقصاء أثقلت كاهل "السُّنة". عاشت الطائفة العلوية هذا المشهد بحرفيته سابقاً، محوّلة "عصبيّتها" أداةً للتقوقع ووسيلة دفاعية في مراحل الضعف، وللهجوم في عهد الأسد. بالتالي، لا تظهر الطائفية عرَضاً في الفراغ الأمني الهائل، ولا صدْعاً أو نكوصاً في الوعي الجمعي المتمرّغ في القاع فقط، بل آلية لخلط الأوراق السياسية في ظلّ انعدام الأفق الوطني وتعرّي البنى المجتمعية. ولعلّ الأمر الأكثر واقعية في السياق أن الكارثة السورية بدأت مُذْ تحوّلت الهُويَّات الاجتماعية معادلاً أمنياً لحماية جماعاتٍ معينة من السقوط عبر تحصين عرش الأسد، خصوصاً العلويين، فانتشرت داخل المدن السُّنية قناعةٌ تُفيد بأنّ البلد مخطوفٌ منهم.
تحوّل الانفجار الطائفي ما بعد الأسد إلى أحد أنماط إعادة إنتاج الصراع وتوزيع النفوذ
وبعيداً عن الجدل الأكاديمي في هذه الحقيقة الشائكة، من حيث مدى حجّيتها التاريخية، فالواقع أنه تمخّضت عنها منظومةُ خوفٍ طائفي متبادل بين السُّنة والعلويين، تُعيد إنتاج نفسها عند كل أزمة، ورغم أن الرئيس أحمد الشرع لم يصرّح علناً بأنّ دولته المشتهاة من لونٍ واحد، فالوقائع لا تُنكِر أن مشروعه يعيد تشكيلها وفق منظور ديني يُقصي كل من لا يدخل ضمن هيكليته، من دون الأخذ بالاعتبار ضرورة إعادة بناء الثقة على قاعدة المواطنة، لا الطائفة. بالتساوق مع ما تقدّم، ينعكس سقوط نظام الأسد في مستقبل التوازنات الطائفية في ظلّ الخطاب الانتقامي الذي تبنّته فصائل متطرّفة، وسوّقته شرائحُ واسعةٌ من السوريين الحاقدين، خصوصاً ضدّ العلويين والدروز، أنهم زوائد اجتماعية يجب تشذيبها، وهنا طُعنت فكرة المواطنة في الصميم لتغدو امتيازاً مشروطاً مرتبطاً بالتماهي التام مع هُويَّة الدولة الجديدة.
بمنطق آخر، لم تكن لحظة انهيار طاغية دمشق بداية تحرّر وبناء، بل لحظة انكشاف مرير على هشاشاتٍ راكمتها عقود الاستبداد والصراع الناعم للهُويَّات دون الوطنية، منذ عهد الاستقلال، ما فتح الباب أمام مرحلة انتقالية غامضة الملامح، تسودها جماعاتٌ منكمشةٌ تحتمي بسردياتها الخاصّة، وتبني آليات خلاصها بالانغلاق التام حول مخاوفها. العلويون والمرشدية والإسماعيليون، الذين تمترسوا في قلب دمشق عقوداً، انكفأوا إلى المجهول في كانتوناتهم الطائفية. المسيحيون الحياديون يحاصرهم مستقبلٌ مشوّش. الكرد والدروز باتوا في بقع جغرافية مستقلّة تنبذ المركزية بالمطلق، بالتوازي مع "الأكثرية" التي تراقب بصمتٍ تامٍّ اضطهاد "الأقليات"، منذراً بتصلّب هُويَّة سنّية جهادية تُقصي من لا يحفظ أبجديتها... إلخ.
إضافة إلى ما سبق، تحوّل الانفجار الطائفي ما بعد الأسد إلى أحد أنماط إعادة إنتاج الصراع وتوزيع النفوذ، وثمّة من يؤكّد أن الدعوات إلى الفيدرالية لا تُفهم خارج هذا التشابك المُركّب، بذريعة أن تأسيس اللامركزية على اعتبارات دينية وعرقية يُعدّ حكماً مشروطاً ومشوّهاً، يُغرَس عنوةً في كبد جغرافيا مُنهَكة، لأن وحدة البلاد عيبٌ خلقي من الضرورة تجميله.
بشيء من الإيجاز، يمكن القول إن كلّ شيء مرتبط ببعضه، والتشرذم الحالي تمخّض، حكماً، عن لعنة التعايش القسري بين المكوّنات المتنوّعة. بعد اتفاقية سايكس بيكو تشظّت سورية الطبيعية إلى عدّة كيانات جغرافية، وفي عشرينيّات القرن الماضي رُسمت حدود دمشق، فأُعلنت دولة حلب ودولة العلويين، ولاحقاً دولة جبل الدروز. وإبّان عهد الأسد الابن، قامت ثلاثُ سلطاتٍ للأمر الواقع، واليوم تُهدَّد سورية بمزيدٍ من الانشطار، وكأنّها لم تمر فط في مرحلة الدولة إلا بالمعنى السلطاني، محوّلة الهُويَّات الضاربة الجذور في التاريخ لعنةً قاتلة. واستناداً إلى مراجعاتٍ جادّة، فإن التنوّع السوري الواسع، وهو معطىً جوهري لا يمكن التغاضي عنه أو حتّى تحييده، وكما يمثّل فرصاً واعدةً سينقلب خطراً محدقاً بسبب سوء إدارته وخبث استغلاله، ولا يعدّ ما يحدُث حالياً خروجاً من مسار البلاد التاريخي، بل دعسة ناقصة جديدة في سلّم الجمهوريات السورية الفاشلة التي نشأت دائماً من دون تفاوض حقيقي على شكل الدولة وهُويَّة رعاياها. فمنذ الاستقلال، تشكّلت الدولة السورية على أُسس فوقية ولم تُبنَ على عقدٍ اجتماعي شامل، وبعد عام 1963 أُذيبت الهُويَّة الوطنية الجامعة في مركز أمني مغلق عُرف بـ"مزرعة الأسد"، وعند وصولها إلى السلطة، عزّزت هيئة تحرير الشام فكرة "الأمّة الأموية" لشدّ عصب العرب السُّنة، وهو ضربٌ جديدٌ من الوهم القاتل يمدّ في عمر الاستعصاء التاريخي المُدمِّر، فلا يمكن نكران أن الوطن السوري تحوّل اليوم خياماً متشرذمة، إحداها تضمّ أرواحاً علوية هلعة ومتصدّعة، وأخرى تضمّ دروزاً أضيفوا إلى قائمة الارتياب المسيحي إثر انحياز حكومة دمشق إلى البدو بعد أحداث السويداء الدامية. وبطبيعة الحال، يلجأ الكرد تحت خيمةٍ تقبع على جرف التوجس، وإنْ صدقت المؤشّرات، ثمّة خطّة مبيّتة للتحرّش بقوات سوريا الديمقراطية (قسد) في شمال شرق سورية.
وتوازياً مع بوادر الانقسام السوري المُقنَّع، لا يتقاطع كثيرون من السُّنة مع مسارات السلطة الجديدة، ويفضّلون عدم تحويل سورية إمارة إسلامية، وما شهدته الأيام المنصرمة من تحرّكات سياسية وشعبية تُظهر أن الشارع السُّني بدأ يستعيد وعيه بعدما دوّخته سكرة النصر المُظفَّر، من ذلك مظاهرات تندّد بالواقع المعيشي السيئ. وأيضاً ملصقات تُدين الحملة الهمجية ضدّ السويداء، وأخرى تطالب "الجولاني" بالرحيل، بالتزامن مع إعلان تأسيس الكتلة الوطنية السورية لبناء دولة المواطنة الكاملة، إلى جانب حزب سياسي جديد تحت اسم "حركة النهج الوسطي في سوريا"، وهي حركة وطنية صوفية أشعرية تهدف إلى أن تكون صوتاً جامعاً لكلّ السوريين. وليس آخراً إلقاء مناف طلاس محاضرةً في كلية العلوم السياسية بباريس عن شكل الدولة السورية، مثيراً توقيت ظهوره تكهّناتٍ كثيرة... إلخ.
لا يتقاطع كثيرون من السُّنة مع مسارات السلطة الجديدة، ويفضّلون عدم تحويل سورية إمارة إسلامية
من هنا، وبعد استقالة المبعوث الأممي لسورية، غير بيدرسون، ما يجعل مصير قرار مجلس الأمن 2254 ضبابياً مقابل اتفاق أمني مرتقب بين إسرائيل وسلطة دمشق برعايةٍ أميركية، يجزم بعضهم أنه خريطةٌ صريحةٌ لسلخ الجنوب عن الجسد السوري، لا بدّ من طرح السؤال الملحّ التالي: هل يحافظ تحرّك الشارع السُّني "المعتدل" على شعرة معاوية بين المكوّنات السورية، ويحسم الصراع المحتدم بينها لصالح أشكال حكم ذاتي موسّع مرتبط بالمركز، لا إلى أقاليم مستقلة؟ خصوصاً أن الرؤى اللامركزية التي تعكس التصوّرات المحلية للأوساط "الأقلوية" تمثّل مقاومةً بنيويةً للنموذج الأحادي التسلطي الجديد، الذي يعيد تأهيل الأزمات في ظلّ إداراتٍ سلفية محلية تستبدل المظلوميات الفاقعة باستبداد مقنّن.
صفوة القول: في عام 1919 أعلن إبراهيم هنانو بدء الثورة في الشمال بحرق أثاث منزله، مؤكّداً: "لا أريد أثاثاً في بلد مُستعمَر"... وعليه، هل يبادر السوريون أخيراً إلى حرق "هُويَّاتهم القاتلة" لاحتواء عنصريةٍ مستطيرة تُحوّل الوطن المُستباح خياماً متناحرة، يديرها عصبٌ قبائليٌّ متصل بذهنية الفزعات العشائرية التي تدفع البلاد الذبيحة نحو العدم المطلق باسترخاء مريب؟