الرئيسة \
تقارير \ فيتنام وسوريا .. دروسٌ في التعافي الاقتصادي المتوازن
فيتنام وسوريا .. دروسٌ في التعافي الاقتصادي المتوازن
08.07.2025
وائل مرزا
فيتنام وسوريا .. دروسٌ في التعافي الاقتصادي المتوازن
وائل مرزا
سوريا تي في
الاثنين 7/7/2025
في عالمٍ تتشابك فيه المصالح الاقتصادية بحدة، وتُلقي فيه السياسة بظلالها على التجارة الدولية، وفي مشهدٍ يختصر تحولات التاريخ وجدلياته الكبرى، برز قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب، منذ أيام، بفرض تعرفةٍ جمركية بنسبة 20% على الواردات الفيتنامية، مبرراً ذلك بوجود عجزٍ تجاريٍ كبير لصالح فيتنام.
هذا القرار يسلّط الضوء على ظاهرةٍ اقتصادية لافتة: ففيتنام، الدولة التي عانت من حروب مدمرة لعقود، تُصدِّرُ اليوم إلى الولايات المتحدة ما قيمته أكثر من 39 مليار دولار، بينما لا تستورد منها سوى نحو 3 مليارات دولار، مما يشكل عجزاً تجارياً هائلا لصالح هانوي. إن هذه الارقام ليست مجرد إحصائيات، وإنما هي قصة تحولٍ اقتصادي مذهل، تقدم دروساً قيمة، خاصةً لدولة مثل سوريا التي تمر بمرحلة "تحرير" وتستشرف مستقبلها.
لقد خاضت فيتنام تجربة "Doi Moi" منذ عام 1986، حين قرّرت التحرر من قبضة الاقتصاد المركزي الجامد من دون أن تتخلّى عن هويتها السياسية، حيث قرّرت، وقتها، أن تكون دولة إنتاج، فلم تضع كل رهاناتها على العقارات أو الخدمات أو الدعم الخارجي، بل بنت ثقافة تصديرية، وشجعت على تكوين الصناعيين، وربطت التعليم المهني بسوق العمل.
على النقيض من فيتنام التي كانت، خلال حروبها، تعيش في فقرٍ مدقعٍ وتفتقر إلى بنيةٍ صناعيةٍ حقيقية، تمتلك سوريا إرثاً صناعياً وتاريخاً اقتصادياً مزدهراً يسبق فيتنام بكثير، فقبل عقود من قيام الثورة، كانت الصناعة السورية، خاصةً في مجالات النسيج، والأغذية، والصناعات الخفيفة، مزدهرةً ومنافسةً في المنطقة..
فتحت فيتنام الأبواب للاستثمار، ولكن بشروطها، أصلحت التعليم وربطته بسوق العمل، اعتمدت على الصناعات الخفيفة القابلة للتصدير، لا على أوهام الصناعات الثقيلة، ومن خلال علاقاتٍ مدروسة مع السوق العالمية، تحوّلت إلى عقدةٍ رئيسةٍ في سلاسل الإمداد العالمية، ووجهة إنتاجٍ مهمة للإلكترونيات والملابس والسلع الزراعية المعالجة.
وعلى النقيض من فيتنام التي كانت، خلال حروبها، تعيش في فقرٍ مدقعٍ وتفتقر إلى بنيةٍ صناعيةٍ حقيقية، تمتلك سوريا إرثاً صناعياً وتاريخاً اقتصادياً مزدهراً يسبق فيتنام بكثير، فقبل عقود من قيام الثورة، كانت الصناعة السورية، خاصةً في مجالات النسيج، والأغذية، والصناعات الخفيفة، مزدهرةً ومنافسةً في المنطقة، وكانت المدن السورية مثل حلب وحمص ودمشق مراكز صناعية وتجارية حيوية، بينما كانت فيتنام ما تزال عالقةً في حروب الوصاية والصراعات الأيديولوجية.
لم تكن سوريا بلداً صناعياً متكاملاً، لكنها كانت في طريقها إلى أن تكون كذلك، وهذا التاريخ الصناعي يقدّم لسوريا ميزةً نسبيةً كبيرةً في مرحلة ما بعد "التحرير"، حيث توجد خبرات متراكمة، وبنية تحتية قابلةٌ جداً لإعادة التأهيل، ويدٌ عاملة ماهرة معروفة بإتقانها للعمل الصناعي.
واليوم، بعد عقدٍ ونيف على حربٍ مدمّرة، تقف سوريا على مفترق طريق، فالناتج المحلي الذي كان يزيد على 60 مليار دولار في 2010 تراجع إلى نحو ربع هذا الرقم، وقد خلّفَ التهجير، ومعه انهيار البنية التحتية، والعقوبات، اقتصاداً شبه مُعطّل، ولكن، ما تزال هناك، تحت هذا الركام، طاقةٌ كامنة -مادية وبشرية- لو وُظّفت بشكلٍ رشيد، لأمكن لها أن تتجاوز ما فعلته فيتنام.
والفرق هنا لم يكن، ولن يكون، يوماً، في حجم الثروات الطبيعية، وإنما في كيفية التفكير، وفي شكل القرار السياسي والاقتصادي، وفي جرأة النخب على إعادة تعريف الأولويات.
فسوريا تمتلك موقعاً جغرافياً فريداً بين آسيا وأوروبا، ولديها جاليات واسعة في الخليج وأوروبا تملك المال والخبرة، هذا فضلاً عن ذاكرةٍ صناعيةٍ حيّة، وقاعدةٍ من المعارف التقنية، وإن كانت متناثرة اليوم.. فوق هذا، تمتلك سوريا أيضاً فرصةً إقليميةً ودولية نادرة: تبدأ باهتمامٍ صينيٍ وروسيٍ وخليجي متزايد بالاستثمار، ولا تنتهي بشهيةٍ أممية عالمية لإعادة الإعمار، لكن الفرصة وحدها لا تكفي، فكل فرصةٍ كبرى، إن لم تُقابل برؤية، تصبح عبئاً أو تُختطفُ لصالح حفنةٍ من المنتفعين.
من هنا، تبرز الحاجة إلى بذل جهودٍ خلاقةٍ مضاعَفة لكي تتبنى سوريا نموذجاً اقتصادياً يوازن، بمهارةٍ شديدة، بين الانفتاح وضرورة الحفاظ على العدالة الاجتماعية وتجنب فخاخ السياسات النيوليبرالية المتطرفة، فبينما يُعدُّ الانفتاح على السوق العالمي والاستثمار الأجنبي محركاً للنمو، يجب أن يكون هذا الانفتاح موجهاً ومقيداً بضوابط تضمن توزيعاً عادلاً للثروة، وتحمي القطاعات الحيوية، وتوفر شبكة أمانٍ اجتماعي للمواطنين.
إن الانفتاح على الاستثمار لا يجب أن يعني بيع أصول الدولة أو التورط في وصفات نيوليبرالية جاهزة، وإن مشاريع إعادة الإعمار، إن لم تُربط بسياسات إنتاجية واضحة، فستكرّس الريع وتُعيد إنتاج الفقر ذاته، والغرقُ في سياسات الخصخصة الشاملة، ورفع الدعم عن السلع الأساسية من دون بدائل، وتحرير الأسواق بشكلٍ مطلق، قد يؤدي إلى تفاقم الفوارق الطبقية وزيادة الفقر وإضعاف قدرة الدولة على التدخل لحماية الفئات الأكثر ضعفاً، وتلك نتائج قد تقوض الاستقرار الاجتماعي والسياسي على المدى الطويل، وتخلق أرضيةً خصبةً لأزمة جديدة.
لهذا، يجب أن يكون الهدف هو اقتصاد سوق اجتماعي، يجمع بين كفاءة السوق ودور الدولة في تحقيق التنمية الشاملة والمستدامة، فضلاً عن ذلك، يجب ألا تتضارب التنمية الاقتصادية مع الحرص على صون ما هو أصيلٌ، وقابلٌ للحياة، في هوية سوريا الثقافية والتاريخية، وتجنب ذوبانها في أنماط استهلاكية أو ثقافية دخيلة.
إن التنمية ليست مجرد أرقامٍ اقتصادية، ولا يجب أن تُقايضَ بالهوية، وإنما هي عمليةٌ شاملة تمس روح المجتمع، وليس المطلوب أن تتحوّل سوريا إلى سوقٍ تستهلك ما يُنتج في الخارج، بل أن تبني نموذجاً خاصاً بها: منفتحاً على العالم بلغته، متمسكاً بجذوره.
لقد حافظت فيتنام، رغم انفتاحها الاقتصادي، على كثير من خصوصيتها الثقافية، وثمة لسوريا تاريخٌ وحضارة عريقة، وتنوعٌ ثقافي غني، هو بمجمله تراثٌ يجب أن يكون مصدراً للقوة والإلهام، لا عبئاً أو شيئاً يمكن التضحية به في سبيل التقدم المادي.
وهذا يتطلب الاستثمار في التعليم الذي يعزز الانتماء، ودعم الفنون والآداب التي تعكس الهوية، وتشجيع السياحة الثقافية التي تبرز أصالة البلاد، ووضع سياسات تحمي التراث المادي وغير المادي، كما أن قطاع الثقافة والفن والسياحة التراثية يجب أن يصبح جزءاً من مشروع التنمية، لا مجرد إضافةٍ تجميلية. إن التنمية المستدامة هي تلك التي تبني المستقبل دون أن تهدم الماضي، وتستفيد من تجارب الاخرين دون أن تفقد ذاتها.
وكما فعلت فيتنام، ثمة شرطٌ أساسي يتمثل في أن تتجاوز سوريا الصراعات الأيديولوجية التي مزقتها، وأن تُركِّزَ على المصلحة الوطنية العليا المتمثلة في التعافي الاقتصادي، وتحسين مستوى معيشة المواطنين جميعاً، وهذا يتطلب براغماتية سياسية وقدرة على بناء توافقات داخلية حساسةٍ مدروسة، وصولاً إلى عملية مصالحةٍ سياسية وثقافية واجتماعية شاملة في سوريا.
ما تحتاجه سوريا ليس فقط قوانين جديدة، وإنما عقلٌ سياسي جديد، يؤمن أن الأمن يبدأ من رغيف الخبز، ومن كرامة المصنع، ومن ثقة المستثمر، ومن كفاءة الإدارة، فليس المطلوب هنا الانتقال من الدولة الأمنية إلى دولة السوق، وإنما إلى دولةٍ مُنتِجة..
إن دروس التاريخ كثيرةٌ في هذا السياق، فقد نهضت ألمانيا بعد حربين عالميتين لأنّ القرار كان سيادياً في جوهره، وارتفعت كوريا الجنوبية من دولةٍ تعتمد على المعونات إلى قوةٍ صناعيةٍ عالمية، لأنها وضعت الإنتاج في قلب السياسة، أما مصر، على سبيل المثال، فقد طبّقت التحرير الاقتصادي بلا حمايةٍ اجتماعية كافية، فانتهى بها الحال إلى تركّز الثروة بيد قلة، وانفجارات اجتماعية لاحقة.
إن ما تحتاجه سوريا ليس فقط قوانين جديدة، وإنما عقلٌ سياسي جديد، يؤمن أن الأمن يبدأ من رغيف الخبز، ومن كرامة المصنع، ومن ثقة المستثمر، ومن كفاءة الإدارة، فليس المطلوب هنا الانتقال من الدولة الأمنية إلى دولة السوق، وإنما إلى دولةٍ مُنتِجة، توازن بين القوة والعدالة، وبين الانفتاح والسيادة، وبين التخصص الصناعي والتكامل الثقافي.
وإن سوريا تمتلك فرصةً حقيقيةً، في ضوء الانفتاح الحالي على الاستثمارات، وتَحرُّك بعض القطاعات الاقتصادية، للبدء بمسارٍ وطني حقيقي: مسار يعيد الاعتبار للصناعة المحلية، ويُصممُ قانوناً محفزاً للمناطق الصناعية، ويضع "التصدير" هدفاً حقيقياً لا شعاراً فارغاً.
لكن هذا يتطلب تحوّلاً إدراكياً في النخبة السياسية والاقتصادية، يقرّ بأن مستقبل سوريا لا يُبنى على مساعدات أممية، ولا على تحويلات المغتربين فقط، بل على اقتصادٍ منتج، يعيد للدولة هيبتها من بوابة العمل، لا من بوابة الأمن فقط، وإذا كانت فيتنام قد نجحت لأنّها قرّرت أن تُراكِمَ المعنى فوق الألم، فإنّ سوريا قادرةٌ على أن تسبقها إن هي جعلت من ذاكرتها قوةَ دفع، ومن حاضرها لحظةَ إدراك، ومن مستقبلها مشروعاً لا يقبل التأجيل.