وجهة نظر :
تذوقت رحيق الاحتساب... وأحتسب
زهير سالم*
أحكي لكم عن العابد الزاهد المجاهد "صلة بن أشيم" رحمه الله تعالى..
في كتاب جميل، أدعو كل محب لدراسته قرأت القصة منذ نصف قرن…
في كتاب "الزهد والرقائق" للعالم العابد الزاهد المجاهد "عبد الله بن المبارك"
كتاب في نحو تسع مائة صفحة. طبع في سورية في سبعينات القرن الماضي. واقتنيته طازجا خارجا من المطبعة. بتحقيق عالم ركين من آل الزعبي، زعبية حمص، أدعو له بخير إن كان حيا وأترحم عليه إن سبق. فقد أخرج الكتاب إخراجا جميلا معينا على تذوقه. تذوق الكتاب غير قراءته، أو هكذا أظن أنا… ما زالت سطور صفحات الكتاب بين هدبيّ وما زلت أغترف..
لن أفيض لأن المقام لا يحتمل. الحديث عن ابن المبارك وحده يحتاج إلى كتاب. ابن المبارك الذي تنسب إليه الأبيات:
يا عابد الحرمين لو أبصرتنا…
وبعض الناس ينكرها له، ويزعم أن عبد الله بن المبارك أرقى من أن يخاطب الفضيل بن عياض بقوله:
يا عابد الحرمين لو أبصرتنا.. لعلمت أنك في العبادة تلعب..
وأرقى من أن يصف الانقطاع إلى الحرم للعبادة باللعب..
ومهما يكن من أمر تبقى القصيدة جميلة، ومحتاجة إلى شاعر، فمن عساه يكون القائل:
مـــــن كان يخضب خـــده بدمـــوعه
فنحورنـــــــــا بدمائنـــــــــا تتخضـــــــــب
مـــن كـــان يتعـــب خيلـــه في باطـــل
فخيولنـــا يـــوم الصبيحــــــة تتعــــــب
ريـــح العبيـــر لكـــم ونحـــن عبيرنــــــا
وهج السنابك والغبار الأطيب!!
فمن عساه يبدع هذا القول ثم ينحله غيره!!
وأعود إلى كتاب الزهد والرقائق لابن المبارك، وهو في كليته كتاب أثر..
ومعنى قولي كتاب أثر، أنه كتاب أقوال وآثار محكية مرفوعة بسند وكثير منها إلى رجاء بن حيوة، إلى القائلين والمخبرين.. وفي صدارتهم سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
في ثنايا الكتاب تجد المؤلف رحمه الله تعالى يفتتح فصلا لأخبار "صلة بن أشيم" وإذا كنتَ مثلي يوم قرأتُ الكتاب، يمر بك اسم صلة بن أشيم أول مرة، فربما تفتح عجبا فاك!!
في نحو عشرين صفحة يورد المؤلف بعض أخبار صلة "المجاهد الزاهد العابد"
هذه الصفحات تؤكد لنا أن نسكنا ليس أعجميا!! وأنه قد كان في تاريخنا طبقات من الرجال المغمورين!! وأكاد أجزم أن صلة بن أشيم لم يكن في تاريخ هذه الأمة واحدا.. ولا ألفا.. بل كان جيلا…
فيما رواه ابن المبارك من أخبار صلة بن أشيم ما هو جدير بالقراءة، وأكثر. بل كتاب الزهد والرقائق بصفحاته الألف جدير بالقراءة، بل بالدراسة والتوقف والتمعن.. الطريق، طريقنا، يمر من هناك…
توقفت اليوم لأروي خبر الخاتمة لذلك الرجل الذي لم يتوقف عند اسمه التاريخ طويلا، شأنه شأن كل الذين أخذوا معهم كنوزهم في جرارها.
في واقعة من وقائع الجهاد مع العدو، وليس ضد الذات..ضد الجار المجاور والصاحب بالجنب..
أعني رجلا لم يجرؤ يوما أن يكتب مقالا أو يقول كلمة ضد حافظ الأسد أو ضد بشار الأسد، ولم يجرؤ يوما على أن يفتح صفحة على وسائل التواصل باسمه الصريح.. يصبح اليوم أبا العليَين…
في وقعة من وقعات الجهاد ضد العدو -لم يذكر ابن المبارك- هوية العدو، ينكشف المسلمون…
وقولي ينكشف المسلمون تعبير ملطف للكلمة السوأى: يولوون..
ويثبت فريق يحمي ظهور المنكشفين!! وهذه مهمة أهل الفداء بالحروب، ريثما تنجون أنتم نموت نحن، حين تصمتون أنتم نتكلم نحن..ويكون صلة العابد الذاكر منهم..
ويلتفت صلة فيرى ولده شريكه على درب الجهاد قريبا منه..
فينادي عليه: يا ولدي الحق بأمك…
فيرد الولد: يا أبتِ الحق بزوجك فأنت أبرُ بها مني..
يخصم الوالد اللجاجة: فيقول لولده: يا بني إن لم يكن بد، يعني إن لم يكن بد من أن نُستشهد معا، فتقدم بين يدي أحتسبْك..
هنا وقفت الصورة في قلبي وفي عقلي وفي كل جوانحي، وما زال حلقي يتلمظ معنى الاحتساب.
اللوعة التي يجدها الوالد على ولده بكل فظاعتها ومرارتها تتحول إلى مذاق يحتسبه الوالد عند ربه في كتاب…
منذ قرأت القصة وللاحتساب عندي طعم آخر كلما تطاول علي متطاول، أو نال مني أسدي او مشتق من مشتقاته..
وأحتسب يا سيدي وأحتسب … كتبت لأدعوكم جربوا الاحتساب..
(إِلَّا فِي كِتَابٍ..) غيبة كانت القذيفة أو بهتان..
لندن: 27: صفر: 1447
21/ 8/ 2025
____________
*مدير مركز الشرق العربي