الرئيسة \  تقارير  \  واقع التفكير السوري الراهن

واقع التفكير السوري الراهن

25.08.2025
حسان الأسود



واقع التفكير السوري الراهن
حسان الأسود
سوريا تي في
الاحد 24/8/2025
يقول المفكر المغربي الراحل محمد عابد الجابري في كتابه "تكوين العقل العربي": "إنّ التفكير بـوسـاطـة الـثـقـافـة يعني التفكير مـن خـلال منظومةٍ مرجعيةٍ تتشكل إحـداثـيـاتـهـا الأسـاسـيـة مـن مـحـددات هـذه الثقافة ومكوناتها، وفي مقدمتها الموروث الثقافي والمحيط الاجتماعي والنظرة إلى المستقبل، بل والنظرة إلى العالم، إلى الكون والإنسان، كـمـا تـحـددهـا مـكـونـات تـلـك الـثـقـافـة"، وهذه ستكون مقدمة مقالتنا التي تزعم أنّها ستقارب واقع التفكير السوري الراهن، حُكمًا وموالاة ومعارضة، وبين بين من الأفراد غير المعنيين إلا بالاستقرار وتوقف الحرب وإعادة الحياة إلى طبيعتها في بلد منكوب.
إنّ البلاد الممزقة سياسيًا ضمن أسوار سلطات مختلفة، هي بالضرورة بلاد ممزقة اقتصاديًا واجتماعيًا وفكريًا، وبالتالي سيكون من الطبيعي أن ترجع كل جماعة إلى منظوماتها الخاصة في مقاربة الأمور ضمن واقعها المعيش، بما يحقق مصالحها ويحميها في مواجهة المجموعات الأخرى المنافسة. هكذا تنشأ الهُويات الفرعية من تشظّي الهُوية الوطنية تحت ظل حراب البنادق المتواجهة على حدود الجماعة، ومن مداميك السلطات القائمة فيها، ومن أطراف المشانق المنصوبة للمعارضين لها ضمن حدودها الداخلية. تتحدد هذه الهُويّات الفرعية ضمن سياق تأثرها بالثقافة العامّة ومكوناتها من جهة، وضمن محيطها الخاص ونظرتها إلى الحاضر والمستقبل بكل تناقضاتهما من جهة ثانية.
يقول ستيورات هول: "ينبغي للهويات أن تكون بمنزلة نقاط مرجعية مستقرة"، وهذا يعني أنّه كلما تفرّعت الجماعة الوطنية إلى جماعات فرعية، زادت النقاط الاستنادية في البلد الواحد، مؤدّى هذا ونتيجته الطبيعية أن تتكرّس المرجعيات النظرية مع الزمن، فتصبح مواضيع مثل الاستعانة بالخارج أو التحالف مع الأغيار من خارج الحدود، أو الأعداء، أو المطالبة بالانفصال، أو بالاستقلال، أو رفع حق تقرير المصير أمورًا واردة ومقبولة. ورغم أنّ هذه القضايا تتعارض جوهريًا مع الوحدة الشاملة للأمّة ومع الفضاء الثقافي العام الذي متحت منه الهُوياتُ الفرعيةُ نُسغَ حياتها ومدّت في تربتها جذورها، إلا أنّ الواقع يقول إنّ التراخي في الزمن يقطع مع البنى الأصلية ويحوّل الفروع إلى أصولٍ جديدة قابلة للحياة والاستمرار. هذا ما حصل مع العرب عندما تعصّب الأتراك لقوميتهم الطورانية، حين حاولوا بداية الحصول على حقوقهم الثقافية ضمن إطار السلطنة الجامع، لكنّهم انتقلوا بعد العَنَتِ التركي إلى المطالبة بالاستقلال التام. هكذا تطورت الفكرة القومية العربية في رحم الدولة العثمانية واستقلّت عن رابطة الجماعة الإسلامية نهائيًا مع إلغاء الخلافة الإسلامية في 3 آذار/ مارس 1924.
في الحالة السورية الراهنة، يشخّص المتابع أنماطًا مختلفة من التفكير، تتماشى مع أشكال متعددة من الوجود المجتمعي المنعزل جغرافيًا أو حتى قوميًا ودينيًا وطائفيًا ومذهبيًا. هناك اختلاف كبير في المصالح لا تجمعه وحدة الوطنية السورية، وهذا مردّه لضعف الانتماء إلى الجماعة السورية الأكبر لحساب الجماعات الفرعية الأصغر. الحالة إن شئنا الإنصاف متبادلة التأثير، فما هو سبب هنا يصبح نتيجة هناك والعكس صحيح، الرابطة السببية بين الفعل والنتيجة تتبدّل في المظهر الخارجي، لكنها تحدث الأثر ذاته هنا وهناك. ضعف الانتماء الوطني يعزز الانتماء إلى الجماعة القومية أو الدينية أو الطائفية أو المذهبية، وعجز الدولة عن تشميل الجماعات والأفراد المنتمين إليها على اختلاف تنويعاتهم يؤثر بالضرورة في الاتجاه نفسه. كذلك الخدمات والمنافع التي ينتظرها المواطنون من الدولة تلعب دورًا في الولاء لها، فكلما كانت الطريق مباشرة بينها وبينهم، وكلما كانت واضحة وبسيطة وعادلة في الوقت ذاته، كلما تقلّصت مساحات التأثير الخاصّة بالجماعات التي تلعب دور الوسيط بين الدولة ومواطنيها. أي إنّ حضور الدولة بين مواطنيها وصلتها المباشرة معهم يعزز الهُوية الوطنية ويضعف الهويات الوسيطة التي تحاول أن تكون جسرًا بينهما. على الضدّ من ذلك، تتقوّى الهويات الفرعية كلّما اغتربت الدولة عن مواطنيها أو عن فئات منهم، وتصبح البيئة الحمائية محكومة بقوانين الجماعة ما قبل الدولتية لا بقوانين الدولة، هذا يعزز بالضرورة انقسام المجتمع الواحد وازدياد الولاء للهويات الفرعية على حساب الهويات الوطنية.
هل هناك فروقات إذن بين السلطات المختلفة من جهة وبينها وبين الجماعات ذات السلطات المعنوية كالطوائف والمذاهب والمجموعات السياسية كالأحزاب وغيرها؟
هل هناك فروقات إذن بين السلطات المختلفة من جهة وبينها وبين الجماعات ذات السلطات المعنوية كالطوائف والمذاهب والمجموعات السياسية كالأحزاب وغيرها؟ المفترض أن يكون هناك اختلاف حقيقي بين سلطات الأمر الواقع والسلطة المركزية التي تمثّل الدولة وتحظى باعتراف إقليمي ودولي وبقبول شعبي واسع. الأولى تمثّل حالات ضيقة بكل المقاييس، فينقصها كثير تبعًا لفقدانها الشرعية القانونية في المنظومة الدولية، فالإدارة الذاتية ومجلس سوريا الديمقراطية وقواتها العسكرية مثلًا ليست على المستوى ذاته عند التعامل معها من قبل القوى الإقليمية والدولية رغم كل الدعم الذي يقدّم لها. يجب أن ينعكس هذا في الواقع العملي على طرائق التفكير من خلال الممارسات اليومية في إدارة شؤون المواطنين، وهذا ما يعزز شرعية الدولة الوطنية إذا ما استطاعت السلطة التي تتولى زمام إدارتها القيام بأدوارها الحقيقية بشكل منصف وعادل يحفظ حقوق الجميع وكراماتهم. لكن مع الأسف الشديد لم تُبدِ السلطة المركزية في دمشق حتى الآن مؤشرات حقيقية على هذا الواجب في سلوكها العملي، فحالة الاستئثار والإقصاء والتمييز هي السائدة منذ وصلت إلى سدّة الحكم.
على المقلب الآخر، هناك فروقات بنيوية واضحة بين السلطات وبقيّة القوى المجتمعية والسياسية والمدنية الفاعلة في الساحة السورية. فهذه القوى تسبح في فضاءٍ عائمٍ لا يؤطره دستور ولا يحكمه قانون ولا ترعاه رؤية واضحة. افتقار هذه المؤسسات لعناصر القوّة والتحكم التي تتوفر عليها السلطات الفعلية والسلطات الرسمية يجعلها في مرتبة متأخرة جدًا من حيث التأثير في الواقع العملي مع تفاوت بينها بشكل واضح. فمثلًا برزت قوّة تأثير البنى الدينية كالكنيسة ممثلة بالبطريركين يوحنا العاشر يازجي بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للروم الأرثوذكس، ومار بشارة بطرس الراعي بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للموارنة، والبنى الطائفية ممثلة بمشيخة العقل الدرزية الثلاثية (الحناوي، جربوع والهجري)، وبدرجة أقل مشيخة المجلس الإسلامي العلوي في الساحل السوري التي تحدّث باسمها مرارًا الشيخ غزال غزال. بالمقابل لم يظهر أي تأثير واضح على أرض الواقع للقوى السياسية من أحزاب وكيانات وتكتلات وتحالفات، فهذه الأخيرة تفتقر للبنى التنظيمية وللموارد المالية وللحضور المجتمعي والانتشار بين الناس، على عكس تلك الأولى.
نعود لسؤال المقالة الرئيس، هل ثمّة واقع واحد للتفكير السوري الراهن؟ الإجابة التي توصل إليها كاتب هذه السطور أنّه رغم اختلاف البنى الفكرية الخاصة بالسلطة الرسمية وسلطات الأمر الواقع وبقية الفواعل السياسية والمدنية والدينية والطائفية، فإنّ المرجعية الثقافية هي التي تحدد من حيث النتيجة بنية التفكير المشتركة والجمعية بينها. إنّ افتقار هذا البنى للمرونة وتصلّبها حول المصالح الضيقة وانغلاق آفاق التفاوض فيما بينها للوصول إلى مساومات مقبولة في السياسة والاجتماع، هي الميزات الرئيسة التي تطبع الواقع السوري الراهن. وبالتالي سيكون انعكاس الواقع واضحًا ومباشرًا على طرائق التفكير أيضًا. الدولة ما زالت تفكر حتى اللحظة بعقلية الجماعة، ورغم إعلان الرئيس غير ذلك، لكنّ الممارسات على أرض الواقع تدلّ على عكس ما يُقال في الخطاب السياسي 100%، وهذا ينسحب على بقيّة سلطات الأمر الواقع والفواعل المختلفة في الساحة السورية مع الأسف الشديد، ولا نعرف يمكن تغيير ذلك.