هل يمكن لسورية أن تتلافى الهاوية؟
18.08.2025
سلام الكواكبي
هل يمكن لسورية أن تتلافى الهاوية؟
سلام الكواكبي
العربي الجديد
الاحد 17/8/2025
ما زالت سورية تخوض واحداً من أكثر الفصول تعقيداً في تاريخها الحديث، فقد تدرّج مسار ثورتها من حراك شعبي سلمي يطالب بالحرية والكرامة، مروراً بمقاومة مسلّحة ضد حرب النظام على شعبه، وصولاً إلى ساحة مفتوحة للصراعات الدموية والتدخلات الخارجية. لقد أظهرت التجربة السورية أن مواجهة الاستبداد بالعنف قد تفتح أبواب فتنة أشدّ فتكاً، حيث تتحوّل مطالب التغيير إلى حربٍ وجوديةٍ تلتهم الجميع. فما بدأ احتجاجات عفوية ضد نظام استبدادي، تحوّل إلى صراع معقّد تتشابك فيه العوامل الداخلية مع المصالح الإقليمية والدولية، حيث استخدم كل طرفٍ بعض الفاعلين السوريين أدواتٍ لتحقيق مصالحه. دعمت إيران النظام بكل ثقلها للحفاظ على نفوذها الإقليمي، بينما دعمت دولٌ في الخليج فصائل من المعارضة لمواجهة النفوذ الإيراني أولاً، ولأسباب متعدّدة أخرى ثانياً. أما روسيا، الساعية لتثبيت موقعها قوة متوسّطية وإرسال رسائل تحذيرية إلى الغرب، فقد جعل تدخلها العسكري المباشر عام 2015 نقطة تحوّل حاسمة، مانحاً النظام تفوّقاً عسكرياً واضحاً. في المقابل، دعمت الولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية، فصائل معارضة اعتقدت أنها الأقرب إلى ما تعتبرها "قيم الغرب الليبرالية"، فيما انخرطت تركيا في شمال سورية لحماية حدودها ومصالحها الأمنية، خصوصاً في ما يتعلّق بالملف الكردي.
مع مرور الوقت، تعقّد المشهد وتداخلت المطالب المحلية للشعب السوري مع أجندات القوى الخارجية، وغالباً ما اصطدمت مصالح هذه القوى مع تطلّعات السوريين. وفي خضم هذا التشابك، برز التطرّف الديني أحد أخطر إفرازات الأزمة، إذ وجدت الجماعات المتطرّفة في الفوضى بيئة خصبة للتمدّد، مستغلة دمويّة السلطة وانهيار مؤسسات الدولة. شكّل صعود تنظيم داعش ذروة هذا المسار، حيث حوّل أجزاءً واسعة من البلاد إلى ساحات للعنف الطائفي والاقتتال العبثي. لم يولد هذا التطرّف مصادفةً، بل جاء نتيجة عقود من القمع السياسي وتغييب المجتمع المدني، إذ لم تتوفر أي قنواتٍ حقيقيةٍ للتعبير السياسي السلمي. جعل هذا الانتقال من الاحتجاج السلمي إلى العمل السياسي المنظّم شبه مستحيل، ودفع كثيرين إلى خيارات العنف، فيما غياب الثقافة السياسية الديمقراطية جعل من الصعب بناء بدائل متجذّرة في الواقع السوري، فطغت خطابات التطرّف والاستقطاب على حساب الحوار الوطني.
سارعت السلطات الانتقالية إلى توقيع عقود بمبالغ ضخمة، لكن معظمها لم يوجَّه نحو إعادة الإعمار الحقيقي، بل نحو مشاريع جرى التفاوض عليها في غرفٍ مغلقة
ومع سقوط نظام بشار الأسد في 8 ديسمبر/ كانون الأول 2024، بدا لوهلة أن الباب قد فُتح أخيراً أمام نهاية مرحلة الطغيان. لكن هذا الأمل تراجع بسرعة صادمة، فبدلاً من أن ينفتح المجال السياسي أمام جميع القوى الوطنية، احتكرته مجموعات محددة، تبنّت سريعاً أسلوب الإقصاء اعتماداً على مبدأ "من يُحرّر يُقرِّر" (...). وبدلاً من أن تتحوّل البلاد إلى ساحة نقاش بشأن صياغة عقد اجتماعي جديد، أصبحت تشهد إعادة إنتاج منظومات الولاء الضيق على أسس فئوية أو جهوية، مع صعود نخب سياسية واقتصادية جديدة تسعى لتعزيز نفوذها.
على الصعيد الاقتصادي، سارعت السلطات الانتقالية إلى توقيع عقود بمبالغ ضخمة، لكن معظمها لم يوجَّه نحو إعادة الإعمار الحقيقي، بل نحو مشاريع جرى التفاوض عليها في غرفٍ مغلقة بعيداً عن أي شفافية أو رقابة مجتمعية. عزّز هذا المسار الشعور العام بأن ما تغيّر هو الوجوه، لا أسلوب الحكم أو أولويات الدولة. وفي غياب المؤسّسات الفاعلة، استغلت المليشيات والشبكات الإجرامية الفراغ الأمني لتعزيز سلطتها، فارضة على السكان أنماطاً جديدة من الجباية والسيطرة. ... وفي مناطق كثيرة، تحوّل الصراع من مواجهة بين الثورة والنظام إلى مواجهة بين سلطات محلية متنافسة، لكل منها أجهزتها الأمنية وقوانينها غير المكتوبة.
الانتهاكات الدموية التي مورست في أحداث الساحل (مارس/ آذار) وفي السويداء (يوليو/ تموز)، التي ترافقت مع ازدياد في حالات الاعتقال خارج إطار القانون، ما زالت الدولة ومؤيدوها تنسبها إلى عناصر غير منضبطة، وتصفها بأنها فردية ولا تؤطّرها أية رغبة قيادية. وذلك من دون تقديم أي من مرتكبيها إلى محاكمة شفّافة تهدئ النفوس وتقنع الرأي العام برغبة عليا بالتعامل العادل بين المواطنين. ويستمر احتكار المشهد السياسي عبر هيئة قيادية ملحقة بوزارة الخارجية (...) بعيداً عن أي تشاركية مع قِوَى سياسية مختلفة إيديولوجيّاً مع القائمين على الحكم الجديد. وفي المشهد المدني، برزت خطوة مقلقة، تعيين أعضاء النقابات من دون اللجوء إلى انتخابات تمنح المجتمع تجرِبة تحضيرية لانتخابات تشريعية ما زالت بعيدة المنال.
إسقاط الطغاة لا يكفي إن لم تُبنَ مؤسسات قوية قادرة على حماية الحرّيات
على الصعيد الاجتماعي، أدّت هذه التطورات إلى تعميق الانقسامات داخل المجتمع السوري. بدأ كثيرون يشعرون بأن حلم التغيير قد اختُطف، وأن ثمن التضحيات التي قدّمت خلال أكثر من عقد لم يثمر سوى أنماط جديدة من الاستبداد. وتسلّل الإحباط حتى إلى سوريين كانوا في قلب الحراك الثوري، فبات بعضهم يفضّل الانكفاء أو الهجرة، فيما لجأ آخرون إلى محاولة التكيّف مع الأمر الواقع، حفاظاً على حد أدنى من الاستقرار الشخصي.
الانتقال السياسي، الذي كان يُفترض أن يشكّل خطوة نحو الديمقراطية، بات اليوم أكثر غموضاً من أي وقت مضى، فغياب خطة واضحة لإدارة المرحلة الانتقالية، وغياب التوافق على دستور جديد، وتنازع الشرعيات، كلها عوامل تجعل المستقبل مفتوحاً على احتمالات متعدّدة، معظمها لا يبشّر بتحقيق تطلعات السوريين في الحرية والعدالة والمواطنة المتساوية.
الأزمة السورية، رغم تغير أطراف السلطة، لا تزال من أكثر المآسي الإنسانية إيلاماً في عصرنا. أهم دروسها أن العنف ليس طريقاً لبناء نظام سياسي عادل، وأن إسقاط الطغاة لا يكفي إن لم تُبنَ مؤسسات قوية قادرة على حماية الحرّيات وضمان المشاركة السياسية للجميع، فالتغيير المستدام لا يتحقق عبر إسقاط رأس النظام فقط، بل عبر بناء عقد اجتماعي جديد يقوم على سيادة القانون والمساواة في الحقوق والواجبات، ويمنع إعادة إنتاج الاستبداد تحت أي اسم أو ذريعة. قد يكون الطريق طويلاً ومرهقاً، ولكن من دونه ستظل سورية تدور في الحلقة المفرغة نفسها التي التهمت أحلام أجيال كاملة.