هل الجنوب السوري بوابة "إسرائيل الكبرى"؟
21.08.2025
مهيب الرفاعي
هل الجنوب السوري بوابة "إسرائيل الكبرى"؟
مهيب الرفاعي
المدن
الاربعاء 20/8/2025
مؤخراً، عادت فكرة إسرائيل الكبرى إلى الواجهة بقوة، ليس فقط كحلم تاريخي متجذّر في أدبيات الصهيونية المبكرة، بل كأداة سياسية حاضرة في خطاب بنيامين نتنياهو وحلفائه من اليمين الإسرائيلي. قبل عدة أشهر، أثارت صورة جندي من الجيش الإسرائيلي يرتدي شارة تتضمن خريطة تمتد من النيل إلى الفرات موجة من الجدل، إذ تضم هذه الخريطة أجزاءً واسعة من مصر ولبنان وسوريا والعراق والسعودية، بالإضافة إلى كامل الأردن والأراضي الفلسطينية المحتلة.
وعلى الرغم من أن هذا التصوّر ليس جديداً، إذ تعود جذوره إلى كتابات تيودور هرتزل وخطط عوديد ينون وصياغاتهم الجيوسياسية، فإن عرضه العلني جعله أكثر استفزازاً وأشد ارتباطاً بالواقع السياسي الراهن. اليوم، تتقاطع هذه الرؤية الأيديولوجية مع معطيات ميدانية متغيرة على حدود إسرائيل الشمالية الشرقية، ولا سيما في جنوب سوريا، حيث تتشكل بيئة أمنية وسياسية تبدو ملائمة لاختبار سيناريوهات تتجاوز حدود 1967.
هوس نتنياهو
على مستوى القيادة الحالية، يُنظر إلى نتنياهو على أنه شخصية مركزة بشكل مبالغ فيه على الأمن والتوسع الإقليمي، إلى حد الهوس الأيديولوجي، ويربط البقاء القومي بالقدرة على السيطرة الشاملة على الأراضي المحيطة بإسرائيل. هذا الهوس يتجلى في سياسات تتخطى الاعتبارات الأمنية إلى طموحات توسعية تتضمن إعادة رسم خرائط الشرق الأوسط وفق رؤية إسرائيل الكبرى المبنية على ادعاءات توراتية، وقد اعتُبرت تصريحاته المتكررة بشأن المناطق الواقعة خارج حدود 1967، والتي تشمل جنوب لبنان، ومحيط غزة، وجنوب سوريا، وحتى أجزاء من الأردن، مؤشراً على تصور يرى في الهيمنة الإقليمية وسيلة للسيطرة الاستباقية على أي تهديد محتمل، بما يشمل استخدام القوة العسكرية والسيطرة غير المباشرة عبر وكلاء محليين وفصائل مسلحة. بعض المراقبين ذهبوا إلى وصف هذا الهوس بأنه يضفي بعداً قريباً من تصور الإبادة الجماعية، ليس بالضرورة بمعناها المباشر، بل كاستراتيجية تهدف إلى تفكيك الكيانات السياسية والاجتماعية للخصوم وضمان عدم قدرتهم على تشكيل أي قوة معارضة فعالة، سواء على المستوى العسكري أو السياسي أو الديموغرافي، ما يعكس رؤية نتنياهو التي تجمع بين التوسع الاستراتيجي، الهيمنة العسكرية، والهندسة السكانية كأدوات للبقاء القومي.
تتجلّى خطورة مقاربة نتنياهو في الجمع بين الإطار الأيديولوجي والممارسات الميدانية؛ فالترويج العلني لخريطة إسرائيل الكبرى يطبع في الوعي العام فكرة التوسع كخيار مشروع، بينما تعكس التحركات على الأرض، من عسكرة الجولان ودعم فصائل في جنوب سوريا، إلى إعادة تشكيل المشهد الأمني في غزة، تنفيذاً تدريجياً لهذه الرؤية دون الحاجة إلى حرب شاملة. الأزمات، مثل حرب غزة أو الاضطرابات في السويداء، تصبح فرصاً لتبرير التمدد الإقليمي باعتباره ضرورة للبقاء، ما يمنح شرعية سياسية للمطالب التوسعية التي كانت مثيرة للجدل سابقاً. ومع ضعف الموقف العربي، والاكتفاء بالإدانات اللفظية، تبقى هذه الرؤية في حالة تقدم تدريجي، تتغذى من الفوضى المحيطة وتعيد صياغة خرائط النفوذ في المشرق، حيث يلتقي التوسّع الإسرائيلي، والهشاشة السورية، والضغط على الأردن في مشهد جيوسياسي واحد.
الأزمة ودور الجنوب السوري
منذ اندلاع الأزمة السورية عام 2011، لعب الجنوب السوري دوراً حساساً في الحسابات الإسرائيلية؛ حيث بدأت إسرائيل باتباع سياسة الحدود المرنة، حيث وفرت دعماً محدوداً ومنتقى لفصائل المعارضة السورية في المنطقة، خصوصاً في ريف القنيطرة المحاذي للجولان. هذا الدعم، الذي شمل مساعدات طبية في مستشفيات ميدانية داخل الأراضي المحتلة، وإمدادات غذائية ووقود، وأحياناً معدات اتصالات، لم يكن مجرد خطوة إنسانية، بل جزءاً من استراتيجية أوسع تهدف لخلق حزام أمني غير معلن.
وفق تقارير ميدانية وشهادات من سكان محليين، كانت وحدات من الجيش الإسرائيلي تتعامل مباشرة مع قادة مجموعات مسلحة في القنيطرة، وذلك تحت ذريعة المساعدات الإنسانية. لكن هذه العلاقة تجاوزت الجانب الإغاثي لتشمل تنسيقاً أمنياً محدوداً، ما سمح لإسرائيل برسم صورة دقيقة للوضع الميداني. الجنوب السوري بالنسبة لإسرائيل أكثر من مجرد منطقة حدودية؛ فهي بوابة نحو عمق جنوب سوريا، ومفتاح لتوسيع مجال السيطرة في الجولان بما يتجاوز حدود 1974. ومن منظور أيديولوجية إسرائيل الكبرى، فإن توسيع السيطرة في القنيطرة ودرعا و السويداء يُنظر إليه كخطوة مرحلية نحو إعادة صياغة الحدود، خصوصاً في ظل الانهيار المؤسسي السوري وضعف الرد العربي. وبالفعل، فإن استمرار الفوضى في الجنوب السوري، يمنح إسرائيل الذريعة لتصعيد تدخلها، بداية من المساعدات والدعم الإنساني، وصولاً إلى تحركات أمنية أو عسكرية مبررة بخطر الميليشيات المعادية.
بهذا يتحول الجنوب السوري إلى مسرح اختبار للمعادلة التي تجمع بين العمل الإنساني المعلن والأهداف الأمنية الخفية، وهي المعادلة التي أثبتت إسرائيل نجاحها سابقاً في جنوب لبنان قبل اجتياح 1982. اليوم، ومع تصاعد خطاب التوسع الإقليمي لدى نتنياهو، فإن أي تحرك في الجنوب السوري قد يكون مقدمة لتغيير خرائط السيطرة في المنطقة الشمالية لإسرائيل، بعد أن أبرزت المعارك الأخيرة هشاشة الأطراف الشمالية والشمالية الشرقية، ما دفع إسرائيل إلى إعادة تقييم أهمية جنوب سوريا كمنطقة عمق استراتيجي حيوي؛ لا سيما وأن المواجهات بين القوى المحلية والموالية للإدارة الجديدة قد خلّفت فراغاً سلطوياً يمكن لإسرائيل استغلاله لتعزيز نفوذها بشكل غير مباشر.
وأكدت هذه التجربة أن السيطرة على المناطق الحدودية وتشكيل تركيبة الفاعلين المسلحين فيها يُمثل عنصراً أساسياً في ضمان الأمن الإسرائيلي طويل المدى، وهو مبدأ محوري في رؤية إسرائيل الكبرى. يكتسب الجنوب السوري أهمية خاصة في الحسابات الإسرائيلية باعتباره منطقة عازلة وعمقاً استراتيجياً؛ وقد أدت التطورات الأخيرة منذ تموز/يوليو 2025، إلى خلق فراغ أمني يعيد رسم خريطة النفوذ في المنطقة. بالنسبة لإسرائيل، فإن جنوباً سورياً ممزقاً يوفر فرصة لتعزيز النفوذ أو فرض ترتيبات أمنية، بل وربما استثمار الحزام الدرزي كمنطقة عازلة أو ورقة تفاوض مستقبلية. هذه الحسابات ليست بعيدة عن منطق إسرائيل الكبرى، حيث يُنظر إلى الحدود لا كخطوط ثابتة، بل كجبهات متحركة تُعاد صياغتها ميدانياً وفق مبررات أمنية وأيديولوجية متشابكة.
دور الأردن
في هذا السياق، يبرز دور الأردن كفاعل إنساني واستراتيجي في آن واحد. لكن هذه الممرات، وإن كانت تحمل غطاء إنسانياً، تخلق بالضرورة ممرات نفوذ، ما يجعلها جزءاً من التوازنات الإقليمية الحساسة. في التصوّر الأوسع لـ"إسرائيل الكبرى"، تُدرج بعض الأراضي الأردنية ضمن الخريطة المتخيّلة، وهو ما يمسّ سيادة عمّان ودورها الإقليمي. وكلما تعمّق عدم الاستقرار في جنوب سوريا، ازدادت فرص إسرائيل لطرح ترتيبات أمنية تمسّ المجال الحيوي الأردني، الأمر الذي يحوّل الممر الإنساني من أداة دعم إلى ورقة ضغط محتملة، خصوصاً إذا ارتبط بخطاب أمني أو ذريعة لمكافحة الإرهاب. إلى جانب ذلك، أبرزت الأزمة أهمية القنوات الإنسانية كأداة نفوذ استراتيجية. فالممرات الإنسانية، خصوصاً تلك عبر الأردن، لم تعد مجرد وسيلة لتقديم المساعدات، بل تحولت إلى أدوات فعّالة لتمديد السيطرة الإسرائيلية من خلال دعم الفاعلين بالوكالة في جنوب سوريا. وبهذا الأسلوب، تستطيع إسرائيل توسيع نطاق تأثيرها دون اللجوء إلى ضم رسمي، بما يتماشى مع النهج التدريجي لرؤية إسرائيل الكبرى. أصبحت هذه القنوات الآن بمثابة حاجز أمني ورافعة سياسية في الوقت نفسه، ما يعكس قدرة إسرائيل على ترجمة طموحاتها الإقليمية تحت غطاء إدارة الأزمات الإنسانية، وإضفاء شرعية على وجودها الفعلي في مناطق حساسة.
السياسات التوسعية
كشفت هجمات 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، عن نقاط ضعف استراتيجية في منظومة الأمن الإسرائيلي، لكنها في الوقت ذاته عززت المبررات الأيديولوجية للتوسع الإقليمي، حيث تم تصوير هذه الهجمات داخلياً كدليل على ضرورة السيطرة على أراضٍ أوسع لإقامة مناطق عازلة يمكن الدفاع عنها ضد الفاعلين المعادين. استغل نتنياهو وحلفاؤه هذا السياق لتأكيد أن المناطق الواقعة خارج حدود 1967 — مثل جنوب لبنان، ومحيط غزة، وجنوب سوريا — لا يمكن تركها تحت سيطرة جزئية أو معادية، كما ساهم الشعور بالخطر الوجودي في تطبيع خطاب "إسرائيل الكبرى"، بحيث تُطرح السياسات التوسعية كضرورة للبقاء القومي وليس مجرد طموح أيديولوجي. كما ساهمت حرب غزة في تعزيز الدعم الداخلي لرؤية التوسع، إذ سمحت لنتنياهو بتعبئة الرأي العام حول دولة قوية، آمنة، ومبررة تاريخياً. في الخطاب العام، لم يعد التوسع الإقليمي مجرد أيديولوجيا، بل تحول إلى وسيلة دفاعية براغماتية تربط إسرائيل الكبرى بالحاجة للبقاء في مواجهة التهديدات الملموسة. ووجد الحلفاء المتطرفون، مثل بتسلئيل سموترتش وإيتمار بن غفير، أن الأزمات الأمنية الأخيرة وفرت لهم دليلاً عملياً على صحة برامجهم، ما منح شرعية سياسية لمطالب إقليمية كانت مثيرة للجدل.
على المستوى الدولي، رغم أن المعارك الأخيرة (غزة ولبنان وسوريا) جذبت الانتباه العالمي، إلا أنها عززت أيضاً الحجة الإسرائيلية بأن منطقة بلاد الشام المتقلبة، تتطلب قوة قادرة على إعادة تشكيل الحدود بشكل استباقي. فالثغرات التي أظهرتها حدود إسرائيل شمالاً و جنوباً، أصبحت مبرراً لتبرير التدخل أو النفوذ في الأراضي المتنازع عليها، معززة بذلك الخطوات التدريجية نحو تحقيق خارطة "إسرائيل الكبرى". هذه الرؤية، التي تمثل مزيجاً من الأيديولوجيا والتوسع الاستراتيجي والعمق الأمني، تعكس فهم إسرائيل لطبيعة الصراع في المنطقة عبر استغلال الفراغات، تحويل المساعدات الإنسانية إلى أدوات نفوذ، وتعبئة الداخل السياسي لدعم سياسات توسعية تحت غطاء الدفاع عن الأمن القومي، وهو ما يجعل جنوب سوريا والجولان والمناطق الحدودية الجنوبية، جزءاً لا يتجزأ من مشروع جيوسياسي طويل الأمد يسعى لإعادة رسم خرائط السيطرة في الشرق الأوسط.