الرئيسة \  تقارير  \  هل أسقط انتصار الانتفاضة السورية النظام أم الدولة ومؤسساتها؟

هل أسقط انتصار الانتفاضة السورية النظام أم الدولة ومؤسساتها؟

29.09.2025
طارق علي



هل أسقط انتصار الانتفاضة السورية النظام أم الدولة ومؤسساتها؟
طارق علي
اندبندنت عربية
الاحد 28/9/2025
السؤال المطروح حالياً في سوريا هو هل انتصرت الانتفاضة وسقط النظام؟ أم انتصرت الانتفاضة وسقطت الدولة؟ وبين الاثنين فرق يراه السوريون كبيراً.
مع انتصار الانتفاضة السورية وسقوط النظام السابق أواخر العام الماضي ومرور نحو تسعة أشهر على ذلك الحدث المفصلي في تاريخ سوريا، يتبادر إلى أذهان كثير من السوريين سؤال جماعي على وقع الأحداث التي عصفت بالمرحلة الراهنة ما بعد السقوط بما حملته من مشكلات ومعضلات وارتباكات وانتهاكات عسكرية وأمنية واجتماعية متلاحقة مع فوضى إدارية وتنفيذية في مفاصل البلاد، إضافة إلى تزكية نزعات عرقية وطائفية وصلت حدود المطالبة بالتقسيم أو الانفصال، والسؤال هو هل انتصرت الانتفاضة وسقط النظام؟ أم انتصرت الانتفاضة وسقطت الدولة؟ وبين الاثنين فرق يراه السوريون كبيراً.
دولة جديدة أم دولة أشباح؟
وفي الوقت الذي تتفق فيه آراء أن سقوط النظام شكل نقطة تحول فعلية كبيرة في مصير سوريا عبر إزاحة الأسد وهيمنته الأسرية الطويلة على مقاليد الحكم لعقود طويلة، يرى آخرون أن ذلك السقوط كان مدخلاً مهد لانهيار فكرة الدولة بمفهومها العام، لتحل الفوضى مكان المؤسسات الشرعية القائمة منها أساساً والمحتاجة إلى إعادة صياغة بنيوية في جوانب أخرى، ليسود اعتقاد بين أصحاب هذا الرأي أن انتصار الانتفاضة حمل معه إسقاط نظام شمولي، لكنه عاد لينتج بدوره نظاماً شمولياً آخر مسقطاً معه الأسماء والوجوه والأدوار، مما يعني أن سوريا باتت أمام خيارين: دولة جديدة أو دولة أشباح.
شرارة البداية
وبالنسبة إلى المعارضة الكلاسيكية في سوريا فإن مجرد فكرة سقوط النظام هي البوابة نحو غد آمن لسوريا، بمعزل عن جملة قضايا عالقة تتطلب وقتاً وصبراً ليسا بقليلين لحلها، بخاصة أن الانتفاضة لا تملك عصا سحرية لتقيم دولة آمنة عادلة مثالية في أيام قليلة وحتى في أشهر، بل كانت "المعول الذي هدم به السوريون جدار الخوف نحو حياة سياسية جديدة، من دون الأسد واستخباراته وبطشه وبراميله المتفجرة وأسلحته الكيماوية ومناوراته السياسية الضيقة".
ويجد أصحاب هذا الرأي أنه في أقل تقدير فإن سوريا ستحتاج أعواماً لإصلاح ما خربه نظام الأسدين والحكم البعثي الشمولي بالحال الأعم، ويعولون على ذلك انطلاقاً من حلم التشاركية الجماعية في حكم البلاد وسقف الحريات المرتفع المأمول، مستشهدين بمراحل البناء التاريخية لدول مرت بتجارب سياسية معقدة في أفريقيا كما دول الاتحاد السوفياتي وسنغافورة التي جرى إخراجها قسراً من التحالف الماليزي من دون جيش وغطاء، لتصبح لاحقاً واحدة من القوى التي يعتد بها، بل ولتصبح واحدة من الدول الأربع التي يطلق عليها لقب النمور الآسيوية، وبناء عليه فإن أنصار هذه النظرية يعتقدون بأن انتصار الانتفاضة لم يكن إلا شرارة البداية لاستكمال البناء عليها في مرحلة انتقالية تحفظ البلاد، وإذاً فالانتفاضة وحدها لم تكن محطة البداية والنهاية، بل كانت فاتحة المستقبل المقبل.
تدوير الشمولية
وفي المقابل هناك تيار آخر لا يقل حضوراً أو تأثيراً عن التيار المؤمن تمام الإيمان بانتصار الانتفاضة المطلق، فيرون أن ما حصل لم يكن ثورة بالمفهوم المطلق، والحديث هنا ليس عن أعوام الحرب الطويلة وثوارها، بل عن طريقة إزاحة النظام نفسه في معركة الأيام القليلة، وهي المعركة التي أدارتها دول إقليمية ودولية وأجهزة استخبارات محنكة، لذا فالأمر بالنسبة إليهم "أخذ شكلاً من إعادة إنتاج النظام القديم بشموليته وديكتاتوريته عبر أسماء ووجوه وعناوين جديدة".
والمعتقدون بهذا الرأي يلفتون إلى أن بنية الحكم لا تزال تحتكر القرار وتتفرد به وتعمل بعزم على إقصاء الشعب عن المشاركة بتفاصيل الحكم والقرار، من أدنى سلم الهرم إلى أعلاه، وكذلك استمرار فرض الإتاوات والاستئثار بالسلطة وتوظيف الانقسامات المناطقية والطائفية والعرقية كأدوات للسيطرة، من جيش وأمن واستخبارات من لون طائفي واحد، وحكومة انتقالية تحفظ فيها "هيئة تحرير الشام" لنفسها الحقائب السيادية، وتدير باقي الحقائب الخدماتية عبر توجيهات غير قابلة للنقاش.
ويضيف أهل هذا التيار أن الرئيس الانتقالي نفسه احتفظ لنفسه بمجموعة صلاحيات واسعة ودقيقة يترأسها جميعها، في تناف مع مبدأ فصل السلطات واعتماد الكفاءات، وذلك لأن الرئيس هو بالطبع رئيس الجمهورية، وإضافة إلى ذلك فهو رئيس مجلس القضاء الأعلى ورئيس لجنة الانتخابات البرلمانية، يعين ثلث أعضاء مجلس الشعب بصورة مباشرة ورئيس الظل للحكومة وقائد الجيش ورئيس مكتب البحث العلمي ورئيس مجلس الأمن القومي ومواقع مسؤولية أخرى بالتأكيد.
دولة الشيوخ
المحامي منيب الطويل يؤكد أن مبدأ احتكار السلطات يندرج تحت الشمولية السياسية والسيادية والإقصائية للكفاءات، "وكأن الحكم الجديد لا يمكنه ولا يريد أن يثق بأحد آخر، حتى أنه لا يثق ببعضهم ممن هم معه في الخندق ذاته أساساً"، مضيفاً أن "انتصار الانتفاضة لا يعني بالضرورة إسقاط النهج القائم قبلها، وهذا يعتمد على الممارسات التي تلت الأمر والأحداث التي مرت بها سوريا لا توحي بأن تغيراً جذرياً حصل في المعادلة الداخلية ولا الخارجية، ومجازر الساحل مع مجازر السويداء شاهدة، وكما أن مقتل 10 آلاف مواطن خلال ثمانية أشهر بعد الانتفاضة ليس رقماً يمكن المرور عليه ببساطة، وهو الرقم الذي لم يسجل في أعوام الصراع الأخيرة ما قبل الانتصار".
ويتابع، "لا شك في أن انتصار الانتفاضة أمر مرحب ولكن الآمال كانت أكبر بكثير مما حصل تالياً، إذ إن الوضع في بعض المناحي بات يبدو أكثر خطراً، وبات معه كما نرى يخشى من إعادة تدوير الديكتاتورية بلباس شرعي مبارك دولياً، فاليوم يعاد احتكار السلطة والسلاح وعسكرة الحياة والمشهد، وسط أزمات معيشية هائلة وغياب حقيقي للمؤسسات الخدماتية والدستورية والقانونية، حتى بات يقال إن سوريا صارت دولة شيوخ تتحكم بمفاصل القرار".
سوريا بين تيارين متصارعين
وفي ظل انقسام الآراء الحاد حول الأمر، برز تياران الأول محافظ والآخر مدني، المدني في الغالب مدعوم من الفئة الشبابية والطلابية والمكونات الأقلوية والنخبوية، وهدفهم إقامة دولة حديثة وعصرية تستند إلى حقوق المواطنة الكاملة والتساوي أمام القانون وفصل الدين عن الدولة، أما التيار المحافظ الذي تمثله قوى التحرير والجماعات التقليدية والدينية والعشائرية فهو يطالب بالنقيض إلى حد بعيد عبر اعتماد قيم الثقافة الاجتماعية والدينية في صياغة شكل الدولة وهويتها الثقافية والمذهبية، وفق منطق حقوق الأقلية والأكثرية.
وهذا الانقسام لم يعد مجرد اختلاف في الرؤى وطريقة التفكير، بل امتد إلى جوانب قد تبدو بسيطة في الحياة اليومية، لكنها تبدو فعالة في مشروع التيار المحافظ، مثل فرض تعديل المناهج الدراسية ومصادرة دور السينما ومحاولة فرض إزالة أسماء أدباء كبار عن المدارس التعليمية، كمدارس كانت تحمل أسماء سعدالله ونوس ونزار قباني وغيرهم لاستبدالهم بأسماء الصحابة، وهي محاولات نجحت في مكان وفشلت في أماكن أخرى بفعل تداخلات ومداولات بين وزارتي التعليم والثقافة.
البحث عن الأصالة
ويرى الشيخ عبدالمعطي وقاف من مدينة حماه (وسط سوريا) أن إقامة دولة ما بعد الانتفاضة يجب أن تقوم على الأصالة التي ضحت بها الأنظمة السابقة، وفي معرض حديثه يقول "يجب أن يسترد الدين كرامته بمنظوره العقائدي والاجتماعي والتربوي لإنتاج جيل جديد واع وقادر على حماية بلده، بعيداً من هرطقات العلمانية التي ستحمل خراباً لأولادنا حتى أجيال طويلة وكثيرة، فالتقاليد هي التي يمكنها حفظ مسار الانتفاضة وإعادة سوريا لخطها الملتزم والمثالي بعيداً من مشاريع الصراع الفتنوي الذي يسعى بعضهم إلى إحداثه عبر أفكار غربية لا تشبه مجتمعنا، وبالتالي يحاولون جرنا إلى مشاريع متناقضة لا تحمل رؤية أيدولوجية يمكنها إنقاذ البلد، وتطبيق الشريعة ضروري بعد أعوام من الضياع والاضمحلال الفكري والتشوه الذي أصاب الناشئة من أولادنا".
الدور الدولي البارز
وتحدث الرئيس الشرع خلال مقابلة أخيراً عن المفاوضات التي جرت مع الروس خلال معارك "ردع العدوان" والتي أفضت إلى تفاهمات أسقطت النظام، ولذا لم تكن روسيا بعيدة من المشهد خلال الأعوام الـ 10 الماضية بأية صورة، بل إنها لعبت دوراً محورياً في بقاء الأسد، كما لعبت دوراً محورياً في إقصائه ضمن حسابات دولية معقدة.
الأستاذ في العلوم السياسية ثائر جنان قال إن "روسيا وجدت مرونة كبيرة في التعامل مع التنظيمات التي وصلت إلى الحكم، أو التي أسهمت في وصولها عملياً، من دون أن تتخلى عن ورقة الساحل، وهي ورقة تفاوضية جيوسياسية كبيرة في يدها، وفي المقابل تنوع الدعم الغربي بين التيارات المحافظة والليبرالية في سوريا، بحسب توزع المصالح والرؤى، وكان ذلك واضحاً من الضغوط التي مورست على أطياف الشعب في أكثر من مكان، وكان التشديد الغربي واضحاً أكثر حيال طبيعة وشكل علاقة السلطة مع الأقليات ومكافحة الإرهاب واستبعاد المقاتلين الأجانب، في حين حاولت تركيا استمالة طرفي الرأي على رغم وضوح موقفها السياسي، ولكنها السياسة التركية المحكومة أساساً بالتوازنات داخل دولتها، على رغم ميولها السياسي الأوسع نحو المحافظين لإتمام مشروعها عبر الجيش الوطني في الشمال السوري، بخاصة في ظل المعلومات الأخيرة التي تتحدث عن موافقتها دمج فصائل الجيش الوطني التي تنشط في الشمال تحت مظلة وزارة الدفاع، مع احتفاظها بتبعية هذه الفصائل لها لضمان النفوذ شمال سوريا، وفي مواجهة الأكراد شمالاً وشرقاً".
ويكمل "أما إسرائيل فقد نفذت 500 غارة خلال 48 ساعة بعد سقوط النظام السوري لم تبق فيها أية معدات عسكرية تذكر للجيش الجديد، وهي مستمرة حتى الآن بسياسة القصف، وهي محاولة لإبقاء سوريا ضعيفة ومجزأة ويطالب أبناؤها بالتقسيم، وقد اتضح ذلك جلياً من خلال تدخلها في معارك السويداء، وخلاصة كل ما يحصل هو تعميق لانقسام قائم لتتحول سوريا إلى رقعة شطرنج دولية لم يكن دونها من الممكن أن يكون انتصار".
داخل المجتمع
الانقسام الفكري والعقائدي طاول الحياة اليومية للمواطنين في أعمالهم، ومرة جديدة باتت مشكلة المناهج الدراسية كارثية في أسلوب تعميمها، فتارة تزاد حصص مواد الديانة الأسبوعية، وتارة يجري التقليل منها، فينتفض المحافظون فيما يطلب المدنيون زيادة ساعات دراسة أكثر تتعلق بالمواطنة والعيش المشترك والمواد الوجدانية.
وفي الشأن الاقتصادي والتجاري يرى اقتصاديون أن المحسوبيات لا تزال مستمرة، مما يعيد إنتاج مشكلات سابقة بعيداً من استغلال الكفاءات لمصلحة المحسوبيات والولاءات، وهو ما يعبر عنه التاجر الشامي عبد المؤمن شهبندر بقوله إن "السوق الحرة واستعمال الكفاءات هو سبيل الإنقاذ، وهنا علينا أن نتوقف عند نقطة مهمة تتعلق بسردية أن السلطة تسلّمت البلاد من الصفر أو ما تحت الصفر، وأقول قولي هذا لئلا تصير هذه المقولات حقيقة مع مضي الأعوام، فالنظام السابق سيئ نعم، ومجرم نعم، ومؤذ نعم، وسرق قوت أطفالنا نعم، وأودعنا السجون سياسياً وجمركياً واقتصادياً نعم، ولكن ثمة ما يجب أن يقال أنه في فترة الحرب كلها لم تتوقف مؤسسة خدماتية واحدة عن العمل في أحلك ظروف الحرب لم تنقطع الرواتب، اليوم أو لربما حتى الأمس القريب، معظم المؤسسات الخدماتية معطلة، فلا رواتب في قطاعات كثيرة ولا شهادات ميلاد ولا شهادات وفاة ولا نقل ملكية عقارية أو تسجيل سيارة، والقضاء حدّث ولا حرج، وكل ذلك لماذا؟ لأن السلطة أقصت عشرات آلاف الموظفين وعزلت معظم المديرين، ولم تدرك أن تجربة حكم إدلب لا تشبه حكم سوريا".
ويمضي في حديثه أن "التجار استوردوا خلال الأشهر الأولى لسقوط النظام سيارات بقيمة 3 مليار دولار، وهذا المبلغ ضخم لدرجة كان يمكن توظيفه في أي شأن يسهم في بناء سوريا، ثم الآن كل بضعة أيام تكون هناك حملات تبرع في المدن والأرياف تصل إلى عشرات ملايين الدولارات، وكل هذا لأن الدولة سقطت فعلياً فيما استمر نهج النظام".
البحث عن المستقبل
وبحسب ناشطين حقوقيين فإن سوريا اليوم أمام خيارين رئيسين: إما إعادة إنتاج أنظمة سابقة لم ير السوريون معها خيراً، أو ولادة مشروع وطني جامع يعزز الأواصر ويتجاوز المحن والانقسامات والتقلبات، ويدرك جيداً أن السوريين ليسوا وحدهم في قلب اللعبة، ومن هنا يرى باحثون أن على السوريين إيجاد منقذ لهم قبل أن يغرقوا تماماً في التبعية العمياء، وينتشلوا أنفسهم من مرحلة التشتت السياسي التي يمكنها القضاء على بلد بأكمله، بل وبكل مكوناته التي لا تزال تتصارع وتتحدى بعضها وتصدر بيانات مسمومة بالتهديد والوعيد، وبذلك تكون الانتفاضة التي راح ضحيتها مئات الآلاف قد سرقت من بين أيديهم في غفلة، مغيرين معها الأشخاص لا الذهنية التي تحتكر أنفاس المواطنين وتحصيها عليهم، مع الأخذ بعين الاعتبار أن المجتمع تغير فعلاً، مما يعني أن قليلاً من العمل من شأنه أن يمنح فرصاً في التساوي للسوريين أمام واجباتهم وحقوقهم التي لا تتخلى عن التقاليد، ولا تفرض العيش في عزلة في آن، وليحصل ذلك فيجب على السوريين المسارعة في إنتاج عقدهم الاجتماعي الذي يوازن بين الاستقرار والحريات، لضمان عدم الخوض في أعوام عجاف أخرى من إعادة إنتاج أنظمة حكم ترى بعين واحدة.