الرئيسة \  تقارير  \  هذا الاستطلاع السوري

هذا الاستطلاع السوري

02.09.2025
معن البياري



هذا الاستطلاع السوري
معن البياري
العربي الجديد 1/9/2025
الحدثُ نوعيّ، لا مبالغة ولا مداهنة، إشهار المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، أمس في دمشق، نتائج أولية لاستطلاع آراء السوريين في شؤونهم الراهنة (الراهنة جدّاً)، أنجزَه بالتعاون مع المركز العربي لدراسات سورية المعاصرة. لأسبابٍ وفيرة، في مقدّمتها أنه يحرّر كثيرين من داء الاستغراق في ملاعب السوشيال ميديا، ومداولات السوريين فيها عن أمور بلدهم، في اصطفافاتٍ وانفعالاتٍ ومكايدات، يشوّش غالبُها الأذهان، ويوتّر بعضُها الأعصاب... نحن هنا أمام مجهودٍ علميّ، بالغ الاحترافية، يتوفر على مستوىً عالٍ من الصدقية، فهو مسحٌ ميدانيٌّ، غير مسبوق، لآراء السوريين فيما هم عليه من أحوالٍ وأسئلةٍ وآفاقٍ وانتظارات (98% مستوى الثقة بالعيّنة). وسبب آخر لوجاهة القول، هنا، بالاستثنائيّة النوعية للحدث المعرفي الرفيع، إنه يُخبرنا بما صار من شديد الإلحاح أن نعرفه، نحن المنشغلين بالموضوعة السورية، وبالمنزلة نفسها من الإلحاح أن يعرفَه أهل الحكم والقرار في دمشق.
أول الملحوظ أن ثمّة رضىً، عالياً بعض الشيء، من السوريين، على الأداء العام للسلطة، وأن ثمّة تفاؤلاً واسعاً، على الرغم من حدّة الأوضاع الاقتصادية والمعيشية التي يفصّل فيها "المؤشّر". ثانياً، أنهم أقليةٌ من يريدون دولةً دينية، فيما أقلّ من النصف قليلاً يريدونها مدنية، بينما الأمر عند نسبةٌ وازنة (22%) سيّان، فيما لا إجابة لدى 8%. والمعطيات الثلاثة هذه، بالنسب المفصّلة (والتفصيليّة) يفيد النظر فيها كثيراً، والتفسير الأقرب إلى الوجاهة هنا أن الرضى، المتحدّث عنه (وأسبابه مشروحة) عن مسارٍ يراه 54% في الاتجاه الصحيح، وعن أداء سلطةٍ ذات مرجعيةٍ سلفيةٍ معلومةٍ لا يعني أن السوريين يتطلّعون إلى سمْتٍ ديني ظاهر لأي سلطة مقبلة. وفي وسعنا القول أي سلطةٍ منتخبة، ما دام أن النسبة الأكبر (61%) من السوريين يروْن الأفضل لبلدهم نظاماً ديمقراطيّاً يضمن التعدّدية السياسية ومحاسبة المسؤولين، و8% فقط مع نظام محكوم بالشريعة الإسلامية من دون وجود أحزابٍ وبلا انتخابات. يضاعف من أهمية هذا المعطى أن الذين يؤيدون وجود تيار وطني سوري (بدون أيديولوجيا) يتقدّمون بفارقٍ مهمٍّ على الذين يؤيدون تياراً إسلامياً، وإنْ يتقدّم هذا على التيارات القومية العروبية والعلمانية والليبرالية.
أما وأن 34% يعتقدون أن خطاب الطائفية منتشرٌ في سورية، وهم النسبة الأكثر ممن يروْن انتشاراً للتمييز بين الناس على أساس مذاهبهم ودياناتهم، ثم انتشاراً للتمييز بين الناس على أساس محافظاتهم، ثم انتشاراً للتمييز بين أبناء الريف وأبناء المدن، فهذا يعني أن له وافرُ الصحّة ما نتداول فيه، نحن كتّاب الرأي وأهل الإعلام، والمشاركون في النقاش العام، عن منسوبٍ مرتفعٍ للخطاب الطائفي في البلد، ربما زاد عمّا كان عليه قبل أحداث مارس/ آذار الماضي في الساحل، وقبل أحداث يوليو/ تموز في السويداء. ما يقضي بأن تصير من أول الأولويات أمام السلطة الانتقالية القائمة، ومعها وقبلها وبعدها، النخبة السورية العريضة، صياغة تعاقدٍ اجتماعيٍّ، يقوم على خياراتٍ عمليةٍ اجتماعيةٍ معاينة، تُنقذ سورية من شقاقٍ طائفيٍّ لا ينفكّ يتسع، وإن تعلو الإنشائياتُ إياها في منصّات الرسميات. وهذه هي المرّة الأولى التي تتوفّر فيها معطياتٌ معرفيةٌ مدقّقة، بالنسب المدقّقة، في هذا الموضوع، يُيسّرها "المؤشّر" الذي تأتي هذه السطور (بإيجاز مخلٍّ حقيقة) على نتفٍ منه، ويلزم أن توضع على طاولة أهل الحكم، لما في هذا من إفادةٍ مؤكّدةٍ في استكشاف معالجاتٍ ممكنةٍ في هذا الملف العويص. سيّما أن "المؤشّر" نفسه يُخبرنا بأن 42% من السوريين يعتقدون أن الناس صاروا يعرّفون أنفسهم وغيرهم على أساسٍ مذهبيٍّ ودينيٍّ أكثر مما كانوا عليه منذ أكثر من عام. أمّا إذا قيل إن الشناعات الأسدية، في عهدي الأب والابن، من أسباب هذا الحال، فإن شناعاتٍ عوينت في شهور الحكم الانتقالي التسعة الماضية سببٌ كبير أيضاً.
تتنوّع القضايا التي انشغل فيها "المؤشر"، غير المسبوق في منهجيّته وشموله (في عموم سورية)، وفي راهنيّته (25 يوليو/ تموز – 17 أغسطس/ آب)، ولا تحتمل العجالة هذه إحاطةً بها. ولكن ما تُختَتم به هذه السطور أن من شديد اللزوم أن يُطالَع هذا المنجز جيّداً، وأن تُطرح معطياتُه ونواتجه، وكذا التطلّعات التي ينشدها السوريون، أمام أهل الدرس والبحث، وقبلهم أمام أهل القرار، المطالبين بتحسّس آراء الناس في شؤونهم دورياً،... ومن دون مسبقاتٍ وفرضياتٍ، بداهةً.