الرئيسة \  تقارير  \  نحو إعادة تعريف لسوريا

نحو إعادة تعريف لسوريا

23.08.2025
بكر صدقي



نحو إعادة تعريف لسوريا
بكر صدقي
القدس العربي
الخميس 21/8/2025
قرابة تسعة أشهر انقضت على نهاية الحقبة الأسدية في تاريخ سوريا الحديث، وهي ما زالت أبعد ما تكون عن الاستقرار. وكأن اقتلاع النظام البائد قد أدى إلى ارتجاج عنيف لا يراد له أن يتلاشى. بل العكس هو ما حدث ويحدث: اشتعلت أحداث عنف جديدة في مناطق كانت هادئة إلى حد كبير في السنوات القليلة الأخيرة من حكم نظام الأسد، أبرزها مجازر الساحل والسويداء، من غير أن ننسى انتهاكات متفرقة في مناطق عديدة، بعضها على أساس طائفي، وأخرى محض إجرامية. أضف إلى ذلك الاختراقات الإسرائيلية التي بدأت، منذ لحظة فرار بشار الأسد وانهيار نظامه، بتدمير ما بقي من إمكانيات عسكرية، واجتياح للمنطقة الحدودية العازلة مع إعلان انتهاء العمل باتفاق وقف الاشتباك للعام 1974، وصولاً إلى قصف مبنى قيادة الأركان والقصر الجمهوري في دمشق.
مفهوم أن لا تعود سوريا إلى وضع “طبيعي” خلال بضعة أشهر، فالدمار الهائل في العمران والاجتماع والاقتصاد سيحتاج ربما إلى سنوات من العمل. ولكن الشرط الشارط لاستعادة الاستقرار هو البدء بخطوات جدية في اتجاهه، من المفترض أن تقوم السلطة الانتقالية بوضع خطة قابلة للتطبيق وتبدأ بتنفيذها، ولكي يشارك السوريون في ذلك على الخطة أن تحظى بقبول عام.
الواقع أن السلطة التي ملأت فراغ ما بعد نظام الأسد لم تعلن أي خطة، ولا أي تصور معلن لسوريا المستقبل باستثناء “نموذج سنغافورة” الذي تحدث عنه وزير الخارجية أسعد الشيباني في مؤتمر دافوس. لقد تجنب الناطقون باسم السلطة، الشرع والشيباني، لفظ كلمة الديمقراطية كما تجنبوا لفظ “الدولة الإسلامية” تاركين رسم ملامح “سوريا الجديدة” لإعلامييهم الذين ركزوا على الهوية الأموية، في مغازلة لمظلومية سنية نابذة للتنوع الاجتماعي في سوريا.
مفهوم أن لا تعود سوريا إلى وضع “طبيعي” خلال بضعة أشهر، فالدمار الهائل في العمران والاجتماع والاقتصاد سيحتاج ربما إلى سنوات من العمل
فإذا أضفنا تمسك هذا الإعلام بوصف السلطة الانتقالية بكلمة “الدولة” في استعادة لخطاب إعلام نظام الأسد وبيئاته الاجتماعية الموالية، حق لنا الاستنتاج بأن السلطة ومؤيديها ليس في أفقهم أي تصور لسوريا الجديدة يختلف عن سوريا القديمة في نموذجها الأسدي تحديداً: دولة شديدة المركزية، تحتكر فيها السلطة كل المجال السياسي، وهذه تتكون من عدد محدود من الأفراد بقيادة شخص واحد هو الرئيس الذي لا يساءل على ما يتخذه من قرارات، وحيث إعلام أحادي يبرر السياسات ويهندس الوعي العام… أي باختصار نظام شمولي لا يعترف بالتنوع السياسي والاجتماعي والثقافي. تتماثل في هذا النموذج السلطة مع الدولة مع الشعب (هذه هي الشعبوية) ويتم نبذ كل اختلاف وتجريم النقد والانشقاق. هذه بالطبع ليست مواصفات سلطة انتقالية من المفترض أن تقوم بإدارة رشيدة لمرحلة انتقالية تنتهي بانتخابات تنتج سلطة شرعية تمثل مصالح وتطلعات الناخبين.
ربما ينطلق مؤيدو السلطة الانتقالية من فرضية أن السنّة يشكلون أكثرية عددية من شأنها أن تنتج السلطة الانتقالية القائمة نفسها حين تقرر هذه إجراء انتخابات حرة ونزيهة بعد خمس سنوات كما ارتأى الإعلان الدستوري الذي لم يجر نقاش عام حوله. هذه فرضية غير مؤكدة، فمن قال إن السنة يشكلون كتلة سياسية واحدة متماسكة؟ حتى التيار الإسلامي نفسه متنوع وقد لا يتوحد في خياراته السياسية. وما دامت السلطة الانتقالية رافضة للتشاركية يمكننا أن نتوقع سلوكاً سياسياً معارضاً من المكونات الوطنية من غير العرب السنة. السلطة النابذة تنتج معارضتها تلقائياً فتفقد الصفة العمومية التي يفترضها مفهوم الدولة.
المفارقة أن الممسكين بالسلطة في دمشق يظهرون من التعقل (ليس دائماً) ما لا تظهره الأصوات الموالية لهم. فهذه الأخيرة منغمسة في التجييش ضد كل من يعترض على السلطة الانتقالية، وبعد العلويين والدروز جاء الدور الآن على “قسد”. ففي الوقت الذي يتحدث فيه الشرع، في اجتماع حضره في مدينة إدلب، عن التوافق السياسي مع قسد وعن نبذ الاقتتال في العلاقة معه، تمتلئ صفحات التواصل الاجتماعي بالاستعدادات للحرب القادمة! هذا لا يعني أن السلطة الانتقالية غير راضية عن مسلك مؤيديها، بل يعني أنها لا تريد تحمّل مسؤولية العواقب. فهي تقدم الوعود لمحاوريها من الدول المحتضنة، ولا تستطيع التنصل منها، في حين يمكن لـ”قوى اجتماعية خارج سيطرتها” أن تشكل ضغطاً على قسد قد يرغمها على الخضوع كما تأمل السلطة. هذا ليس استبطاناً مغالياً لنوايا السلطة، فقد رأينا كيف أنها حمّلت عشائر البدو مسؤولية الفظاعات التي تم ارتكابها في السويداء، في الوقت الذي تتحمل هي المسؤولية عن 1600 قتيل من الدروز والبدو وقوات الأمن العام جميعاً نتيجة لقرار خاطئ باقتحام السويداء.
يستحق السوريون، بعد 14 عاماً من الثورة والحرب والخراب العام الذي أنتجه نظام الأسد بسبب تمسكه بالسلطة، أن يعيدوا تعريف سوريا من خلال نموذج للدولة يتوافقون عليه بعيداً عن العنف والقسر، دولة تمثل تنوعهم السياسي والثقافي والديني والمذهبي، تحترمهم وتخدمهم، تتمتع بمناعة ضد تسلط أي مجموعة تريد تحويلها إلى مزرعة تخصها حتى لو وصلت إلى السلطة بانتخابات. فهتلر نفسه صعد بأصوات الناخبين، وأطلق حرباً أدت إلى تدمير ألمانيا نفسها إضافة إلى البلدان التي قام باحتلالها.