الرئيسة \  تقارير  \  مناقشة لسياسات اقتصادية تطبيقية ممكنة في سوريا

مناقشة لسياسات اقتصادية تطبيقية ممكنة في سوريا

22.02.2025
د. عبد المنعم حلبي



مناقشة لسياسات اقتصادية تطبيقية ممكنة في سوريا
د. عبد المنعم حلبي
العربي الجديد
الخميس 20/2/2025
بدأت في سوريا بوادر تنافس اقتصادي مترافق مع معضلة اقتصادية واجتماعية ضمن الأولويات، حيث بدأت السوق السورية تشهد بالفعل تنافساً غير متكافئ بين العديد من المنتجات المستوردة ونظيرتها الوطنية الزراعية والصناعية، وأخذت تشيع أسئلة ومناقشات قد تشتد مستقبلاً حول ما يمكن عمله لضمان تحقيق التوازن الضروري بين مصالح المجتمع في الوصول إلى السلع والخدمات ذات الجودة والسعر المناسب، في إطار السماح للمنتجين الوطنيين بإعادة بناء قدراتهم الإنتاجية وتلقي الدعم اللازم لزيادتها، ومواجهة البطالة الهيكلية بخلق فرص العمل بصورة مُطَّردة، والعودة للنمو الاقتصادي. ويزداد مستوى التعقيد إذا أدخلنا إلى المشهد تأثير العلاقات السياسية مع الخارج، والمصالح المتعارضة لكثير من الأطراف الدولية والإقليمية التي تريد ربط سوريا بها اقتصادياً كضمانة لعلاقات سياسية واستراتيجية طويلة الأمد.
في خِضم هذه الأجواء تعيش سوريا حالة اقتصادية ذات احتياجات هائلة، بين بنى تحتية متهشمة وبنى فوقية تنظيمية وتشريعية متداخلة، زاد من الإرباك فيها عناوين اقتصادية كبيرة وأفكار مسبقة وغير واضحة عن الاستراتيجية الاقتصادية المناسبة لاقتصاد سوريا المستقبل، وذلك كله في ظل علاقات اقتصادية مشوهة ومتغيرة، ففي الداخل انهارت مصالح ونفوذ نخبة احتكارية فاسدة، ويتم بناء توازنات جديدة لأطراف متعددة في مختلف القطاعات الاقتصادية الصناعية والزراعية والخدمية. أما مع الخارج، فما تزال العقوبات تشكل عوائق حقيقية أمام النوايا المعلنة عن الدعم والمساندة المالية والاستثمار، كما يمكن ملاحظة وجود دولة أو أكثر ربما ترى في سوريا ميداناً رخواً لتحقيق مصالحها كأولوية بغض النظر عن منعكساتها داخل البلاد المتعبة.
في خِضم هذه الأجواء تعيش سوريا حالة اقتصادية ذات احتياجات هائلة، بين بنى تحتية متهشمة وبنى فوقية تنظيمية وتشريعية متداخلة، زاد من الإرباك فيها عناوين اقتصادية كبيرة وأفكار مسبقة وغير واضحة عن الاستراتيجية الاقتصادية المناسبة لاقتصاد سوريا المستقبل.
وأمام هذه الصورة المعقدة، ووجود صعوبات كبيرة تعيق إمكانية وضع استراتيجية اقتصادية واضحة المعالم، أو تطبيق نموذجٍ اقتصادي محدد مستورد من تجارب خارجية، يصبح من الضروري التفكير في انتهاج سياسات اقتصادية عملية معينة يمكن وصفها بالتجريبية، تُمكننا من التحرك نحو حلحلة وتفكيك جزئيات هذا الصراع المحتمل، وبما يُمكننا لاحقاً من رسم استراتيجية اقتصادية طويلة الأمد تعتمد على تشاركية حقيقية ومثبتة، تعود بالنفع الاقتصادي والاجتماعي للمجتمع، والأطراف المختلفة ضمن توازنات عادلة للمصالح فيما بينها، وتكون فيه الدولة أكثر قدرةً وفعاليةً على مستوى تقديم الخدمات العامة، كراعية وضابطة لخلق بيئة تشريعية وتنظيمية مُحفزة للتنافسية وتمنع الاحتكار وقادرة على إعادة توزيع الداخل، وتحقيق العدالة بكل عناوينها: الانتقالية والاقتصادية والاجتماعية، وترسيخ السلام وفرض سيادة القانون، باتجاه تحقيق التنمية الشاملة.
إن التنوع الاقتصادي القطاعي الفريد لسوريا والذي بلغ ذروته في العام 2010، من حيث الإنتاج عبر استغلال الموارد الطبيعية، ولاسيما النفط والإسمنت، والثروة الحيوانية والإمكانات الزراعية الاستراتيجية كالحبوب والقطن والزيتون والتبغ، والتي تشكل قاعدة لصناعات تحويلية أساسية في البلاد، ولا سيما المشتقات النفطية، والمنتجات الغذائية بأنواعها المختلفة من الطحين والزيت والسمن والسكر وغيرها، إلى النسيجية من الألبسة والسجاد بمختلف مستوياتها من حيث الجودة والتكلفة، وصولاً لصناعات التعدين والكابلات وبعض الصناعات المرتبطة والتجهيزات المنزلية، إضافة إلى الإلكترونية، وعشرات من المهن والحرف الوطنية التي تعتمد على الخشب والمعادن المختلفة وغيرها، إضافة إلى القدرات والتنوع الكبير في القطاع السياحي. كل ذلك من شأنه أن يشكل قاعدة أساسية للانطلاق في تلك السياسات الاقتصادية التطبيقية التي سيتم اقتراحها في هذه المقالة، وإن بما يسمح به المقام، وذلك في الاختيار بين سياسيتين اقتصاديتين معروفتين في الدول الخارجة من النزاعات، والتي تبحث عن طريق لها لتحقيق النمو الاقتصادي وإطلاق عجلة الإنتاج: الأولى سياسة النمو عبر إحلال الواردات، والثانية سياسة النمو عبر التصدير.
في البداية لا بد من إجراء فصل مهم للغاية بين السلع والخدمات الأساسية والثانوية، وتلك التي يمكن اعتبارها ضمن شريحة الرفاهية. ومن البدهي أن يتم الانطلاق في العمل على تأمين احتياجات السوق المحلية من السلع التي تتمتع بمزايا مطلقة ضمن السوق المحلية، ولا سيما الزراعية، فإذا ما كانت المنتجات المحلية قادرة على الوفاء باحتياجات السوق الكمية وبجودة مقبولة، حينها يمكن العمل ضمن خطة مرحلية على تقليص أي استيراد خارجي بما يتزامن ويتناسب مع ما تحققه المنتجات المحلية من تطور كمي، في إطار استراتيجية واضحة لتحقيق الأمن الغذائي، وتأمين ما يلزم منها كمدخلات للصناعات التحويلية الوطنية لمنتجات أسياسية، ولا سيما الصناعات الغذائية والنسيجية، مع مزايا ضريبية لفترة زمنية معينة بحسب دراسة واقع كل صناعة. بينما يجب أن يكون استيراد الاحتياجات السورية من هذه السلع ضمن مستويات الجودة العالية، حتى وإن امتلكت شيئاً من المنافسة السعرية أمام المنتج المحلي، وذلك لتحفيز المنتجين المحليين على رفع مستويات جودة منتجاتهم باعتبارها تحمل مزايا مطلقة في التكاليف الإنتاجية. وفي مرحلة لاحقة، لابد من دعم تصدير هذه السلع والمنتجات في إطار سلاسل التكاليف اللوجستية، وتقديم القروض الميسرة للمنتجين والتعامل معها كأحد الأساسية للعملة الأجنبية وتعديل الميزان التجاري والمساهمة المهمة في النمو الاقتصادي.
من شأن تطبيق سياسات تحفيز النمو بإحلال المنتج المحلي محل الواردات أن ينعكس بصورة كبيرة على واقع الخزينة العامة باتجاهين، توفير الاحتياطيات الأجنبية، وزيادة الرسوم والضرائب الواردة إلى الموازنة العامة باطراد مع زيادة الإنتاج ومعدل النمو، وبالتالي زيادة قدرة الدولة على تأدية الخدمات العامة.
أما بالنسبة للسلع الثانوية التي تمتلك فيها سوريا مزايا نسبية، بمعنى وجود إمكانية للمفاضلة بين الجودة والتكاليف الإنتاجية بين السلع والخدمات الوطنية والأجنبية، فإن العمل على استيراد هذه السلع من الخارج يجب أن يخضع لاعتبارات الجودة وحدها، ومن دون منحها فرصة بارزة في المنافسة السعرية، بمعنى فرض ضرائب ورسوم على الأجنبية منها، وتقديم إعانة للوطنية إن دعت الضرورة، وذلك لإعطاء المجال أمام السلع الوطنية لزيادة حصتها السوقية المحلية مستقبلاً، ولا سيما إذا ما تطورت مستويات جودتها. وفيما عدا ذلك، فإن المفاضلة ستكون مفتوحة بين جدوى الاستيراد وفرص التصدير بين جميع أنواع السلع الأخرى على أساس الوفاء باحتياجات السوق المحلية وتخفيض العجز في الميزان التجاري وتوفير النقد الأجنبي أيضاً.
إن نجاح تلك التطبيقات يتطلب القيام بالبحوث والاستبيانات اللازمة للخروج باستنتاجات مهمة تفي بواجبات حماية حقوق المستهلكين من جانبي الجودة والتسعير، وكذلك بالطبع بما يحفظ للمنتجين الحوافز اللازمة لزيادة كميات الإنتاج والجودة. إلى جانب العمل على وضع سياسة مالية متناسبة لتحقيق الغايات منها، فيما يتعلق بالرسوم والتعرفة الجمركية، وتقديم الإعانات الحكومية، وبالتأكيد السياسات الضريبية ككل، على الأفراد والمؤسسات. وعلى المدى القصير والمتوسط، يجب إيلاء الاهتمام الكبير بزيادة الوعي الاقتصادي الجمعي لصالح الليرة السورية، والعمل على مواجهة التضخم ومراقبة أسعار السلع والخدمات، في إطار استقلالية مصرف سوريا المركزي في استخدام أدواته لتطبيق سياسة نقدية تمثل مصالح الدولة والمجتمع، بعيداً عن السيطرة الحكومية المباشرة.
إن من شأن تطبيق سياسات تحفيز النمو بإحلال المنتج المحلي محل الواردات أن ينعكس بصورة كبيرة على واقع الخزينة العامة باتجاهين، توفير الاحتياطيات الأجنبية، وزيادة الرسوم والضرائب الواردة إلى الموازنة العامة باطراد مع زيادة الإنتاج ومعدل النمو، وبالتالي زيادة قدرة الدولة على تأدية الخدمات العامة. كما أن تقديم الدعم اللازم للتصدير وفق المحددات المذكورة سيعطي الحكومة السورية فرصاً أفضل لتخفيض حالة العجز في الميزان التجاري، والذي من المتوقع أن يكون مديداً، وبالتالي تخفيف الضغوط الخارجية على الليرة السورية، وإعطاء فرصة لفعالية أفضل للسياسة النقدية في تأمين استقرار نسبي في قيمتها الحقيقية، والتي يُتوقع عودتها للانخفاض في ظل الأوضاع الطبيعية بسبب الاحتياجات الكبيرة للاقتصاد السوري للاستيراد في المرحلة القادمة.