الرئيسة \  تقارير  \  من الواقع السوري : ما المرتكزات الملحة لاستراتيجية وطنية لإعادة الإعمار والتنمية؟

من الواقع السوري : ما المرتكزات الملحة لاستراتيجية وطنية لإعادة الإعمار والتنمية؟

06.01.2025
د. عبد المنعم حلبي



من الواقع السوري : ما المرتكزات الملحة لاستراتيجية وطنية لإعادة الإعمار والتنمية؟
د. عبد المنعم حلبي
سوريا تي في
الاحد 5/1/2025
تعرض شعبنا السوري عبر اثنتي عشرة سنة من الحرب التي شنها عليه نظام الأسد البائد لأضرار جسيمة، تمثلت بشكل مباشر بقتل مئات الآلاف وتشريد نصف هذا الشعب داخل وخارج البلاد، إلى جانب عشرات الآلاف من الذين ما زالوا متضررين جسدياً ونفسياً من آثار الحرب والاعتقالات غير القانونية، كما ذاق غالبية شعبنا مختلف ألوان العذابات الأمنية والسياسية والاقتصادية من قبل النظام وأركانه وأدواته، وتعرض نسيجه الاجتماعي لانتهاكات عميقة. كما أوقعت هذه الحرب التدمير الواسع النطاق لكثير من المدن والبلدات والقرى، وضربت البنى التحتية في البلاد، ولا سيما المتعلقة برأسمال المجتمع السوري من المدارس والمستشفيات والطرق والجسور، ومرافق تقديم خدمات الكهرباء والمياه والاتصالات.
لقد أدت التطورات العسكرية إلى انهيار الاقتصاد الوطني الذي بات ينتج عُشر ما كان ينتجه قبل الحرب، إلى جانب حرمانه من موارده الطبيعية على مدار السنين الاثنتي عشرة الماضية، وانسحب جزء كبير من القطاع الخاص الصناعي إلى خارج البلاد، وتم تدمير القدرات الزراعية الاستراتيجية، فضاعت مصادر الكسب المعيشي لشرائح واسعة من القوى العاملة، مما أدى إلى انتشار وترسُّخ الفقر المدقع للاحتياجات الإنسانية الأساسية في مختلف المحافظات والمدن والبلدات والأرياف، ودخلت البلاد في جمود تام أدى إلى تدمير البنى الفوقية للمجتمع السوري بهروب خيرة موارده البشرية من الخبرات العلمية والمهنية والأكاديميين والمثقفين، وتعطيل القوانين والتشريعات الناظمة لحياته الاجتماعية والاقتصادية. ومع استمرار نظام الأسد بسياسات تحميل الشعب أعباء الحرب ونتائجها، تحول تسعون بالمئة منه إلى فقراء، واستمرت خدمات الدولة بالانحدار، مع تنصُّل الحكومة من الكثير من مسؤولياتها. ترافق ذلك مع قيام أركان النظام بزيادة احتكارهم لبقايا اقتصاد البلاد، التي غرقت بمستويات فساد مهول، واستمرت القبضة الأمنية المرعبة، مع تردي واقع أمن المواطن والمجتمع، وتجمدت كامل الحلول السياسية وانقطع الأمل ببدء أي عملية تغيير.
واليوم وبعد انهيار نظام الأسد وهروبه، ومع مواجهته المباشرة لواقعه المأسوي، يتطلع شعبنا السوري إلى مرحلة جديدة من إعادة بناء الدولة في هياكلها الأساسية ومؤسساتها العامة، ولا سيما تلك المؤسسات التي يقع على عاتقها مهمة تحقيق الأمن والأمان في المجتمع، والذي لا يُعد مطلباً داخلياً فقط، بل هو مطلب خارجي أيضاً للدول الداعمة، بهدف عدم السماح بتفتت المجتمع وانزلاقه نحو عنف عشوائي ذي تكاليف باهظة، ولجعل البلاد مهيأة أمنياً لمرحلة إعادة الإعمار، التي تبدأ بالعمل على تأمين الخدمات العامة من الكهرباء والمياه والوقود، وبناء وترميم المشافي ودعم القطاع الصحي بالتجهيزات اللازمة، والعمل على الارتقاء بالتعليم بكافة مراحله، وتقديم الدعم والتسهيلات اللازمة للمؤسسات والفعاليات الاقتصادية المساهمة في تحقيق الأمن الغذائي بدءاً من المنتجات الزراعية وصولاً للصناعات الغذائية التحويلية. وذلك في إطار إعادة توصيف دور الحكومة ومسؤولياتها تجاه المجتمع، ثم في الحياة الاقتصادية، من خلال تأمين التشاركية بينها وبين القطاع الخاص في استعادة مقدرات الاقتصاد الوطني وتهيئة الفرص اللازمة لتعويض خسائره خلال سنوات الحرب.
ومع تأمين أسس تطبيق العدالة الانتقالية بمحاكمة من أوغل في دماء الشعب السوري وتورط في دعم النظام الساقط، وإيلاء الاهتمام اللازم والمستحق بتعويض عادل لجميع أسر الشهداء والمتضررين من الأعمال العسكرية التي شنها النظام، ووضع البرامج الكفيلة بتأمين الرعاية الصحية والاجتماعية المادية والمعنوية للجرحى وأصحاب الاحتياجات الخاصة، فإن جزءاً واسعاً من شعبنا يتطلع بصورة جادة وحثيثة إلى بدء مرحلة جديدة من التفاهمات والمصالحات، باعتباره الطرف المنتصر بكل انتماءاته العرقية والإثنية والطائفية على النظام البائد، سعياً لتأمين قاعدة شعبية واسعة داعمة لمرحلة انتقالية كفيلة بضمان مشاركة سياسية واسعة النطاق، في حكومة وسلطات شرعية تقود وتشرف على تطبيق مبادئ وقيم المواطنة والحرية والعدالة الانتقالية والمساواة، وترسيخ الحقوق والحريات السياسية والثقافية والاجتماعية، وتطبيق مبدأ المحاسبة والمساءلة، وتطوير البيئة التشريعية والقانونية الناظمة للعلاقة بين الدولة والمجتمع، وبما يسمح بترسيخ سيادة القانون وتحقيق الأمن والاستقرار، ومنح دور فعالٍ ومنظمٍ لمؤسسات المجتمع المدني من الأحزاب والنقابات ومراكز البحث العلمي ووسائل الإعلام في تحقيق تمثيل مصالح مختلف الشرائح الاجتماعية على أسس وطنية، مع الاحتفاظ للمجتمعات المحلية العرقية والطائفية والقبلية بحقوقها في التعبير عن ذاتها وثقافتها ودورها الاجتماعي المنسجم مع الهوية الوطنية للدولة.
التشاركية والانفتاح يجب أن تكون كذلك على مستوى العلاقات الخارجية، والتي يجب أن تكون متوازنة وغير خاضعة لأي استقطاب إقليمي أو دولي، بهدف تأسيس علاقات جديدة مع المجتمع والمحيط العربي والإقليمي والدولي، بما يؤدي إلى تقديم كل أشكال الدعم والمساندة في عملية إعادة إعمار البلاد، وإنقاذها من جميع آثار التدمير المادية والمعنوية التي مرت عليها وعلى شعبنا، ولا سيما فيما يتعلق بإعادة إعمار الأحياء السكنية في المدن والبلدات التي دمرتها الآلة العسكرية للنظام وغيره في مختلف أنحاء البلاد، وكذلك المرافق العامة من المدارس والمشافي ودور العبادة، والسعي الجاد لإعادة تأسيس وتأهيل البنى التحتية اللازمة لإطلاق عجلة الاقتصاد الوطني وتطويرها، ولا سيما شبكات الطرق والجسور والمرافئ والمطارات والمدن الصناعية والأسواق القديمة والحديثة، واستعادة الثروات الوطنية النفطية وتطوير عمل المصفاتين الرئيسيتين، والعمل على استرداد الآثار المنهوبة وترميم وتطوير المرافق السياحية، والعمل على تطوير البنى الفوقية اللازمة لتأهيل الإنسان السوري الجديد علمياً وعملياً، والاستفادة من الكفاءات والخبرات الوطنية الموجودة في داخل البلاد وخارجها.
ووفق الصورة التي توجد بها البلاد حالياً والتي تم التقديم بها، وبالقياس لحجم التطلعات الكبيرة للشعب السوري واحتياجات المجتمع والدولة، فإن ضرورة وضع استراتيجية متكاملة يعتبر الأساس الذي لا بد منه، استراتيجية وطنية لإعادة الإعمار وتحقيق التنمية المستدامة بكل متطلباتها المؤسساتية وخطط عملها ذات الأهداف المحددة ووسائلها القابلة للتطبيق والقياس، وهي خطط مرحلية، منها ما يمكن أن تكون متزامنة وأخرى متتالية، وذلك بحسب واقع الاحتياجات الناتجة عن مسوح عملية وعلمية شاملة والموارد المالية الكائنة والمتوقعة التي ينبغي العمل على حشدها، مع التأكيد على أن هذا الحشد المالي بحد ذاته يجب أن يتم وضع خطط خاصة به، تهدف لتأمين تمويل آمن ومستقر على المدى القصير والمتوسط وطويل الأجل. وإلى جانب ذلك كله لا بد من تحديد شفاف للفواعل واللاعبين الأساسيين والمساندين في تلك الاستراتيجية والخطط المركبة لها، وتوزيع أدوارهم وتوصيفها في كل جزء من هذه الاستراتيجية الوطنية، ويتم ذلك حتماً من قبل هيئة عليا ذات شخصية اعتبارية مستقلة، وذات صلاحيات وواجبات تشريعية خاضعة لأحكام الشفافية والرقابة البرلمانية. هيئة قادرة على دراسة التحديات الداخلية والخارجية المادية والمعنوية التي يمكن أن تواجه الاستراتيجية الوطنية لإعادة الإعمار والتنمية، بما فيها التحديات السياسية المرتبطة بمساعي ترسيخ السلام الدائم في البلاد، وعدالة توزيع مشاريع إعادة البناء، بتأمين فرص متوازنة لجميع المناطق والمجتمعات المحلية تتناسب مع حجم الأضرار البشرية والمادية التي سببتها الحرب من جهة، وبحسب فعالية النفقات ومردوديتها العامة لدعم النمو الاقتصادي ومتطلبات تحقيق التنمية المستدامة الشاملة من جهة أخرى، وصولاً إلى تأمين التوافق والانسجام الكامل بين مختلف المجتمعات المحلية في المدن والأرياف، بما يؤدي إلى فعالية العلاقات الاقتصادية وتحقيق توازن مقبول لمصالح جميع القوى والفئات في مختلف القطاعات الزراعية والصناعية والتجارية والخدمات بكل مناحيها.