معارضة وموالاة في المشهد السياسي في سوريا
24.09.2025
بكر صدقي
معارضة وموالاة في المشهد السياسي في سوريا
بكر صدقي
القدس العربي
الثلاثاء 23/9/2025
من حيث المبدأ حقق الظهور المفاجئ للعميد مناف طلاس في المشهد السياسي السوري هدفه، وهو حالة الهلع التي أصابت البيئة الإعلامية و”الشعبية” المؤيدة لسلطة دمشق، هذا على فرض أن إعادة تسليط الضوء على طلاس كان من نوع الضغط “الناعم” على السلطة لدفعها في اتجاه تطبيق قرار مجلس الأمن 2254 الذي وضع مجدداً على الطاولة عربياً ودولياً. وهذه فرضية معقولة بالنظر إلى استمرار صم السلطة آذانها عن الطلبات المتكررة بهذا الشأن، ما لم تكن هناك ترتيبات فعلية بين الدول المتدخلة في الشأن السوري، بعيداً عن الأضواء، لقيادة تغيير سياسي جديد في دمشق بعد يأسها من التزام سلطة الشرع بموجبات القرار الأممي أو روحه. ربما كان التلويح بهذا الخيار هو الضغط الناعم.
الغريب في أمر مهاجمي مناف طلاس هو أنهم يحرصون مع الهجوم عليه التوكيد على أنه لا يشكل أي خطر على سلطتهم، من غير أن يخطر في بالهم أن يتساءلوا عن سبب إثارتهم كل هذا الغبار ما دام الرجل لا يستحق أي اهتمام!
وعموماً كل نقد ـ مجرد نقد ـ يوجه لحكام دمشق يواجه بعدوانية بالغة، فما بالك بمحاولات تشكيل أطر سياسية معارضة أو مساعي بعض المكونات الاجتماعية لتأطير وجودهم السياسي كالدروز والعلويين، أو معاندة “قسد” في عدم الاستسلام للسلطة. فهؤلاء هم موضوع دائم للهجوم والتخوين ويتم تحميلهم مسؤولية إخفاقات السلطة. تمتلئ صفحات التواصل الاجتماعي بعدوانية لفظية موجهة لأي نقد حتى لو كان فردياً، وكأن حرية التعبير كفيلة بتقويض السلطة. ولا يجد هؤلاء المؤيدين عزاء لهشاشة السلطة التي يدافعون عنها باستماتة إلا في “إنجازات الدبلوماسية السورية” كما يسمون الاحتضان العربي والدولي المشروط لها. أي أنهم عملياً يؤيدون “صلابة” السلطة أمام المقاومات الاجتماعية المتنوعة في الداخل مقابل ما يرونه “حكمة” السلطة في إرضاء القوى الخارجية، أو ما يسمى في الأدبيات السياسية بالبراغماتية حتى لو كان ذلك مع إسرائيل التي تسعى لفرض اتفاق أمني مذل على سوريا تمتد مفاعيله لتشمل المستقبل، بما في ذلك نسيان قرارات مجلس الأمن التي تعتبر الجولان أرضاً محتلة.
تكشف هذه الانقسامات بين السوريين عن حيوية المجتمع السوري على رغم الشروط بالغة القسوة التي يعيشون في إطارها، وربما هذا هو الشيء الوحيد المضيء
قد يمكن فهم دوافع انتهازية لأشخاص منتفعين بصورة مباشرة من الحكم الذي أعقب سقوط نظام الأسد، فهؤلاء يدافعون عن امتيازات حصلوا عليها أو يأملون بالحصول عليها من سلطة دمشق. أما ما هو غير مفهوم فهو التأييد الأعمى لدى جمهور، لا نعرف حجمه الحقيقي، مازال يئن تحت وطأة صعوبات الحياة، لكنه متمسك ببقاء السلطة بدوافع أيديولوجية بحتة، هي الدوافع الطائفية “السنّية”. فهؤلاء يعتبرون أن السلطة يجب أن تكون سنية بعد عقود مما يعتبرونه “الحكم العلوي”، ويخشون أن تؤدي أي معارضة أو حتى مجرد نقد لسلطة دمشق إلى عودة النظام “الأقلوي”، من غير أن يتساءلوا عن سبب هشاشة السلطة التي من المفترض أنها تمثل الأكثرية السنية، ولا يقولون لنا شياً عن تهميش حركة سياسية سنية بدورها: الإخوان المسلمون.
هذا النوع من التأييد المطلق هو تكرار حرفي لما سمي بالموالاة إبان حكم النظام الأسدي: ردود الفعل العدوانية نفسها، قاموس الاتهامات والشتائم ضد المعارضين نفسه، طبيعة المماحكات الغبية نفسها، حالة الإنكار نفسها، تبرير كل ما تقوله السلطة أو تفعله بالطريقة نفسها، مقاطعة من يعتبرونه خصماً على برامج التوك شو التلفزيونية ومنعه من الكلام بالطريقة القديمة نفسها. وكأن ثورة شعبية كبيرة ضد نظام دكتاتوري دموي لم تحدث في سوريا ولا أريق كل ذاك الدم السوري من أجل الحرية والكرامة، بل فقط حدث تغيير في السلطة استبدل نظاماً علوياً بآخر سني مع بقاء كل آليات الحكم على ما هي عليه، ومع بقاء كل طقوس الموالاة كما كانت.
وثمة فئة أخرى من المؤيدين الجدد ظلت أسيرة تحليلات الأسابيع الأولى التالية على سقوط نظام الأسد، تحليلات قامت على تفاؤل نابع من سقوط الأبد الأسدي، مع رهان على براغماتية الشرع بدلالة تحولاته اللافتة من السلفية الجهادية التكفيرية إلى رجل الدولة كما هو مفترض، أو من الرهان على ديناميات اجتماعية من شأنها أن تؤدي إلى مزيد من عقلنة المجموعة الحاكمة الجديدة. إن كثيراً من معارضي نظام الأسد الذين تبنوا أفكاراً مشابهة قد راجعوا أنفسهم أمام مسالك السلطة في الأسابيع والأشهر اللاحقة، وانكشاف رغبتها في الاستئثار بالسلطة كلها، وبخاصة بعد مجازر الساحل في آذار ومجازر السويداء في تموز، كما في التسويات مع رموز النظام الأسدي، وفي إعادة العلاقات الدافئة مع روسيا، ثم انكشاف موضوع “المكتب الاقتصادي الجديد”… إلى آخر ما هنالك من إجراءات هي على النقيض مما كانوا يأملون، فانتقلوا من الترحيب الحذر إلى المعارضة العلنية. لكن قسماً آخر من هؤلاء استمرأ نهج التبرير والإنكار فتحول إلى موالاة لا تختلف كثيراً عن الموالاة العمياء القائمة على دوافع طائفية إلا باستخدامها للغة أكثر انضباطاً ولكن لا تقل خشية على هشاشة السلطة الجديدة أمام أي حالة معارضة أو نقد. إن خطاب هذه الفئة من الموالاة الجديدة لا يبتعد عن خطاب معارضي السلطة من حيث التمسك بمبادئ الديمقراطية وحكم القانون ودولة المؤسسات إلى آخر ما هنالك من قيم الحداثة. ما يختلفون فيه هو الرهان المستمر على السلطة المؤقتة القائمة اليوم، ورفض أي محاولة للمساس بها أو انتقادها، فهؤلاء يعترفون بهشاشة السلطة بعكس جمهور الموالاة على أساس طائفي، ويدعون للعمل معها بدلاً من العمل ضدها بدعوى الواقعية السياسية.
على أي حال تكشف هذه الانقسامات بين السوريين عن حيوية المجتمع السوري على رغم الشروط بالغة القسوة التي يعيشون في إطارها، وربما هذا هو الشيء الوحيد المضيء في المشهد السوري.
كاتب سوري