الرئيسة \  تقارير  \  مديحُ الشرّ وصراعُ المظلوميّات السوداء في سورية

مديحُ الشرّ وصراعُ المظلوميّات السوداء في سورية

08.09.2025
عبير نصر



مديحُ الشرّ وصراعُ المظلوميّات السوداء في سورية
عبير نصر
العربي الجديد
الاحد 7/9/2025
يرتبط الاستعصاء السوري الراهن بقضيةٍ بالغة التعقيد والحساسية، وهي علاقة الدين بالدولة التي باتت تتعيّش على العِداء الطائفي من دون الاحتكام إلى قواعد المواطنة، لتصبح المصطلحات المتداولة مفرداتٍ أبجدية تُعيد تعريف "العدو والصديق"، "الفلول والثوار"، "المؤمن والكافر"، محوّلة الاختلاف الطبيعي إلى وصمٍ جماعي. وتضمّنت عملية الفرز المجتمعي مجموعة من الكلمات الدلالية من قبيل: "بنو هاشم، بنو أمية، بنو معروف، قنديليون، عشائر، تقسيم، مجازر، فزعات، تمرّد، نفير، تهجير..."، تنطوي على تسويق أسلوبٍ مفرط في التطرف والإقصاء يشيطن كلّ مختلف (دينياً وعرقياً)، انطلاقاً من إعادة النظر في مفهوم المظلوميات المعمّم، ما يجعل التراجيديا السورية أعقد بكثير مما نتصوّر في مجتمع قبِلَ بالعنف أو سكت عنه.
عمل هذا الإرث العميق من التشرذم، والمتراكم منذ ستينيات القرن الماضي، دائماً على ضبط الفضاء السياسي عبْرَ مهارات التحشيد والتعبئة، اعتماداً على جاذبية الخطاب الشعبي العروبي، مفتّتاً الهوية السورية بما يخدم مصالح السلطة، وصُوِّر الانزياح عن رؤاها تهديداً لأمن البلاد، فأخفق المشروع الوطني في استيعاب التعدّدية السورية ضمن سردية محلية مشتركة.
في ضوء ما سبق، يبرُز خطاب الكراهية أحد أخطر التحدّيات الراهنة، ويفتح الباب أمام تصاعد موجات العنف مستفيداً من الفراغ السياسي، وتآكل المرجعيات الجامعة التي كان يُفترض أن تؤطّر المجال العام، ليتغوّل الخوف من عدو مُتخيَّل على صورة "الأغلبية السنيّة المتواطِئة" في داخل الوعي الجمعي "الأقلوي"، (والعكس صحيح أيام حكم الأسد)، والمرتبط بالبعد الغائب، والأصح المغيّب، ذي الصلة بالتحريض الطائفي ودوره الكبير في تراجع الثقة وتأجيج الصراع، أحدث هتكاً نفسياً وأخلاقياً هائلاً لدى السوريين يصعب التخلص منه.
بناء عليه، لنتفق أنّ الهوية السورية متفسّخة على المستوى الأخلاقي، وأنّ الواقع الكارثي الحالي نتيجة للانهيار الاجتماعي وليس السياسي، أيضاً نتيجة تفاعل انزياحات دراماتيكية كبرى أفرزتها عقودٌ من اللعب على التناقضات المجتمعية، التي انفجرت أخيراً في ظلّ زحف مظاهر التشدّد التكفيري الجهادي، ما يفرض مقاربة تفكيكية لا تكتفي بوصف أشكال الكراهية ودوافعها، وإنما تذهب إلى تحليل البنى العميقة التي تمنحها حضورها واستمراريّتها، وعمادها صراع المظلوميات المرتبط عضوياً بإعادة تدوير "الشرّ الوظيفي" بطريقة لم تعهدها الأشكال التقليدية من النزاعات المحلية، من مجرّد تلميحات مبطنة إلى خطاب فجّ ومباشر يُلقي بظلاله على معنى الانتماء إلى جمهورية الخوف الجديدة، القائمة على خرائط عاطفية يرسم حدودها السعارُ الطائفي بشكلٍ لا يمكن تجاهله مطلقاً.
بشي من التعميم، يمكن القول إنّ السلطات المتعاقبة في سورية تركت الساحة للهويات الفرعية، دون الوطنية، كي تتصارع بدلاً من أن تتناغم وتتكامل، محوّلة التنوع الديني والقومي إلى حوامل ثابتة لخطابِ كراهية أسّس علاقاتٍ شائكةً مبنيةً على الشك والحذر، وخلّف ندوباً عميقة في النسيج الاجتماعي، أعادت تكييف الفضاءات مع ما يستدعيه من توظيفٍ سياسي للمظلوميات السوداء بجرعات إضافية من المأساة والعبث.
يُهمَّش المعتدلون من السنّة بينما يوظِّف المتطرفون كراهيتهم انتقائياً لتقديم الآخر بشكل عنفي وظلامي
لنتذكّر: وسط الصمت المطبق من شرائح كبيرة من الأكثرية السنيّة توجَّه مئات العلويين إبّان مذابح مارس/ آذار الماضي إلى مطار حميميم، طالبين الحماية من القوات الروسية، وتالياً طالب الدروز بالانفصال بعد مذبحة السويداء المروّعة، كما يشعر المسيحيون بقلقٍ عارم من قيام إمارة إسلامية خالصة، ويستشعر الكرد، بدورهم، تهديداً لهويتهم الثقافية والعرقية.
وليست هذه التوجسات آنفة الذكر إلا جدارية تتعاقب عليها مصائر أرواح هلعة تحيا في غمرة صراع وجودي تقلّص هامش الحبّ فيه لصالح سطوة الكراهية، واتخذت أكثر صور الفرز العنصري وضوحاً في مقطع صوّره مجاهد متشدّد يدعى أبو أحمد الجزائري خلال مجازر الساحل قائلاً: "لا أخوة في الوطن، والمسألة مسألة عقيدة الولاء والبراء".
ومع أخذ المعطيات السابقة بالاعتبار يتأكّد وجود عنصرية مستطيرة في سورية، متعدّدة التمظهرات الاجتماعية والسياسية والثقافية والدينية..، والأخطر تُصنّف اليوم بطريقة لا تتطلب مواجهة أو مساءلة، عبر تمييعها لتصبح مقبولة، فقط لأنها لا تُكنّى باسمها الصريح. وفي هذا السياق، تشرح حنة أرندت في كتابها "إيخمان في القدس" كيف أنّ "تفاهة الشر" تكمن في تحويل القتل حدثاً عادياً لا يثير أيّ صدمة أخلاقية، فيتحوّل الإنكار والتبرير إلى مشاركة رمزية في الجريمة، وجزء من ماكينة الإبادة ذاتها، ما يجيب عن أسئلة ملحة حول مقدار الكراهية الكامنة بين السوريين التي ظهّرها سقوط الأسد، والتي نقلت المواطنة، وبخفّة مريبة، من "فِقْه الاختلاف الحميد" إلى "فِقْه الائتلاف الانتقائي"، كما ظهّر استسهال إشهار سلاح المظلوميات تبريراً لسفك الدماء. (ينطبق الأمر على من تفجّعوا على ضحايا مجازر السويداء والساحل بعدما تلعثموا سابقاً أيام جرائم نظام الأسد). هذه الازدواجية الجائرة تُنذر بمستقبلٍ أشدّ حلكة من حقبة الأسد إن استمرت هذه الذهنية المارقة في إدارة المشهد المأزوم.
في كتابه "مجتمع الكراهية" يحلّل رئيس الوزراء الأردني السابق، الراحل سعد جمعة، الأسباب التي تحوّل الشعوب إلى مجتمعات كراهية، فيقول: "الجَدب الروحي وضباب الرؤية وتعدّد الولاءات والانتماءات هو الأمر الذي يدفع كثيراً من (كرماء القوم) للاختفاء حتى يسلم شرفهم، فلا يبقى غير الصبية والصعاليك". وهذا يعني القفز إلى استنتاج موازٍ في الحالة السورية، حيث يُهمَّش المعتدلون من السنّة بينما يوظِّف المتطرفون كراهيتهم انتقائياً لتقديم الآخر بشكل عنفي وظلامي، عبر نسج أحابيل التأثير والاستهداف والتحامل، بالتوازي مع خطاب المظلومية نفسه الذي يـقارب تلك الكراهية بطريقة مواربة لينتهي بشيطنة الآخر وتحقيره وتأديبه علنياً.
تركت السلطات المتعاقبة في سورية الساحة للهويات الفرعية، دون الوطنية، كي تتصارع بدلاً من أن تتناغم وتتكامل
اللافت للانتباه أن ثمّة تداخلاً مفاهيمياً مقصوداً في بعض سياقات خطابَي المظلومية والكراهية، والنيّة مديح الشرّ "المُضادّ" ذريعةً لخدمة الأفكار السامة تجاه أيّ مُستهدَف، وتقديمها كبراهين على صحة المواقف والاستقطابات، لذا تبرز الحاجة إلى رسم حدودٍ دقيقة بين الخطابين، لأنهما يحملان في بنيتهما بذور العنف الناعم، ويؤسّسان لتناحرات عميقة تُعيد إنتاج حدود الانقسام عبر الميل إلى تضخيم الفوارق بين السوريين، وترسيخ الصور السلبية لصالح خطابٍ تعبوي طائفي يجعل إمكانية الحوار العقلاني شبه غائب. إذ بدأت بوادر الانقسام تظهر جلياً، بداية بقيام مؤتمر "وحدة الصف" في الحسكة، مروراً بإعلان فصائل درزية في السويداء عن تشكيلٍ عسكري جديد تحت مسمّى "الحرس الوطني"، خطوةً نحو الاستقلال، وليس نهاية بتأسيس "المجلس السياسي لوسط وغرب سوريا"، ممثلاً لإقليم الساحل الموعود.
نافل القول، ينقسم المجتمع السوري اليوم وفق ثنائيات قيميّة صارمة، تقيس الانتماء من خلال موقع الفرد من مختلف الديناميكيات التي أفرزتها مرحلة ما بعد نظام الأسد، من دون السؤال عن خلفيات الحدث ومسبّباته، ومدى قدرته على التماهي مع خطاب الكراهية الذي حوّل المظلومية القديمة (السنيّة) إلى منطلقٍ للتأنيب والتأديب، ستتمخّض عنهما مظلوميات جديدة بحمولةٍ زائدة من القدرة على تبرير انتهاكات أيّ جماعة غاضبة ومتطرفة، على أساس ذرائع تاريخية واهية ومقاربات مجحفة حول أسبقيات الظلم والإقصاء، ويبرز تهجيرُ العلويين من منطقة السومرية في دمشق، نهاية الشهر الماضي (أغسطس/ آب)، مشروعَ إباحةٍ للعنف الرمزي لكن الممنهج ضدّ المصنّفين، جوراً، في معسكر "الفلول" لمجرّد انتمائهم إلى طائفة الأسد.
أخيراً... في روايته "مقبرة براغ" يقول الكاتب الإيطالي أمبرتو إيكو: "يجب أن يوجد دائماً أحدٌ نكرهه لكي نجد لأنفسنا ما نبرّر به بؤسنا الخاص".