مخاطر السقوط السوري في المبالغة
04.09.2025
نزار السهلي
مخاطر السقوط السوري في المبالغة
نزار السهلي
سوريا تي في
الاربعاء 3/9/2025
الذين يزعمون أنهم، بشكل أو بآخر، كانوا على معرفة بما يمكن أن يتمخض عنه سلوك السلطات السورية في التعامل مع التحديات الداخلية والخارجية، التي دفعت بعيداً في خلخلة موقع الثقة بها بعد سقوط نظام الأسد، وأنهم على دراية بما يجري في أروقة السياسة الإقليمية والدولية، في اتباع نهج الحذر والتروي مع عدوان الاحتلال الإسرائيلي على سوريا، وإدارة الظهر لسلوكه، أو في طريقة تبرير الأحداث الدموية التي عصفت بالساحل والسويداء خلال الأشهر الماضية، هم إما واهمون أو مدّعون يحاولون خداع أنفسهم قبل خداع الآخرين.
وهذا القول، بكل أبعاده، ينطبق ليس على السلطة القائمة فقط، بل على الذين يدعمونها عربياً وإقليمياً ودولياً، إذ لم تصل توقعاتهم إلى ما تمخضت عنه حالة انتظار معالجة الملفات العالقة أمام السلطة الجديدة وفهم التحديات التي تواجهها.
تُركت لإسرائيل مهام التحطيم المتدرج للمناطق في جنوب سوريا، بينما أُدير الظهر لمشكلات حقيقية يواجهها نظام الرئيس أحمد الشرع.
وكي لا يكون الكلام ضبابياً وعائماً، نسارع إلى القول إن معظم التصورات والانطباعات التي استقرأت سلوك السلطات السورية الوليدة في معالجة ملف الاعتداءات والتجاوزات في الساحل السوري، وما تبعها من تطورات في السويداء، ثم ملف التعامل مع العدوان الإسرائيلي، كلها فرضت أسوأ النتائج على الأرض. وقد جاءت هذه التصورات أو الانطباعات انطلاقاً من الاعتقاد بإمكانية تقليص الخلاف عبر بيانات وتصريحات إعلامية، والتقليل من خطورة ما حدث. غير أن الظاهرة الأكثر دلالة كانت محاولات الاستقطاب الطائفي والمذهبي، وتجييش النزعة الانفصالية في السويداء بدعم إسرائيلي، لتقويض الاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي والأمني، باعتبار أن هذا الاستقرار يمثل نقطة التوازن الحاسمة لمواجهة التحديات المرتبطة بها.
جرى تبرير كل ذلك إلى أقل مدى ممكن، انطلاقاً من القول الذي شاع طويلاً منذ سقوط نظام الأسد، ومع لجوء الاحتلال إلى تدمير مقدرات سوريا العسكرية واحتلال قرى ومناطق جديدة، بأن النظام الجديد يرتكز على تصفير مشكلاته مع جوار سوريا. في الوقت ذاته، كانت مشكلاته الداخلية تتفاقم في التعاطي مع ملفات سياسية واجتماعية وأمنية من جهة أخرى، في غياب قراءة صحيحة لمسعى "الجوار" الإسرائيلي الأهم، والمتمثل بأطماعه في إغراق سوريا بمشكلات مفتعلة معه، والتكشير عن أطماعه المباشرة وغير المباشرة في تفتيت سوريا وضم أراضٍ منها.
عزز هذا التصورَ ما روّجته السلطة الجديدة في سوريا بدعم أميركي صامت عن العدوان، عبر تقديم مديح للسلطة لإخفاء موقف الاحتلال. وتم الترويج بأن هناك عملية سياسية واقتصادية قائمة وقادمة، لكنها مؤجلة ضمن الفترة الانتقالية. في المقابل، تُركت لإسرائيل مهام التحطيم المتدرج للمناطق في جنوبي سوريا، بينما أُدير الظهر لمشكلات حقيقية يواجهها نظام الرئيس أحمد الشرع. هذا الرأي بدا واضحاً في المبالغة، حيث إن ما تعرضت له السويداء والساحل، إضافة إلى تجاوزات أخرى جرى التقليل من شأنها، عكس ارتطام أوهام لدى من اعتقد أن البعد التنازعي مع النظام القائم والفعل الاعتراضي على سلوك السلطة قد انتهى بزوال النظام السابق.
وإذا كان هذا الرأي يرى في لعبة المبالغة في شيطنة السلطة، أو تصوير المعارضين لها على أنهم "شياطين" مع لعبة دعم الانفصال التي تسلح بها قلة قليلة، مجرد امتصاص للتراكمات، فإن ذلك يتجاهل أن المجتمع السوري، وطوال 13 عاماً، راكم خبرات وتجارب يصعب معها استهباله أو إبعاده عن مساره. هذا المسار تجلى في نضال السوريين بتثبيت قائمة طويلة من المطالب والحقوق، وتحولت مفرداتها إلى نبض له قيمة مستمرة، تتجلى بوادره وتُقطف ثماره مع إسقاط نظام الأسد.
السقوط في خطر المبالغة بالشيطنة العرقية والطائفية المتبادلة يعيد إسقاط السوريين جميعاً في هوة سحيقة خرجوا منها للتو، وكان ضحاياها ملايين السوريين بسبب مبالغتهم المتكررة في التعويل على مجتمع دولي كاذب.
لكن ما الذي جرى منذ أول حالة إخفاق في التعامل مع الملفات الداخلية الكثيرة، ومن ضمنها التعاطي مع العدوان الإسرائيلي المتواصل، وأحداث السويداء الدامية؟ هل كان في الأمر سوء تقدير بالغ الفداحة إلى هذه الدرجة؟ بحيث يمكن القول إن خللاً لا يمكن غفرانه قد حدث وأدى إلى هذا الحجم من سوء التقدير؟ فعلى صعيد "معارضة" الشيخ الهجري للسلطة في دمشق والتصعيد معها بدعم إسرائيلي مباشر وعلني، بدا الأمر كذلك. ولو أن المسألة تتعلق فقط بتقديرات خاطئة أو بتمنيات للتعامل مع ملف العلاقة مع "الأقليات"، فقد سقطت إيجابيته بسبب سوء التقدير في هوة السلبية المدمرة للذات، ولعدم الحسم في مسائل مثل العدالة والحرية والكرامة الوطنية والمحاسبة. هذه القضايا هي التي ترسخ صيغة التوازن المطلوب وتضعف الفوضى والارتباك، وتقضي على النظرة الضيقة للمواطنة السورية التي جرى تلبيسها أثواباً مهترئة ثم معايرتها بعيوبها.
أما وقد كانت التقييمات في أحسن أحوالها سلبية، دون أن تتمخض عن إيجابيات تقي من الدمار، فإن هذا الدمار وجد أصلاً بسبب تركة النظام الساقط وسوء التقدير المدمر بالتعويل على المحتل. هذا لن يحمي أي جزء من ثوابت السوريين في حريتهم وكرامتهم. كما أن السقوط في خطر المبالغة بالشيطنة العرقية والطائفية المتبادلة يعيد إسقاط السوريين جميعاً في هوة سحيقة خرجوا منها للتو، وكان ضحاياها ملايين السوريين بسبب مبالغتهم المتكررة في التعويل على مجتمع دولي كاذب، وعلى نظام استبدادي كان محمياً بوظيفته القمعية للمجتمع السوري.
قبل ختام الحديث عن مخاطر السقوط في المبالغة، سواء في طريقة إقصاء خصوم السلطة الجديدة، أو في مبالغة "الخصوم" بالاستخفاف بمجتمعاتهم ومصادرة رأيهم في مسائل تتعلق أولاً بمصير وطنهم، فإن محاولة استنطاق المسكوت عنه في علاقة السلطة مع التحديات الكثيرة دون هذه المبالغة، تبدو الطريق الأسلم لملامسة الواقع، بعيداً عن متاهة الانزلاق في توظيف هزيمة النظام الساقط للالتفاف على المطالب الكثيرة للسوريين، وهي مطالب لا تحتمل المبالغة السياسية والاجتماعية.