الرئيسة \
تقارير \ محددات الهوية الوطنية السورية في ظل التحديات الكبرى .. قراءة في كتاب (1&2)
محددات الهوية الوطنية السورية في ظل التحديات الكبرى .. قراءة في كتاب (1&2)
09.08.2023
توفيق المديني
محددات الهوية الوطنية السورية في ظل التحديات الكبرى .. قراءة في كتاب (1&2)
توفيق المديني
عربي 21
الثلاثاء 8/8/2023
(1)
الهوية العربية الإسلامية بالمعنى الحضاري والتاريخي، حين تكون هوية عصرية وحديثة وديمقراطية ومنفتحة على الحداثة ليست في تضاد مع الهوية السورية أو المصرية أو التونسية الخ..
الكتاب: "الثقافة الوطنية والتحديات الراهنة"
الكاتب: الدكتور حسين جمعة
الناشر: الهيئة العامة السورية للكتاب، دمشق 2018
(302 صفحة من القطع الكبير)
في هذا الزمن العربي الرديء، الذي تعيشه سوريا، تواجه الهوية الوطنية تحديات كبيرة، من جراء انقسام المجتمع إلى طوائف وعشائر وإثنيات و أقليات، وعدم الإرتقاء بالحالة المجتمعية إلى مستوى ما من مستويات الاندماج القومي تمس الحاجة أكثر من أي وقت مضى إلى التوكيد على البعد القومي للهوية التي يجب استعادتها وإعادة بنائها.
والحل بالنسبة للشعب السوري هو اختيار بلا تردد للبعد القومي للهوية. فالهوية العربية الإسلامية بالمعنى الحضاري والتاريخي، حين تكون هوية عصرية وحديثة وديمقراطية ومنفتحة على الحداثة بكل منطوياتها الفكرية والثقافية والسياسية، ومنفتحة على الثقافات العالمية، ومتجهة إلى المستقبل، ليست في تضاد مع الهوية السورية أو المصرية أو التونسية الخ ..
فلا نعود إزاء مفهومين وطني / قومي (سوري) عربي، متعارضين ومتنابذين، بل إزاء مفهومين يُحِيلُ الوطني أو القومي معهما على الحقل السياسي، أي على الدولة الوطنية، ويُحِيلُ الثاني، أي العربي، على الحقل الثقافي، وهو حقل كوني بامتياز.
وإذا كانت ثقافة العروبة ثقافة حضارية أصيلة منفتحة على الثقافات الأخرى، تأخذ منها وتعطي؛ فإنها غدت اليوم مهددة بوجودها أمام الثقافة الأوروبية؛ وثقافة العولمة (الأمركة) التي تسيطر على قوى الانتاج وحقول العلوم والمعارف والتقنيات.. وهي عولمة متوحشة تعمد إلى قتل الهوية الوطنية بقتل لغتها، ما يؤكد أن سيطرة لغة العولمة (الإنجليزية) ليس أمراً طارئاً ولا عرضياً؛ وإنما هو مَنْهَج ينبثق من طبيعة العولمة المتوحشة ووظيفتها في ابتلاع كل الأنماط الثقافية المغايرة لها.. فثقافة هذه العولمة ـ وإن بدت إيجابية في بعض اتجاهاتها، وخادمة للبشرية جمعاء أينما كانت ـ إنما هي ثقافة مهيمنة نابعة من فلسفة القوة للمركز الواحد في (واشنطن) وهي لا تحتمل وجود ثقافات هامشية وضعيفة، وكذلك لا تحتمل وجود ثقافات مقاومة لها.
دور الهوية في تعزيز الوحدة المجتمعية
ما دمنا نتحدث عن دور الهوية في تعزيز الوحدة المجتمعية في سوريا الجريحة، فإنَّ القضية الأولى، تتعلق بالتزام السوريين بخيار العروبة، إذ يعيش العرب اليوم أزمة هوية، بسبب أزمة العروبة القومية التي مسحت كلّ ما قبلها من النسخ، وارتبطت بصعود الحركات القومية إلى السلطة في كل من مصر وسوريا والعراق، حتى بات من الصعب فك مفهوم العروبة الأول عن استخدامه العروبي القومي اللاحق، فقد أصبحت العروبة هي الهوية الحقيقية الجامعة للشعوب العربية، بالرغم من انعدام التواصل السياسي، ثمرة الحركة القومية الشعبية وضحيتها في الوقت عينه، فمن دونها ما كان من الممكن للعروبة أن تتغلب على الأفكار القطرية أو القومية المنافسة لها التي انتشرت في العديد من الأقطار، ولا أن تحل محلها، لكن إخفاق الحركة القومية الشعبية وضع العروبة في مأزق صعب نتيجة مطابقة العروبة في الوعي الداخلي والخارجي مع قيم القومية واختياراتها.
إنَّ وعي الهوية الوطنية أو القومية ـ وكذا هي الهوية الفردية الاجتماعية ـ ينبثق من وعي الآخر أياً كان نوعه وجنسه؛ وثقافته ودرجة ارتقائه أو تخلفه، وإن مفهوم اكتشاف الآخر ولد مع بدء الخلق منذ خُلق أبونا آدم وأمنا حواء، وليس مفهوماً مستحدثاً كما تذهب إليه بعض الدراسات المعاصرة؛ حين ربطته بالاستعمار الكولونيالي الأوربي؛ أو باكتشاف أمريكا أو بالتجارب المتعددة في العالم؛ فضلاً عن أن هناك دراسات أخرى ربطته بالعرق والجنس واللون، واللغة والثقافة.
ومع صعود حركات الإسلام السياسي بعد هزيمة الحركة القومية العربية، تعمقت أزمة العروبة، بسبب العلاقة المتوترة بين العروبة والإسلام. وفي ظل مرحلة ما بات يعرف بالربيع العربي الذي احتلت فيه حركات الإسلام السياسي جزءاً كبيراً من الفضاء الذي كانت تشغله العروبة القومية في عقود مضت، فإنّ هذه الحركات التي تسعى إلى الحلول محل العروبة، من دون آفاق ولا مرتكزات سياسية وثقافية عميقة، لن يكتب لها النجاح، لأنّ أحد أسباب نجاحها هو المال.
في هذا الكتاب الجديد، الذي يحمل العنوان التالي: الثقافة الوطنية والتحديات الكبرى، والمتكون من مقدمة، وثلاثة فصول، حيث كل فصل يتكون بدوره من ثلاثة أقسام، وخاتمة، ويضم 302 صفحة من القطع الكبير، والصادر عن الهيئة العامة السورية للكتاب في عام 2018، يعالج فيه الدكتور حسين جمعة أستاذ النقد الأدبي القديم بجامعة دمشق، ورئيس اتحاد الكتاب العرب سابقا من 2005 ولغاية 2015، والذي تفوق مؤلفاته الأربعين كتابا في مجال الفكر والثقافة والسياسة، يعالج فيه موضوع الثقافة العربية المقاومة ودورها في إرادة الحفاظ على الهوية الوطنية والقومية، التي مكنت نفوس أبنائها من إرادة التحرر والصمود في الحفاظ على الشخصية الوطنية والقومية وعززت قيم التجربة الثقافة في عدم الذوبان والانصهار في ثقافة الآخرين كان على الدوائر المعادية تدمير كل ما يرتبط بها، ولا سيما أن اللغة العربية ما تزال حاملاً للثقافة والهوية
يُبًيِّنُ الدكتور حسين جمعة في الفصل الثاني: (الثقافة وبناء الهوية والدولة، وفيه ثلاثة أقسام)؛ قيمة الهوية أياً كانت قوتها التاريخية والاجتماعية.. فضعف الثقافة ثم تلاشيها يعني تلاشي الهوية الوطنية أو القومية؛ ومن ثم انتشار الثقافة الجديدة التي تعنى بأنساقها الكبرى كالانتماء والعروبة؛ وإشاعة ثقافة القانون والحوار المستند إلى مبدأ العدالة والمساواة؛ وجعلها أنساقاً ثابتة في المجتمعات الأخرى.. وإذا كانت ثقافة العروبة ثقافة حضارية أصيلة منفتحة على الثقافات الأخرى، تأخذ منها وتعطي؛ فإنها غدت اليوم مهددة بوجودها أمام الثقافة الأوروبية؛ وثقافة العولمة (الأمركة) التي تسيطر على قوى الانتاج وحقول العلوم والمعارف والتقنيات.. وهي عولمة متوحشة تعمد إلى قتل الهوية الوطنية بقتل لغتها، ما يؤكد أن سيطرة لغة العولمة (الإنجليزية) ليس أمراً طارئاً ولا عرضياً؛ وإنما هو مَنْهَج ينبثق من طبيعة العولمة المتوحشة ووظيفتها في ابتلاع كل الأنماط الثقافية المغايرة لها..
فثقافة هذه العولمة ـ وإنْ بَدَتْ إيجابية في بعض اتجاهاتها، وخادمة للبشرية جمعاء أينما كانت ـ إنما هي ثقافة مهيمنة نابعة من فلسفة القوة للمركز الواحد في (واشنطن) وهي لا تحتمل وجود ثقافات هامشية وضعيفة، وكذلك لا تحتمل وجود ثقافات مقاومة لها. وحين شكلت الثقافة العربية مقاومة تحريرية جبارة في إرادة الحفاظ على الهوية الوطنية والقومية، ومكنت نفوس أبنائها من إرادة التحرر والصمود في الحفاظ على الشخصية الوطنية والقومية وعزَّزت قيم التجربة الثقافة في عدم الذوبان والانصهار في ثقافة الآخرين كان على الدوائر المعادية تدمير كل ما يرتبط بها، ولا سيما أن اللغة العربية ما تزال حاملاً للثقافة والهوية. لذلك فإن العلاقة بين الثقافة وماهية الهوية وبيان أصالتها وفق أنموذج مدني علماني متطور وراق.
وإذا كان المعطى التاريخي للأزمة السورية قد انتهك مفاهيم كثيرة للثقافة الوطنية في (زمن الخراب العربي) الذي تكالبت فيه الرجعية العربية والإقليمية على تنفيذ أجندات مشبوهة تخدم أسيادها في الدوائر الغربية والصهيونية، فإنَّ الخطاب الثقافي الوطني نجح حيناً في مواجهة التكفير الإرهابي المتوحش؛ وأصيب بخلل ما في حين آخر.. ولا سيما حين سيطرت التيارات العصابية والتنظيمات الدينية المنغلقة على بعض المناطق السورية، بمثل ما قادتها معارضة مشوهة وكاذبة ومنافقة وعميلة؛ تُسيّرها التبعية والمصالح الآنية الفاسدة التي أدت إلى كوارث وطنية على كل صعيد.. وقد زادت الشروخ الوطنية اتساعاً..
وإذا كانت هذه الموضوعات ليست الوحيدة في الثقافة الوطنية فقد آثرتها على غيرها لأنها تحقق الحد الأدنى من تجذير الوعي الوطني والقومي في نفوس أبناء الأمة وتعزز لديهم اليقظة من المخططات المشبوهة التي تريد بهم كل شَر؛ وتجعلهم أدوات استهلاكية؛ ليس غير.
ولذلك أرجو أن تلقى آذانا صاغية؛ وقلوباً محبة؛ وألسنة تلهج بالتعبير الصادق؛ والقادر على التغلغل في ذوات الآخرين وثقافتهم، ليقترن القول بالفعل؛ ويجعل سيادة الوطن؛ وكرامة المواطن فوق أي شيء آخر..
سؤال الهوية الوطنية
في سؤال جامع، ما هي الهوية؟
الهوية معطى ثقافي: اجتماعي ـ اقتصادي وسياسي، ولكنها معطى ثقافي أولاً وأساساً.
يقول الدكتور حسين جمعة: "تحدد الهوية مفهوم فكري سياسي اجتماعي يجسد العلاقة بين الذات بوصفها روحاً وجوهراً؛ والشخصية بوصفها إطاراً موضوعياً يدل على التاريخ الذي مرت به هذه الذات اجتماعياً وثقافياً وسياسياً ونفسياً. ومن ثم فالهوية تعبر عن الماهية الشخصية سواء كانت فردية أم جماعية. فحينها نسأل عن الفرد: من هو أو من هي أو من هم؟.. فإنما نريد الإجابة التي الخصائص المادية والمعنوية التي يملكها في ذاته المادية والمعنوي؛ ما يؤكد أن الهوية علامة تعريف وإشهار وتحديد وتمييز للسمات الخاصة والعامة. ويستوي في هذا الفرد والجماعة؛ والوطن والدولة أياً كانت طبيعتها. ومن ثم تغدو الهوية قرينة للوجود بوصفها تجسّد وضعية تكتسبها من دون غيرها وضرورة لا غنى عنها في كل زمان ومكان." (ص91).
الهوية دالَّة على الوجودي، بتعبير المناطقة، أي تابعة لمتغير هو الوجود الإنساني المتعين في الأفراد والجماعات، دالَّة على ذوات الأفراد والجماعات والأمم والشعوب، كالصفة التي تتبع الموصوف في جميع أحواله. العلاقة بين الهوية والذات هي شكل العلاقة بين الوجودي والاجتماعي، وبين الطبيعي والوضعي.
وفي ضوء ذلك، نستطيع أن نميز بين صيغتين أو رؤيتين للهوية: الأولى، وتكمن في استعادة بناء الدولة الوطنية، فيرتبط لديها مفهوم الهوية بالمشروع الوطني الحداثي: أي بالفاعلية الإنسانية الحية، وبفكرة التاريخ والتغير ومفهوم التقدم. إنها هوية واقعية، وهي علاقة منطقية ومفهوم كلي، فكري، لكنها تحيل على التغير والتطور والصيرورة التاريخية، ومنطق الشكل ومفهوم التشكل، وتؤسس للحرية بما هي وعي الضرورة وللديمقراطية.
الهوية دالَّة على الوجودي، بتعبير المناطقة، أي تابعة لمتغير هو الوجود الإنساني المتعين في الأفراد والجماعات، دالَّة على ذوات الأفراد والجماعات والأمم والشعوب، كالصفة التي تتبع الموصوف في جميع أحواله. العلاقة بين الهوية والذات هي شكل العلاقة بين الوجودي والاجتماعي، وبين الطبيعي والوضعي.
ومن أجل أن تلعب الهوية دورًا متميزًا في الحفاظ عل تماسك المجتمع السوري ووحدته، لا بد من تبني العلمانية في المبادئ الفكرية والسياسية والأخلاقية التي تتأسس عليها الدولة الوطنية الحديثة. انطلاقاً من هاتين الصفتين اللتين وصفت بهما الدولة، أي الوطنية والحداثة، ومن تلازمهما الضروري. المبدأ الأول من هذه المبادئ المؤسِّسة هو المواطنة، بثلاثة أركانها: المساواة والحرية والمشاركة، وأبعادها: القانونية والثقافية والسياسية والأخلاقية.
المواطنة، في البلدان الغربية تقوم على مبدأ علماني، لأنها، مؤسسة على تساوي البشر في الكرامة الإنسانية، وتساوي مواطني الدولة المعنية في الحقوق المدنية والسياسية، وفي الكرامة الوطنية. أما المبدأ الثاني، فيتعلق بالسيادة، سيادة الدولة أو سيادة القانون، بصفته ماهية الدولة الحديثة وجوهرها، وهي سيادة مستمدة من الشعب. فإن من أهم معاني العلمانية أن تكون السيادة سيادة الشعب، لا ”حاكمية الله" ولا "ولاية الفقيه". الشعب هو مصدر السيادة، لا "التفويض الإلهي" ولا الخلافة ولا الإمامة".. وأما المبدأ الثالث، فهو الشرعية. الشعب هو مصدر الشرعية في الدولة الحديثة، ومصدر جميع السلطات، بخلاف الشرعية المستمدة من "قانون إلهي’"أو عقيدة دينية، أو فقه مذهبي، أو عقيدة (أيديولوجية) غير دينية، كالقومية والاشتراكية.
ومن ثم فالهوية هي المكونات أو الصفات التي تحدد ملامح الفرد أو الجماعة، وتفرض على الفرد الالتقاء بالمجموع الذي يتفاعل معه بعناصر نفسية واجتماعية وثقافية ولغوية وربما دينية وطبيعية. فالشعور بذوات الآخرين أو شخصياتهم قائم على الإدراك الواعي باحترام ذاته وذواتهم معاً، في إطار الشخصية التي تتمثل باللغة والثقافة، والوعي والإرادة، وفي صميم الوظائف الموضوعة لها والأهداف التي تسعى إلى تحقيق النموذج الوطني الأرقى؛ ما يجعل العلاقة بين الهوية والشخصية العامة مستندة إلى الانتماء الحر والنزيه والوعي بإحداث النمط الفكري المتقدم، والموضوعي، والانتقال منه إلى فقه الفعل أو التطبيق؛ والسلوك أو التصرف، الصحيح والسليم؛ وهو ما عرف بارتباط القول بالفعل؛ ما يشير إلى أن اللغة والأحداث والمكان الذي تجري فيه عناصر أساسية وموحدة للهوية وكذا يمكن أن يقال في العرق، على الرغم من أنه لا توجد في عصرنا عروق صافية؛ على الأغلب.
يرفض الدكتور حسين جمعة في الحديث عن موضوع الهوية لأمة من الأمم وفصلها عن الجوهر الذاتي والإطار الذي يكون شخصيتها، أياً كان نوعها وطنية أم قومية أم دينية؛ إذ لابد من أن تتهيأ لها العناصر الموضوعية التي تجعلها قابلة للحياة. فهو يقول: "الشخصية الوطنية؛ أو القومية؛ وإن اكتسبت النزوع الإنساني، ما يشي بأن الذات نفسها قد تتحول إلى موضوع وتتطابق مع الشخصية كما هو شخصية الأمة العربية بناء على الهوية الصغرى والكبرى التي تتقاطع عناصرها فيما بينها.
ومن ثم فكلما تفاعل المثقفون الوطنيون مع قضايا أمتهم كانوا حريصين على إكساب هويتها العربية الشخصية المميزة لها، ومنحها القدرة على مواجهة غيرها في عصر أخذت الهويات تعزز مكانتها في العالم، وتبنيها على أصول ثقافية متطورة تمنع الثقافات الأخرى أو (الهويات) من استهدافها في لغتها وتراثها وذاكرتها وصيرورتها. وليست اليابان أو الصين بعيدة عنا في تجربتها الثقافية الوطنية؛ ولاسيما ما يتعلق باللغة بوصفها الوعاء للثقافة. فالثقافة الموضوعية والمنفتحة على ثقافة الآخر من دون استلاب أو استنساخ تعزز أنموذجها الوطني والقومي الذي يعلي كرامة المواطن وفق مبدأ علمي موضوعي ؛ وشعور ذاتي نقي يستند إلى التشاركية الثقافية في إطار التعاون الفعّال بين المؤسسات الثقافية أسلوباً جذاباً لإعلاء مكانة الثقافة؛ وتشكيل الوعي الوطني؛ والارتقاء بالروح الوطنية إلى مرتبة الفناء بالوطن والتضحية من أجله"(ص 94).
تشكيل الهوية الوطنية
إنَّ وعي الهوية الوطنية أو القومية ـ وكذا هي الهوية الفردية الاجتماعية ـ ينبثق من وعي الآخر أياً كان نوعه وجنسه؛ وثقافته ودرجة ارتقائه أو تخلفه، وإن مفهوم اكتشاف الآخر ولد مع بدء الخلق منذ خُلق أبونا آدم وأمنا حواء، وليس مفهوماً مستحدثاً كما تذهب إليه بعض الدراسات المعاصرة؛ حين ربطته بالاستعمار الكولونيالي الأوربي؛ أو باكتشاف أمريكا أو بالتجارب المتعددة في العالم؛ فضلاً عن أن هناك دراسات أخرى ربطته بالعرق والجنس واللون، واللغة والثقافة.
ولهذا فمفهوم الهوية قائم على الوعي والإرادة والانتماء الحر؛ وكذلك يقال في الانتماء الجمعي إلى الدولة أو الأمة التي ينتسب إليها الإنسان بالولادة، فلا يكفي أن ينتسب إلى المكان الذي ولد فيه أو نشأ إن لم تتحقق العناصر الأساسية التي تشكل هوية الدولة أو الأمة. ومن هنا ينتقل من مرتبة المواطن الذي منح الهوية بالولادة إلى مرتبة المواطن المنتمي الملتزم بوطنه وقضاياه؛ أي إن الهوية الأصيلة لا تتشكل إلا في صميم الاعتراف بالآخر؛ للانتقال إلى الهوية الموحدة الموازية للشخصية الجمعية، وهي التي تجمع الأشكال الثلاثة (المعبر عنها، والعلائقية، والمشتركة).
وبمعنى آخر إنَّ الهوية تستند إلى استيعاب المواطنة وقيمها ومبادئها المستمدة من العقد الاجتماعي ومن طبيعة هذا العقد العلمي الموضوعي الذي يعلي الروح الذاتية الوطنية، وهي التي تشكل هوية وطنية واحدة أو هوية قومية كما نراه في الهوية الوطنية الهندية؛ أو الوطنية البرازيلية.
يقو ل الدكتور حسين في هذا السياق: "لم يعد يخفى على الناس أن الهوية الوطنية للأقطار العربية تمثل جزءاً لا يتجزأ من الهوية القومية؛ كون الدولة القومية كانت محققة على نحو ما في مرحلة ما من مراحل التاريخ، ثم كانت متضمنة في جوهر الدولة العثمانية التي جعلت الدين الإسلامي مستنداً لها؛ وإن جعلته ذريعة لاستمرارها أربع مئة سنة. ولما تراجعت قوتها أخذ الاستعمار الأوروبي يخطط للهيمنة على الوطن العربي. ومن بَعْدُ مُزّقت الهوية القومية إلى هويات وطنية قطرية؛ وجرى ذلك على مرحلتين؛ الأولى إثر سايكس بيكو (1916م) ومجيء الاحتلال الأوروبي، والثانية إبقاء التجزئة قائمة بعد خروج هذا الاحتلال إثر انتهاء الحرب العالمية الثانية. ونرى أن مفهوم الهوية الوطنية يعبر ـ في مفهوم علم الاجتماع السياسي الثقافي عن العلاقات الوطنية التي تجمع أفراداً ما في بوتقة ما أو ماهية ما، وتستند إلى وعي الفرد بهذه العلاقات والرغبة فيها والتصميم على الدفاع عنها. ولعل ما يطلق عليه الأمة الأمريكية تمثل هذا الشكل؛ على اعتبار انتماء الأمريكيين إلى لغات شتى وأعراق شتى، وأديان شتى"(ص98).
ولعل المحزن والمؤلم أن الهوية الوطنية القطرية صارت مقصودة لذاتها على الرغم من أن العرب بكل شرائحهم يشكلون هوية واحدة طبيعياً ونفسياً وتاريخياً وثقافياً ولغوياً؛ بيد أن الدوائر الاستعمارية تحكمت بإرادتهم السياسية ولم يشكلوا الهوية القومية العربية الجامعة. فهذه الدوائر وضعت الخطط الكفيلة بتمزيق الأمة جغرافياً وثقافياً وسياسياً واقتصادياً منذ القرن التاسع عشر ابتداء برغبة نابليون في إعطاء فلسطين لليهود قبيل حملته الاستعمارية على الوطن العربي عام (1798م) لاستمالتهم إلى موقفه وتسخيرهم لحملته ؛ ومروراً بالمخططات الصهيونية والاستعمارية البريطانية والفرنسية المعروفة إبان الحرب العالمية الأولى..
لما كانت العروبة هوية جامعة للدول العربية فقد بدأت محاولات عدة لتمزيق هذه الهوية وإحلال الهوية الوطنية العراقية أو اللبنانية ـ مثلاً ـ مكانها بحجة أن هناك شرائح كثيرة لا تنتمي إلى العروبة
ثم ما إن انتهت أوزار الحرب العالمية الثانية؛ وبدأت الحكومات الأوروبية الاستعمارية تجلو عن الوطن العربي حتى أعيد ترسيم حدود الدول العربية باتفاقات تضمن هذه الحدود وأي اختراق لها إنما هو عدوان على سيادة الدولة القطرية، ما يجسد الرؤية الدقيقة لمراحل السيطرة على مقدرات الوطن العربي من خلال تقسيمه ؛ ومنح الدولة القطرية مشروعية دولية وأممية؛ وحقها في السيادة على أراضيها. ولهذا ظهرت دعوات كثيرة تشدد منذ نهاية الحرب العالمية الثانية على احترام تلك السيادة؛ وقامت الجامعة العربية بهذا الأمر قبل غيرها إذ كانت حارسة للسيادة القطرية. أما إذا دخل المرء إلى داخل الدولة القطرية فسيجد أنها حين رسمت حدودها كانت تحمل في داخلها أسباب القضاء على هذه السيادة بما تجمعه من انتماءات دينية وعرقية ومذهبية.
ولهذا لما كانت العروبة هوية جامعة للدول العربية فقد بدأت محاولات عدة لتمزيق هذه الهوية وإحلال الهوية الوطنية العراقية أو اللبنانية ـ مثلاً ـ مكانها بحجة أن هناك شرائح كثيرة لا تنتمي إلى العروبة؛ ثم راحت تحلُّ الولاء الأصغر (الطائفة ـ العشيرة ـ المذهب ـ العائلة ـ العرق) محل الولاء الأكبر ، ما يعني أن الانتماء الوطني للدول القطرية قد انتهى أمره وبدأت الهوية الوطنية تهتز من الداخل نتيجة عوامل كثيرة. وهذا كله لم يأت من فراغ، بل كان نتيجة مشاريع معدة ـ سلفاً ـ لتقسيم المقسم، بعد أسن استنفدت معاهدة سايكس بيكو 1916م) وظائفه الاستعمارية.
ولا مراء في أن العلاقة بين الهوية الفردية والروح الوطنية علاقة وطيدة لأسباب شتى، ولكنها تحوّلت إلى حالة مرضية، قائمة على ازدواج وتعدد في الوعي؛ وبخاصة على المستويات الثقافية والسياسية والاقتصادية والإدارية، ما جعلها تقوى وتضعف نتيجة المؤثرات الإيجابية أو السلبية التي ترتبط بتلك المستويات فإذا توافر للفرد مصالح شتى كان متوافقاً مع الهوية الوطنية للدولة، وإذا ما تراجعت ضعف علاقته وربما تدمرت.
إن وعي المواطن لقيمة الانفتاح على جوهر الهوية، وإدراك العلاقة بينهما هو الذي يزيد فاعلية الهوية الوطنية أو إضعافها أو محوها. وإذا كان هذا الوعي يمثل صلة الوصل بينهما فإن الروح الوطنية العالية هي التي تضبط هذا الوعي لئلا يسقط في حالة الانزياح نحو المصالح أو المنافع الآنية والخادعة.
يقول الدكتور حسيت جمعة: "ليس هناك مراء في أن مشاريع الدوائر الصهيو/ أمريكية وغربية جعلت تجزئة الأرض العربية واقعاً مفروضاً. ولما استقلت الدول العربية حاولت الدولة القطرية بناء الدولة الوطنية؛ فنجحت في مسائل وأماكن وأخفقت في أخرى، ولكنها لم تستطع أن تنتقل إلى بناء الدولة المدنية أو العلمانية المنشودة؛ لأن الثقافة الوطنية والقومية لم تستطع تحقيق آمال أبنائها في إنجاز التصورات النظرية العلمانية على الصعيد الوطني والتصورات الفكرية الحضارية على الصعيد القومي في آن معاً، ولم تفلح في بناء المواطنة التي تحقق العدل والمساواة؛ وفق الكفاءة والقانون، فضلاً عن أنها عجزت عن تحقيق الوحدة العربية لأسباب ذاتية وموضوعية عدة. ومن ثم سقطت دول عربية عدة في مستنقع العنف والنزاعات على السلطة، وظهر فيها أو في دول غيرها بعض أشكال الفتنة العرقية والطائفية والمذهبية، وتباطأت في فتح باب الحوار الموضوعي والحضاري لحل أي نزاع وقع فيما بين أبنائها"(ص 101).
(2)
من الواضح أنَّ النزاع السياسي كان في طليعة ما أساء إلى ثقافة أبناء القطر الواحد أو الأمة العربية..
الكتاب: "الثقافة الوطنية والتحديات الراهنة"
الكاتب: الدكتور حسين جمعة
الناشر: الهيئة العامة السورية للكتاب، دمشق 2018
(302 صفحة من القطع الكبير)
تجسيد الثقافة الوطنية للهوية لمواجهة المخططات المعادية
من الواضح أنَّ النزاع السياسي كان في طليعة ما أساء إلى ثقافة أبناء القطر الواحد أو الأمة العربية ولا يقل التطرف الديني والمذهبي خطراً عنه؛ ما أدى ببعض الدول العربية إلى الانزلاق في الاقتتال الدامي، ولاسيما إبان زمن الخراب العربي الرديء الذي استحوذت فيه الغرائز وامتلاك السلطة على النفوس كما حدث في السودان الذي قسم قسمين؛ وهو ما يخشى أن يحدث في العراق إذ ظهرت نوازع انفصالية لدى بعض فئات المجتمع العراقي، بعد أن سقط عدد غير قليل من المسؤولين المحليين في مطب ،التبعية وصار أداة لتنفيذ أجندات خارجية خططت لها بدقة الدوائر الصهيو / أمريكية لتحقيق مصالحها، وتحقيق مصالح حلفائها الذين ارتبطوا بها.
وفي هذا الإطار فإنَّ تلك الدوائر مازالت تعتمد استراتيجية إثارة النزاعات والصراعات السياسية والدينية والمذهبية والعشائرية بين مكونات الوطن الواحد. وهذا ما عبر عنه الباحث الأنثروبولوجي والسياسي الفرنسي (سيرج لانوش) في مقولة (الثلاجة المغلقة)؛ وهي الثلاجة التي تنشر الفوضى والعنف في أي منطقة تقف في وجه المصالح الغربية. فالدوائر المعادية أرادت أن يقفز العقل الوطني والعربي فوق هذه الحقائق التاريخية؛ والترويج للصراعات الطائفية والمذهبية؛ واتهام الدولة الوطنية بممارسة القهر والظلم وحماية الفساد وشروره والقيام بتخريب الذمم، والسوء في توزيع الثروة. ومما يؤسف له فقد ظهر وكلاء لتلك الدوائر في سوريا وسواها من البلدان العربية تتبنى فلسفتها المعادية وثقافتها الهدّامة وأخذت تدعم تشكيل تنظيمات إرهابية باسم الثورة على الفساد والظلم للإجهاز على الدولة الوطنية .
ولعل هذا كله قد أحدث جراحاً عميقة في جسد الدول العربية وثقافتها الوطنية ومكونات شعبها الذي اجتاحته مخاطر جمة أدت إلى تهديد وحدته المشتركة، ثم أحدقت بمصير وطنه، من دون أن تظهر في نهاية النفق بوارق الضوء الذي يبشر بنهاية قريبة للاقتتال أو العنف المتطرف الذي يجري بين مكونات المجتمع الوطني.
هذا ما وقع في السودان وليبيا واليمن وكل الدول التي زحف إليها ما يسمى (الربيع العربي) تحت عباءة إشاعة الحرية والديمقراطية، وتضليل الرأي العام بأوهام كاذبة حولهما وإقناعه بأن الإرهاب الذي تمارسه التنظيمات التكفيرية المسلحة وجماعات المرتزقة قد أصبح ثورة من أجل الحرية والديمقراطية وتحقيق العدالة الاجتماعية، وهو أبعد ما يكون عن الحقيقة والحق، من دون أن ننسى بعض من يزعم كثير من الضالين المضللين والغافلين أن الدوائر الصهيو / أمريكية وغربية لا علاقة لها بما يجري داخل أي من الدول المذكورة وغيرها.
ولسنا نشك لحظة واحدة في أن البرنامج الوطني الثقافي والاجتماعي والسياسي والاقتصادي ينبغي أن يتخلص من أخطائه القاتلة والممزقة للذهنية التشاركية ووحدة المجتمع. وعليه أن يقرأ الواقع الراهن قراءة واعية وموضوعية، وألا تعمى البصيرة عن الحقيقة الكبرى في مشروع الهيمنة الصهيوني الغربي على الوطن العربي وموارده البشرية والاقتصادية والطبيعية؛ وهو المشروع الذي زرع الدولة الصهيونية في قلب هذا الوطن لتكون رأس حربة موجهة على الدوام إلى إعاقة المشروع العروبي النهضوي وإضعاف التنمية البشرية الوطنية في أي مجال من المجالات.
إذا دب الصراع في بنية المجتمع، وسادت غريزة القطيع فيه تحطمت عوامل قوته، ولم تعد لديه هوية ثقافية حضارية ممتدة في التاريخ القريب والبعيد، وبخاصة حين ضاعت عناصر الالتقاء على العدو المشترك؛ سواء تجسد في الاستعمار الأوروبي الحديث؛ أم الاستعمار الاستيطاني الصهيوني المتوحش.
إن ما يجري من إرهاب متوحش في سوريا أو غيرها من الدول العربية ليس مجرد تعبير عن شرائح اجتماعية تسعى وراء مصالحها، أو عن أخطاء أنظمة عجزت سياستها الاجتماعية والاقتصادية والإدارية عن تلبية مطالب مواطنيها أو عن ثقافة وطنية عجزت عن مواكبة التغيرات الطارئة في عصر تفجر المعرفة والتقنيات، وإنما هو نتيجة لمخاض كبير من سياسات الهيمنة الخارجية على الوطن العربي الذي يمثل قلب العالم. ولعل هذا يفرض علينا سؤالاً جديراً بالنظر: أليس الوطن بحاجة إلى تنمية شاملة تحقق العدالة والكفاية في إطار ثقافة وطنية تستلهم الواقع وتحلل تبعاته.
وإذا كان لزاماً علينا أن نفيد من تجارب الآخر فعلينا أن نخوض بقوة غمار التنمية الرقمية وثورة الاتصالات الحديثة لنعيد للهوية الوطنية والعربية وجهها الناصع، ونغني إرثها الثقافي الحضاري.
ولعل هذا يضعنا أمام الآفاق التي نريدها لتأسيس إدراك علمي موضوعي للهوية الوطنية والقومية، إذ لم يعد خافياً على أحد أن أزمة الهوية أنتجت أزمات شتى في الواقع العربي، وبخاصة إبان العقد الأخير من القرن الحادي و العشرين.
إعادة بناء الدولة الوطنية في سوريا وفق رؤية العصر الحديث
أكدت الأزمة التي تعرضت لها الدولة الوطنية في سوريا إبان مرحلة الربيع العربي أن سعي الدوائر الصهيو / أمريكية وغربية إلى تمزق الدولة الوطنية وفق مخطط الشرق الأوسط الجديد، وتسخير العصابات الإرهابية التكفيرية لتنفيذه يعيد التاريخ ذاته حين قسم الاستعمار الأوروبي الوطن العربي إلى دويلات متنابذة. ما يعني أن الدفاع عن الهوية الوطنية إنما هو تحذير للدفاع عن الهوية القومية، كما أن الأحداث توحي بأن الدعوة القومية إلى الوحدة تماثل اليوم دعوتنا إلى الحفاظ على الوحدة الوطنية.
في هذا السياق يجب الإشارة إلى مفهوم الانتماء الجامع الذي يحقق قيم المواطنة الأصيلة وأركانها في صميم مبدأ (الوحدة في إطار التنوع) الذي ينبثق من البنية المجتمعية عرقياً وجنسياً ثقافياً ودينياً؛ سياسياً واقتصادياً؛ بنية مجتمعية تحقق الدولة الوطنية العلمانية الحضارة التي ترسخ مبدأ العدالة والمساواة بين أبناء الوطن الواحد في ظل الحقوق والواجبات؛ ومبدأ سيادة القانون، ما يثبت أن الولاء الأول والأخير ـ في ماهية المواطنة للوطن؛ لأن انتماء كل مواطن في دولة ما للهوية الوطنية وليس للعائلة أو العشيرة او العرق أو المذهب أو الطائفة.
يقول الدكتور حسين جمعة: "وما يؤسف له في هذا الاتجاه ذلك التنازع بين الولاء للوطن والولاء الذي يستند إلى الانتماء الأصغر وتغليبه على المواطنة مثل (العائلة أو العشيرة أو المذهب أو الطائفة؛ أو العرق إثنية وقومية أو الإيديولوجيا الفكرية حزبية وتيارات علمانية ومحافظة، وغيرها) لأن شهوة الجاه والمال أو غريزة السلطة تحكمت بالنفوس المريضة ؛ كما تلاعبت الفتنة المذهبية والطائفية بالعقول الهوجاء، بعد أن تغذت بريح فاسدة قادمة من هنا وهناك، فلم يعد المواطن قادراً على الاختيار لأنه أصيب بعقم الوعي وغشاوة الهوس الديني السياسي والإيديولوجي؛ في الوقت الذي فقد الروح الوطنية.
وإذا دب الصراع في بنية المجتمع، وسادت غريزة القطيع فيه تحطمت عوامل قوته، ولم تعد لديه هوية ثقافية حضارية ممتدة في التاريخ القريب والبعيد، وبخاصة حين ضاعت عناصر الالتقاء على العدو المشترك؛ سواء تجسد في الاستعمار الأوروبي الحديث؛ أم الاستعمار الاستيطاني الصهيوني المتوحش.
وقد يكون أعداء الأمة نجحوا في إثارة البلبلة في مفاهيم الأمة الأصيلة يوم تبنوا ما يسمى بالإسلام السياسي؛ وزرعوه في ذاكرة أبنائها المغرر بهم أو من كان من الرعاع (الحُطَمة)، ثم زحزحوا الاتفاق على مفهوم العدو؛ فطفقت العصابات التكفيرية ـ باسم الدين ـ تضرب رقاب أبناء الوطن وأصبح شيوخ الجهاد في هذا العصر شيوخ الغدر والخيانة، الذين دمروا البلاد وأهلكوا العباد؛ ومع ذلك بقي من الناس من يصدقهم ويأتمنهم، ويتبعهم وراح من وراح من غُسِل عقله من شريحة الشباب يتنافس في تنفيذ أوامرهم.
ولذا فالوعي الوطني المخلص؛ والحدس الصادق والأمين على الأمة يبقى السبيل للحفاظ على الهوية التاريخية؛ فإذا فقد ضاع كل شيء؛ لأن غيابه) يعني سقوط منظومة القيم الخلقية والدينية؛ وانتشار التضليل والزيف والتزوير؛ وتدمير الوطن ثم لابد من أن يكون لهذا الوعي قادة وأرباب شرفاء وأحرار من المثقفين والمفكرين والسياسيين يفرقون بين الأديان أو المذاهب بوصفها عقيدة خَيّرة؛ وبين هذه أو تلك بوصفها وسيلة سياسية وتكفيرية لمصالح دنيوية). ولذا قال أنطونيو غرامشي ۱۸۹۱ ـ ۱۹۳۷م): "عندما يكتسب المرء تصوره عن العالم ينتمي المرء دائماً إلى تجمع خاص؛ وهو كل ما يضم العناصر الاجتماعية التي تتشاطر نمط التفكير والتصرف نفسه. نحن جميعاً أتباع لنمط من أنماط الالتزام الفكري أو العقيدي ونحن دائماً إنسان - ضمن – القطيع أو الإنسان الجمعي"(ص 117).
لا يزال العقل العربي ينظر نظرة غير موحدة إلى مفهوم الدولة الوطنية التي تجسد وحدة الأرض والشعب والسيادة التي تتطلب إدارة السلطة وفق الاستقلال الكامل سياسياً واقتصادياً واجتماعياً و... وإذا كان العقل بحد ذاته يميل إلى مبدأ الجهد الأقل؛ واللجوء إلى كل ما هو سهل وجاهز؛ فإنه ينفر من الغموض والتعقيد - وإن حَرص على مفهوم التجريد بوعيه الخاص لطبيعة الدولة الوطنية علماً أن الدولة مصطلح يتماهى في بنيته الاجتماعية والسياسية بمبدأ الشراكة الوطنية لكل أبناء الوطن؛ لأسباب عدة، فضلاً عن أنه يحقق النفع العام لهم. وما استقرار هذه البنية الجامعة لكل مكوناتها الفكرية والسياسية والاجتماعية واعتمادها مبدأ العدالة الاجتماعية إلا تجسيد لمفهوم الدولة التي تستند إلى التنوع والتعدد في صميم الوحدة الكلية وهذه من صفات الدولة العلمانية؛ وليس الدولة الدينية التي تنفي بعض مكوناتها.
فالدولة الوطنية العلمانية في مقوماتها الكبرى لا يمكن أن تقع في مطبّ الخوف من المجهول؛ أو أن تسقط في التخيل الكاذب الذي يجافي كل أشكال المبادرة الخلاقة التي تتطلع إلى التقدم والنهوض ومن ثم لا يمكن لمنهجها أن يتخلف عن مواكبة العصر؛ فهي تدرك أن هناك زمناً يفرض سننه على البشرية قاطبة؛ إذ يخلق أموراً ويميت أخرى
ثم إن العلماء والمفكرين والمثقفين المميزين في الدولة الوطنية العلمانية لا يركنون لأي شيء تقليدي أو ثابت، بوصفه يؤدي بهم هناك إلى نمطية معرفية مكرورة تتصف بالتخلف والتراجع المستمر. وإذا وجد من انتفع بهذه النمطية، وكسب منها مكاسب هائلة وكان لكل دولة حاجاتها ووظائفها التي توضع في إطار التوازن الاجتماعي؛ والسياسي الذي حافظ على الأمن والاستقرار فإن لكل منهج جديد إشراقاته المحكومة بشروطها؛ ولكل مبدع أفكاره وتصوراته. ولعل هذا يوحي بأن المجتمع ـ أي مجتمع ـ بحاجة دائمة إلى الدولة الوطنية التي تتخذ قراراتها السيادية بحرية تامة وتعمل السلطة فيها على تحقيق سيادة القانون؛ ومواكبة التغيير الموضوعي المنهجي العلمي على كل مستوى وصعيد.
في هذه المبادئ المؤسسة للدولة الوطنية الحديثة تتجلى العلمانية على أنها استقلال مجال السياسة عن مجال الدين، بوصفهما مجالين مختلفين اختلافاً كلياً. اختلاف هذين المجالين لا ينفي تقاطعهما في القيم الإنسانية المشتركة بين معتنقي الأديان والمذاهب المختلفة، في المجتمع المعني والدولة المعنية، فإن ما هو إنساني، عام، في كل دين أو مذهب يتموضع أو يتحقق واقعياً في المواطنة بأركانها التي أشرت إليها وفي منظومة القيم الاجتماعية والإنسانية.
مبدأ الدولة الوطنية هو العمومية التي تتجلى في الدستور والقانون العام، ومبدأ الدين هو الخصوصية. كل دين هو دين خاص، فضلاً عن كون كل مذهب مذهباً خاصاً، والمواطنة، بما هي انتماء وطني إلى الدولة، لا تقتضي تخلِّي الأفراد والجماعات لا عن شرطهم الديني أو المذهبي ولا عن محمولاتهم وتحديداتهم الذاتية، بل تدمجهم في نسيج وطني أو فضاء وطني مشترك بينهم جميعاً بالتساوي.
الدولة الوطنية بحاجة إلى العقل الجمعي المحكم في إطار ثقافة الإنتاج الموضوعي، وإقامة المشاريع الصغيرة والكبيرة، والورشات المتضامنة والمتكاملة التي يقودها فريق عمل جماعي منظم ومهياً علمياً وعقلياً؛ بعيداً عن التخييل ،الخداع والتوهم المضلل ما يجعل التنمية بكل أشكالها تنمية متقدمة ومتطورة.
يقول الدكتور حسين جمعة: "تحتاج الدولة الوطنية ـ بوصفها دولة علمانية ـ إلى معرفة الذات وتوازنها، ومهاراتها، وقدرتها على التأثير كما تحتاج إلى مراجعة نقدية عقلية شاملة ومتكاملة تستند إلى الشفافية والعلم الموضوعي والعقل الإدراكي. فما مر بالأمة العربية ودولها المتعددة لم ينطبق عليه هذا التصور، بدليل ما انتهت إليه من خَلَل اجتماعي وفكري وديني واقتصادي وإعلامي وتقني؛ ما يشي بأن الدولة القطرية عجزت عن معالجته المعالجة الصحيحة الصادقة والدقيقة خلال النصف القرن الماضي، ويزيد.
وكان الموقف العلمي الموضوعي للدولة الوطنية القطرية في الوطن العربي يفرض عليها أن تلجأ ـ قبل أي شيء آخر ـ إلى دراسة أسباب المشكلات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وتراجع قيمة الثقافة ومنظومتها الخلقية على كل صعيد ومستوى؛ داخلياً وخارجياً ولا سيما ما يتعلق بحاجة الشباب وطموحهم. وهذا يدفعنا إلى التفكير الجدي بكل فرص العمل وأشكاله، وظاهرة البطالة التي أدت إلى كوارث في الإنتاج؛ وتدهور في التنمية لعجز في النفوس والحياة؛ وكان عليها دراستها دراسة موضوعية تلبي حاجات الريف والمدينة وبقية المناطق على السواء"(ص 129).
لذا فالدولة بحاجة ملحة وضرورة حتمية إلى إيجاد العلاقة المنطقية والمتوازنة بين الذات والآخر؛ وبين المواطن وبينها وتوسيع قاعدة المصلحة العامة بالتعاون الإيجابي بين أفرادها ومواجهة الواقع الاجتماعي الذي أدى إلى خلل مُدمر على صعيد البنية الاجتماعية واستقرارها؛ وعلى صعيد البنية الاقتصادية التي تراجعت إلى الوراء لأسباب كثيرة.
إن هذا الوعي ينطلق من رسم الصورة الأفضل لعملية التنمية البشرية الشاملة والكاملة؛ والمستدامة؛ والتوجه للمستقبل وبناء قاعدة الشراكة الوطنية، والإفادة من الشباب وعناصر الإنتاج الأخرى التي تحقق الاستقرار النفسي والذهني في ضوء تبني منهج علمي مبني على عقل نقدي يتجنب طرائق النقل والتلقين والحفظ. ويعتمد مفهوم المبادرة والتفكير النقدي للتخلص من الكوارث التي وقعت؛ ويتأصل في برنامج يفجر الطاقات الكامنة في المجتمع من أجل عملية البناء لا في أساليب الهدم، فضلاً عن تجذير مفاهيم المواطنة التي أعطاها بعض المفكرين و الأدباء جل عنايتهم.
فالدولة الوطنية بحاجة إلى العقل الجمعي المحكم في إطار ثقافة الإنتاج الموضوعي، وإقامة المشاريع الصغيرة والكبيرة، والورشات المتضامنة والمتكاملة التي يقودها فريق عمل جماعي منظم ومهياً علمياً وعقلياً؛ بعيداً عن التخييل ،الخداع والتوهم المضلل ما يجعل التنمية بكل أشكالها تنمية متقدمة ومتطورة.
بمعنى آخر تحتاج الدولة الوطنية إلى الإفادة من ثقافة المحبة والتسامح والتعارف والتشاركية، وتبني العلم القائم على البرامج والرؤى المستندة إلى إدراك واع للواقع ومراجعة وتحليل معطياته الإيجابية والسلبية. فقوة العقل ليست موازية لقوة الرغبة والشهوة للحصول على شيء ما؛ وإن كانت قوة الرغبة مطلوبة لبقاء الحياة؛ وكذا قوة الغضب والعصبية للمحافظة على التنافس الصادق الشريف وليس للكراهية والحقد والحسد والضغينة. فالدولة الوطنية العلمانية تبني حياتها على أسس علمية موضوعية تستند إلى قوة العقل الإدراكية الواعية؛ والحكيمة التي تضبط الحياة والمشاعر وتوجه الطاقات والمهارات إلى ما فيه صلاح الوطن وتقدمه، وهذا ما نستشفه من مفاهيم المواطنة وتستوحيه من التراث الوطني الذي يدفع الجميع إلى حركة حيوية متجددة وفاعلة، تنتصر على عملية الإرهاب الذي يؤدي إلى الفناء والموت.